فاتحة:
جعلتُ مُنطلقَ مناقشةِ محمد العمري في كتاب "المحاضرة والمناظرة"
ميثاقَه الّذي واثقَ به القارئ بصيغٍ شتّى ترجع في المجمل إلى انتدابه
نفسَه لِلتّأسيس في مجال المعرفة البلاغيّة وتحصين تلك المعرفة ومقاومة
التّزييف؛ ونظرتُ في ما إذا كانت دعاواه وحججه تأخذ ببعض ما يشترطه
ويجاهر به من واجب التّحرّي والضّبط.
وقد لَفَتْتُ الانتباه في المقال الأوّل إلى ما فيه من إسقاطات وزيادات
وآراء غير مدعّمة وأحكام متسرّعة بتتبّعي لطريقة استعماله لكلام وجيز
اقتطفه من "دلائل الإعجاز".
والفقرات الموالية استمرار في بيان وجوه أخرى من الانحراف. والقاعدة
عندي - قبل أن أُجري القلمَ في ما سطَّره ونشره- أن أورده بنصِّه.
تقع
مدينة قرطبة
Cordoba
على ضفاف نهر الوادي الكبير
Guadalquivir
في منطقة احتلَّها الرومان عام 169 قبل الميلاد وجعلوا منها عاصمة
مقاطعة
Bétique
أي الأندلس، ثم احتلَّها القوط
Visigothe
في القرن الخامس بعد الميلاد وسقطت بعدها سنة
711
بأيدي طارق بن زياد قائد الجيش العربي أيام حكم الخليفة الأموي الوليد
بن عبد الملك في دمشق، وأصبحت شبه الجزيرة الاسبانية إمارة عربية أموية
اسمها الأندلس وعاصمتها قرطبة.
سقطت دمشق سنة 750 بأيدي بني العباس وزالت الدولة الأموية وضاع مجدها
وزال معها العصر العربي الخالص في تاريخ الإسلام بعد 89 سنة فقط من
تاريخ تأسيسه، وانتقلت الخلافة إلى العراق حيث دامت حتى سنة 1258 وكانت
عاصمتها بغداد.
شرع العباسيون فور استلامهم الحكم باستئصال وإبادة أفراد البيت الأموي
حيث وُجدوا، فقُتلوا جميعهم ولم ينجُ منها إلا القليل وكان أحدهم الشاب
عبد الرحمن ابن معاوية ابن هشام الذي هرب طريدًا وشريدًا لمدة خمسة
أعوام حتى وصل إلى الأندلس فأسَّس فيها سنة 756 الدولة الأموية الغربية
وعاصمتها قرطبة، وانفصل عن الدولة العباسية "التي أصبحت دولة جميع
الشعوب الإسلامية ولم يكن العرب سوى عنصر من عناصرها الكثيرة التي
احتوتها"، بينما أصبحت الدولة الأموية في اسبانيا دولة العرب والسكان
الأصليين المستعربين والبربر الأفارقة وكانت والدة عبد الرحمن واحدة
منهم ويقيم أخواله في جوار مدينة سبتة حيث لجأ إليهم أثناء فراره من
بلاد الشام.
ملخَّص:
إنَّ "العربية" كَـلِسانٍ مِعياريّ هي لُغةٌ وَضَعَ قواعدَها النُّحاةُ
الـمُؤسِّسون [لُغة مِـظَـلَّـة، لسان جامع، لغة مُشتَرَكة] اعتمادًا
على مَبدَأِ "الفصاحة"، أي: المفهومية والوضوح لأكبر عدد ممكن من
المتكلِّمين. فاستبعدوا أغلبَ الظواهر اللغوية المحلية أو الإقليمية
التمييزية في لَهَجات العرب، أي استبعدوا "اللُّـكْـناتِ" المحلّية
التي تُعيق صناعةَ لِسانٍ موحَّد. وقد استنَدوا إلى القُرآن والأدب
(الشعر الجاهلي وبعض كلام العرب) كمراجِعَ نحويةٍ ومُفرداتيةٍ. ثمَّ
أضافوا التشكيلَ [حركاتِ الإعراب] كزينةٍ وتسهيلٍ للنُّطق.
كلمات مفتاحية:
العربية - لُغة - تقعيد اللِّسان – حركات الإعراب.
علَّمونا في الـمَدارسِ أنَّ اللُّغةَ العربية كانت لغةً مُعرَبةً
[مزوَّدة بحركات إعرابية في أواخر كلماتها] وأنها كانت في أوج
تَطَوُّرِها عِندَ ظُهورِ الإسلام ثم بدأَت تَفسِد وتتدهور مع الزمن
فاقدةً حركاتِ الإعراب مع توسُّع الإسلام واحتكاك العرب المسلمين
بثقافات الأُمَـمِ الـمُجاورة. ولكنْ إلى أي مدىً هذه الفرضيةُ صحيحة؟
هل فعلاً كانت العربية إبّانَ ظُهورِ الإسلام لغةً معربة تمتلك في
أواخر كلماتها نظامًا إعرابيًا يشير إلى موقع الكلمة ووظيفتها في
الجملة؟ هل حركاتُ الإعراب (الرَّفع والنَّصب والـجَرِّ والـجَزم
والبِـناء) سَليقةٌ وأصيلةٌ فعلاً في العربية وجزء بنيوي من طبيعة
العربية؟ ثم ما هي العربية أصلاً؟
عند
الحديث عن الحب، فأول ما يتبادر إلى الذهن هو الحب المتبادل بين الرجل
والمرأة، والذي غالبًا ما يسمى بـ "الحب الرومانسي"، لكن الجميع يعلم
أن هذا الحب، بما له وما عليه، هو فقط أحد أنواع الحب أو أشكاله
العديدة.
والبحث في مسألة الحب ليس جديدًا في تاريخ الفكر الإنساني، ولا يمكن
بالضبط وضع تاريخ محدد لبدايته، وهو ما يزال مستمرًا حتى اليوم، حيث ما
يزال البحث وإعمال الفكر قائمين في تفسير ظاهرة الحب، وفهم أسبابها
ودوافعها، والتمييز بين أشكالها.
من أقدم تمييزات الحب نجد تمييز قدماء اليونانيين، الذين ميزوا بشكل
عام الأشكال الأربعة التالية من الحب:
1. أغابي Agápē:
وتدل على الحب غير الأناني المقدم لجميع الناس، سواء كانوا من أفراد
الأسرة أو الغرباء البعيدين، وقد تمت ترجمة
Agape
لاحقًا إلى اللاتينية بـ "كاريتاس"
Caritas،
وهي أصل الكلمة الإنكليزية المعاصرة
charity
التي تعني "عمل الخير أو الإحسان أو البر".
لقد
أطاح العلم بكل التصورات الرومانسية عن أسطورة الهمجي النبيل الذي يجهل
الشرَّ، صحيح أنَّ الطفل الوحشي المنعزل عن البشر لا يعرف الشرَّ
والضرر ولكنهُ بالمقابل لا يعرف الخير، فهو أصلاً لا يدرك هكذا مفاهيم
عليا مجرَّدة بسبب افتقاده إلى اللغة، وبدون حضارة يكون الإنسان واحدًا
من أضعف الحيوانات وأقلها ذكاء. إنَّ التطور الروحي الحركي الطبيعي
للأطفال لا يحدث إلا بوجود بيئة اجتماعية حاضنة تُفعِّل الدوافع
الداخلية وتستجيب للحوافز الخارجية مع التربية والتعليم.. وبدون ذلك
سوف نجد أطفالاً مصابين بما يشبه التخلف العقلي ولكن بدماغ سليم
تشريحيًا وعضويًا. لن يهتدي حيّ بن يقظان إلى عدم وجود تعارض بين العقل
والشريعة كما سرد ابن الطفيل! وسيكون بشرًا وحشيًّا كسائر الحيوانات
الأخرى، من دون بعد فلسفي أو عقائدي- ديني. تحاول هذه الدراسة القصيرة
مقاربة مفهوم الفطرة الإنسانية ودور العوامل الثقافية–اللغوية في تشكيل
وتحديد مسارات هذه الفطرة بما قد يزعزع امتياز الفطرة الإنسانية -
القبلية المؤمنة في المجتمعات الإسلامية وغيرها، وبما يؤكِّد على الشكل
الاجتماعي–الثقافي المكتسب للتدين عمومًا والتدين الإسلامي ضمنًا.
ما
الفرق بين الوعي العادي والوعي غير المشروط؟ إن وعينا العادي (أو
الذهني أو الفكري أو وعي الأفكار) هو وعي مشروط
conditioned
إشراطًا فرديًا (بتجاربنا الشخصية السابقة وما علمنا إياه آباؤنا
ومجتمعنا وتاريخنا)، وجماعيًا حيث أن الإشراط
conditioning
ينتقل عبر المجتمعات والجماعات أيضًا فيتبادله الأفراد بالتأثر
المتبادل.
ولكن ما هو الإشراط؟ إنه يشبه النظر إلى العالم من حولنا عبر نظارات
خضراء فنرى كل شيء باللون الأخضر، أو زهرية فنراه باللون الزهري، أو
نظرة الرجل الأبيض إلى الرجل الأسود على أنه عنيف ومتخلف، ونظرة الرجل
الأسود للأبيض على أنه عنصري وفوقي، ونظرة الشيعي إلى السني، والسني
إلى الدرزي، وابن المدينة إلى ابن الريف، والأوروبي إلى الإفريقي،
والملحد إلى المتدين، والمتدين إلى الملحد. إنه يشبه ظننا أن سائق
السيارة المجاورة لسيارتنا أسعد منا لأن سيارته أحدث أو لأن فتاة جميلة
تجلس بجانبه.
الإشراط يشمل الحسد والغيرة بطبيعة الحال، ويشمل الندم ولوم الذات،
الغضب، الخوف، وكل هذه المشاعر المرافقة لأفكارنا. والإشراط يشمل كل
فكرة وكل معتقد وكل مفهوم وكل رأي وكل إيديولوجيا وعقيدة، ويشمل القلق
من المستقبل، وكل لحظة تمر من حاضرنا دون انتباه.
في
مسألة العلاقات الغربية-العربية والإسلامية عمومًا نقف اليوم، في
العالم العربي، أمام طرفين: طرف يتهم الإسلام والعرب، ولسان حاله يقول
"يا ليتنا نسمع من الغرب ونتبعه ليرضى عنا ويفتح لنا أبواب السماوات
والأرض"، وطرف آخر يقول بالعكس فيحضُّ على معاداة الغرب بطرق مختلفة.
وكلا الطرفين يعتقد أنَّ المشكلة هي بين الإسلام تحديدًا والغرب أو بين
الدين والعلمانية. ومع الاعتراف بأنَّ هذه المشاكل موجودة بكل تأكيد،
إلا أن منحها خصوصية مبالغ فيها أمر لا يمكن أن يكون صحيحًا لا من
الناحية الواقعية المعاصرة ولا من ناحية دراسة التاريخ. لهذا ستقدم هذه
المقالة نموذجًا آخر وهو نموذج العلاقات الغربية-البيزنطية، مع إدراك
أنَّ مصطلح "الغرب" كما نستعمله اليوم لا يمكن أن ينطبق على أوروبا في
بدايات العصور الوسطى، أي في القرون الأولى بعد سقوط روما عام 476 م.
العلمانية
هي هندسة حياة الإنسانية ومجتمعه ودولته على أسس العقلانية الإنسانية،
وهي تحترم بمعياريتها الإنسانية كل ما هو جميل ونبيل إنسانيًا، وفهمها
كحالة تضاد مطلق مع الدين هو فهم جد قاصر ومشوه لها، فالعلمانية
الناضجة تضع الدين في موقعه الحقيقي في المجتمع الإنساني كنتاج إنساني
وميدان للنشاط الروحي، ولذا فنحن كعلمانيين، لدينا مثل هذا المفهوم
للعلمانية، نحترم كل مدرسة عقائدية دينية أو وضعية تحترم الإنسان
بعالميته وتسعى لخيره بهذا المنظور.
ومن هذا المنطلق يأتي هذا المقال، الذي يسعى إلى تقديم الديانة
البهائية بصورتها الحقيقية، ويندرج في نطاق السعي لمعرفة الآخر وإنصافه
إنسانيًا.
كِنزَة الصفريوي: ما هي خصائص الترجمة الأدبية اليومَ في حقل النشر
بالعربية؟
ريشار جاكمون:
أولاً، من الصعب تكوين فكرة دقيقة عن ذلك نظرًا لتنوع دُور النشر
العربية (ففي حين كان النشر سابقًا يكاد ينحصر في مدينتَيْ القاهرة
وبيروت، فقد تطوَّرَ اليومَ مجالُ النشر الوطني في معظم البلدان
العربية، لكن حركة توزيع الكتب من بلد إلى آخَر غالبًا ما تكون قليلة
أو متعثرة).
ومع ذلك، فإن مُسوحاتي الفِهرسية قادتني إلى ملاحظة بعض الاتجاهات
العامة: الحضور الخجول إلى حد ما للأجناس [الأدبية] وللكُتَّاب الأكثر
شعبية في الأسواق الغربية اليوم (الرواية البوليسية، الرواية العاطفية،
الرواية الخيالية [fantasy]
...)، وبالتالي للإنتاج [الأدبي] لأمريكا الشمالية وللإنتاج
الأنجلو-سكسوني بشكل عام والذي يهيمن على هذه الأجناس في السوق
الدولية. علاوةً على ذلك، كذلك هو الأمر بالنسبة للأدب الأمريكي المكرس
أو [ما يسمَّى] الأدب الرفيع [high
brow]،
فهو قليل الحضور إلى حد ما.
إنَّ الروائيين الأمريكيين المعاصرين الكبار لا نكاد نراهم في الترجمة
العربية، [بل] هم بشكل عامّ أقلّ حضورًا بكثير من حضورهم في الأسواق
الأوروبية. بالمقارَنة، فإن الآداب الأوروبية (الأدب الفرنسي والألماني
والإيطالي والإسباني...) ممثَّلة تمثيلاً أفضل، وكذلك أدب أمريكا
اللاتينية، أدب "جيل الطفرة [boom]"
على وجه الخصوص.
مقدمة:
منذ بداية الخليقة والإنسان يسعى إلى الحياة بشكل أفضل، يسعى إلى حياة
جماعية، يشعر معها بالأمان والاطمئنان والراحة.
وبكثير من الصدف، تطورت هذه الحياة وتراكمت الخبرات في هذه المجموعات
البشرية المتنوعة، وانتقلت إلى أجيال أخرى ومجتمعات أخرى ساعدتهم في
بناء حياة أفضل.
وهذا ما سنحاول أن نستعرضه من خلال تراث أجدادنا "الأقربون والأبعدون"
وما تركوه من تراث مادي أو غير مادي، وما هو دورنا نحن الخلف الصالح...
تعريف التراث
نبدأ بتعريف الكلمة لغويًا: التراث كلمة مشتقة لغويًا من كلمة إرث أي
ما يتوارثه الأبناء من الأجداد. من هنا تحدَد وأصبح واضحًا أن التراث
هو ارتباط بالماضي، وفي الواقع هناك عدة تعاريف لهذه الكلمة، سنقوم
باستعراضها إلى أن نصل إلى تعريف يناسبنا.
التراث هو كل ما تركه لنا الأوائل من علوم كالطب والفلك والتطور
الصناعي والزراعي، وفي مجال آخر، ما تركه الأقدمون من قلاع وحصون ومدن
مندثرة...
وهذا التراث يختلف من منطقة إلى أخرى ولكننا نتفق مع باقي الشعوب في
نظرتها للموضوع أن التراث هو ما خلَّفه الأجداد لنا.
بَلَغَنِي
بالأمْسِ القريبِ، مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ أَنْ يُذكَرَ اسْمُهُ
على المَلأِ الأدْنَى، أنَّ الكاتبَ الصِّحَافيَّ خيري منصور، في
مقالِهِ الحديثِ العهدِ نسبيًّا «جَحِيمُ الشَّكِّ أمْ نَعِيمُهُ؟»
(القدس العربي، 26 أيار 2018)، كان قد أجرى مقارنةً، أو بالأحرى
موازنةً، منهجيةً موضوعيةً عابرةً بين ثلاثةِ أعلامٍ فُذوذ متباعدينَ
تباعُدًا زمنيًّا لافتًا: أوَّلُهُمْ، الفيلسوفُ التاريخِيُّ التونسيُّ
ابنُ خلدونٍ، الذي كان ينظرُ إلى الرواياتِ التاريخيةِ كلِّها نظرًا
سَبَبِيًّا (شَكِّيًّا) ويرجِّحُ الروايةَ الأقربَ منها إلى الحقيقةِ؛
وثانيهمْ، الفيلسوفُ الرياضيُّ الفرنسيُّ رينيه ديكارت، الذي كان
يَسْعَى كلَّ السَّعْيِ إلى إدراكِ هذهِ الحقيقةِ من خلالِ تفْعِيلِ
قَوْلَتِهِ الشَّكِّيَّةِ الشهيرةِ «أنا أُفَكِّرُ، إذنْ أنا
مَوْجُودٌ»؛ وثالثُهُمْ وأخيرُهُم، «الفيلسوفُ» الأدبيُّ المصريُّ طه
حسين، الذي قِيلَ إنَّهُ كان يَحْذو حَذوَ تفْعِيلِ المَقُولَةِ
الشَّكِّيَّةِ الديكارتيةِ ذاتِها، وذلك التماسًا للوُصُول إلى ذاتِ
الحقيقةِ من جرَّاءِ مَا قد ظُنَّ، وما انْفَكَّ يُظَنُّ، أنَّهُ
سَبْرٌ وتمْحيصٌ «شَكِّيَّانِ» في دُنَى الأدبِ العربيِّ عامَّةً، وفي
دُنْيَا الشعرِ الجاهلي خاصَّةً. عندئذ، يتساءلُ الكاتبُ الصِّحَافيُّ
تساؤُلَ الناقدِ والسَّاخرِ بكلِّ حَصَافةٍ واتِّزانٍ: بعدَ قُرونٍ
وقرونٍ من جُهُودٍ علميةٍ جادَّةٍ «مماثلةٍ» بذلَهَا أولئك الأعلامُ
الأفْذاذ الذينَ لمْ يَكُنْ حتى لِأيٍّ منهمْ ولا لِأيٍّ منِ أمثالهِمْ
أنْ يدَّعي بامْتلاكِ ناصيةِ الحقيقةِ كاملةً، ما زلنا نقرأُ ونقرأُ في
مُتونِ الكتاباتِ العربيةِ، حتى هذهِ الأيامِ العصيبةِ، عباراتٍ
«يقينيَّةً» مُطْلَقَةً من على شاكلةِ «مِمَّا لا شَكَّ فيهِ»، أو
«مِمَّا لا يختلفُ فيهِ، أو عليهِ، أو حَوْلَهُ، اثنانِ»، أو ما شابهَ
ذلك – فمِنْ أينَ وأيَّانَ، يا تُرى، جاءَ كَتَبَةُ هذهِ الكتاباتِ
باليقينِ كلِّهِ، وقدِ اسْتتبَّتْ ألبَابُهُمْ كلَّ هذا الاستتبابِ
واسْتنقعتْ كلَّ هذا الاستنقاعِ؟ ومنْ ثمَّ، يستأنفُ الكاتبُ
الصِّحَافيُّ حديثَهُ بشيءٍ من الخَوْضِ في غِمَارِ الجَدَلِ
التَّنَافَوِيِّ بينَ الشَّكِّ واحْتمالِ كونِهِ «جَحِيمًا» بسببٍ
مِمَّا قد يقتضيهِ من مُسَاءَلةٍ وتَسَاؤلٍ لا ينتهيانِ، من جانبٍ،
وبينَ اليَقِينِ وتَعَذرِ، أو حتى اسْتحالةِ، كونِهِ «نَعِيمًا» حتى لو
أدركَ المُسَائلُونَ والمتسائلُونَ إدراكًا ضَالَّتَهم، من جانبٍ
آخَرَ. وفي هذا الجَدَلِ التَّنَافَوِيِّ، على سبيلِ الإرْدافِ العابرِ
كذلك، ما يُذكِّرُ بذلك الرأيِ الرشيدِ الذي ارْتَآهُ الكاتبُ
والمؤرِّخُ والفيلسوفُ الفرنسيُّ الشهيرُ بحِذقِهِ وظَرْفِهِ، ڤولْتير
(فرانسوا-ماري أورويه)، ذلك الرأيِ الذي يقولُ باسِمًا ومتهكِّمًا إنَّ
الشَّكَّ ليسَ فِعْلاً سَارًّا ولا عَمَلاً سَائغًا، وإنَّ اليقينَ هو
السُّخْفُ بذاتِهِ وهو العَبثُ بعينِهِ.