ما هي البهائية؟
رسلان جادالله عامر
"ما الأرض إلا وطن واحد والناس سكانه.
يا أهل العالم إنكم أثمار شجرة واحدة وأوراق غصن واحد
اسلكوا مع بعضكم بكل محبة واتحاد ومودّة واتفاق".
منتخبات من آثار حضرة بهاءالله
العلمانية
هي هندسة حياة الإنسانية ومجتمعه ودولته على أسس العقلانية الإنسانية،
وهي تحترم بمعياريتها الإنسانية كل ما هو جميل ونبيل إنسانيًا، وفهمها
كحالة تضاد مطلق مع الدين هو فهم جد قاصر ومشوه لها، فالعلمانية
الناضجة تضع الدين في موقعه الحقيقي في المجتمع الإنساني كنتاج إنساني
وميدان للنشاط الروحي، ولذا فنحن كعلمانيين، لدينا مثل هذا المفهوم
للعلمانية، نحترم كل مدرسة عقائدية دينية أو وضعية تحترم الإنسان
بعالميته وتسعى لخيره بهذا المنظور.
ومن هذا المنطلق يأتي هذا المقال، الذي يسعى إلى تقديم الديانة
البهائية بصورتها الحقيقية، ويندرج في نطاق السعي لمعرفة الآخر وإنصافه
إنسانيًا.
معبد اللوتس البهائي في دلهي في الهند، أحد أهم مشارق الأذكار
الثمانية عند البهائيين، وأكبر معابدهم في جنوب آسيا
البهائية هي دين توحيدي، ظهر في إيران في أواسط القرن التاسع عشر، وقد
سبقت البهائية دعوة دينية تسمى بـ"البابية" بدأت عام 1844، وكان مؤسسها
علي محمد بن محمد رضا الشيرازي الذي تلقب بـ"الباب"، المولود في شيراز
الإيرانية في
20
تشرين الأول (أكتوبر)
1819، واللقب مأخوذ من المعتقدات الشيعية، وهو يعني فيها الوسيط بين
الله أو الولي المقدس والإنسان، لكن البابية لم تقدم نفسها كحركة
إصلاحية شيعية، وإنما اعتبرت نفسها ديانة مستقلة، كما أن الباب وضع لها
كتابًا مقدسًا خاصًا بها هو "البيان"، الذي يعتبره البابيون تنزيلاً
سماويًا.
في جذورها الدينية ترتبط دعوة الباب بفكرة المهدي المنتظر، والتي كانت
مدرسة "الشيخية" من الشيعة الإثنا عشرية تبشر بقرب ظهوره قبيل ظهور
الدعوة البابية، التي رفضها الشيعة بشكل عام والشيخيون منهم بشكل خاص.
أثار انتشار الدعوة البابية تخوف رجال الدولة ورجال الدين الإيرانيين،
ما جعلهم يسعون للقضاء على هذه الدعوة، أما "الباب" نفسه، فقد تم نفيه
إلى قلاع أذربيجان البعيدة، وتم سجنه فيها لعدة سنوات، ثم أعدم بالرصاص
سنة 1850 في مدينة تبريز. وقد تم نقل رفاته لتدفن في جبل الكرمل في
مدينة حيفا الفلسطينية يوم 21 آذار 1909، بناء على إيعاز سابق من بهاء
الله لأتباعه.
وقد كان عبد البهاء، ابن بهاء الله، هو من أشرف على عملية بناء ضريح
الباب، وعندما توفي هو نفسه في 28 تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1921
دفن في الغرفة المجاورة لضريح الباب في المبنى نفسه.
يعتبر "الباب" أحد الشخصيات المؤسسة الرئيسة في البهائية، وهو يلقب
فيها بـ "المبشر بحضرة بهاء الله"، أما بهاء الله، وهو اللقب الذي
اتخذه الميرزا حسين علي النوري مؤسس الديانة البهائية المولود في
12
تشرين الثاني (نوفمبر)
1817
في طهران، فقد كان من
أتباع الباب بداية، ومن قادة البابيين بعد إعدامه، ثم أطلق دعوته
"البهائية" عام 1863، أي بعد 19 عامًا من بداية دعوة الباب، الذي احتفل
البهائيون في العديد من دول العالم في 29 و30 تشرين الأول (أكتوبر)
2019 بذكرى مرور 200 عام على مولده.
كان حسين علي النوري الملقب ببهاء الله، ابن أحد كبار الوجهاء
الإيرانيين حينها.. ما شفع له عند الشاه، الذي اكتفى بنفيه خارج إيران،
ولم يعدمه، فقد نفاه إلى بغداد التي كانت تحت السيطرة العثمانية حينها،
وبدورهم، اعتبره الأتراك رجلاً خطيرًا، فلم يتركوه يقيم لفترة طويلة في
أي مكان محدد، فبعد بغداد وضعوه تحت الإقامة الجبرية في اسطنبول، ثم
نقلوه إلى مدينة أدرنه البلغارية، وبعدها إلى عكا ليتم حياته فيها
أيضًا تحت الإقامة الجبرية، حيث دفن هناك، ولهذا الأمر رمزيته عند
البهائيين، الذين يعتبرون أن الإرادة الإلهية شاءت ربط البهائية بأرض
فلسطين المقدسة، لتتساوى بذلك مع اليهودية والمسيحية والإسلام، التي
يعترف البهائيون بسماويتها.
بعد بهاء الله استلم قيادة الجماعة البهائية ابنه عبد البهاء، بناء على
وصية مكتوبة وممهورة، وبقي هو بدوره تحت الإقامة الجبرية إلى أن أفرج
عنه الاتحاديون بعد استلامهم السلطة، فقام بجولة في أوروبا وأمريكا،
وتمكن من تأسيس عدد من المراكز البهائية في الغرب، وبعد وفاته انتقلت
القيادة إلى حفيده شوقي أفندي، وبعد وفاته انتقلت القيادة – حسب وصية
بهاء الله نفسه - إلى مجلس منتخب من قبل كافة البهائيين في العالم، وما
يزال هذا الأسلوب معمولاً به حتى اليوم، وهو ما يعرف بـ "بيت العدل
الأعظم" ومقره في حيفا!
تعرض البهائيون في إيران إلى اضطهاد عنيف من قبل الشاه ورجال الدين
الذين اعتبروهم كفرة ومتمردين، فقتل منهم الكثيرون، وقضى الكثيرون
حياتهم كلها في السجون، وشرد مثلهم، وما تزال البهائية محظورة حتى
اليوم في إيران، بالرغم من أنها تعد أكبر أقلية دينية هناك، وهناك من
يقدر عدد البهائيين فيها ببضعة ملايين، إلا أن هذه الأرقام تبقى مجرد
تخمينات، ولا أحد يستطيع اليوم إعطاء رقم حقيقي لعدد البهائيين داخل
إيران، أما خارج إيران، فيقدر عددهم بسبعة ملايين، وهم منتشرون في عدد
كبير من دول العالم، حيث تأتي البهائية في المركز الثاني عالميًا بعد
الكنيسة الكاثوليكية في عدد الدول التي يتواجد فيها أتباع دينيون،
والبهائيون حتى اليوم موحدون جميعًا تحت قيادة المركز الإداري والروحي
(بيت العدل الأعظم) في حيفا، ووجود المركز القيادي فيها عائد - كما
أسلفنا - إلى دفن "المبشر بحضرة بهاءالله" (الباب) وابن بهاء الله (عبد
البهاء) هناك، وقد أوصى بهاءالله في كتاب أحكامه بيت العدل الأعظم ببذل
الجهد لإحداث تأثير حقيقي لصالح الجنس البشري، ونشر التعليم، والسلام
والرخاء العالمي، وصون كرامة الإنسان ومكانة الدين.
البهائية - أو الدين البهائي - هي ديانة صارمة التوحيد، وهي تقوم على
فكرة الوحدانية الإلهية والخلق، وإذا أما أردنا "فلسفة" التوحيد
البهائي، لقلنا إننا هنا أمام توحيد تام، والتوحيد البهائي يختلف عن
التوحيد الإسلامي واليهودي في مسألة جوهرية، وهي أنه لا يوجد فيه
شيطان، فليس هناك قطب كوني للشر في البهائية! القطب الكوني الموجود هو
قطب الخير فقط، أي الله، فالشيطان في البهائية هو شخصية مجازية للتعبير
عن عامل الشر الموجود في الطبيعة البشرية.. والذي ينمو وينشط عندما
يبتعد الإنسان عن الله، كذلك تعتبر البهائية كل من الجنة والجحيم
مصطلحان مجازيان، فالبهائية تقول بخلود الروح، وبانتقالها إلى عوالم
الروحانية بعد انتهاء حياتها على الأرض، وهذا الانتقال مرهون بالإيمان
والعمل الصالح، وكل إنسان صالح - كائنًا من كان - ينتقل إلى عالم أفضل
وأرقى بعد وفاته الأرضية حتى وإن لم يكن بهائيًا، لكن عن طريق البهائية
– بالطبع - يمكن الوصول إلى أرقى العوالم أو المستويات الممكنة، أما
الإنسان الفاسد، فتهبط روحه إلى عوالم أدنى، لكن هذا الهبوط ليس
نهائيًا.. فإن هو تاب - والتوبة لا تعني حكمًا اعتناق البهائية - وسلك
دروب الفضيلة، فبإمكانه الصعود إلى عوالم أرقى، هذه العوالم الأرقى
يطلق عليها مجازًا تسمية "الجنة"، فيما تطلق تسمية "الجحيم" على
العوالم الأدنى.
في البهائية هناك مساواة بين الرجل والمرأة، وليس في البهائية كهنوت
ولا رجال دين، ويعتبر نشر البهائية واجبًا على كل بهائي وبهائية على حد
سواء، ومن حيث المبدأ لا يجوز تقاضي أية أجور على أي نشاط يهدف خدمة
الدين، لكن هذه العملية تخضع لإدارة دقيقة من قبل المجلس البهائي، ولا
يمكن لهذا الأمر أن يتم بدون متفرغين.
الزواج في البهائية أحادي، أي لا يشترك فيه إلا رجل واحد وامرأة واحدة،
وغير مسموح قطعًا تعدد الزوجات أو الأزواج، ولا يشترط أن يكون حكمًا
بين طرفين بهائيين، والطلاق مسموح، لكن إذا كان الزوجان بهائيين
فالطلاق لا يتم فورًا، فهناك هيئة خاصة تحاول قبل إقرار الطلاق مصالحة
الزوجين وحل المشاكل بينهما، وهذا يستغرق مدة سنة كاملة، أما العلاقة
الجنسية فهي مسموحة حصرًا في إطار الزواج.
يؤمن البهائيون بأن البشرية في حاجة ماسة إلى رؤية موحدة تجاه مستقبل
المجتمع البشري، وطبيعة الحياة والهدف منها، وبأن هذه الرؤية تتكشف في
الآيات والآثار الكتابية التي جاء بها حضرة بهاء الله.
البهائية دين مسالم، وترفض كل أشكال العنف، وهي تدعو إلى اتحاد كل دول
العالم تحت قيادة مؤسسة سياسية عالمية تامة الصلاحيات، وإلى إنشاء
محكمة دولية لحل الخلافات التي تنشأ بين الدول قبل تحقيق هذا الاتحاد،
كما تدعو إلى إقرار لغة عالمية موحدة إلى جانب اللغة الأم.
إن مبدأ وحدة الجنس البشري هو المحور الذي تدور حوله جميع تعاليم
بهاءالله، فقد قارن بهاءالله بين العالم الإنساني وهيكل الإنسان؛ ففي
الكائن الحي تؤدي ملايين الخلايا المتنوعة الأشكال والوظائف، دورها في
الحفاظ على نظام صحي سليم. إن المبدأ الذي يحكم سير عمل الجسم هو
التعاون؛ فأجزاء الجسم المختلفة لا تتنافس في الحصول على الموارد؛ بل
ترتبط كل خلية منذ نشأتها، بعملية مستمرة من الأخذ والعطاء المتواصل،
وهذا يتطلب القضاء الكلي على التعصب، سواء كان عرقيًا، أم دينيًا، أم
ذا صلة بنوع الجنس.
البهائية تعترف بالإنسان الصالح، لكنها تفضله بهائيًا، والبهائيون
يسمحون لأي غريب بأن يدخل معابدهم المنتشرة في كل القارات وتعرف باسم
"مشارق الأذكار"، ويصلي صلاته الخاصة، وهم - إضافة إلى بهاء الله
والباب - يعترفون بنبوة كل من آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وصالح،
وهود، وزرادشت، وبوذا، وكريشنا، ويسوع، ومحمد، لكن هذا لا يعني أن بقية
الأديان والعقائد غير معترف بها، ذاك مجرد تصنيف للرسالات السماوية،
التي لا تختمها البهائية بدين نهائي، فالرسالة السماوية مستمرة ما
استمر وجود البشر، ولكل عصر رسالته السماوية الجديدة، وقد اعتبر بهاء
الله أن رسالته هي رسالة هذا العصر، وتوقع أن تستمر هذه الرسالة قرابة
ألف سنة، لكن هذا الأمر يعتبر في البهائية شأنًا إلهيًا.
الصلاة في البهائية تتم ثلاثة مرات يوميًا، صباحًا وظهرًا ومساءً، ولدى
البهائيين صوم يبدأ وفقًا للتقويم البهائي عند غروب شمس الأول من آذار[1]
وينتهي مع بداية عيد النيروز عند غروب يوم 20 آذار، الذي يعتبر عيد رأس
السنة عندهم، فالبهائيون يستخدمون "تقويم البديع"، الذي وضعه الباب
نفسه، والذي تقسم السنة بموجبه إلى تسعة عشر شهرًا، يتضمن كل منها 19
يومًا، ثم تضاف بين 26 شباط و1 آذار 4 أيام في السنة العادية، وخمسة في
السنة الكبيسة لمطابقة التقويم مع السنة الشمسية؛ أما كتبهم المقدسة
فكتابهم الأساسي هو "الكتاب الأقدس" الذي يعتبر كتابًا منزلاً، ولغته
الأم هي العربية، وإضافة إليه يعتبر كل ما كتبه بهاء الله وابنه عبد
البهاء وحفيده شوقي أفندي مصادر للتعاليم البهائية، وفي نشرهم للدين
البهائي لا يعتمد البهائيون إلا على أنفسهم، حيث يقومون بترجمة النصوص
المقدسة من العربية والفارسية إلى الإنكليزية عادة، ومنها إلى باقي
لغات العالم تحت إشراف المركز البهائي العالمي.
من الشخصيات العالمية التي أعجبت بالبهائية الروائي الروسي الشهير ليف
(ليون) تولستوي، فقد أعتبر أن البهائية هي دين لا يمكن للعقل وللضمير
المعاصرين إلا أن يحترماه، أما حكيم الهند وأحد أبرز شخصياتها الثقافية
والسياسية والروحية الحديثة شري أوروبيندو غهوش، فقد تمنى تحول كل
المسلمين إلى بهائيين لشدة ما عاناه من المتطرفين الإسلاميين، وهذا
رأيه الخاص بالطبع.
هناك مفهوم محوري في التعاليم البهائية وهو أن تهذيب الذات وخدمة
الإنسانية وجهان لا يتجزءان من أوجه الحياة الإنسانية، ويدرك البهائيون
أن عمل الهدف المزدوج ذي الأهمية الجوهرية في حياتهم يكمن في الاعتناء
بنموِّهم الروحي والفكري، والمساهمة في تحوُّل المجتمع، وبالتالي لا
يتوقع منهم على سبيل المثال الاكتفاء بالصلاة والتأمل في حياتهم
الشخصية اليومية فقط، بل بذل الجهود لبث روح التعبُّد في محيطهم؛ وهم
مطالبون بأن لا يكتفوا بتعميق معرفتهم بدينهم فحسب، بل مشاركة الآخرين
بتعاليم "حضرة بهاء الله"؛ ولا يتم حثَّهم على تعلُّم كيفية مقاومة
الأنانية في حياتهم الشخصية فحسب، بل السعي الحثيث بشجاعة وتواضع، على
إِبطال نزعات الثقافة التي تمجد الإشباع الذاتي وتهدم أسس التضامن، بل
وعلى عكس اتجاهاتها.
لا يعترف فقهاء الإسلام بالبهائية كدين، وهي بالنسبة لهم دينيًا بدعة
وضلالة، وكثيرًا ما يتم نعت البهائيين بأشنع وأقبح الصفات من قبل
المتطرفين الإسلاميين، فهم بالنسبة لهم كفرة وفسقة.. وهم كانوا عملاء
للقيصر الروسي، وهم اليوم عملاء للصهيونية، وأحد أذناب الماسونية..
وهكذا دواليك مما لا يمكن تقديم أي دليل دامغ على صحته، ولكن هذا لم
يمنع اعتناق بعض العرب للبهائية، وهم متواجدون في جميع البلاد العربية
ويمارسون شعائرهم الدينية فيها، بشكل علني أو سري أحيانًا، منذ أكثر من
قرن ونيف من الزمان.
هذه نبذة عن البهائية، وكما نرى فنحن هنا أمام نموذج ديني يقدم صورة
عصرية للتسامح الديني والعلاقة مع الآخر، والمساواة بين الجنسين،
والسلام العالمي وعالمية الإنسان، وهي صورة نتمنى أن تتمكن من الارتقاء
إلى درجة مثلها جميع الأديان والمعتقدات المنتشرة في عالمنا العربي،
فبدون مثل هذا الارتقاء، سنبقى خارج العصر، نتخبط في التعصب والتطرف،
ولن يكون لنا مستقبل في عالم الإنسان.
13/10/2019
*** *** ***
المراجع:
-
الدين البهائي، الموقع الإلكتروني للجامعة البهائية حول العالم:
http://info.bahai.org/arabic/
-
البهائية، الدين البهائي:
http://www.bahai.com/arabic/
-
الجامعة البهائية، مكتبة المراجع البهائية:
http://reference.bahai.org/ar/
-
مكتبة الغرفة البهائية:
http://www.bahaichatroom.org/Books/Index.htm
-
الديانة البهائية - Baha'i
Faith:
http://www.deenbahai.com/index.htm
-
موسوعة ويكيبيديا بنسخها العربية والإنكليزية والروسية
مع شكر خاص للأستاذة تهاني حلمي من الجامعة البهائية في الأردن لتفضلها
بتدقيق وإغناء المقال.