قرطبة عاصمة الدولة الأموية في الأندلس
سمير عنحوري
تقع
مدينة قرطبة
Cordoba
على ضفاف نهر الوادي الكبير
Guadalquivir
في منطقة احتلَّها الرومان عام 169 قبل الميلاد وجعلوا منها عاصمة
مقاطعة
Bétique
أي الأندلس، ثم احتلَّها القوط
Visigothe
في القرن الخامس بعد الميلاد وسقطت بعدها سنة
711
بأيدي طارق بن زياد قائد الجيش العربي أيام حكم الخليفة الأموي الوليد
بن عبد الملك في دمشق، وأصبحت شبه الجزيرة الاسبانية إمارة عربية أموية
اسمها الأندلس وعاصمتها قرطبة.
سقطت دمشق سنة 750 بأيدي بني العباس وزالت الدولة الأموية وضاع مجدها
وزال معها العصر العربي الخالص في تاريخ الإسلام بعد 89 سنة فقط من
تاريخ تأسيسه، وانتقلت الخلافة إلى العراق حيث دامت حتى سنة 1258 وكانت
عاصمتها بغداد.
شرع العباسيون فور استلامهم الحكم باستئصال وإبادة أفراد البيت الأموي
حيث وُجدوا، فقُتلوا جميعهم ولم ينجُ منها إلا القليل وكان أحدهم الشاب
عبد الرحمن ابن معاوية ابن هشام الذي هرب طريدًا وشريدًا لمدة خمسة
أعوام حتى وصل إلى الأندلس فأسَّس فيها سنة 756 الدولة الأموية الغربية
وعاصمتها قرطبة، وانفصل عن الدولة العباسية "التي أصبحت دولة جميع
الشعوب الإسلامية ولم يكن العرب سوى عنصر من عناصرها الكثيرة التي
احتوتها"، بينما أصبحت الدولة الأموية في اسبانيا دولة العرب والسكان
الأصليين المستعربين والبربر الأفارقة وكانت والدة عبد الرحمن واحدة
منهم ويقيم أخواله في جوار مدينة سبتة حيث لجأ إليهم أثناء فراره من
بلاد الشام.
وحَّد عبد الرحمن (الداخل) المملكة الجديدة بعد أن تغلَّب على أعدائه
في الأندلس كلها بعد انقضاء عشر سنوات على دخوله إليها، وكان في سنة
773 قد أبطل الخطبة للخليفة العباسي وأعلن عدم اعترافه بسلطته، ولكنه
لم ينتحل لنفسه لقب الخلافة فقد اكتفى هو ومن خلَفَه بلقب أمير حتى عهد
الأمير الشاب عبد الرحمن الثالث وكان عمره 23 عامًا الذي تولَّى الحكم
سنة 912 حتى سنة 961 وكان أول من تسمَّى بالخلافة في الأندلس سنة 929.
استتب الأمن في البلاد فأخذ عبد الرحمن الثالث يوجه انتباهه نحو
العمران والفنون والثقافة مما ساهم في ازدهار المملكة وعظمتها. كما بذل
عنايته بشكل خاص في الجمع بين عناصر رعيَّته من عرب بلاد الشام والبربر
والإسبان المستعربين والقوط وجعلهم أمة واحدة على ما في الأمر من
صعوبة. كما أنه يُعتبر منشئ الحركة الفكرية التي جعلت الأندلس من القرن
التاسع إلى القرن الحادي عشر أحد المراكز الثلاثة الهامة في الثقافة
العالمية وهم بغداد وقرطبة والقسطنطينية.
عاشت الدولة الأموية التي أسسها عبد الرحمن الداخل الذي توفي سنة 788
قرنين وثلاثة أرباع القرن (756 – 1031) وبلغت أوجها في عهد الخليفة عبد
الرحمن الثالث أعظم أمراء هذه الأسرة، وأدركت قرطبة طيلة الحقبة
الأموية عهدًا من الازدهار والعظمة ضاهت فيه بغداد عاصمة المشرق. وقد
بدأ دور انحطاطها بعد وفاة الحاجب "المنصور" واسمه محمد ابن أبي عامر
الذي اتَّخذ لنفسه لقب "المنصور بدين الله" واستبد بالحكم أيام الخليفة
الحدث هشام الثاني (976 – 1009) وحكم الدولة بسياسة ودهاء عظيمين حتى
وفاته سنة 1002، وحقَّق خلال حكمه انتصارات حربية عديدة على الاسبان في
الشمال أنحاء ليون وقشطالة وقطَلونية ولعله كان أعظم سياسي وقائد عرفته
اسبانيا العربية. ثم لم تلبث الخلافة الأموية أن تلاشت وانحلت بعد وفاة
آخر خلفائها هشام الثالث (1027 – 1031) ونشأ على أنقاضها مجموعة من
الدويلات الصغيرة عُرف أمراؤها "بملوك الطوائف".
بدأ استرجاع النصارى الأندلس منذ سقوط الخلافة الأموية في القرن الحادي
عشر، ولم ينتصف القرن الثالث عشر حتى تم استرجاع البلاد كلها بدءًا من
سقوط طليطلة سنة 1085 ثم قرطبة سنة 1236 واشبيلية سنة 1248، وأخيرًا
غرناطة التي حكمها بنو نصر منذ سنة 1232 وكان آخر سلاطينهم محمد أبو
عبدالله
Bouabdil،
فدخلها جيش مملكة قشطالة والأراغوان دون قتال سنة 1492[1]
وعلى رأسه الملك فردينان والملكة إيزابيل، وغادرها السلطان وعائلته
وعدد من أفراد حاشيته في موكب كبير متجهًا إلى مدينة فاس في إفريقيا
حيث توفى سنة
1533.
ويُحكى بأنه التفت أثناء رحيله التفاتة أخيرة على عاصمته غرناطة فتأوه
وجرت عَبَراته فانتهرته أمُّه بشدَّة قائلة: "إنك تبكي كالنساء مُلْكًا
لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال". وبذلك انتهى التواجد العربي الإسلامي
في اسبانيا الذي شكل خطرًا على أوروبا من الغرب لمدة 800 سنة في زمن
بدأت تهددها من الشرق الدولة العثمانية بعد سقوط القسطنطينية سنة 1453[2].
تألق بلاط عبد الرحمن الثالث (المنصور) في عهده وعهد ابنه وخلفه الحكم
الثاني (المستنصر) 961 - 976، فبلغ صيت العاصمة الإسلامية حتى أقاصي
أوروبا فوُصفت قرطبة بأنها "جوهرة العالم" ويشهد على ذلك ما بقي من
آثارها العمرانية إلى اليوم، وأهمها مدينة "الزاهرة" التي بدأ بإنشائها
الخليفة عبد الرحمن الثالث سنة 936 مرضاة لمحظية له كان اسمها "زهراء"
واستغرق بناؤها حتى سنة 961 ثم وسَّعها الحَكَم الثاني حتى أصبحت
بقصورها الفخمة وبساتينها الغناء التي تزينها الورود وأشجار الفواكه
الشامية كالرمان والإجاص والبرتقال والعنب وغيرها إحدى أجمل ضاحية
ومدينة ملكية في العالم. لكن هذه المدينة خربت واندثرت تمامًا في القرن
الثاني عشر بسبب الحروب وغزوات البربر المتكررة، وهي موضع تنقيب وأبحاث
أثرية منذ بداية القرن العشرين.
وكذلك الجامع الكبير الذي ما يزال موجودًا حتى الآن وهو بناء ضخم يحتل
مساحة 22400 م2، بدأ ببنائه عبد الرحمن الأول (الداخل) سنة
786 قبل وفاته بعامين على أنقاض كنيسة قوطية قديمة، ثم قام خلفاؤه من
بعده هشام الأول والحَكَم الأول بتوسيعه مما زاده روعة وجمالاً. ولهذا
الجامع اثنا عشر بابًا، وسقفه قائمٌ على غابة من أعمدة رخامية متفاوتة
الارتفاع وعددها حوالي 1300، وعدد ثرياته 280 ثريا مصنوعة من النحاس
والبرونز وبعضها من الفضة الخالصة، وفيه محراب غاية في الجمال مزين
بالفسيفساء البيزنطية المذهَّبة والرخام الأبيض والملون المزين بنقوش
هندسية شرقية وكتابات كوفية، وترتفع مئذنته إلى 74.50 م تقريبًا. وقد
تحوَّل الجامع عام 1236 إلى كاتدرائية وما يزال هذا البناء يدعى
La Mezquita
أي الجامع.
كان الحَكَم الثاني (961 – 976) عالمًا مُحبًّا للعلم والعلماء، وفي
عهده ازدهرت جامعة قرطبة الشهيرة في علم الآداب والعلوم وقصدها المئات
من الطلاب، نصارى ومسلمين، لا في اسبانيا وحسب بل من كافة المدن
الأوروبية ومن افريقيا وآسيا. وضمَّت العاصمة عدا الجامعة ومكتبتها
الكبيرة أكثر من ستون مكتبة عامة ابتاع لها الحَكَم الكتب والمخطوطات
من كافة الأمصار، فبلغ عدد ما جُمع في هذه المكتبات أربعمائة ألف كتاب
تمَّ حفظها وتجليدها بشكل ممتاز. وقد اشتهرت قرطبة بصناعة الجلد وتجليد
الكتب القيِّمة ومنها جاءت الكلمة الفرنسية
Cordonnier
لصانع المنتجات الجلدية في مدينة
Cordoue
أي قرطبة.
كانت قرطبة مدينة في غاية الجمال يسكنها أكثر من نصف مليون نسمة، تميزت
بقصورها وحدائقها الرائعة وبساتينها وشوارعها التي كانت مضاءة ليلاً
بقناديل معلقة وهذا لم يتحقق في البلدان الأوروبية إلا بعد عدة قرون.
كما كانت قرطبة معبرًا ثقافيًا وعلميًا في غاية الأهمية بين العالمين
الشرقي والغربي انتقلت من خلاله الثقافة العلمية والفلسفية الإغريقية
التي تُرجمت مؤلفاتها إلى العربية في العهد العباسي الذهبي، وألبسها
المفكرون والعلماء العرب حلَّة علمية وثقافية جديدة أغنت الفكر
الأندلسي في كافة المجالات أهمها الفلسفة والطب والجراحة والفلك
والرياضيات والشعر والموسيقى، فتدفق إليها الطلبة من معظم الدول
الأوروبية لتحصيل المعرفة والعلم مما ساهم لاحقًا في نشوء عصر النهضة
في أوروبا.
ومن أهم المفكرين والعلماء والشعراء والموسيقيين في قرطبة في زمن
الخلافة الأموية العربية: ابن زيدون، وابن عبد ربّه، وعلي ابن حزم،
وابن حياّن، والمجريطي، والزهراوي، وابن رشد، وزرياب، وابن ميمون.
ما تزال المدن الأندلسية وآثارها العمرانية الرائعة في طليطلة وقرطبة
وغرناطة واشبيليا تشهد على عظمة الفكر والثقافة العربية الإسلامية في
اسبانيا. يستنشق زائرو حاراتها القديمة نفحة ذكرها من عطر ورودها وعبير
أزهارها وثمر أشجارها. كما يلحظ الزائر العربي في لغتها مفردات عديدة
مشتقَّة من اللغة العربية وفي موسيقاها التقليدية الطابع الأندلسي
الأصيل وخاصة منها نوع
Flamenco.
الدولة الأموية في اسبانيا (القسم المنقَّط) وتشمل البرتغال
محراب الجامع الكبير
دمشق 21/5/2021
*** *** ***
المراجع:
·
تاريخ العرب، فيليب حتي.
·
تاريخ التمدُّن الإسلامي (الجزء الخامس): جرجي زيدان.
·
Andalucia: Editions Edilux
·
La Civilisation de l’Islam Classique : D. et J. Sourdel
·
Civilisations , Peuples et Mondes (Edition Lidis) : Le Moyen-Age
[1]
هي السنة نفسها التي اكتشف فيها البحار الإيطالي كريستوف
كولومبوس القارة الأميركية بتشجيع وتمويل من الملك فرديناند
والملكة ايزابيل.
[2]
نظرًا لأهمية هذا الحدث العظيم فقد اعتبر المؤرخون الأوروبيون
هذا التاريخ نهاية القرون الوسطى وبداية العهود الحديثة.