إضاءات على التراث الشفهي في سوريا
منى هلال
مقدمة:
منذ بداية الخليقة والإنسان يسعى إلى الحياة بشكل أفضل، يسعى إلى حياة
جماعية، يشعر معها بالأمان والاطمئنان والراحة.
وبكثير من الصدف، تطورت هذه الحياة وتراكمت الخبرات في هذه المجموعات
البشرية المتنوعة، وانتقلت إلى أجيال أخرى ومجتمعات أخرى ساعدتهم في
بناء حياة أفضل.
وهذا ما سنحاول أن نستعرضه من خلال تراث أجدادنا "الأقربون والأبعدون"
وما تركوه من تراث مادي أو غير مادي، وما هو دورنا نحن الخلف الصالح...
تعريف التراث
نبدأ بتعريف الكلمة لغويًا: التراث كلمة مشتقة لغويًا من كلمة إرث أي
ما يتوارثه الأبناء من الأجداد. من هنا تحدَد وأصبح واضحًا أن التراث
هو ارتباط بالماضي، وفي الواقع هناك عدة تعاريف لهذه الكلمة، سنقوم
باستعراضها إلى أن نصل إلى تعريف يناسبنا.
التراث هو كل ما تركه لنا الأوائل من علوم كالطب والفلك والتطور
الصناعي والزراعي، وفي مجال آخر، ما تركه الأقدمون من قلاع وحصون ومدن
مندثرة...
وهذا التراث يختلف من منطقة إلى أخرى ولكننا نتفق مع باقي الشعوب في
نظرتها للموضوع أن التراث هو ما خلَّفه الأجداد لنا.
وأيضًا يقول قيلبس: التراث عبارة عن استمرارية ثقافية على نطاق واسع في
مجالي الزمان والمكان، وحيز مكاني ولكنه متميز بيئيًا. هذه الشروط
الأربعة سترافقنا خلال العرض دون أن نذكرها.
تطبيقًا لهذا التعريف فإن التراث في سوريا لا يشبه تراث امريكا
اللاتينية، فمن ناحية التراث المادي مثلاً التماثيل الموجودة في سوريا
لا تشبه غيرها مثلاً أهرامات أميركا اللاتينية وتمثال أبو الهول... أو
تماثيل بوذا الكبيرة... لأنها بحاجة إلى أحجار كبيرة وهذا الشيء غير
متوفر في بلدنا.
سورية لم تعرف هذا النوع من التراث المادي، وبالتالي نعود إلى هذه
الجملة من التعريف السابق (التراث حيز مكاني ومتميز بيئيًا).
وبما أننا من الشعوب التي أنتجت وصدَّرت الكثير من الحضارات فلابد أن
يكون تراثنا بشقيه غنيًا جدًا ومتنوعًا... لذلك نقول: من المستحيل أن
تنشأ أية حضارة دون تراث، بمعنى آخر لا تنشأ حضارةٌ ما من الهواء... أو
دون الاستفادة مما تركه الأوائل. ونضيف كتعريف أولي أن التراث يشبه
الشجرة كلما امتدت جذورها في الأرض، كلما ازدادت قوة. كلما استفدنا من
تراثنا، كلما ازددنا قوة.
ومع أن الخصائص التراثية تميز كل منطقة إلا أنه بسبب الاحتكاك بين
الحضارات المختلفة تم تبادل الكثير من مظاهر التراث مما زاده غنى.
في النهاية نقول جملة واحدة إن التراث يعيش في ذاكرة ووجدان وثقافة
المجتمع كوحدة متكاملة.
أنواع التراث:
-
مادي:
يتمثل بما تركه لنا الأجداد من آثار ظلت باقية، قلاع حصون معابد مساجد
سدود أسوار. وبلغة المختصين يندرج هذا التراث تحت اسم الآثار الثابتة.
نحاول ان نصنف قدر الإمكان الآثار الثابتة ضمن جداول نقول:
·
إرث تاريخي: مثل قلعة صلاح الدين، قلعة الحصن، قلعة حلب... وهذه
الأمثلة كلنا نعرفها.
·
إرث ثقافي: ممثلاً في اللقى الهندسية التي تدلنا على تطور في أحد نواحي
حياة الأقدمين أو اللقى التي تمثل فن الكتابة... والرقم الموسيقية.
·
إرث اجتماعي: كالمنتجات الثقافية؛ أي كل مظاهر الحياة كالأدوات التي
كان يستخدمها الأجداد في حياتهم.
·
إرث طبيعي وبيئي: كالمواقع الطبيعية مثل مغارة الضوايات وجزيرة أرواد
أو المحميات الطبيعية. مع الأسف بالنسبة للمحميات هناك تحفظ على هذه
النقطة (سجلوا محمية طبيعية على حساب إلغاء المجتمع المحلي).
لذلك نقول إن هذا التراث المادي المتنوع ولأية دولة في العالم يساهم في
خلق رابط قوي بين البشر والأرض. ولأن حفظ التراث مرتبط بحماية الأرض
فالدفاع عن الأرض ليس فقط ضد منع الاستعمار بل لضمان استمرار نقل
الحضارة التي خلفها لنا الأجداد وحفظها وصونها وإضافة المستجدات إلى
هذا التراث.
-
التراث اللامادي أو الشفهي أو الفلكلور أو التراث الشعبي
عقدت الأمم المتحدة عام 2003 اتفاقية صون التراث اللامادي للشعوب،
وكانت سوريا من الدول الموقعة. وتعرف هذه الاتفاقية التراث اللامادي
بأنه: الممارسات والتصورات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات، وما
يرتبط بها من آلات وقطع ومصنوعات وأماكن ثقافية، والتي تعدها الجماعات
والمجموعات وأحيانًا الأفراد جزءًا من تراثهم الثقافي، وهذا التراث
الثقافي غير المادي المتوارث جيلاً عن جيل، تبدعه الجماعات والمجموعات
من جديد بصورة مستمرة، بما يتفق مع بيئتها وتفاعلاتها مع الطبيعة ومع
تاريخها، وهو ينمي لديها الإحساس بهويتها والشعور باستمراريتها. مع
العلم أن الجماعة طائفة من الناس يجمعها هدف واحد والمجموعة هي عدة
جماعات في فراغ جغرافي واحد.
وأضافت المديرة العامة لليونسكو السيدة ايرينابوكوفا: هدف هذه
الاتفاقية ليس فقط الحماية، لأن الحماية تعني بناء حواجز حول شكل معين
وعزله عن سياقه وماضيه أو قيمته الاجتماعية، أما الصون فهو الحفاظ على
طابعه الحي وعلى قيمته ووظيفته دون التفضيل بين عنصر وآخر. مثال: حماية
اللغة الآرامية من الضياع عن طريق أرشفتها وتوثيقها. وصونها يكون
بتشجيع الشباب على دراسة هذه اللغة.
وأهم نقطة أن التراث اللامادي ليس المعارف أو الرموز فقط بل هو
الفعاليات والظروف التي تسمح بنشوء هذه الظواهر اللامادية.
ومن الهام أن نقول إن الظواهر اللامادية تخلق روابط بين الشعوب وتساهم
في تطوير حضارات عند الآخرين بواسطة نقل هذه الظواهر الموجودة في مكان
ما إلى منطقة أخرى عن طريق القوافل والرحلات والتجارة والمغامرات
أحيانًا، حتى البعثات التبشيرية حيث شاهدت في توسان دير لرهبان يسوعيين
قدموا من اسبانيا في القرن التاسع عشر واللافت للنظر أن بناء هذا الدير
يتألف من باحة وفي وسطها بحرة وورود وأشجار وأقواس حول الباحة وهذا
دليل انتقال الفن المعماري العربي إلى العالم بطرق قد لا تخطر على
بالنا.
إذن تكمن أهمية هذا التراث اللامادي أو الشفهي أو الفولكلوري في أنه
ينقل إلى الأجيال القادمة القيم الأخلاقية والثقافية والمعرفة التي
تشكل الذاكرة الجمعية لمجتمع ما.
السؤال الآن هو من أين نستقي معلوماتنا؟ نستقي معلوماتنا حول هذا
التراث الشفهي من حكايا الأجداد والأمثال الشعبية الأغاني والقصص
المتوارثة وبعض كتب الرحالة في وصفهم لعادات وحياة مجتمع ما... أو من
كتب المستشرقين الذين زاروا بلادنا مع الأخذ بعين الاعتبار عدم حيادية
بعض هذه الكتب... ومن الصور واللوحات التي تمثل مشاهدَ حياتية لمجتمع
ما في زمن محدد.
يتضمن التراث الشفهي اللامادي:
-
التقاليد وأشكال التعبير الشفهي، بما في ذلك اللغة واللهجات:
-
الحكايا الشعبية (أشعار وقصائد مثل الزجل. اذكر أنه فيما سبق كان هناك
برنامج تلفزيوني حول هذا النوع من الأدب. مع الأسف أصبح من النادر أن
نشاهد هكذا برامج).
-
الشعر فهناك رأي يقول إن الشعوب التي لم تعرف الكتابة حفظت ثقافتها
اللامادية في الأشعار والحكم والأساطير بالاعتماد على الذاكرة.
-
قصص الجن الشعبية.
-
القصص البطولية.
-
الأساطير.
-
طريقة اللباس.
-
الفنون مثل الرقص، الدبكة، الأغاني، اللعب، الألغاز، اللهو، الكرنفال،
النكتة، مسرح خيال الظل (مثلاً أراجوز وعيواظ هم ضمن لائحة التراث
اللامادي العالمي)، أسلوب الطبخ، الأمثال التي تمتاز بالاختصار وجودة
التشبيه (لذلك هي مستمرة)، حكايا الأطفال، مثلاً حكاية الطفل الذي سدَّ
الفجوة في السد بجسمه لحماية القرية، هل هي أسطورة أم واقع؟ وكيف
التأكد من صحتها، حيث الغاية من هذه الأمثولة نقل فكرة البطولة
والتضحية عند الأطفال.
-
الفنون الحرفية التقليدية مثل الموازييك، النفخ على الزجاج، الحفر أو
النقش على النحاس، البروكار المبيض، الرسم على الزجاج أو الزجاج
المعشق، التطريز الفلسطيني، التصديف المجلخ... إلخ.
-
الممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات: بنظرة متعمقة إلى ممارستنا
الاجتماعية نلاحظ أن أغلبها مستوحى من ممارسات قام بها أجدادنا وقمنا
نحن بتعديلها بما يناسب الظرف الاجتماعي والاقتصادي وقد يضيف عليها
الأجيال القادمة بما يناسبهم. سأحاول معكم عرض بعض هذه المظاهر مع
العلم أن هناك عددًا لا يحصى في كل مجالات حياتنا اليومية من مظاهر
التراث اللامادي. مثلاً يتم تقديم الطعام في الجنازات وهي عادة مشتركة
في المجتمعات المختلفة، قد يكون الاختلاف بنوعية الطعام أو زمنه أو في
أي يوم يكون، هذا المثال يظهر التشابه والترابط بين أفراد المجتمع بكل
أطيافه. أيضًا الحج وما كان يرافقه من طقوس خصوصًا عند الانطلاق هو من
مظاهر التراث اللامادي في فترة زمنية معينة.
-
الاحتفالات الدينية: خميس السكارى ويصادف آخر خميس قبل بداية صوم عيد
الفصح حيث تجتمع العائلة كلها على مائدة فرح ومحبة وكحول تهيئة لدخول
الإنسان فترة صوم لمدة 50 يوم والامتناع عن اللحوم والمشروبات.
الأربعاء الأحمر عند اليزيديين هو يوم انبعاث الخليقة وبدء الكون ويمنع
الزواج في هذا الشهر الذي يصادف في نيسان لأن هذا الشهر هو عروس السنة
ولا شيء يشبه هذه العروس، وهم يشعلون 365 شمعة ويتم تلوين البيض كل 3
بيضات بلون كرمز لفصول السنة.
-
الأعراس وما يرافقها من عادات وتقاليد وأغاني هي تراث لامادي سواء
إيجابي أو سلبي. أعرض هنا لقطات من العرس الحلبي نموذجًا:
·
صمد الجهاز ونقله عند أصحاب الديانتين الإسلامية والمسيحية. أمام موكب
نقل الجهاز.
·
ترقص العبلة على الجمل (يتم نقل كل الجهاز على الجمال كنوع من
الاستعراض كي ينبهر الآخرون بالغنى وكثرة البقج وغيره) مع العلم أن
الراقصة العبلة كانت ملثمة حتى يشك بأنها فتى وليست امرأة. رقص العبلة
اندثر تمامًا مثله مثل نقل الجهاز وقد يكون البعض مازال يقوم بصمد
الجهاز ولكن العدد قليل، ويرافق العبلة ونقل الجهاز رجال يلعبون
بالسيوف. أعتقد أنها أصبحت الآن ما يسمى بالعراضة وطبعًا الزغاريد
ترافق كل قطعة حين عرض الجهاز. ليلة الحنة نساء فقط
·
ليلة التعليلة حفلة في بيت العريس قبل العرس بدون لباس رسمي.
·
الصمدة، تبديل الثياب، لكن الهام أن العروس لا ترقص في هذه السهرة.
·
حدثت إضافات على العرس الحلبي أو غيره نتيجة تزاوج الريف والمدينة
مثلاً سرقة شيء من بيت العروس، وهذه العادة سببت الكثير من المشاكل، أو
الوخز بالدبوس.
أما عن خطوات الزواج في المنطقة الشرقية ومقارنتها بباقي المناطق من
إضافات أو نقص بعض هذه المظاهر فتكون على الشكل التالي:
1.
الخطوبة ممكن أن تتم دون معرفة الشاب. وهي على مرحلتين الأولى لجس نبض
أهل الفتاة والثانية هي الطلب الرسمي.
2.
الحيار وهنا يأتي دور أولاد العم في الاعتراض أو الموافقة إذا كان
العريس غريبًا.
3.
المهر.
4.
العقد بحضور المشايخ ولا يعقدون القران بين العيدين.
5.
الجهاز ويقسم بين الطرفين: أهل العريس فستان العروس وتوابعه، وأهل
العروس الذهب.
6.
الحنة وهي اجتماع الفتيات في بيت أهل العروس يقابلها الزفة عند العريس.
7.
العرس والولائم.
8.
الخِطرة بعد العرس لا تذهب العروس مباشرة إلى بيت عريسها. أولاً عند
الجيران ويضعوا طفل في حضنها للتفاؤل بالإنجاب وهنا تتحول السهرة إلى
الغمز واللمز من صديقاتها.
9.
الزفة إلى بيت العريس.
10.
الصباحية أو النقول يطرقوا باب غرفة العرسان مع صواني الفطور التي
تعدها والدة العريس ويأتي المهنؤون ولا يتحمم العريسان لمدة أسبوع
لاعتقادهم بأن مرضًا يسمى (أبو العرسي) قد يصيبهم. (القرن التاسع عشر).
ذكرت كل هذه الخطوات لمقارنتها باحتفالات الزواج في مناطق أخرى نعرفها.
سأعرض الآن بعض الهناهين التي تقال في الأعراس في مناطق مختلفة، مع
العلم أنه يمكن اعتبار هذه العديات من التراث اللامادي الذي تطور، لأنه
في كل فترة تضاف كلمات ومعاني جديدة إليها. وهذه بعض الهنهونات بمناسبة
الأعراس القابلة للتبدل والإضافات والغمزات:
من حلب:
أويها يا خوخ بغبارو / اويها ويا ورد بزراره / أويها واللي ما بحبك يا
عريس / أويها ان شاء الله بتنخرب دياره للليش.
يا ناس لاتلوموني... لاتعطوني بملامة... وابن عمي ما اعيفه... لولاتقوم
القيامة
أويها ببيتنا رمانة... حامضة ولفانة... أويها حلفنا ما منقطفها.. أويها
ليدخل عريسنا بالسلامة... ليليليش
واحدة أخرى: اويها عللعلعيعاللعلعي... أويها يا صبايا تجمعي... أويها
ويا شمس لاتطلعي.. ليليليش.
من المنطقة الشرقية:
لوهلهلتي هلهلنالج / دكانا البارود كبالج
هي للعريس: صلوا على محمد... شنكليلة شنكليلة.... من هاليللة
صاروعيلة.... عريس الزين يتهنا... يطلب علينا ويتمنا... عريس الزين يا
غالي... افدي بالروح والمال... عريسنا ما ياخد الا الصبية... عريسنا ما
ياخد الا النشمية... اللهم صلي على خير العباد...
من الرقة:
أخدنالك يا (فلان) بنت عمك / سودة العين يا شقرة الذوايب
في هنهونة حلوة تقولها العروس في الغرفة لعريسها: فتاح جزدانك واعطيني
حق شعري... وأنا صبية بأول جهلي... والليل طويل على مهلك ومهلي....
وهنا يقدم لها العريس حق شعرها بالليرات الذهبية...
وللولادة يقال: أوها ولدت وقامت... أوها على فراشها نامت.. اوها آلك
الحمد يا ربي... أوها اللي ما شمت فينا شامت.... أوها مبارك والسبع
بركات... أوها بتستاهلي يا داية أسورة حرايرية... وزيارة محمد والكعبة
المجلية...
وهناك مظاهر لامادية سلبية أو حتى سيئة مثل المحرمة الملطخة بالدماء
ليلة الدخلة أو جريمة الشرف أو أولوية الزواج بابن العم أو بنت العم
... الخ.
ركزنا في استعراضنا للتراث اللامادي على سورية مع العلم أن الوطن
العربي غني جدًا بهذا التراث، ومع أن لكل قطر خصوصيته كالأراجوز في
مصر، وكيلي الماء في الجزائر، والكوفية الفلسطينية، إلا أن التداخل
وارد جدًا لدرجة عدم معرفة أصل الظاهرة. مثل الآلة الموسيقية إمزاد
المشتركة كتراث بين طوارق الجزائر والمغرب ومهمتها إبعاد الأرواح
الشريرة.
من استعراضنا لكل هذه التشكيلة من التراث اللامادي نقول: هو نشاط
تعليمي يهدف إلى كشف المعاني والعلاقات من خلال استخدام الأشياء
الأصلية عن طريق تجربة مباشرة عوضًا عن التوصيل الممل. وهو المصدر
الأساسي للتنوع الثقافي، ويقصد بهذا المفهوم كل الممارسات والتطورات
والمهارات والمعارف وأشكال التعبير. وهو قابل للتجديد بما يتناسب مع
المحيط والمجتمع والبيئة ومن أهم أهدافه تنمية الإحساس بالهوية
واستمرارها.
أهمية التراث اللامادي وخطر الاندثار
هناك عدة عوامل لها دور كبير في زوال بعض مظاهر التراث اللامادي منها
الحروب، الهجرات خارجية وداخلية وليس مقصود بها العمل الموسمي،
العولمة، اندثار بعض المظاهر لأسباب طبيعية ونتيجة للتطور في مجالات
الحياة (محمل الحج – ثمن الشعر في ليلة العرس).
السبب الأكبر لخسارة هذه المظاهر هو الحروب وما تجره من ويلات. لن نخوض
كثيرًا في هذا العامل. فنحن كلنا رأينا ما سببت لنا الحرب من خسائر على
كل المستويات.
بالنسبة للهجرة لها سببان: الحرب والوضع الاقتصادي الذي يؤدي إلى هجرة
خارجية لا عودة منها. فمثلاً المهاجرون إلى الغرب مثلاً لن يتقيدوا
بعاداتنا وتقاليدنا.
ننتقل إلى العولمة ونقول كما لكل شيء مظهر إيجابي وسلبي فمن إيجابيات
العولمة أنها تقرب المسافات وتسهِّل الاتصالات بين البشر ومن سلبياتها
إزالة التفرد والخصوصية الوطنية.
إن وجود الهوية الوطنية يتحقق بكونها ليست وجودًا ملموسًا، بل شعورًا
بالانتماء إلى الأرض والآخرين. ولكن هل نستطيع أن نتابع حياتنا ونحافظ
على كل أشكال تراثنا إذا أغلقنا باب العولمة أم هناك طريقة أخرى؟
للحفاظ على ما حولنا، علينا ان نتسلح بالوعي وأن نكون مدركين للتغير
الذي يجري في العالم والتعامل بموضوعية للاستفادة من العولمة ونحن
مسلحون بهويتنا المتميزة، وأن نعلم أن مرجعيتنا هي القيم الحضارية
لمنطقتنا وشعبنا.
وكما نعلم أن مظاهر التراث اللامادي مرتبطة بالمنطقة وبالمجموعات
البشرية المتواجدة ضمن الوطن الواحد لكن بسبب الهجرة أو الانتقال فإن
الناس أخذوا معهم تراثهم. ولكن هذا التراث بعد فترة سينقرض لأن
المرتبطين به ذابوا في مجتمعات أخرى أكبر منهم. ونعود هنا إلى ضرورة
الحماية والصون، مثلاً هناك قرى بكاملها أزيلت بناسها وتراثها وبالتالي
فقدنا كسوريين أحد مظاهر التراث اللامادي لمنطقة ما.
سرقة الآثار أو التراث بشقيه
لن نتحدث هنا عن سرقة الآثار المادية فالكل عنده فكرة عن هذا الموضوع
وأكثر الأمثلة وضوحًا ما جرى في فلسطين والعراق وسوريا... هناك جملة لا
أذكر قائلها تقول: إن سرقة تراث شعب تعادل إلغاء وجوده.
سنتكلم قليلاً عن سرقة الآثار غير المادية. قد يتساءل البعض كيف يسرق
شيء غير محسوس. سأعطيكم مثالاً كنت في زيارة عند ابنتي في اميركا وكانت
توزع مجانًا مجلة الحي ولفت نظري مقال كتبته سيدة يهودية أصولها حلبية
عن أكلة الكبة عن أن يهود حلب هم الذين اخترعوا هذه الأكلة. قد يكون
لهم دور ما كغيرهم من المجموعات المتواجدة في هذه المنطقة على مرِّ
العصور ولكن الكبة ليست من اختراعهم، والشيء نفسه مع الحمص والفلافل..
الخ. لذلك على الدولة والأفراد والجمعيات ضرورة توثيق هذا التراث
للحفاظ عليه من الضياع وخوفًا من السرقة.
دور الدولة:
هناك جوانب من التراث لا يمكن إلا للدولة أن تقوم برعايتها لما تكلف
هذه العناية من اعباء مادية أو كوادر متخصصة. مثلاً توثيق التراث
اللامادي البدوي الآيل للانقراض (طريقة الحياة أو الطبخ أو الأغاني)
هذا مشروع دولة أو بالتعاون مع الدولة لأنه يتطلب الإقامة معهم لفترة
ورصد وتسجيل تراثهم اللامادي... وهناك العديد من المقترحات والمشاريع
سأذكر بعضا منها:
1.
إقامة كليات ومعاهد خاصة لتعليم كيفية العناية وإظهار التراث اللامادي.
2.
الاستفادة من المتاحف العامة بكتابة منشورات توضح مظهر من مظاهر التراث
الشفهي والتعريف به.
3.
عرض برنامج تلفزيوني فيه مظاهر من التراث الشفهي.
4.
إضافة فصول إلى المناهج لتعريف طلابنا بهذا التراث وتأصيله في عقولهم
وقلبهم ليزداد ارتباطهم بأرضهم وإقامة رحلات مدرسية إلى أماكن الحرف
التقليدية.
من التجارب الناجحة التي قامت بها الدولة ونجحت التجربة هي تعليم
وصناعة السجاد وبيعه وهكذا حافظت على هذا التراث بالإضافة إلى اعتباره
مهنة لها راتب وأجر.
دور الجمعيات:
في الواقع يجب أن يكون لاتحاد الحرفيين وبالتعاون مع مؤسسات الدولة
الدور الأكبر في الحفاظ على هذا التراث، فبتعاونه مع جمعيات أخرى يمكن
تشجيع والاهتمام ببعض الحرف وخاصة المتوارثة عائليًا. إقامة دورات
وتأهيل لبعض المهن خاصة المهددة بالانقراض مثل الفخار ونفخ الزجاج. من
الجمعيات (جمعية الوفاء التنموية السورية) بيت الشرق للتراث التي أعلنت
عن أهدافها الثلاثة للعمل وتشجيع الحرفيين وهي:
-
الأول تأمين مكان للحرفيين الذين دمرت ورشاتهم خلال الأزمة.
-
الثاني تعليم الراغبين بعض الحرف حفاظًا عليها من الاندثار.
-
الثالث دمج الحرفة بالعلم باستعمال أدوات جديدة واستحداث رسمات جديدة
أي تطوير التراث اللامادي بما يناسب العصر.
دور الأفراد:
يتردد إلى بالنا هذا السؤال بشكل دائم: ما هو دورنا؟ ليس لدي جواب
جاهز، لكن أقول فلنسهم ولو بجزء بسيط، مثلاً أن نشتري من الحرفي الذي
يعرض بضاعته على الرصيف. يمكن أيضًا في البازارات الموجودة بكثرة أن
يخصص ركن لعرض منتجات حرفيينا.
نجحت بعض النساء في إنعاش التراث التدمري عن طريق إعادة تدوير الأقمشة
استنادًا إلى هذا التراث وإحياء هذا الفن بحياكة شراشف وبيعها لصالح
الحرفي.
الخاتمة
في النهاية نقول جملة واحدة: التراث هو الماضي والحاضر والمستقبل...
وأننا يجب أن نعطي لكل فترة زمنية حقها بشكل لا نعيش معه في أمجاد
الماضي وإلا أصبحنا خارج المستقبل ولا ننسى ماضينا حتى لا نظلم من
سبقنا وحتى نزرع في وعي الجيل الجديد وبشكل سليم الارتباط بالأرض
والوطن حاضرًا وماضيًا ومستقبلاً.
*** *** ***