الفطرة الإنسانية المُكتسبة!
قراءة في البعد اللغوي والديني
حمزة رستناوي
لقد
أطاح العلم بكل التصورات الرومانسية عن أسطورة الهمجي النبيل الذي يجهل
الشرَّ، صحيح أنَّ الطفل الوحشي المنعزل عن البشر لا يعرف الشرَّ
والضرر ولكنهُ بالمقابل لا يعرف الخير، فهو أصلاً لا يدرك هكذا مفاهيم
عليا مجرَّدة بسبب افتقاده إلى اللغة، وبدون حضارة يكون الإنسان واحدًا
من أضعف الحيوانات وأقلها ذكاء. إنَّ التطور الروحي الحركي الطبيعي
للأطفال لا يحدث إلا بوجود بيئة اجتماعية حاضنة تُفعِّل الدوافع
الداخلية وتستجيب للحوافز الخارجية مع التربية والتعليم.. وبدون ذلك
سوف نجد أطفالاً مصابين بما يشبه التخلف العقلي ولكن بدماغ سليم
تشريحيًا وعضويًا. لن يهتدي حيّ بن يقظان إلى عدم وجود تعارض بين العقل
والشريعة كما سرد ابن الطفيل! وسيكون بشرًا وحشيًّا كسائر الحيوانات
الأخرى، من دون بعد فلسفي أو عقائدي- ديني. تحاول هذه الدراسة القصيرة
مقاربة مفهوم الفطرة الإنسانية ودور العوامل الثقافية–اللغوية في تشكيل
وتحديد مسارات هذه الفطرة بما قد يزعزع امتياز الفطرة الإنسانية -
القبلية المؤمنة في المجتمعات الإسلامية وغيرها، وبما يؤكِّد على الشكل
الاجتماعي–الثقافي المكتسب للتدين عمومًا والتدين الإسلامي ضمنًا.
*
الإنسانية صناعة اجتماعية
إذا تُركَ الطفلُ المولودُ حديثًا بمعزل عن التواصل العاطفي–الاجتماعي
في البيئة، من دون تعلُّم أية لغة... سيُصاب الطفل بالتخلف العقلي
الشديد، وتضيعُ خصوصيته الإنسانية. قام فريدريك الثاني حاكم صقلية في
القرن الثالث عشر بإجراء تجربة، أحضر فيها عددًا من الأطفال حديثي
الولادة إلى مرضعات ومربيات يعتنين بهم من دون أن يصدر عن المربيات أي
صوت (لا مناغاة ولا كلامًا) وكان هدفه من إجراء هذه التجربة معرفة ما
إذا كان الأطفال سيتكلمون عندما يكبرون اللغة العبرية (لغة أقدم كتاب
سماوي) أم اليونانية واللاتينية (لغة الأناجيل المتداولة آنذاك) أم
العربية (لغة القرآن الكريم) أم اللغة المحلية في صقلية التي يتكلمها
أباءهم وأمهاتهم؟ ولكن جهده ذهب عبثًا إذ مات جميع الأطفال الذين دفع
بهم لهذه التجربة، ذلك أنهم لم يستطيعوا العيش من دون تدليل المرضعات
ورؤية وجوه باسمة وسماع كلمات أو أصوات تشعرهم بالحب والحنان[1].
في شتاء سنة 1799 في جنوب فرنسا أمسك جيران غابة أفيرون بطفل وحشي
قُدِّر عمره بـ 12 سنة، كان طفلاً عاريًا تفوح منه رائحة قذرة ويتحرك
حركات غير هادفة يخاف منه الناس، كان متأقلمًا مع البرد والثلج، جلده
مليء بالندوب ويخدش بأظافره كل من يحاول الاقتراب منه. لقد ظنَّ الناس
حينئذ بأن الطفل أبلهٌ وقد تمَّ تركه في الغابة منذ الولادة. لكن
الأطباء أخضعوا هذا الطفل إلى الدراسة ومحاولات الأنسنة والتعليم
والدمج الاجتماعي التدريجي، كذلك تمت دراسته من قبل علماء البيولوجيا،
وتبيَّن أنه يسمع بعد فحصه في المعهد الوطني للصم. قام الدكتور جين
مارك ايتار بتسميته بفيكتور، وبعد عدة سنوات أصبح فيكتور قادرًا على
القيام ببعض احتياجاته وأصبح يلبس لنفسه ويفهم اللغة الفرنسية، ولكنه
لم يستطع التكلُّم بها رغم كل المحاولات، وقد استنتج الدكتور ايتار بأن
الطفل فيكتور لم يكن لديه تخلف عقلي ولكن العزلة الاجتماعية المفروضة
على الطفل هي السبب فيما حدث له، وقد كتب ايتار: "لا يستطيع الإنسان
الوصول إلى المركز المرموق الذي اختصَّته به الطبيعة إلا إذا كان في
وسط مجتمع، وبدون حضارة يكون الإنسان واحدًا من أضعف الحيوانات وأقلها
ذكاء"[2].
من المعروف حاليًا بأن التطور الروحي الحركي الطبيعي للأطفال لا يحدث
إلا بوجود بيئة اجتماعية حاضنة تُفعِّل الدوافع الداخلية وتستجيب
للحوافز الخارجية مع التربية والتعليم.. وبدون ذلك سوف نجد أطفالاً
مصابين بما يشبه التخلف العقلي ولكن بدماغ سليم تشريحيًا وعضويًا. لقد
توصَّلت دراسة أمريكية أجريت عام 1958 إلى الاستنتاج بأن انعدام عناية
الأم واثارتها لأحاسيس طفلها واظهار حبِّها له يؤدي إلى تخلف جسماني
وعاطفي وإلى معدل وفيات عال، فمن مجموع 91 طفلاً كانوا موضوعا للدراسة
في بيوت حضانة في الولايات الشرقية الأمريكية وكندا مات 34 طفلاً رغم
الطعام الجيد والعناية الطبية الفائقة[3].
في نقد أسطورة الهمجي النبيل
تتمركز آليات اللغة في النصف المسيطر للكرة المخية وهو النصف الأيسر
بنسبة 90 بالمئة من البشر، يبدأ الإنسان في اكتساب اللغة السريع بعمر
سنتين تقريبًا ويستمر بتباطؤ حتى سن البلوغ، فإذا حُرِم الإنسان من
التواصل مع المحيط واكتساب اللغة فهو لن يقدر على ذلك مستقبلاً. لقد
أشعلت حالة طفل غابة أفيرون الوحشي نقاشًا قويًّا ضمن النخبة المثقفة
الفرنسية آنذاك حول طبيعة الإنسان ودور العوامل الفطرية-الوراثية
والمكتسبة في ذلك. بتطبيق النظريات العلمية الحديثة على حكاية حيِّ بن
يقظان التي ألفها الفيلسوف الأندلسي ابن الطفيل، هذا الطفل الذي عاش
لوحده في جزيرة الواق الواق وأرضعته ورعته الظبية حتى وفاتها بعمر
السابعة، سوف نحصل على نتيجة مختلفة، ولن يتوصَّل حيُّ بن يقظان إلى
عدم وجود تعارض بين العقل والشريعة كما سرد ابن الطفيل! حيث حيّ بن
يقظان لن يدرك مفهوم الشريعة أو الدين أساسًا، وسيكون بشرًا وحشيًّا
كسائر الحيوانات الأخرى، من دون بعد فلسفي أو عقائدي-ديني. لقد أطاح
العلم بكل التصورات الرومانسية عن أسطورة الهمجي النبيل الذي يجهل
الشر، صحيح أنَّ الطفل الوحشي المنعزل عن البشر لا يعرف الشرَّ والضرر
ولكنهُ لا يعرف الخير أيضًا، فهو أصلاً لا يدرك هكذا مفاهيم عليا
مجرَّدة بسبب افتقاده إلى اللغة. الأطفال الذين يعزلون عن المحيط
الاجتماعي هم صنف مُختلف من البشر، ولكنهم يحملون الإمكانات الإنسانية
كلَّها لو تمَّت رعايتهم "إن ظهور اللغة كان السبب المباشر والرئيس
لجميع الصفات العقلية التي تميزنا عن غيرنا من المخلوقات لاسيما ذكائنا
الخاص، ووعينا الخاص اللذين يُولِّدان معًا أشكالاً من السلوك لا
تعرفها أنواع المخلوقات الأخرى وهي بعيدة كل البعد عما لديها"[4].
اللغة بين التعريف والوظيفة
ليست اللغة مجرد مهارة فكرية ضمن عديد المهارات، وهي ليست كما هو شائع
مجرد وسيلة للتواصل. وفقًا لبيكرتون، لم يزدد ذكاء النوع البشري
تناسبًا مع ازدياد حجم الدماغ لدرجة معينة بما مكَّنه من اختراع اللغة
في مرحلة معينة كما تقول المدرسة السلوكية، بل إنَّ الذكاء نفسه جاء مع
اللغة، والوعي الإنساني ما كان له أن يوجد خارج اللغة[5].
ليست اللغة مجرد مُخرِج لعملية التفكير، وليس اللغة مجرد أداة، بل هي
الشرط الضروري والأساسي لعملية التفكير والوعي الإنساني. الإنسان لا
يعبِّر فقط بواسطة اللغة فهذا ما يمكن أن ندعوه بالكلام، لا بل إنَّ
اللغة هي أداة الفكر والتفكير نفسه. إن التواصل ليس هو اللغة، فالتواصل
الإنساني يتم بوسائل متعددة كثيرة لغوية وغير لغوية كما هو حال تعابير
الوجه ولغة الجسد والملابس والصيحات نحوها، والتواصل هو أحد وظائف
اللغة بالإضافة إلى وظائف نفسية واجتماعية وفكرية أخرى. لا يمكن تعريف
اللغة بكونها أداة تواصل، فالتواصل هو أحد استعمالات ووظائف اللغة.
لنميِّز بين الشيء واستخداماته. اللغة أساسًا هي "نظام تمثيل، هي صورة
منظمة ومرتَّبة عن العالم بحيث يمكننا تحديد عناصر المعلومات فيها
بسرعة ويسر. فالصورة التي تجزء مفهومنا عن الواقع إلى أجزاء مسماة
وقابلة للاستفادة الفورية هي التي تجعلنا قادرين على الحديث عن العالم
وعن كل ما فيه تقريبًا، عن كل ما ندركه بالحواس على الأقل وحتى عدد
كبير مما لا تدركه الحواس مثل الملائكة والنيوترونات والقنطور[6].
يقول دِي سُوسير بالطبيعة الجبرية المؤلفة من عناصر مركبة للغة، ويؤكد
على فكرة النظام الإشاري الاعتباطي الاصلاحي المكتسب[7].
التمثيل الذهني للعالم يقوم على أساس لغوي، ومنطقيًا التمثيل يسبق
التعبير ويسبق التواصل. نحن نبني التصورات الذهنية ومن ثمَّ نعبِّر
عنها باللغة "فاللغة هي التي تبني لنا صورة العالم التي نستعملها في
التفكير والتواصل، ونستطيع بعدئذ لو شئنا ان نتخيل رؤية هذه الصورة
ايضًا في هيئة انطباعات ذهنية[8].
العلاقة ما بين اللغة والدين
تقوم الأديان على مجموعة من التصورات الذهنية والعلاقات التفسيرية بين
عناصر مادية ومعنوية في سياق معرفي جمالي أخلاقي مُعيَّن، وحتى العناصر
المادية في الأديان تعبِّر عن نفسها لغويًا، حيث تُعتبر اللغة بمثابة
وسيط أو مجال ضروري لبناء التصوُّرات وعملية الإدراك، إدراك الإنسان
لنفسه والعالم. إنَّ الاعتقادات الدينية واللا-دينية هي تصورات ذهنية
تتسم بالثبات والتصديق عند المؤمنين بها، بغض النظر برهانها تجريبيًا
أو توافقها مع التحليل الموضوعي. اكتساب اللغة هي الشرط الضروري
والسابق لاكتساب الدين عند الإنسان، والكائنات الحيَّة الأخرى ليس لها
بعد عقائدي ديني لكونها كائنات غير لغوية، والمقصود باللغة هنا المعنى
الاصطلاحي المخصوص، وليس المعنى المجازي بما يشمل الأشكال الأخرى
للتواصل.
لا يمكن فصل الدين عن المجتمع واللغة التي ظهر فيها هذا الدين، لا
ينبغي مناصرة الحتمية اللغوية في هذا السياق، ولكن المنظومة الاجتماعية
اللغوية للمجتمع تحدِّد السمات الأساسية للعقيدة الدينية، وتحدد
الأولويات التي تطرحها وإمكانات نفوذها واستمرارها في المجتمع نفسه.
اللغة في العموم تلعب دورًا في تحديد وجهة الفكر والقول عن الإنسان
واختلاف اللغات بكل ما تحمله اللغة من أرث اجتماعي–حضاري سيؤدي إلى
اختلاف المقاربات والفهوم بما يشمل العقائد الدينية واللا-دينية
للإنسان. في اللغات السامية عمومًا واللغة العربية مثلاً تنقسم الكلمات
بما يشمل أسماء الجمادات إلى مذكر ومؤنث، وسواء أكان على سبيل الحقيقة
أم المجاز، بينما في معظم اللغات الهندو-أوربية قد تكون الكلمة محايدة
كما هو حال اللغة الألمانية مثلاً، من هنا يمكن التساؤل حول جنس الإله
والملائكة مثلاً! وإمكانات وحدود الإجابة ضمن المنظومة الاجتماعية
اللغوية. كما ينبغي الإشارة هنا إلى أنَّ المنظومة اللغوية للعالم لا
تتوافق مع المنظومة السببية العقلية في هذا التصنيف، فالجمادات نفسها
في الألمانية مثلاً تنقسم إلى مذكر ومؤنث ومحايد على أساس اعتباطي-
اصطلاحي. الإشكالية هنا تتجاوز اللغة بالخاصة إلى عمق المنظومة القيمية
للمجتمع وتفضيلاتها.
في ضبط مفهوم الفطرة إسلاميًا
في حديث منسوب إلى النبي محمد "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه
يهودانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه - متفق عليه". يضيف النووي شارحًا:
"الأصح أن معناه أن كل مولود يولد متهيئا للإسلام، فمن كان أبواه أو
أحدهما مسلمًا استمر على الإسلام في أحكام الآخرة والدنيا، وإن كان
أبواه كافرين جرى عليه حكمهما في أحكام الدنيا"[9].
تعقيبًا على هذا النصَ يُقال:
أولاً- كل إنسان مولود يولد على فطرة التديُّن أي إمكانيُّة اكتساب
الدين، وقبل فطرة التدين فطرة اكتساب اللغة والوعي الإنساني. المقصود
بالفطرة هنا البرمجة والقابلية الدماغية الكامنة بانتظار تفعيلها في
شرط زمني وبيئي-اجتماعي لاحق.
ثانيًا- لا تملك الأشكال العقائدية سواء أكانت دينية أو لا-دينية،
وسواء أكانت إسلامية أو غير إسلامية أية ميزة تفاضلية بين بعضها البعض،
فيما يتعلَّق بقابلية التلقي واكتساب العقائد عند الأطفال، في الغالب
الإنسان يؤمن بما كان يؤمن به والدية وأسرته والمجتمع الذي نشأ فيه، مع
إمكانية تغيير المُعتقد لاحقًا ربطًا بخبرات معرفية وعوامل شخصية
ونفسية واجتماعية بحدود انفتاح ومدى تقبُّل المجتمع للحرية والاختلاف
العقائدي.
ثالثًا- ما يزال منطق الجوهر الثابت التفاضلي مُتحكمًا في غالب الأشكال
العقائدية الدينية على اختلافها، كلُّ عقيدة دينية تدعي الأفضلية
لنفسها على العقائد الأخرى، وكونها أقرب إلى فطرة الإنسان وتصميم فكر
الإنسان من غيرها، علمًا بأنَّ المفاضلة هي أمر مُمكن بين العقائد
الدينية، ولكن ليس على أسس جوهرانية - صراعية بل أسس التزامها بأولويات
الحياة والعدل والحرية وتحقيق الطمأنينة مجتمع السلم.
*** *** ***
[1]
بنو الإنسان،
بيتر فارب، ترجمة زهير الكرمي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت،
1983، ص 12.