تَنْبيهات (2)
عبد القاهر الجرجاني ومعارك محمد العمري
البشير
النحلي
"وَإنَّ
الصُّبْح لَيَمْلأ الأُفق، ثمّ لا يراه النّائم ومنْ قَدْ أَطْبَق
جَفْنه"[1]
فاتحة:
جعلتُ مُنطلقَ مناقشةِ محمد العمري في كتاب "المحاضرة والمناظرة"
ميثاقَه الّذي واثقَ به القارئ بصيغٍ شتّى ترجع في المجمل إلى انتدابه
نفسَه لِلتّأسيس في مجال المعرفة البلاغيّة وتحصين تلك المعرفة ومقاومة
التّزييف؛ ونظرتُ في ما إذا كانت دعاواه وحججه تأخذ ببعض ما يشترطه
ويجاهر به من واجب التّحرّي والضّبط.
وقد لَفَتْتُ الانتباه في المقال الأوّل إلى ما فيه من إسقاطات وزيادات
وآراء غير مدعّمة وأحكام متسرّعة بتتبّعي لطريقة استعماله لكلام وجيز
اقتطفه من "دلائل الإعجاز"[2].
والفقرات الموالية استمرار في بيان وجوه أخرى من الانحراف. والقاعدة
عندي - قبل أن أُجري القلمَ في ما سطَّره ونشره- أن أورده بنصِّه.
1. تقديم محمد العمري لبلاغة الجرجاني:
يَقولُ محمد العمري في الفقرة التّاليّةِ لِكلامه الّذي جعلتُه موضوعَ
المقال الأوّل:
وخلال هذه الرحلة جربَ الجرجاني وصفةَ التأويل العربي لنظرية المحاكاة
حيث تم إنزالُ المحاكاة من خشبة المسرح إلى مستوى التركيب الدلالي:
التشبيه والتمثيل والاستعارة، وإظهار البعد النفسي التأثيري للمحاكاة
بالحديث عن التوهيم والتخييل. طبق الجرجاني هذه الوصفة بتكتم في كتاب
أسرار البلاغة متوخيا حل مشكلة الطبيعة النفسية غير الصوتية للكلام.
وعندما استكمل تصوره لبلاغة العدول والغرابة اكتشف أنها لا تغطي إلا
قليلاً من نصوص القرآن، وأن مفهومَ التخييل يلتبس بالكذب (حرج ديني)،
فبدأ رحلةً أخرى مستثمرًا رصيده النحوي، فأضاف مفهوم النظم إلى مفهوم
العدول، وأعطانا كتاب دلائل الإعجاز. وفي هذا السياق ألفَ معاصرُه ابن
سنان الخفاجي كتاب سر الفصاحة مقترحًا بلاغة صوتية، وهي تغطي المنطقة
التي تلافاها الجرجاني، بلاغة الموازنات الصوتية[3]
2. مناقشة تقديم
محمد العمري لبلاغة الجرجاني:
1.2. التّحريف والتّهويل:
أ. إنزالُ المحاكاة من خشبة المسرح إلى البيان:
يقول محمد العمري إنّ الجرجاني "جربَ وصفةَ التأويل العربي لنظرية
المحاكاة حيث تم إنزالُ المحاكاة من خشبة المسرح إلى مستوى التركيب
الدلالي: التشبيه والتمثيل والاستعارة، وإظهار البعد النفسي التأثيري
للمحاكاة بالحديث عن التوهيم والتخييل. طبق الجرجاني هذه الوصفة بتكتم
في كتاب أسرار البلاغة.." وهذا كلامٌ يمكن أن يُردّ لخمسة
اعتبارات؛
- الأوّل:
إنّ التّأويل الّذي يتحدّث عنه والّذي يعمل من خلاله على الإقناع بأنَّ
الجرجاني وسَّع البلاغة باعتماده ليسَ إلا اقتطاعًا جزئيًّا وبسيطًا
لما ورد في نظريّة المحاكاة عند أرسطو؛ ذلك أنَّ أرسطو نفسه ربط بين
الاستعارة -وهي واسعة عنده- وبين المحاكاة. ويمكن مراجعة ذلك في الكتاب
الثالث المخصَّص للبيان من كتاب "الخطابيَّة"[4].
وهو ما اعتمد عليه أمبرطو إيكو عندما قال إنَّ أرسطو يقدِّم التأكيد
الأَوْضحَ للوظيفة المعرفية للاستعارة عندما ربطها بالمحاكاة، وأنَّ
كتاب "الخطابية" لا يترك مجالاً للشَّكِّ: فأفضل الاستعارات هي
تلك التي تمثِّل الأشياء "في حركة"[5].
وإذا كان الأمر لا يعدو أن يكون اقتطاعًا لهذه الجزئية، فكيف يقال إنَّ
الأمر يتعلق بتأويل عربي لنظرية المحاكاة؛ ولأيِّ غرض يتمُّ ذلك إنْ لم
يكن لصناعة الوهم بأن هناك مقابلاً عربيًّا لتك النظرية التي تم
إنزالها إلى أرض المفارقة الدَّلالية الخاصة بـ"الشعر العربي ذي البنية
اللسانية"!
-
الثاني:
لِنَفرض أنَّ أرسطو لم يُشِر من قريب أو بعيد إلى المحاكاة بالآليات
البيانية في اللُّغة الشعرية والأدبية، وكان ذلك من منجزات "التَّأويل
والبلاغة العربيِّين"، فهل يسمح ذلك بالحديث عن إنزال نظرية المحاكاة
الأرسطية إلى أرض البيان؟ الأقرب أن يقال إنَّ مصطلح المحاكاة رُبِط في
حقل الثَّقافة العربية وعند الجرجاني بهذه الآليَّات البيانيَّة
الجزئيَّة خلافًا لأرسطو الذي جاء عنده مبدأً نظريًّا وتفسيريًّا
يوضِّح من خلاله سيرورة اكتساب المعرفة وتشكُّل بعض الأجناس الشعرية
التي تقدِّم بالتَّمثيل أفعالاً وأحداثًا واقعة أو محتملة من خلال صيغة
سردية أو درامية أو مزدوجة. لماذا نترك مثل هذا الكلام ونحرِّف
المعطيات الثقافية بادِّعاء إنزال نظرية المحاكاة الأرسطية إلى أرض
بلاغة الجرجاني؟
- الثالث: تتحدَّث هذه العبارة
عن تجريب الجرجاني لوصفة تأويل عربي لنظريَّة المحاكاة، فَتوهِم
بوُجود، أو إمكان وُجود برنامج تأويليٍّ جاهز وقابل للتَّجريب.
والإيهام ينتج عن الجمع بين "الوصفة" و"التأويل"، ذلك أنَّ من مقتضيات
لفظة "وصفة" معجميًّا وتداوليًّا أن تكون هناك مجموعةٌ من الإرشادات
موجَّهة للاختبار والتَّطبيق ممَّا يجعلها تنزع للانغلاق، أما
"التّأويلُ" فمفتوحٌ وغيرُ قابلٍ للضّبط والحصر؛
- الرابع: أسقط
العمري -في هذا الكلام- كل ما يدلُّ على التَّحرُّزِ مما ورد عنده في
كتابه "البلاغة العربية"[6]،
فقد سبق له أن تناولَ الأثر اليوناني في بعض مشاريع البلاغيين العرب في
هذا الكتاب،
فعالجه بمنهج قرائي بعيد -في المجمل- عن لغة القطع، وانحاز فيه إلى
التَّحويل الذي أخضع له الفكرُ "الفلسفي" والبلاغي العربيين مفاهيمَ
"الشِّعريَّة" الأرسطيَّة حتى تُلائمَ مرجعيتَهما المختلفة المتمثلة في
الطبيعة الخاصة للشِّعر العربي. وعلى الرغم من ذلك فإنَّ العمري لم
يَنْسَق في هذا الكتاب إلى ادِّعاء استيعاب الثقافة العربية للثقافة
اليونانية، ولم يفته التَّنبيه إلى أن ذلك التَّحويل الذي مسَّ مفهوم
المحاكاة الأرسطي يؤول في جزء منه إلى
»قلة
المعرفة بالتقليد الشعري اليوناني»[7].
وبناءً على ذلك استعمل عبارات من قبيل "هذا ما سهل.." و"هذا ما فهمه.."
و"ليس المهم.." و"هذا ما قوى.."، وذهب إلى أن الجرجاني كان يضع القراءة
العربيَّة لنظرية المحاكاة نصب عينيه، وهي صيغة تعبيرية محتاطة لا تفيد
أكثر من غلبة الظَّن بأنَّه كان مُطَّلعًا على تلك القراءة، بل إنه
يحتاط حتى عندما يتكلَّم عن استفادة الجرجاني نفسه من "المحاكاة في
ثوبها العربي"، فيقول – مثلاً-
»وبقطع
النظر عن اقتطاع الأفكار وإخراجها عن سياقاتها في المحاولات الأولى
فيمكن القول بأن القراءة العربية لكتاب فن الشعر لأرسطو هي التي أسعفت
عبد القاهر الجرجاني في بناء بلاغة المفارقة الدلالية في كتابه أسرار
البلاغة»[8]،
ويقول:
»يمكن
القول بأنّ هذه المداخل التي اعتمدها الجرجاني لمعالجة هذه القضية
مداخل ذات ألوان مختلفة، أو هي وإن كانت ذات لون واحد: نظرية المحاكاة
في ثوبها العربي، فكل منها مشرب بلون خاص يميزه»[9]،
ويعلِّق على هذا الكلام في الهامش 1 من الصفحة نفسها قائلاً:
«نرجح، والله أعلم،.. أن هذا الجهد كان يضع نصب عينيه نظرية
المحاكاة الأرسطية في قراءتها العربية..»[10].
فهل لنا مفرٌّ إذا قرأنا الفقرة التي اقتطفناها من "المحاضرة
والمناظرة" في ضوء ما سطَّره محمد العمري في "البلاغة العربية"
بخصوص موضوع المحاكاة من أن نتساءل عن دواعي الانتقال إلى لغة اليقين
والقطع؛
-
الخامس، وبه أختم هذه النقطة: ما يَغيبُ عن أفق العمري في جميع
الأحوال، وفي كتابيه المذكورين معًا، أن نظرية المحاكاة نفسها إنْ كان
لها بعض الفائدة في سيَّاقاتها الغربية، فقد كان لها، في المقابل،
نواقصها المتمثِّلة في إقصاء بعض الأجناس الشِّعرية وفي تفقير الخيال
وجعله تابعًا للحسِّ. وقد وصف جيرار جنيت إقصاء تلك الأجناس من كتاب "الشِّعرية"
بأنه "سلسلة من عمليات الإهمال والتَّحقير ذات الأبعاد البغيضة"[11]،
وعمل بول ريكور -وهذا مجرَّد مثال- على تجاوز النطاق الضيِّق للتَّخييل
الذي يدور في حلقة المحاكاة[12].
فيظهر أن ادِّعاء توسُّع البلاغة العربية بـ"ضمّ" المحاكاة مما لا
يستقيم إلا في حال انفتاحها على الأجناس الشِّعرية التي ارتبطت بها تلك
المحاكاة؛ وهو ما لم يحصل. لذلك فإنَّ دخول المحاكاة إلى حقل الثَّقافة
العربية مزدوجة بالمنطق كانت له آثارٌ سيئة جدًّا على غير ما قدَّر من
يعتقد أن دخولها كان له فضل على البلاغة؛ وقد سبق أن بينت ذلك في مكان
آخر وانتهيت إلى أنَّ مِنْ شأن استمرار عدم تقدير مثل هذه القضايا
التقدير اللازم أن يرسِّخ في الأذهان جدارة علم البلاغة بأنْ يوضَع على
رفٍّ من رفوف متحف التاريخ[13].
ب.
التوسُّع في اتجاه الفلسفة والعمل على حلِّ مشكلة الطبيعة النفسية
للكلام:
يَقولُ محمد العمري «طبق الجرجاني هذه الوصفة بتكتم في كتاب أسرار
البلاغة متوخيا حل مشكلة الطبيعة النفسية غير الصوتية للكلام».
قلتُ: هذا مجرَّد تمهيدٍ لجعلِ الجرجاني صاحبَ نسقٍ فَلسفيٍّ ولِسانيٍّ
بِدوافع تُفْرِغ كلامَ العمري في كتاب "المحاضرة والمناظرة" من
أخْلاقياتِ البحثِ والتَّحاور جملةً. لماذا؟ لأنَّه هو نفسه قال قبلَ
هذا إنَّ الجرجاني اعْتَمَد التَّصور السُّنِّي-الأشعري الذي يَعتبِرُ
الكلامَ حديثًا نفسيًا: «وعلى النقيض من ابن سنان اعتمد عبد القاهر
الجرجاني التصور السني-الأشعري على وجه التحديد- في القول بأن الكلام
حديث نفسي أي معان، فحاول بناء بلاغته على أساس دلالي حسب التأويل
العربي للمحاكاة في كتابه أسرار البلاغة، ثم حسب المعاني التركيبية
النظمية المقصدية في كتابه دلائل الإعجاز. ولم يقبل من فصاحة الأصوات
إلا ما أمكن تأويله دلاليًا، مثل الجناس المستوفي القائم على الإيهام.»[14]
هذا الرَّأيُ الذي
أوْرَدْتُه لهُ هنا سديدٌ في هذه
النقطة التي يُوضِّح فيها أنَّ الأمرَ لا يتعلق بِقَصْدٍ إلى حلِّ
مشكلة الطبيعة النفسية للكلام بقدر ما هو اعتماد لتصوُّر الأشاعرة
والبناء عليه، وهو ما يؤكِّده، أيضًا، باحثون كثيرون مثل يمنى العيد
وعبد الباسط لكراري[15].
قلتُ: هذا الرَّأي سديد، وأسدُّ منه إذا خلقنا المسافة مع حروب التأويل
وقلنا إنَّ:
«منهج الجرجاني في تحليل العبارة ينطلق من المعنى إلى اللفظ عبر
قواعد النظم» لذا فهو «"نموذج" لإنتاج العبارة ومنهج السكاكي
الذي ينطلق من اللفظ إلى المعنى "نموذج" للفهم والتأويل»[16]،
والجرجاني نفسه يعلن اصطناعه لزاوية نظر المتكلِّم أثناء نظره في أمر
المعاني ويَعيبُ من يصطنع زاوية السَّامع الذي ينطلق من اللَّفظ ليفهم
ويؤوِّل[17].
وماذا بعد؟ أهذا وحده ما يقدح في جملة العمري ويُظْهِر بطلانها
وتمحُّلَه فيها؟ لِنُعدْ القراءة: «طبق الجرجاني هذه الوصفة بتكتم
في كتاب أسرار البلاغة متوخيًا حل مشكلة الطبيعة النفسية غير الصوتية
للكلام».
الوصفة المشار إليها هي وصفة التأويل العربي لنظريَّة المحاكاة. فيكون
الجرجاني استعمل وصفة المحاكاة في الأسرار متوخيًا حلَّ "مشكلة
الطبيعة النفسية غير الصوتية للكلام". طيب، في الأسرار توظيف
لنظرية المحاكاة أو لِوَصْفَةِ تأويلها العربية من أجل
بناء البلاغة على أساس دلالي وفقًا لتلك الوصفة،
ليكن! لكن كيف ربط المحاكاة، فوق ذلك، بتوخِّي حلِّ مشكلة "الطبيعة
النفسية" للكلام، وهي مشكلةٌ خاصة بـ"علم الكلام"؟ وقد كان أرجعها
متَّبعًا من سبقوه إلى الأشاعرة، وأوضح أنَّ الجرجاني "اكتفى
بالتذكير بالحديث النفسي باعتباره مسلمة"[18]،
وزاد:
«لا يحدثنا الجرجاني عن مرجعيته وسنده المذهبي كما فعل ابن سنان. السند
الذي يجعل المعاني عامة والنظم خاصة هوية للكلام ومصدرًا للمزايا
البلاغية والحجج الإعجازية. ولكن هذه المرجعية تفصح عن نفسها (زيادة
على السجال مع الخصوم) من خلال اعتماد مفهوم المعاني النفسية أو
ترتيب المعاني في النفس، أو الإخطار بالذهن، وهو المفهوم
الذي قدمه الأشاعرة كحل وسط بين القول بقدم القرآن والقول بخلقه، كما
سبق.
نجد هذا المفهوم في مقدمة أسرار البلاغة يطفو مرة ثم يكمن أخرى وكأنه
مسلَّمة ليست محلَّ نقاش، يقول: "وهذا الحكم، أعني الاختصاص في
الترتيب، يقع في الألفاظ مرتبًا على المعاني المرتبة في النفس. أما في
الدلائل فسيصبح هذا المفهومُ البديلَ الدلالي العميق للتصور السطحي
الخادع الذي يتمسك به أصحاب اللفظ"[19].
ج. اكتشاف
الجرجاني لحدود بلاغة العدول والغرابة والتجاؤه لرصيده في النّحو:
بعد ما رأينا من معاناة الجرجاني في محاولته حلَّ الطبيعة النفسية
للكلام باعتماده وصفة المحاكاة العربية، يستمرُّ العمري في الحديث عن
الجرجاني قائلاً:
«وعندما استكمل تصوره لبلاغة العدول والغرابة اكتشف أنها لا تغطي
إلا قليلاً من نصوص القرآن، وأن مفهومَ التخييل يلتبس بالكذب (حرج
ديني)، فبدأ رحلةً أخرى مستثمرًا رصيده النحوي، فأضاف مفهوم النظم إلى
مفهوم العدول، وأعطانا كتاب دلائل الإعجاز.» لقد عَنِتَ الجرجاني
وصار أقلَّ من لا
شيء. مِمّ استنتج العمري أن الجرجاني اكتشف بعد المشقَّة في رحلة "الأسرار"،
وبعدما اكتمل له ما أراده من "بلاغة العدول والغرابة"، أن هذه
لا تكفي. اكتشاف من هذا؟ اكتشاف الجرجاني أم اكتشاف العمري؟ رأينا
العمري يجعل الجرجاني يُقِرُّ رغمًا عنه بما يشبه الفشل عند "إدخال
النظم النحوي في بنية البلاغة"!، وها هو هنا يجعله يكتشف أن بناء بلاغة
الغرابة على أساس دلالي استنادًا إلى "وصفة تأويل عربي لنظرية
المحاكاة" غير كاف. لقد أفشله في الكتابين: في "الأسرار"
وفي "الدّلائل"!
هل ننصف الجرجاني إذا قلنا إنَّه انطلق من كون القرآن يمكن أن يُغطى
ببلاغة الغرابة، بما يعني أنَّه افترض أن المزيَّة فيه تنحصر في
"المفارقات الدَّلاليَّة"؟ هل يعقل أن يقول بهذا أحدٌ حتى يقول به
الجرجاني، ويكتشف، في النهاية، أن الأمر ليس على نحو ما ظنَّ؟ وهل يعقل
أن يؤجِّل الجرجاني "رصيده النَّحوي" حتى يتبيَّن له قصور عمله في
الأسرار ليبدأ بعدها في استثماره لبناء مفهوم النظم و"إضافته"! إلى
مفهوم العدول، وهل أضاف مفهوم النَّظم إلى العدول أم جعل الأخير تابعًا
للأوَّل كما ذهب إليه العمري نفسه في بعض المواطِن من كتابه "البلاغة
العربية.."؟ هل في عمله مثل هذا التعارض الذي يدعيه العمري، فيكون
الاشتغال بالآليات البيانية في "الأسرار" هو اشتغال بتصوُّر
انزياحي "لم يسمح بدخول عناصر النظم أو حتى الإرهاص بها"[20]،
ويكون الاشتغال بالنَّحو في "الدلائل" إدخالاً له في "بنية البلاغة"؟
هل للبلاغة، عند الجرجاني، "بنية" بمعزل عن النَّحو؟ وهل ينفع
الجرجانيَ -بعد كل هذا- القولُ إنه حاور بعض الأعلام "ثم صنع نسقًا
لا يخطر على بال أحد منهم"؟
مُؤَكّدٌ أنَّ ما قام به الجرجاني بعيدٌ عن الصورة التي يقدِّمها عنه
العمري هنا، وتشديده على أنَّ جلَّ أو كُلَّ محاسنِ الكلام يرجع إلى
التشبيه والتمثيل والاستعارة[21]
لا يمكن بحالٍ أن يفسَّر بمراهنته على أن تَفِيَ هذه الآليات بتوضيح
بلاغة القرآن وإعجازه. ففي "الدلائل" الذي خصَّصَه، أولاً
وأساسًا، للبحث في موضوع الإعجاز كما يدلُّ عليه عنوانه نفسه -وليس
للبحث في ما فاته في الأسرار!- يقول، بعد أن يُبْطِل "مزاعم" من يجدون
الإعجاز في غير الوجه الذي يدَّعيه وينافح عنه، بأنَّ الوصف الذي
أعجزهم من القرآن لا يمكن أن يكون إلا في «النَّظم» و«الاستعارة»[22]؛
ويضيف: «ولا يمكن أنْ تُجْعَل «الاستعارةُ» الأصلَ في الإعجاز وأنْ
يُقْصرَ عليها، لأن ذلك يؤدي إلى أن يكون الإعجازُ في آي معْدودةٍ في
مواضعَ من السُّورِ الطّوال مخصوصةٍ». لكن هل يمكن أن نقول إِنه
تَرَك الاستعارة وراءه ظهريًّا، أو احتفظ لها فقط بحيِّز ضيِّق لأنها
لا تغطِّي نصوص القرآن؟ لا، حسب ما أُقدِّر. لأنَّه لا يَفْتَرِض فيها
ذلك أصلاً؛ لذا فهو لا ينزلها عن منزلتها ولا يُقصِّر في تجويد تصوره
لها في هذا الكتاب. الاستعارة في "الدَّلائل" حالة في المرتبة
التي تستوجبها رؤية الجرجاني، وهي نافعة في الكشف عن وجوهٍ من المحاسن
في الكلام أيًّا كان. لكن ذلك لا يعني أن يَضَعَها في غير مرتبتها
فتصير الأساسَ الذي يبنى عليه. ومَنْ قال إِنَّ عدم إحلال الاستعارة
وضروب المجاز محل "الأصل" إخراجٌ لها من جملة ما يكون به الإعجاز فقد
أخطأ، والجرجاني يجيبه بما يقطع حجَّته: «ليس الأمرُ كما ظننتَ، بل
ذلك يقتضي دُخول الاستعارةِ ونظائرها في ما هو به معجز. وذلك لأنَّ هذه
المعاني التي هي «الاستعارة» و«الكناية» و«التمثيل» وسائر ضروب
«المجاز» من بعدها من مقتضيات «النّظم» وعنه يحدث وبه يكون،..»[23].
النَّظم هو الأساس و"الأصل" عند "إمام النحاة"[24]،
الذي اعتبر «"سر البلاغة" راجعًا إلى "توخي معاني النحو"»[25]
واستعمل النحو «لا باعتباره أبوابًا وفصولاً، بل بوصفه نظامًا
من العلاقات هو ذاته نظام العربية كلغة، كنص، كخطاب»[26]
في مسعى تجاوز إشكاليَّة اللَّفظ والمعنى إلى النَّظر في علاقة نظام
الألفاظ ونظام المعاني للانتهاء إلى المطابقة بين نظام الخطاب ونظام
العقل[27].
أليس من التَّمحُّل أن ندَّعي – بخصوص الجرجاني، وهو من أثار اهتمام
القدماء بكتبه في الدِّراسات القرآنية والنَّحوية أكثر مما فعل بكتابيه
البلاغيين[28]
- أنَّ اشتغاله بالآليات البيانية في "الأسرار" من منطلق
انزياحي "لم يسمح بدخول عناصر النَّظم أو حتى الإرهاص بها" في
هذا الكتاب، وأنَّه وظَّف وصفة المحاكاة فلما اكتشف حدودها عاد إلى
رصيده النَّحوي ليستثمره ويضيف مفهوم النظم إلى مفهوم العدول والغرابة!
هكذا بإثبات واثق: لا شيء في "الأسرار" يرهص حتى بالنَّظم
وعناصره! إليكَ ما يقول الجرجاني في "الأسرار" وفي التمهيد
لتناول الآليات البيانيَّة التي خصَّصه لها: «.. والألفاظ لا تُفيد
حتى تُؤلَّف ضربًا خاصًّا من التأليف، ويُعْمَد بها إلى وجهٍ دون وجهٍ
من التركيب والترتيب»[29]،
و«هذا الحكم –أعني الاختصاص في الترتيب- يقع في الألفاظ مرتَّبًا
على المعاني المُرتَّبَة في النفس، المنتظمةِ فيها على قضيَّة العقل.
ولا يُتَصوَّر في الألفاظ وُجوبُ تقديم وتأخير، وتخصُّص في ترتيب
وتنزيل، وعلى ذلك وُضِعت المراتبُ والمنازلُ في الجمل المركَّبة،
وأقسام الكلامِ المدوَّنة، فقيل: من حقِّ هذا أن يَسبق ذاك، ومن حقِّ
ما ها هنا أن يقع هناك، كما قيل في المبتدإ والخبر والمفعول والفاعل،
حتى حُظِر في جنس من الكلم بعينه أن يقع إلا سابقًا، وفي آخَرَ أن يوجد
إلا مبنيًّا على غيره وبه لاحقًا، كقولنا: إن الاستفهام له صدر الكلام،
وإن الصفة لا تتقدم على الموصوف إلا أنْ تُزالَ عن الوصفية إلى غيرها
من الأحكام»[30]؛
وإليك ما يقول في الكتاب نفسه في سياق نقده لمن يُفْرِط في المجاز ومن
يُفَرِّطُ فيه على السواء: «وقد اقتسمهم البلاء فيه من جانبي
الإفراط والتفريط، فمن مغرور مغرى بنفيه دفعة، والبراءة منه جملة،
يشمئز من ذكره، وينبو عن اسمه، يرى أن لزوم الظواهر فرض لازم، وضرب
الخيام حولها حتم واجب، وآخر يغلو فيه ويفرط، ويتجاوز حده ويخبط، فيعدل
عن الظاهر والمعنى عليه، ويسوم نفسه التعمق في التأويل ولا سبب يدعو
إليه..»[31]؛
وبعد أن يفرغ من طائفة المُفَرِّطين يتصدى للمغالين –الذين يحشره
العمري في زمرتهم بادعاء عدم انطلاقه من النظم واكتشاف حدود "بلاغة
العدول" في تفسير القرآن-: «وكذلك كان من حق الطائفة الأخرى أن
تعلم أنه عز وجل لم يرض لنظم كتابه الذي سماه هدى وشفاء، نورًا وضياء،
وحياة تحيا بها القلوب، وروحا تنشرح عنه الصدور، ما هو عند القوم الذين
خوطبوا به خلافُ البيان، وفي حد الإغلاق والبعد عن التبيان، وأنه تعالى
لم يكن لِيُعْجِزَ بكتابه من طريق الإلباس والتعمية، كما يتعاطاه
المُلغز من الشعراء، والمُحاجي من الناس، كيف وقد وصفه بأنه عربيٌّ
مبينٌ؟»[32]
الكتاب كما أسلفت مخصَّص لتحقيق الآليَّات البيانيَّة -بالمعنى الحصري
لهذا الوصف- التي تميَّزَ الجرجاني عن غيره ممن سبقوا إلى تناولها
بتدقيقها وتقرير أصولها وبنائها على النّحو ومعاني النحو في كتابيه
معًا. أليست البلاغة، حتَّى في عرف بعض البلاغيين الجدد، توسيعًا
للنحو، كما أن نظريات الحجاج توسيع للبرهان والجدل في مجال المنطق؟
فكيف يُكْفَر تَطالُب المكونات النَّحويَّة والبلاغية في النَّظر
والتَّطبيق في كتاب "الأسرار" وهو المؤلَّف الذي انبنى على رؤية
تنطلق من حاجات "طالب الدين"؟ إن الكلام في هذه المسألة يقتضي استحضار
التكوين الديني-النحوي لشخصية الجرجاني، واتخاذ المسافة اللازمة التي
يمكن أن "تُلْهِمَنا" بعض السداد والابتعاد عن تأوُّله على وفق مقاصدنا
الخاصّة مُظهرةً ومُضمرَة، فنتجنَّب الإسقاط الضَّار في كل الأحوال،
ونترك التَّحكم وسوق الموتى بالقسر ليؤكدوا للعالمين صحَّة ما نهوى
ونتوخَّى.
ح.
نِسْبةُ البَلاغة إلى الجرجاني وصيغةُ الفعل المبني لغير الفاعل:
يضيف العمري:
«وفي هذا السياق ألفَ معاصرُه ابن سنان الخفاجي كتاب سر الفصاحة
مقترحًا بلاغة صوتية، وهي تغطي المنطقة التي تلافاها الجرجاني، بلاغة
الموازنات الصوتية». في هذا السِّياق، سياق الجرجاني الذي صرَّح
العمري منذ البداية بأنَّ كلَّ ما في التُّراث مما له متاتةٌ بالبديع
ونقد الشعر والبيان وعلم الخطابة وتنظيرٍ للإنشاء والكتابة وقراءاتٍ
لنظريتي الشعر والخطابة من بداية التفكير البلاغي إلى القرن السابع
الهجري مع حازم آخر المجتهدين يَندرج فيه، لأنهُ نُسِبَ لهُ لتقدُّمه
زمنًا ومكانة. طبعًا لا ينبغي أن نسأل عمَّن نَسَبَ، لأنَّ الفقرة التي
ورد فيها هذا الكلام تبتدئ بتواضعٍ ووضوحٍ كبيرين لا ينكران ولا
يكفران: «البلاغة العامة عندنا، وحسب التصور العربي – وسيأتي
تعريفها على الإطلاق وبتوسيع- هي العلم..»[33]!
أقول: في المطابقة بين التَّصوُّر الخاصِّ والتَّصور العربي..
فَحاشَةٌ، ونتيجته الأكيدة أن
يُقاد جميع من اشتغل في المجالات التي ذَكَرها بالْحيازِم ليشهدوا له.
لهذا بالضبط يتم الانزلاق إلى استعمال صيغة المبني للمفعول التي
يُلْحِق بواسطتها جميعَ مَنْ ذكر بالجرجاني:
لقد
نُسِبَ الزمن الأول إليه لكونه
المؤسس ولتقدمه زمنًا ومكانة[34].
من نَسَب؟ إنَّه الذَّات الجمعية العربية المتطابقة، وما العمري إلا
صوتها الأبرز الذي يتكلم باسمها وَيُوجِّه –بالمعنى الحِجاجي- وصفه
للجرجاني عندما يقول إِنّه المؤسِّس والمتقدِّم في الزمن وفي المكانة
ليبتلع من خلاله كل شيء مثل ثقب أسود! في هذا السياق -الذي لم تكن فيه
اجتهادات "بلاغية" فحسب، ولا حتى نماذج بلاغية متنافسة فقط، بل كان فيه
أيضًا بلاغة عامة - يقترح ابن سنان - مع ما يفترضه فعل "يقترح" من وجود
مجالٍ للحوار والتباحث واستعداد لقبول الآراء وفرزها والأخذ بالنافع
منها - "بلاغة صوتية". صحيح أنَّ الجرجاني تلافى هذه البلاغة الصوتية
على مستوى مشروعه الشخصي، وصحيح أيضًا أنَّ الجرجاني منافس مذهبي لابن
سنان، لكن الجرجاني مع ذلك يفيد ويستفيد من ذلك التلافي والاجتناب!، «فحتى
تقليله من شأن الموازنات الصوتية أدى إلى التركيز عليها وخصها بمؤلف
مستقل من قبل منافسه المذهبي، ابن سنان كما سبق.»[35]
لاحظ معي هذه الجملة المتهافتة التي تودي إليها رغبات غير منضبطة لأي
منطق: كل من يقرأ ويصل إلى: "أدى إلى التركيز عليها وخصها بمؤلف
مستقل" سينتظر عبارات من قبيل: بمؤلف مستقل في أواخر أيامه.. في ما
بعد.. لكن التتمة هي بالضبط: "أدى إلى التركيز عليها وخَصِّها بمؤلف
مستقل من قبل منافسه المذهبي ابن سنان"؛ ثم يضيف" كما سبق"،
فالعمري لا ينزعج من ترديد الكلام وإن خلط فيه. لنترك صياغة الجملة،
ولنسأل: لِماذا لَمْ يورد ما حمله على الانتقال من الشَّك إلى اليقين
وهو يؤكِّد أنَّ تقليل الجرجاني من الأصوات هو ما أدَّى بابن سنان إلى
أن يركِّز عليها؟ السُّؤال مبني على موقفه الذي كان اكتفى فيه بترجيح
قراءة ابن سنان "أسرار" الجرجاني قبل تأليف "سر الفصاحة"
وقراءة الجرجاني "سر" ابن اسنان[36].
كان رجّح ومالَ للاحتمال، وفوّض أمر العلم اليقيني بذلك إلى الله، فما
الذي استجد واستبد؟
2.2. عدم تدقيق المنطلقات وترتيب المقاصد:
أقف في ما يلي عند البعد الاقتضائي لبعض الكلمات المستعملة في الفقرة
قيد المناقشة من غير استقصاء، وبالاقتصار على الدَّال على القدح في عمل
الجرجاني في الوقت الذي يتوهَّم العمري أو يوهم أنه يرفع من قيمته
ويوسّع مجال بلاغته:
- يقول العمري إنَّ الجرجاني "طبَّق وصفة التأويل العربي.."؛
وطبَّق فعل يَدُلُّ على وضع الشيئين المتوافقين المتساويين الواحد
منهما على الآخر، فتقول طَبّقَ الشيءَ وأنت تعني أطبقه ووضع طبقةً على
أخرى وسوَّاهما، ومنه أُخذ التَّطبيق في مجال العلم للدَّلالة على
إخضاعك مسائلَه وقضاياه وظواهره لقواعد معلومة ومقرَّرة. لذلك نتحدَّث
في مجال العلم عن اختبار الفرضيات ولا يتمُّ الكلام عن التَّطبيق إلا
بعد أن يتم التأكُّد منها فتصبح قواعد تطبَّق من أجل توسيع الاختبار
لتأكيد الصَّحة، أو لأجل ما تحقِّقه من منافع، أو في المدارس في
التَّعليم والتَّدريب على طرق البحث. في كل الأحوال يرتبط التَّطبيق
بوجود قواعد وإرشادات مقرَّرة وجاهزة لا يُشترط في من تُسند إليه مهمة
ذلك التَّطبيق أن يكون مساهمًا في بنائها وصياغتها. لذلك فإنَّ عبارة
"تطبيق الوصفة" تعبير دقيق، لأن الوصفة مجموعة إرشادات مدققّة ومحصورة
بالضرورة. من هذه الزاوية يمكن فهم حاجة العمري إلى وضع "الوصفة" بين
"التَّأويل" وبين الفعل المنسوب للجرجاني "طبَّق"، وقد تمت
الإشارة إلى التَّنافر بين "الوصفة" و"التَّأويل" تحت العنوان
[أ.]
المخصص لمناقشة "إنزال المحاكاة من خشبة المسرح"..
فَلا أُعيدُه وإن كان داخلا في ما نحن فيه. فأكتفي بالتَّركيز على
العلاقة بين "التَّطبيق" و"الوصفة"، وأقول إنَّ المقتضى المعجمي لكلمة
"وصفة" بما هو مجموعة إرشادات علميَّة معينة بالاسم والمقدار تُعزِّزُ
المقتضى المعجمي لفعل "طبَّق" لتنزع عن عمل الجرجاني في "الأسرار"
-الذي يُرْجِع إليه المهتمُّون، والعمري منهم، وضع وصياغة أصول البيان
- أيَّ إبداع؛ وتجعله مُجرَّد عمل تطبيقي يوظِّف مفاهيم نظريَّة تم
بناؤها في اليونان وتمَّ تكييفها وفقًا لخصوصية الشعر العربي من قِبَلِ
الشُّراح. فإنْ قلتَ إنَّ ذلك جاء على سبيل الاستعارة؛ قُلْتُ: نعم،
وهو لذلك أخطر على الجرجاني وأقدر على التقليل من عمله، وأنتَ رَجُل
بلاغة. وبيِّنٌ أنَّ هذا يعارض قصد العمري المعلن المتمثِّل في
التَّنبيه إلى نموذجية بلاغة الجرجاني من حيث العمق والشُّمول.
- ويقول العمري إنَّ الجرجاني طبَّق تلك الوصفة بـ"تَكَتّم"؛
وكَتَمَ الشّيءَ كَفَرَه وسَتَرهُ، والتّكَتُّم إيغال في الإخفاء
والستر. وليسَ يخْفى أنَّ التَّكتُّم إنْ كان محمدةً عند الأفراد في
بعض مناحي حياتهم الاجتماعية، فإنَّه في مجال العلم مثلبة ومفسدة.
لهذا، فالقول إنَّ الجرجاني "طبَّق وصفة" المحاكاة "بتكتم" قول لا
أبالغ إن قلت إنه، في الواقع، لم يَرْعَ للجرجاني حقًّا ولا حُرمة،
وجعله لِصًّا يَستُر ويخفي على نحو متعمَّد ما يأخذ من الغير[37].
وما أقوله هنا ليس من قبيل "الثِّقة بأخلاق" عبد القاهر الجرجاني
العلميَّة، ولا انتهاضًا للدِّفاع عن كونه لم يفد من كتاب "الشِّعرية"
لأرسطو مباشرة أو بواسطة ابن سينا أو غيره؛ ذلك أنَّ هذه المسائل خارجة
عن الموضوع المرسوم لهذه المقالة.
- ويقول العمري إنَّ الجرجاني اكتشف أنَّ بلاغة العدول والغرابة لا
تغطي إلا قليلاً من نصوص القرآن؛ واكتشف: كشف عن الأمر لأول مرة
وبمشقَّة. وبَدْلُ الجرجاني لِلجهد في "الأسرار" وفي غيره
واكتشافُ ما لم يكن بالحسبان من صميم ما يتطلبه البحث والنظر. بيد أنَّ
فعل "اكتشف" وجَّهَتْهُ مقتضياتٌ سياقية وِجْهَةً سلبيَّة. فقد ورد في
الفقرة موضوع المناقشة أن ما تم اكتشافه لأول مرة، وبعد مشقة تطبيق
وصفة التأويل العربي لنظرية المحاكاة بتكتُّم، هو أنَّ النتائج
المُتوصَّلِ إليها لا تغطِّي إلاَّ قليلاً من نصوص القرآن. واضحٌ أنَّ
هذه العبارة تفترض:
أوّلاً،
أنَّ الجرجاني راهن على بلاغته في "الأسرار" المبنيَّة على
المحاكاة لتفسير جميع نصوص القرآن، ثانيًا، أنَّ الرَّصيد
النَّحوي للجرجاني ظلَّ طيلة مدة البحث في "الأسرار" كامنًا
ومهملاً، ثالثًا، أنَّ النَّحو يوظَّف من قبل النُّحاة
والبلاغين من نفس الزَّاوية والمنظور، رابعًا، أنَّ التّعارض
حاصلٌ بين البلاغة والنَّحو عند الجرجاني. وقد اقتصرتُ هنا على
الافتراضات التي لا يقوم بدونها للاكتشاف بمقتضياته السياقية المشار
إليها أعلاه قائمة؛ وهي جميعها افتراضات خاطئة لا يصح البناء عليها
وإمضاء الحكم على أساسها، لهذا تساءلت في ما كتبت تحت العنوان [ج.]
عن الاكتشاف، هل هو للجرجاني أم هو مُحَفّظٌ للعمري ومُسجَّل
باسمه؟
- ويقول العمري إنَّ الجرجاني أضاف مفهوم النَّظم إلى مفهوم العدول؛
وأَضافَهُ إلَيْه: ضمَّه. يمكن للجرجاني أن يسعى إلى تجويد
عمله بكل آليات التَّنقيح والمراجعة، فيضيف ويكمل، أو يحذف ويعدل.. وهو
ما يعني أن استعمال هذا التَّركيب ليس مما يمكن أن يعاب لولا مقتضياته
السِّياقية. فقد قال العمري إنَّ الجرجاني اكتشف عدم كفاية بلاغة
العدول التي وظَّفها في "الأسرار" فأضاف مفهوم النَّظم إلى
مفهوم العدول. وهذا يفترض -إذا ما اقتصرت على الأساسي والدال وتجنَّبت
ما أثرته أعلاه-:
أولاً، أنْ ليس في "الأسرار" ما يدل على مفهوم "النَّظم"، بل
ليس فيه حتى "ما يرهص به"، ثانيًا، أنَّ الجرجاني يضع مفهوم الغرابة
والعدول في نفس المستوى الذي يضع فيه مفهوم النَّظم، ثالثًا، أنَّ
مفهوم "النَّظم" في "الدَّلائل" قابل للإضافة إلى "الأسرار"
على سبيل الجمع والضم. وهذه افتراضات كان الجرجاني نفسه قد تكلَّف
ببيان بطلانها في النَّظر وفي التَّطبيق؛ ولا أزيد.
- ويقول العمري "تلافى" الجرجاني "بلاغة الموازنات الصوتيّة"، وتلافى:
تَجَنَّبَ وابتعدَ بنوعٍ من القصد.
والناس
يتلافون الأخطار والأخطاء، فيكون ذلك منهم داخلاً في باب الاحتياط وحسن
التَّدبير. لكن تلافي مشكلةٍ في البحث لا يدخل في الاحتياط بقدر ما
يدخل في التَّراخي في إنفاذ واجب الوضوح ووضع تلك المشكلة في سياقها
ورسم حدودها وتقدير ما تطرحه من صعوبات أمام المنطلقات والفرضيات
بموضوعيَّة وشجاعة. وعندما يقال بأن هناك ما تلافاه الجرجاني، فإنَّ
ذلك يماثلُ من جهة القصدِ إلى الإخفاء والسَّتر القولَ بِتكتُّمه في
أخذه لوصفة المحاكاة وتجريبه لها. لِذا أقول إنَّ ادِّعاء تلافي
الجرجاني للموازنات الصوتية يقتضي معجميًّا وسياقيًّا: أولاً،
أن يكون مفترَضًا في الجرجاني، وبغضِّ النَّظر عن شرطه الزَّمني
ومقاصده ومنطلقاته التَّصورية، أن يفسِّرَ مادته (الخطاب) بتعدُّدها
وتنوُّعها وتعقُّدها واشْتِباكها بمجالها التَّداولي بالغ الامتداد
والتَّشعُّب، ثانيًا، أن يكون الجرجاني تَركَ الموازنات
الصوتيَّة من غير تبرير. فهل هذا حقٌّ؟ إن العجب ليطول ممن يبني على
مثل هذا، إذ ليس من الممكن أصلاً أن نبحث في الخطاب انطلاقًا من هذا
الموقف غير العلمي الذي يتوهم إمكان الإحاطة بمادة البحث في مجال
البلاغة دفعة؛ ذلك أن المدخل العلمي يبدأ من التدخُّل لفرض نظام على
تلك المادة بما يجعل موضوع البلاغة مبنيًّا نوعًا من البناء في كل بحث
واجتهاد، وهو، بالضَّبط، ما حاول الجرجاني فعله انطلاقًا، بالطَّبع، من
منطلقاته التصورية وفرضيَّاته التَّفسيرية. وما على من يريد أن يعرف إن
كان الجرجاني يتلافى الموازنات الصوتية أم يضعها قاصدًا حيث تقتضيه
رؤيته وفرضياته إلا أن ينظر في كتبه ببعض التَّجرُّد.
فيظهر مما سقته في هذه السطور
التي خصُّصتها للحديث عن المقتضيات المعجميَّة والسيَّاقية لبعض
الكلمات التي استعملها العمري في هذه الفقرة التي أناقشها أن
(أ) كلامه ينطلق من
تصوُّر للبلاغة يفترض أن موضوعها معطى وبشكل قبلي وأن السَّبيل
النَّاجع لتناوله جمع مضامين ما قيل في ذلك الموضوع من مصادر شتَّى،
وأن بالإمكان استعمال بلاغة الجرجاني بقطعها عن قبليَّاتها ومنطلقاتها
التَّصورية وفرضياتها التَّفسيرية،
(ب) وأنَّه كلام يتوزَّعه
-على الأقل- مقصدان موضعيان لا يتلاءمان مع المقصد المعلن المتمثل في
الاستدلال على أن بلاغة الجرجاني توافرت فيها الشروط التي تؤهلها
لتُنْعت بـ"البلاغة العامَّة": يتعلَّق الأوَّل بمقصده إلى الإقناع
بأنّه تَنَبَّه إلى ما لم يتنبَّه إليه غيره، وهو ما جرَّه إلى ادِّعاء
كون الجرجاني وظَّف تلك الوصفة المعلومة بتكتُّم؛ ويتعلَّق الثاني
بمقصده إلى بيان قصور بلاغة الجرجاني في جانب الموازنات الصوتيَّة وهو
ما جرَّه إلى اتهامه بتلافيها.
3.2. فساد
الإحالة:
تبتدئ الفقرة موضوع المناقشة بـ
»وخلال
هذه الرحلة.. ». والإشارة بـ"هذه" وإلصاق "أل" العهدية بكلمة "رحلة"
خاطئ، إذْ لم يتقدَّم ذكر أيّ رحلة لفظًا، ولم يسبق في العلم أنَّها
تدلُّ على معيَّن معروفٍ وليس أمامنا "رحلة" أو استعدادٌ لرحلة! ومدار
الفقرة السَّابقة على هذه التركيب هو عمل الجرجاني في "الدَّلائل"،
وليس فيها إشارةٌ إلى انتقاله من "الأسرار" إلى الدَّلائل أو
العكس. والإشارة التي تتم في هذه الفقرة نفسها التي يفتتحها بهذا
التَّركيب المختلِّ والتي يصفها بـ "الأخرى" تتعلق بـ"الدلائل" كما هو
بين: "... فبدأ رحلةً أخرى مستثمرًا رصيده النحوي"، مما يعني أن
"هذه الرحلة" و"رحلة أخرى" في كلام العمري هنا مرتبطتان بـنفس الكتاب
المتمثل في "دلائل الإعجاز". ولست، هنا، في حاجة إلى التّأكيد أن ما
أناقشه هنا لا يتعلق باستعارة مفهوم الرَّحلة لوصف عمل الجرجاني في
كتابيه البلاغيين أو في أحدهما، بل باستعماله لهذا التَّركيب الذي
تبتدئ به الفقرة التي أناقشها من غير إيراد ما يحيل إليه في الفقرة
السابقة عليه، بل في كلِّ فقرات الباب الأوَّل والقسم الأوَّل
السَّابقة عليه. وهل يكفي الهامش الذي يعلِّقه بآخر الفقرة التي يَرِد
فيها ويحيل فيه إلى مكان تناوله "للرحلة" التي قام بها الجرجاني من "أسرار
البلاغة" إلى "دلائل الإعجاز"؟
خاتمة:
تتبَّعت في الفقرة التي ناقشتها هنا والمقتطعة من كتاب "المحاضرة
والمناظرة" الدعاوى التي ظهر لي أنَّ صاحبها لم يُقِمها على أساسٍ
من نَظَرٍ كافٍ كانَ سيُمَكِّنه من تحقيقها وصياغة عبارتها الصياغة
التي تخرجها من الاضطراب وتَشْويهِ بلاغة الجرجاني التي ينتدِبُ نفسه
لتفسيرها وتقديمها. وقد أوضحت كيف يطلق أحكامًا تخالف حتَّى ما سبق أنْ
قرَّره هو نفسه من غير أن يبيِّنَ أسباب ذلك، أو يتفقَّد دوافعه مهما
كانت حتى يقلِّل من آثارها غير المحمودة على خطابه، وعلى الموضوع الذي
يتناول، وعلى المجال العلمي الذي يدرج عمله فيه. لقد "انتشر" الجرجاني
حين خرج إلى حقل التأويل والفلسفة فألحق نظريَّة المحاكاة بالبلاغة،
وتوسَّع أكثر عندما عمل هو نفسه على حل معضلة كلاميَّة وفلسفيَّة تتمثل
في "الطبيعة النفسية للكلام"، وزاد توسُّع البلاغة عندما انتبه إلى
رصيده الخام وغير المستعمل من النحو فاستعمله وألحقه بالبلاغة وأدخله
في بنيتها. أمَّا ما لا يمكن نسبته إلى الجرجاني بأيِّ صيغة من صيغ
التَّحريف والتَّخريف –مثل بلاغة ابن سنان وحازم وغيرهما!- فإنَّه يجد
الحلَّ في استعمال صيغة الفعل المبني لغير الفاعل لينوب عنه الصَّوتُ
المجهول في نسبته -رغم كل الإشكالات التي يطرحها ذلك- إلى زمن الجرجاني
أو "نموذجه"! وذلك لتقدُّمه "الزماني" و"المقامي"! ثم أبنت كيف تتضافر
المقتضيات المعجمية والسياقية لبعض الكلمات المستعملة في هذه الفقرة
لتشعُّب الدَّلالة فيها وتجعلها تبرز بعض سمات المنطلق التصوري للعمري
وبعض مقاصده التي لا تتلاءم والمقصد المحوري المعلن والمتمثل في بيان
استحقاق بلاغة الجرجاني لصفة البلاغة العامة.
يتبع...
*** *** ***
1.
أحمد المتوكل، المنحى الوظيفي في الفكر اللغوي العربي الأصول
والامتدادات، دار الأمان، الرباط، ط.1، 2006.
2.
أحمد مطلوب، عبد القاهر الجرجاني، بلاغته ونقده، ط1، بيروت،
1973.
3.
البشير النحلي، البلاغة والتأويل؛ بحث في حدود البلاغة وبلاغة
الحدود، مرقون بمكتبة كلية الآداب بالرباط، تحت رقم ر.ج/ 414/ نحل،
عر/ 100603.
4.
بول ريكور، من النص إلى الفعل، تر. محمد برادة وحسان بورقية،
دار الأمان، الرباط ، ط.1، 2004.
5.
جيرار جنيت، مدخل لجامع النص، تر. عبد الرحمان أيوب، دار
توبقال، الدار البيضاء، ط.2، 1986.
6.
حمادي صمود، التفكير البلاغي عند العرب، أسسه وتطوره إلى القرن
السادس (مشروع قراءة)، منشورات كلية الآداب منوبة، ط.2 ، 1994.
7.
عبد الباسط لكراري، دينامية الخيال، مفاهيم وآليات الاشتغال،
منشورات اتحاد كتاب المغرب، ط. 1، 2004.
8.
عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، قرأه وعلق عليه محمود محمد
شاكر، دار المدني بجدة، ط. 1،1991.
دلائل الإعجاز، قرأه وعلق عليه محمود
محمد شاكر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000.
9.
محمد العمري، البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها، إفريقيا
الشرق،
1999.
المحاضرة والمناظرة في تأسيس البلاغة العامة، إفريقيا
الشرق، 2017.
أسئلة البلاغة في النظرية والتاريخ والقراءة، إفريقيا
الشرق،
2013.
10.
محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة
العربية، بيروت، ط. 7، 2004.
11.
مجلة: البلاغة والنقد الأدبي، ربا نت-الرباط، ع. 14، خريف/شتاء
2019.