|
اللاعنف والمقاومةNonviolence and resistance
عندما تسمع بعض أهلنا يتحدثون عن المقاومة تعبر في خيالك أسماء كالإمام (أبو حامد) الغزالي، والإمام عبد القادر الكيلاني، وغيرهما من كبار العلماء الذين أدركوا أهمية إصلاح قراءة المسلمين لدينهم، وضرورة الانتقال من هوامش الانتماءات المذهبية إلى آفاق الانتماء للأمة بكل أطيافها ومذاهبها واجتهاداتها؛ وتعبر في خيالك، أيضًا، أسماء أبطال فاتحين كعماد الدين زنكي، الذين قادوا الأمة لتحرير الرها عام 1144، وصلاح الدين الأيوبي لتحرير القدس عام 1187، والظاهر بيبرس لتحرير أنطاكية عام 1265، والأشرف قلاوون لتحرير عكا عام 1291. حينما تسمع بعض أهلنا يتحدثون عن المقاومة، وكأنها اكتشاف أو اختراع خاص بهم، ومن حقهم حيازة (براءة الاختراع)، تصاب بالدهشة والألم. ومبعث الدهشة ليس هذا الادعاء فحسب، إنما إغفالهم مقاومة أجيال من المقاومين، قبل وبعد هزيمة 1948، وقبل وبعد هزيمة 1967؛ ومبعث الألم حقيقة أن المقاومة لم تحقق غايتها، وهي الخلاص النهائي من الاحتلال، أو، على الأقل، حماية وجودنا المادي والمعنوي، الذي يتعرض، في كل مرحلة من المراحل، وتحت كل القيادات، على تنوع أطيافها ومواقفها، إلى ضمور وتآكل مستمرين، لدرجة أصبحت تهدد وجودنا بدرجة غير مسبوقة، بل تجعله عرضة للإبادة والفناء، اللهم إلا إذا أوهمنا أنفسنا بأن التغيير في الأسماء والملامح وأصحاب النفوذ والامتيازات يعتبر خدمة للشعب ونصرًا للوطن.
لنمو... في جهة من جهات ساحة باريس، موقع الوقفة الاحتجاجية، ينتصب بناء تعود ملكيته إلى الرهبنة الفرنسيسكانية يُدعى "كلية تيرا سانتا". وفي أعلى السقف، تستكين مريم العذراء والطفل ينظران باستصغار إلى حركة المرور الدائرة بلا نهاية والشجارات السياسية الجارية في الأسفل، محتفظين إلى الأبد بالنظرة الجليلة ذاتها... يا للسلوى التي أجدها هناك. وفي الداخل، بالإضافة إلى كلية الكنيسة، تضم "تيرا سانتا" مكتبة المجلس البريطاني ومؤسسة Magnes الصحفية وقسم من الجامعة العبرية: مؤسسات تهدف إلى نشر المبادئ المقدّسة و/أو الثقافة. وقد يقول البعض حتى - ذلك أن ألفيتان من العنف المُستَوحى من الكنيسة قد أصبحتا وراء ظهرنا - أنها مؤسسات عاملة من أجل الحضارة الإنسانية. على الحائط الخارجي لـ "تيرا سانتا"، في أحد المواضع الضيقة لموقع الوقفة الاحتجاجية، علّق أحدهم لافتة ضخمة طوال عدة سنوات من الانتفاضة، تعرض جرد حساب للعنف السياسي الجاري. وفي الوقت الذي دوّنتُ فيه ملاحظة بشأن هذه اللافتة في صحيفتي في الأول من نيسان 1993، كانت اللافتة تقول: "168 قتيلاً منذ بدء الانتفاضة". وتجاور اللافتة لوحة ضخمة تتضمن أسماء كل الذين قُتلوا.
لماذا يلف الظلام فكرة اللاعنف؟ رغم أن اللاعنف واضح وضوح الشمس، والعمل اللاعنفي واضح أيضا، فالناس لا تصل إلى تصور واضح حول الفكرة. والذي يجعل الأمر ملتبسًا، شيئًا ما، هو أمور جانبية لا نستطيع ترتيبها واحدة بجانب الأخرى حتى تتضح عناصر المشهد كاملة، فنحن ضحايا عقلية التكديس التي تحدث عنها مالك بن نبي منذ 60 سنة. والحقيقة أني إذا كنت سألزم بيتي طوال أيام السنة فلا حاجة لي لفهم مبدأ اللاعنف، ولن يضيف لي شيئًا، ولن أربح شيئًا من تجارة لا أزاولها أبدًا. أما إذا عزمت على الخروج للتدافع مع السلطات، مطالبًا بالحرية والديمقراطية والعدالة، فأنا أحتاج لمبدأ اللاعنف ولإستراتيجية العمل اللاعنفي.
يُعَدُّ جودت سعيد (المولود في سورية في التاسع من شباط 1931) أحدَ أوائل المفكرين المسلمين والذي عمل جاهدًا على إدخال مفهوم اللاعنف في العالم الإسلامي. إن كِتاب هذا المفكر يبدو، بلا منازع، أصيلاً تمامًا وخصبًا، وينبغي أن نأسف لعدم الاستفادة منه كثيرًا في قلب العالم الإسلامي نفسه. فالمؤلِّف يعرض أفكارَه في كتاب نُشِر عام 1964 بعنوان: مذهب ابن آدم الأول، مشكلة العنف في العالم الإسلامي. وفي هذا الكتاب أراد أن يرُدَّ على كتابات سيِّد قطب الذي يعتقد، كما رأينا، أن القرآن يشرِّع العنفَ لنصرة دين الله. ويرى أن جواب هابيلَ لأخيه الأكبر قابيل الذي كان يهدده بالقتل: "لئن بسطتَ إليَّ يدَكَ لتقتلَني ما أنا بباسط يدي إليكَ لأقتلَك." (المائدة، 28) يُعبِّر بوضوح عن الموقف الذي ينبغي على المؤْمن المسْلم أن يتَّخذَه ليواجه الإنسانَ العنيف. ويُعلِّق جودت سعيد قائلاً: سواءٌ أكان الموضوع يتعلق بحادثة تاريخية أم بقصة رمزية، ما يبدو لي مهمًا في هذه القصة هو الطريق الذي تدلُّ عليه لكي ترتقيَ البشريةُ إلى مستوى الروح .... ليس هناك في موقف هابيل أي تردد ولا أدنى شك. إنه مصمِّم وعازم على مواجهة نتائج موقفه.
تسحرك السيدة سحر أبو حرب منذ اللحظة الأولى للقائك معها على أكثر من صعيد، فهي تدهشك بثقافتها، وتأسرك بتواضعها، وتفتنك بجرأتها في تناول ما يتهرب من تناوله كبار المفكرين الذين بدأوا يحنون قاماتهم أمام المد الأصولي المنتشر في أرجاء المنطقة. فتنسى معها الوقت ويمتد الحوار معها ساعات دون أن تدرك أن لديك مواعيد أخرى والتزامات وأشغال. وتسأل نفسك: أين كانت هذه السيدة منذ سنوات؟ ولماذا لا يتاح لها الحديث في القنوات الفضائية التي تستضيف "علماء" ومشعوذين ومتطرفين ومحرضين على العنف والقتل والتدمير، لتزيل الصورة المغبشة التي رسمها هؤلاء عن الدين الإسلامي؟ لسحر أبو حرب أربعة كتب في إعادة فهم الدين الإسلامي، وإقامته على أساس واحد: اللاعنف. كتابها الأول كان لا تكن كابني آدم لا قاتلاً ولا مقتولاً، ونشر في العام 1998. ثم كان كتابها الثاني العنف عند ابني آدم، عام 2000، وكتاب دار السلام عن شروط الجهاد والمجتمع المدني عام 2004، ثم عملها المدهش معادلات قرآنية عام 2008، والذي تبسط فيه الدين الإسلامي من خلال معادلات رياضية لتصل إلى نتائج مذهلة منها أن الشرك بالله هو إشراك العنف مع العقل، فإن أنت استعملت عقلك فأنت موحد وإن أنت استعملت القوة العنفية فأنت مشرك. ولها أيضًا مجموعات قصصية وأعمال مسرحية وعمل نثري جميل هو من ذاكرة عشتار. و. س.
لقد شبع القارئ تنديدًا بالأحداث وتصويرًا للمجازر! ربما ينتظر منا رؤية تختلف عن مواقف الشجبِ والادانة وتحميل المسؤوليات وإلقاء التُهم، وقد أتخم تحليلات سياسية وأخرى عسكرية تحمل توقعات أكثرها تفاؤلاً ينذر بكارثةٍ كبرى. مخطئٌ ربما من يظن أن أي فردٍ منّا، بوصفِه "إنسَانًا"، بمنأى عمّا يحصل من آلام هنا أو هناك؛ لأننا بالدرجة الأولى، وقبل كلّ شيء، شركاء في الإنسانية، علاوة على أن كثيرًا من القراءات تبدي قلقًا من تفاقم الأوضاع وامتدادها بحيث تخرج عن سيطرة صانعيها وحدود توقعاتهم وامكانياتهم. وإننا، كأفرادٍ نؤمن بكونية الإنسان وحقوقه ونتخذ من اللاعنف عنوانًا، نتحمل مسؤولية أخلاقية تجاه شركائنا في الإنسانية، وتجاه ما يحصل من أحداثٍ تتجاوز حدود الإبادة في بعض صورها. وإن طرح إشكالية الوضع الإنساني وقضايا السلام في دوامة "المجازر"، التي بَلغت ذروتها القصوى، يضع اللاعنف "حُلمًا" صعبَ المنال ناهيك عن التطبيق.
أخي وصديقي إدريس لأنك، ورغم كل الخلاف الواضح والصريح بيننا، ستبقى ذلك الإنسان الصادق الذي أكنّ له كل المودة والاحترام. والذي، لهذا السبب تحديدًا، ومن أجل فتح الباب لنقاش هادىء حول الكثير من القضايا التي ما زالت إشكاليةً في مجتمعاتنا، نشرت معابر على صفحاتها ردك على مقالة أكرم أنطاكي التي عبرتْ، تحديدًا من خلال موقفها الداعي إلى السلام، عن موقف هذا الموقع المتواضع. والخلاف بيننا قد يبدو عميقًا لأول وهلة يا صديقي. وهذا واقع قائم. لكن هذا الخلاف بوسعه أن يتغير حين نهدأ ونتجاوز منطق الغضب ونتفكر بمسؤولية وإنسانية. لأنه خلاف طبيعي مرده ربما الفهم المختلف لكل منا للواقع المحيط، وخاصةً، نعم خاصةً، فهم كل منّا لدينه ولدين الآخرين. كتلك المسيحية التي (من جانبك، ومن منظورك) تقع في خطأ تفسيرها على هواك. كما تقع من نفس المنطلق في خطأ التناول المجتزأ لمفاهيم وقيم إنسانية خالدة يفترض أن تجمعنا كالعدالة والإنسانية واللاعنف.
ليس العنفُ حتميةً. ولا يفرِض أبدًا قوانينَه من تلقاء ذاته. ولكنْ عندما يختاره البشرُ، يصبح حتميًا بأنْ يكابدون قوانينَه. هذه القوانينُ قاسية. إنها جامدة. إنها مرهِقة. إنها لا ترحم. إنها متوحشة. إنها لاأخلاقية. إنها، في النهاية، لاإنسانية. نتائجُ العنف مخزية. فظيعة. مُخجِلة. هذا هو منطقه. إنه منطق بارد لا تقف في وجهه صيحاتُ الغضب. تشير سيمون ﭭـايل في الإلياذة إلى أنَّ "المحاربين يَظهرَون مشابهين إما للحريق وإما للفيضان وإما للريح وإما للحيوانات الضارية وإما لأي سبب أعمى يسبب الكارثة". العنف، في الواقع، هو سبب أعمى للكارثة. إنه يفعل فعل كارثة طبيعية. إنَّ من طبيعة العنف نفسها أنْ يكونَ آليةً عمياء تجرُّ الإنسانَ في هروب نحو الرعب. يعتقد البشر أنهم يستعملون العنفَ، ولكنَّ العنفَ في الواقع هو الذي يستعملهم. يُخضِعهم ويجعلهم أدواتٍ في خدمته وحده. يتوهمون أنهم يستخدمونه، ولكنه يستخدمهم. فلا يبقى بين الإنسان والفعل العنيف أيُّ مسافة. وبالتالي فإنَّ المسافة التي يمكن وضعها بينهما هي التي تتيح وحدها وعيًا أفضل. ليس هناك في وحشية العنف من مكان للفكر. و"حيث لا يكون للفكر مكان لا يكون للعدل ولا للتعقُّـل مكان. ولذلك يتصرف الرجالُ المسلَّحون بقسوة وجنون". تشير أيضًا سيمون ﭭـايل إلى أنه عندما "لا أريد أنْ أكبِّد العدوَّ إلاَّ خسارةً محدودة فإنني لا أستطيع لأنَّ استخدام الأسلحة ينطوي على اللامحدودية". لقد أوضح ﭙول ﭭـاليري هو أيضًا دوامةَ العنف العمياء بقوله: "يُعرَف العنفُ بهذه الخاصية ألا وهي أنه لا يستطيع الاختيار: كثيرًا ما نقول أنَّ الغضب أعمى؛ فالانفجار أو الحريق يصيب مكانًا معيَّنًا وجميعَ ما يحتويه. إذًا، إنَّ الذين يتخيَّـلون ثورةً أو حربًا كحلولٍ لمشاكلَ محدَّدة يتوهمون عندما يعتقدون أن الشر وحده هو الذي يُقضَى عليه."
|
|
|