جدار الفصل عن اللاعنف

 

رشيد أوراز[1]

 

قد تراودنا فكرة، إذا ما كنا مسلمين، أن نتساءل: هل من بين هؤلاء الزراع لفكرة اللاعنف، وهؤلاء الشهود الكبار الذين أووا إلى الكهف في القرن العشرين، هل من بينهم مسلمون؟
مالك بن نبي

اللاعنف هو اللاإكراه وهو الرشد وهو الديمقراطية.
جودت سعيد

إن الطغيان يمكن مقارعته بأسلوب مجد: بالمقاومة (اللاعنفية).
خالص جلبي

 

لماذا يلف الظلام فكرة اللاعنف؟ رغم أن اللاعنف واضح وضوح الشمس، والعمل اللاعنفي واضح أيضا، فالناس لا تصل إلى تصور واضح حول الفكرة. والذي يجعل الأمر ملتبسًا، شيئًا ما، هو أمور جانبية لا نستطيع ترتيبها واحدة بجانب الأخرى حتى تتضح عناصر المشهد كاملة، فنحن ضحايا عقلية التكديس التي تحدث عنها مالك بن نبي منذ 60 سنة.

والحقيقة أني إذا كنت سألزم بيتي طوال أيام السنة فلا حاجة لي لفهم مبدأ اللاعنف، ولن يضيف لي شيئًا، ولن أربح شيئًا من تجارة لا أزاولها أبدًا. أما إذا عزمت على الخروج للتدافع مع السلطات، مطالبًا بالحرية والديمقراطية والعدالة، فأنا أحتاج لمبدأ اللاعنف ولإستراتيجية العمل اللاعنفي.

وبعبارة أدق: الفرد السلبي الذي ينتظر أن يتغير كل شيء من حوله دون تدخله هو، لا حاجة له لمبدأ اللاعنف، ولا لفكرة اللاعنف، ولا للعمل اللاعنفي؛ فهو ليس إنسانًا عمليًا، ولا يعمل.

والفكرة الثانية أننا يجب أن نأخذ الأمور بمنظور علم الاقتصاد، ونطرح الأسئلة التالية:

في أي استثمار سنربح أكثر؟ وما مقدار رأس المال الذي يجب توظيفه لإنجاز هذا المشروع؟ ومع من سنقتسم الأرباح؟

الحقيقة أن العنفي أيضا يربح شيئًا في الأخير، ويوظف رأسمالاً ما كي يؤسس مشروعه، ويقتسم الأرباح مع جماعة معينة. والحقيقة الكبرى أن اللاعنفي يربح أكثر، باستثمار رأسمال أقل، ويقتسم الأرباح مع الجميع.

أي المشروعين أفضل وأربح؟ بدل صرف ملايين الدولارات لشراء قذائف الهاون، وتدريبات عسكرية، أليس من الأفضل أن نوجه زبدة الأدمغة التي نتمتع بها إلى أرقى الجامعات كي يحصلوا العلم والمعارف، ونصرف عليهم قليلاً من المال ونصبر حتى ينضجوا بما فيه الكفاية ويصبحوا قادرين على الدفاع عن الحق بقوة الكلمة والعقل؟

أليس من الأفضل أن نوزع الروائع الإنسانية في التاريخ والأدب والفلسفة والفكر على الشباب، عوض إعطائهم قنابل للقتل؟

ما الأفضل، أن يقرأ الشباب هذه الروائع، ويكتسبوا قوة الكلمة، ويفك الله عقد ألسنتهم، وإذا تكلموا سمعوا بإنصات، ومن دون تلعثم، أو أن نرسلهم إلى مراكز تدريب عسكرية، ونشحنهم بفقه بدوي متخلف، ماتت أفكاره من كثرة ما عاشت؟

إننا نعطل السمع والبصر والعقل واللسان، ونوظف العضلات، هذه مشكلتنا الأساسية في العالم الإسلامي.

بدل أن نقتل صهيونيًا واحدًا، فلنخاطب ضمائر العالم.

لنقل لهم كل ما نريد قوله، بلغة سليمة، ولنشرح للناس آلامنا، والظلم الذي لحقنا. هل يستطيع أحد ما أن يمنعنا من ذلك؟ لا تستطيع أي قوة في الأرض ولا في السماء أن تغير حقيقة مشاعرنا إن استطعنا التعبير عنها بالشكل الصحيح وبالكلمات المناسبة. وكل ما قد يفعلون أن يصيحوا "أكاذيب، أكاذيب" ولكن الوقائع على الأرض ستؤكد ما نقوله نحن.

مشكلتنا أن إسرائيل ليست واحدة، بل ثلاثًا وعشرين إسرائيل.

إذا حضر عربي إلى فضائية ليشرح قضيته، فهو يفعل كل شيء، ويقول كل شيء، إلا أن يشرح قضيته، وهنا كانت هزيمتنا المستمرة.

لقد قرأت كل ما نشر من كتب مالك بن نبي، وقرأت أغلب مقالات خالص جلبي ولا زلت أتابعها بنهم معرفي، وقرأت بعضًا من كتب جودت سعيد، والحقيقة أن مبدأ اللاعنف ترسخ عندي بشكل واضح، و(أزعم) أيضا أني فهمت كثيرًا من أفكارهم، وهم على الأقل شراح وكتاب عملوا على شرح فكر اللاعنف أكثر من غيرهم في العالم العربي.

وأذهلني، حقيقةً، كتاب مالك عن الفكرة الأفريقية الأسيوية، وهي دراسة تطبيقية لمبدأ اللاعنف والسلام، البعض يظن أنها ماتت مع تجمع دول عدم الانحياز، ولكن تلك فكرة حية، وهي اليوم تنتقم مع كل نزاع مسلح جديد في العالم، طبقًا لفكرة مالك نفسه: الأفكار المخذولة تنتقم.

أما خالص جلبي فيرتبط اسمه بفكرة اللاعنف، وهو أمر شائع بين أغلب من أعرف. وخالص لم يكتب عن اللاعنف وحده، بل كتب عن قضايا أعم وأكبر.

إننا نوزع القضايا على جزر متباعدة، وفي الأخير يستقر نظرنا وانتباهنا على جزيرة واحدة، فنهمل بقية الجزر وبقية القضايا. وهذا مرض أصيب به كل مسلم ومسلمة. فإما أن نرى المشكلة في الحاكم وحده، أو في المواطن وحده، أو في الدين وحده، أو في الغرب وحده ... أما أن ننظر إلى كافة المشاكل بعين التساوي فذلك أمر نحن عنه بعيدون جدًا.

إننا نسير بسرعة قياسية نحو إصلاح ديني، وانقلابات سياسية واجتماعية بأكثر مما قد نتوقع، ولا يجب أن نهمل هذا كله من أجل التفكير في مبدأ اللاعنف وحده، لكن يجب أن نفكر في العمل اللاعنفي لأننا نفكر في التغيير. إذ ليس اللاعنف ترفًا فكريًا، ولا إظهارًا للنوايا الحسنة تجاه الآخرين، بل وسيلة جد مهمة لقيادة التغيير.

واللاعنفي ليس جبانًا يلتزم الصمت، بل مقدامًا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر والبغي.

اليوم يسكت الجميع عن الطغيان. هل يجب أن يسكت اللاعنفي أيضًا عن ذلك؟

في نظري لا يجب أن يسكت، وإن قال (إتيين دو لابواتييه) إن فردًا واحدًا لا يجب أن يقفز على هذا السور. لكن اللاعنفي ليس فردًا واحدًا، بل أمة كاملة.

نستطيع أن نغير كل شيء في هذا العالم بواسطة "العمل اللاعنفي"، طالما بقي الإقناع أساسًا له، وإذا ما كانت أفكارنا صائبة وواضحة ومقنعة فبإمكاننا فعل الكثير.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1]  باحث مغربي، بريد إلكتروني: aourraz@gmail.com

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود