|
زيارة لجودت سعيد
يُعَدُّ جودت سعيد (المولود في سورية في التاسع من شباط 1931) أحدَ أوائل المفكرين المسلمين والذي عمل جاهدًا على إدخال مفهوم اللاعنف في العالم الإسلامي. إن كِتاب هذا المفكر يبدو، بلا منازع، أصيلاً تمامًا وخصبًا، وينبغي أن نأسف لعدم الاستفادة منه كثيرًا في قلب العالم الإسلامي نفسه. فالمؤلِّف يعرض أفكارَه في كتاب نُشِر عام 1964 بعنوان: مذهب ابن آدم الأول، مشكلة العنف في العالم الإسلامي. وفي هذا الكتاب أراد أن يرُدَّ على كتابات سيِّد قطب الذي يعتقد، كما رأينا، أن القرآن يشرِّع العنفَ لنصرة دين الله. ويرى أن جواب هابيلَ لأخيه الأكبر قابيل الذي كان يهدده بالقتل: "لئن بسطتَ إليَّ يدَكَ لتقتلَني ما أنا بباسط يدي إليكَ لأقتلَك." (المائدة، 28) يُعبِّر بوضوح عن الموقف الذي ينبغي على المؤْمن المسْلم أن يتَّخذَه ليواجه الإنسانَ العنيف. ويُعلِّق جودت سعيد قائلاً: سواءٌ أكان الموضوع يتعلق بحادثة تاريخية أم بقصة رمزية، ما يبدو لي مهمًا في هذه القصة هو الطريق الذي تدلُّ عليه لكي ترتقيَ البشريةُ إلى مستوى الروح .... ليس هناك في موقف هابيل أي تردد ولا أدنى شك. إنه مصمِّم وعازم على مواجهة نتائج موقفه[1]. فهابيلُ، وهو يخاطر بالموت كي لا يرتكِبَ القتلَ، يُظهِرُ المسؤوليةَ الأخلاقية التي ينبغي على الإنسان أن يتجشَّمَها من خلال رفضه أيَّ تواطؤ مع الشر. وهكذا فإن التاريخ، بحسب أسطورة آدم التي رواها القرآن، لم تبدأ بجريمة قتل بل بفعل لاعنفي. فالرواية تضع البشريةَ مباشرةً أمام خيار وجودي بين العنف واللاعنف. ويستشهد جودت سعيد بحديث رواه الإمام أحمد يجيب فيه النبيُّ على سؤال أحد الصحابة: "[أفرأيتَ] إنْ دخل على بيتي أحدُهم [وبسط يدَه إليَّ] ليقتلَني فما عساني أفعل؟" فيقول [النبي]: "كن كابن آدم[2]." ويأسف جودت سعيد كيف لم يُعطِ الفقهُ الإسلامي هذا الحديثَ كلَّ الأهمية التي يستحقها. ويبني، من جهته، فكرَه اللاهوتي مستندًا دائمًا إلى فريضة اللاعنف التي تؤسِّس موقفَ ابن آدم الثاني. ويتساءل: "كيف يمكنك أن تكون مسْلمًا إن لم تقْبلْ باتِّباع طريق ابن آدم[3]؟" ويشير جودت سعيد إلى أنَّ: القرآن يُظهِر عزم جميع الأنبياء على مشاطرتهم موقفَ ابن آدم وعلى مقاومتهم الشرَّ والصبرِ على الظلم الذي يُنزِله بهم شعبُهم. ويدأبون في الدعوة إلى الحوار ويتحملون نتائجَ ذلك جميعَها. ويرفضون أن يردُّوا على الأذى الذي يلحق بهم بأذىً مثلِه. فهم عازمون على عدم التردِّي في قانون العنف لأنه يُعَدُّ في نظرهم تجديفًا[4]. وهكذا فإن جودت سعيد يرى في تصميم الأنبياء على رفض الدفاع عن أنفسهم بالعنف وعلى الصبر حين يُعتدَى عليهم يرى المبدأَ عينَه للموقف اللاعنفي. ويتكلم أيضًا عن "الكمال العقلي" للأنبياء الذين يريدون إعلاء حرية التفكير والاعتقاد على كل إكراه. ويستشهد بكلام الأنبياء لمن يضطهدونهم كما رواه القرآن: "ولنصبِرَنَّ على ما آذيتمونا" (إبراهيم، 12).
جودت سعيديروي القرآنُ أنَّ الله عندما أراد أن يستخلفَ الإنسانَ في الأرض قالت له الملائكةُ: "أتجعل فيها من يُفسِد فيها ويسفك الدماءَ ونحن نُسبِّح بحمدك ونقدِّس لك؟" عندئذٍ قال لهم الله: "إني أعلم ما لا تعلمون." (البقرة، 30)، وكأنه أراد أن يقول لهم بأن نبوءتهم ليست قضاءً مبرَمًا. فالله وثق بقدرات الإنسان وإمكانياته. عندئذٍ يقول القرآن: "وعلَّمَ آدمَ الأسماءَ كلَّها." (البقرة، 31)، في حين أن الملائكة لم يكونوا يعرفونها. يُعلِّق جودت سعيد بالقول: وكأن الله يقول بأن سلطة الإنسان تتأتى من قدرته على تسمية المخلوقات وعلى إعطائها أسماء رمزية، وهي قدرة أن يصير أهلاً لأن يكون خليفة الله على الأرض[5]. إن عِلْم الأسماء يتيح للإنسان أن يبلغ معرفة الأشياء. وهكذا، يكون الإنسان، وحده من بين المخلوقات، قادرًا، بفطنته - وجودت سعيد بـ "جهازه العصبي" -، على تسمية الخير والشر ونتائج كل منهما. وحتى إن كان الإنسان اليوم مازال يحقق على نطاق واسع نبوءةَ الملائكة بدلاً من أن يحقق المهمة التي أوكلها الله إليه فإن المفكر السوري جودت سعيد يريد أن يؤكد ثقته بتطور البشرية: فهو يؤكد أن الله قال الحقيقة عندما قال أن الملائكة لا يَعلمون أن الإنسان سيتجاوز المرحلة التي يُفسِد فيها ويسفك الدماء. في الحقيقة، نحن لا نكتفي بالتكهنات، لأننا نرى في العالم أن هذا الأمر بديهي؛ وسيتحقق في مستقبل غير بعيد جدًا[6]. مع ذلك، يشير جودت سعيد إلى أنه في الوقت الحاضر مازال تاريخنا، للأسف، يحقق نبوءة الملائكة بحق نوعنا البشري. فالعلاقات الإنسانية المبنية على العدل والرحمة ما تزال هامشية في التاريخ. ويرى جودت سعيد أن المفكرين هم المسؤولون المسؤولية الأكبر عن كون المجتمعات يتآكلها الظلمُ والعنف. لأنهم هم الذين، بتعليمهم، يصنعون ثقافة المجتمعات وهم الذين يجعلون المجتمعات تعيش في المعرفة أو في الجهل. وعليه فإن المثقفين اليوم هجروا تعاليم الأنبياء وأصبحوا "مرشدين عُمْيًا": "إنهم حُماة إله الحرب الجُدد[7]". لا بد عاجلاً أن يحقق البشرُ حُلُمَ الأنبياء بسلوك طريق السلام: لم يأتِ الأنبياء ليتنافسوا في معركة عنيفة، جاؤوا ليتنافسوا في الطيبة، من خلال إرادة بناء مجتمع يسوده سلام كامل ويتساوى فيه جميع البشر في ظل القانون[8]. يُذَكِّر مرضُ العنف الذي تعاني منه المجتمعاتُ بعصر الأوبئة: إذًا، بسبب الجهل المتفشِّي بأسباب الأمراض كانت حالات الطاعون تجتاح المجتمعاتِ مخلِّفةً وراءها ملايين الموتى. لكنَّ العلم أتاح فهمَ الجراثيم واكتشافَ الأدوية التي تتيح مكافحةَ هذه الأوبئة وشفاءَ المرضى. يؤكد جودت سعيد قائلاً: كذلك فإن الحروب التي تندلع هنا وهناك سببُها الجهلُ بالجراثيم الفكرية التي تصيب المجتمعاتِ بالكراهية، حتى أن الأفراد، من جرَّاء تأثيرها، يقومون بارتكاب أعمال وحشية. في عالم اليوم الذي يعتمد على العلم، ننشغل بالوقاية من الحرب الجرثومية وذلك باتِّقاء الـﭭيروسات التي تدمِّرنا: ويبقى غذاؤنا الفكري ملوثًا. لا يمكننا أن نسمح لأنفسنا بالاستمرار في هذا الخلط أو الجهل بهذه الجراثيم التي تجتاحنا[9]. إنما عن جهلٍ يلجأ الإنسانُ إلى العنف: فالعنف هذا يصدر عن معرفة خاطئة[10]" تجهل الخير والشر. إن معرفة الخير والشر، كما علَّمتْها التوراةُ والإنجيلُ والقرآنُ، هي التي تتيح للإنسان أن يسلك الصراطَ المستقيم، صراطَ الحكمة متجنبًا الشرَّ وفاعلًا للخير. إن مقاومة الشر بالقتل "ككسر زجاج نافذة بدلاً من غسله". إنها قتل المريض بدلاً من مداواته: ولأننا لا نقبل أن يقتل الأطباءُ مرضاهم فإنه من الصعب أن نفهم لماذا نقبل أن يمجِّد بعض المفكرين، أو من يدَّعون أنهم أبناء الله، قتلَ الجاهل بدلاً من تعليمه وإرشاده[11]. أراد الأنبياء أن يؤسسوا ويضعوا أخلاقًا جديدة مستندين إلى الموقف اللاعنفي لابن آدم الثاني والذي يمكن تلخيصه بما يلي: أعرف الخيرَ والشر، وقد أبَيتُ أنْ أتَّبعَ شريعةَ الغاب. في إمكانك أن تقتلَني، ولكنك لن تحوِّلَني إلى قاتل." وكأن هابيل قد قال لأخيه: "يمكنك أن تقتلَني. فأنا ميِّتٌ في جميع الأحوال حتى وإن لم تقتلْني. ولكنني لا أريد أن أجعل من موتي قتلًا شرعيًا. أرفض أن أمنحكَ حقَّ القتل. أرفض ذلك من خلال رفضي الدخولَ في معركة جسدية معك، لأنني إذا دافعتُ عن نفسي فستؤْمن أنتَ بفعالية القتل. وأنا سأُبطِل وأُلغي حقَّ القتل وسأجعله كريهًا أمام عينيك. وقد فاز هابيلُ عندما "قال قايينُ [قابيل] ليَهْوَه: "ذنبي أعظم من أن يُحتمَل". (تكوين، 4، 13) في القرآن، يصبح قابيلُ من النادمين. فبينما يَعتبِر الجنودُ أنَّ انتصارهم في المعركة أمر بطولي وحتى أن اغتيال شخص مسلَّح ومحمي عمل بارع، يُعَدُّ قتلُ من لا يدافعون عن أنفسهم عملًا مُروِّعًا. إننا، برفضنا الدفاعَ عن أنفسنا، كابن آدم والأنبياء، نتحرر من الخوف من الموت ونجعل القاتل مجرمًا[12]. يشدد جودت سعيد على فكرة أن المسيح طلب من أحد تلاميذه إغمادَ سيفه موضحًا: "من يأخذ السيفَ بالسيف يَهلَك." (متَّى، 26، 52) ويرى في قضية "قيام تلاميذ المسيح الأوائل بمقاومة الدولة في الوقت الذي كانوا فيه ملتزمين بطريق اللاعنف[13]" دليلاً على أن التاريخ يُظهِر لنا إمكانيةَ مقاومة الاستبداد دون اللجوء إلى العنف. ويشدد جودت سعيد على أن جميع الأنبياء حرَّموا استخدامَ العنف مقيمين مجتمعًا تسوده دولةُ القانون، لأنه لا يمكن إقامة مثل هذا المجتمع مادام أننا نؤْمن بفعالية العنف[14]. إلا أنه ينبغي أن يكون من الواضح أن التخلِّيَ عن العنف ينبغي ألاَّ يعنيَ تخلِّيًا عن الكفاح من أجل العدالة: عندما يقول لي أحدهم بأنني أريد أن نوقف المقاومةَ وأن نستسلم لعدوِّنا أجيبه بأنه يجب علينا عدم التوقف عن المقاومة؛ ولكنني أقول بأنه إن كان هناك طريق آخر أكثر فعالية وأكثر جدوى وأقلَّ كلفةً فعند ذلك ينبغي علينا الأخذ بهذا الخيار البديل[15]. لقد علَّم الأنبياءُ الجنديَّ عدمَ الطاعة خيرًا من أن يصبح مجرم حرب. يريد العالَمُ أن يكون الجنديُّ بندقيةً ليس له أي خيار ويخضع للأوامر دون أن يكون له الحق في الاعتراض. إن أول ما يعلِّمه الأنبياءُ هو اجتناب الشر والمثابرة على طريق الخير. إن الجندي الذي يميِّز بين الخير والشر لا جدوى منه في جيوش العالم. من يشتري أسلحةً قادرة على عصيان الأوامر؟ من يشتري سيفًا يميِّز بين الخير والشر؟ ولذلك لم يشأ الأنبياءُ أن يصنعوا بندقيةً من لحم ودم[16]. يشير جودت سعيد بالقول: ولهذا فإن جيوش العالم يدربون جنودهم على الطاعة دون اعتراض، وذلك بأن يغرسوا في أذهانهم فكرةَ أن السلطة هي التي تتحمل مسؤولية القرار - هكذا تريد شريعةُ البشر[17]. لكنَّ الأمر يختلف كليًا في شريعة الله. ويستشهد جودت سعيد بالآيات (من 9 حتى 19) من سورة العلق التي يأمر فيها القرآنُ المؤمنَ صراحةً بعدم طاعة من يريد أن ينهاه عن الصلاة: "كلاَّ! لا تُطِعْه!" (العلق، 19). فالموقف الذي ينبغي أن يكون موقفَ المؤمن من الأوامر والقوانين موقف واضح إذَنْ: ينبغي على المؤمن أن يتعلم طاعةَ القوانين عندما يكون الأمر المُعطَى منسجمًا مع أوامر الله وعدمَ طاعتها عندما يكون الأمر مخالفًا لأمر الله، كما هي الحال في موضوع الصلاة. إنَّ هذه المعرفة هي التي تتيح للفرد أنْ يعيَ أنَّ لديه القدرةَ على تغيير الأشياء، دون أية خسارة لأي طرف، ولصالح جميع الأطراف[18]. ولذلك، ينبغي، على وجه الخصوص، على المسلم عصيانُ الطُّغاة عندما يأمرونه بقتل المسلمين الآخرين: ينتظر الآخرون منك أن تبدأ، كما تنتظر أنتَ من الآخرين أن يبدأوا. كنْ أولَ من يطيع اللهَ ويعصي الطغاة[19]. فهم يستمرون في إعطاء أمر القتل مادام الجنود يقولون: "نعمْ، سيدي!". يرى جودت سعيد أن المظلومين مسؤولون إلى حد كبير عن الظلم الذي يحيق بهم. ولتأكيد ذلك، يرجع إلى الآية 165 من سورة آل عمران: "أوَلَمَّا أصابتكم مصيبةٌ [...] قلتم: أنَّى هذا؟ قل: هو من عند أنفسكم.". ويعلِّق قائلاً: هكذا يكون القرآن هو الكتاب الوحيد الذي يُعنِّف الضحيةَ أكثر من تعنيفه الظالم. ذلك لأن الظالم لا يمكن أن يستمر في ظلمه إلا بتساهلنا وتواطئنا؛ فإذا سحبنا منه هذا التواطؤ فإنه يسقط[20]. يمكن للإنسان أن يتحرر من الطاغية ليس بقتله ولكن برفض تقديم الولاء له. ولهذا، ينبغي على الإنسان أن يتوقف عن عبادة أوثان سلطة الأقوياء. "لقد عظَّم الإنسانُ ومازال يعظِّم السلطةَ، ويعظِّم من بيده السلطة[21]." ينبغي على الإنسان، من خلال استحضار وعيه وعقله وفطنته، أن يفهم أنه يمتلك سلطةَ ألاَّ يستغلَّه إنسانٌ آخر، إنسانٌ مثلُه. كتب جودت سعيد: إن الحقيقة التي تعلَّمها الأنبياءُ واجتهدوا في تعليمها هي أن الإنسان لا يمكن أن يُستغَلَّ أو يُهان إلا بموافقته ومن جرَّاء جهله. فعندما تنيره المعرفةُ لا أحد يمكنه أن يستغله أو يهينه - فهو لا يسمح بذلك. (...) إنَّ المعرفةَ سلطةٌ، والمعرفةُ هي الحرية، والمعرفة كونية. (...) الجاهل وحده يمكن استغلاله[22]. في معرِض الحديث عن النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، يستشهد جودت سعيد بالمفكر مالك بن نبي الذي اعتاد أن يقول: عندما تتمكنون من الكلام عن قابليتكم للاستعمار أكثر من الكلام عن الاستعمار، عندئذٍ تكونون قد قمتم بالخطوة الأولى نحو الحل[23]. وهنا ينضم جودت سعيد إلى تفكرات إيتيَن دو لا بُوَيتي Étienne de la Boétie وهنري ديـﭭيد ثورو Henri David Thoreau وغاندي والتي أخذ بها مُنظِّرو استراتيجية العمل اللاعنفي والتي تقول بأن تواطؤ المظلومين مع ظالميهم هو الذي يشكِّل في الواقع قوة الظلم الذي يعانون منه. لقد كان إيتيَن دو لا بويتي (1530 – 1563) أحد الأوائل الذين عبَّروا صراحةً عن الفعالية الكامنة في سياسة اللاتعاون في كتابه مقالة في العبودية الطوعية. فعندما لاحظ أن سلطة المستبد تستند كليًا إلى التواطؤ الطوعي للشعب، طلب أن يوضحوا له كيف يمكن أن يتحمل كثير من البشر وكثير من المدن وكثير من الأمم أحيانًا مستبدًا واحدًا فقط ليس له من القوة سوى تلك التي يعطونه إياها وليس له من السلطة ليضرهم إلا بقدر ما يريدون تحمُّلَه ولا يمكنه أن يُلحِق بهم أيَّ أذىً لو لم يفضِّلوا أن يتحملوا أيَّ شيء منه على أن يعارضوه[24]. إن الشعب، في الواقع، هو الذي يقدِّم للمستبد الأسبابَ التي يحتاج إليها لكي يضطهده. عندئذٍ، يكفي أن يتوقف رعايا المستبد عن مؤازرتهم له حتى يسقط الاستبداد. يؤكد لابويتي بالقول: يمكنكم أن تتخلصوا منه حتى دون محاولة القيام بذلك، ولكن بمحاولة إرادة ذلك فقط. صمِّموا إذَنْ على التوقف عن خدمته وسوف تصبحون أحرارًا. لا أريد أن تصطدموا معه ولا أن تُزعزعوه، ولكنْ توقفوا فقط عن دعمكم له وسوف ترونه، كتمثال ضخم سُحِبَتْ قاعدتُه، يهوي تحت قوة ثقله ويتكسر[25]. يريد جودت سعيد أن يرى في الثورة الإيرانية عام 1979 التي أدت إلى القضاء على نظام الشاه مثالاً نموذجيًا على إمكانية الشعب على قلب سلطة مستبدة دون اللجوء إلى العنف. كتب يقول: كانت الثورة الإيرانية ثورةً شعبية، ثورةً صنعتْها النساءُ أكثر من الرجال. كان هذا حدثًا يشار إليه بالبَنان ... فعندما فرض الشاهُ منع التجول أمرَ الخُميني قائلاً: ينبغي عليكم، نساءً ورجالاً على حد سواء، التصدي لهذا القرار والذهاب إلى الشوارع، وينبغي على النساء تقديم ورود لجنود الشاه ... وهكذا طُرِد الشاهُ دون إطلاق رصاصة أو صاروخ. مع ذلك، فالمثال الإيراني ليس مقنعًا تمامًا. لأنه إذا كان صحيحًا أن آية الله الخميني قد نجح في تسنُّم السلطة دون اللجوء إلى العنف فإن النظام الديني الذي وضعه كان بعيدًا عن تلبية متطلبات الديموقراطية التي يعتبرها جودت سعيد أساسيةً لبناء نظام سياسي يحمي حرية المواطنين. يريد جودت سعيد أن يرى في الأمر القرآني: "لا إكراه في الدين" (البقرة، 256) أمرًا إلهيًا لا ينبغي أن يحكم حياة الأفراد الدينية فحسب، ولكنْ ينبغي أن يحكم الحياة الاجتماعية والسياسية للمجتمعات والشعوب والأمم أيضًا. ويؤكد على أن مبدأ رفض الإكراه صحيح أيضًا في النطاق السياسي. هذا المبدأ يرسم الحدود بين الصراط المستقيم وبين الطريق المسدود. كتب يقول: ينبغي إلغاء العنف؛ لا إكراه في الدين ولا في مواجهة الآراء ولا في السياسة؛ إنما الذي ينبغي بالأحرى أن يسود هو الإقناع والدعوة إلى الحكمة والحض على الخير؛ إن المجادلة والنقاش هما اللذان ينبغي أن يتأسسا على طريق سِلْمي[26]. ويضيف أيضًا: إنَّ من واجبكم، كمؤمنين، تغييرَ المجتمع بالإقناع لا بالإكراه. فالشخص الذي يلجأ إلى الإكراه والشخص الذي يرُدُّ باللجوء إلى الإكراه كلاهما يطبق شريعة الغاب[27]. بِاسمِ مبدأ رفض الإكراه هذا، يدافع جودت سعيد عن الديموقراطية. "ضمن هذا الطريق وضع الأنبياءُ أُسُسَ الديموقراطية[28]." ينطوي هذا المبدأ على احترام حرية المعتقَد وحرية الرأي وحرية الدين وحرية التعبير. وردًَّا على السؤال: "ما هو معنى الديموقراطية؟" يجيب جودت سعيد: تعني الديموقراطيةُ أن يتَّفق الأطرافُ على التفكير في أن المسائل السياسية ينبغي ألاَّ تُحَلَّ بالعنف. فالديموقراطية لا تؤسَّس في بلد يؤْمن فيه الناسُ بشرعية إقامة دولة القانون بالعنف أو بضرورة ذلك[29]. ويستغرب من رؤية مسلمين يرفعون لافتاتٍ كُتِب عليها: "الديموقراطية بدعة" ويعانون من العيش تحت وطأة قانون الطغاة. وقد اعترف جودت سعيد، بنزاهةٍ وشجاعة، بأنَّ كثيرًا من الأمم طبَّقت، في الحقيقة، مبدأَ "لا إكراهَ في الدين"، في حين أنَّ المسلمين لم يفعلوا ذلك[30]. إن التاريخ مصْدرٌ للمعرفة، وينبغي على المسلمين أن يطابقوا تعاليمَ القرآن بدروس التاريخ. ويرى أنه إذا أصغى المسلمون للتاريخ فسيعترفون بأن الديموقراطية تُحقِّق، أكثرَ من أيِّ نظامٍ سياسيٍّ آخرَ، فريضةَ العدل التي هي من صُلْب الإيمان القرآني. ويؤكد جودت سعيد أنه: ينبغي القولُ بأن الديموقراطيةَ أقربُ إلى الله ورسوله من حياة المسلمين اليوم – والديموقراطيةُ ورفضُ المستبدِّين لم يكتشفهما ولم يحققهما المسلمون؛ فالديموقراطية قد وضعتْها أممٌ أخرى[31]. وعندما التقيتُ بجودت سعيد في تموز 2008 في منزله في ريف دمشق قال لي أنه ممتنٌّ جدًا للديموقراطيات الأوروبية لإلغائها حكمَ الإعدام. مع ذلك، فإن هذا الحكم مذكورٌ صراحةً في الفقه الإسلامي. يرى أن الشريعة التي هي قانون الله تتطلَّب العدلَ للجميع، أيْ إنصافَ الجميع، مؤْمنين وغيرِ مؤْمنين. وفيما يخصُّ أحكامَ الشريعة المتناقضة أحيانًا في القرآن، لا يتردد جودت سعيد في التأكيد بأنه: ينبغي على الشريعة أن تتطور نحو الأفضل، نحو الأنسب. ينبغي على الأنفع أن ينسخ الأقلَّ نفعًا[32]. وهنا يتخذ المفكر السوري موقفًا واضحًا في الجدل الحاسم بشأن معرفة ما هي الآيات الناسخة وما هي الآيات المنسوخة. فلا يأخذ بالمذهب السُّنِّي القائلِ بأن الآياتِ الأحدثَ تاريخيًا تنسخ الآياتِ الأقدم، ولكنه يدافع عن فكرة أن الآيات التي تتوافق أكثر مع متطلَّبات العدالة تنسخ الآيات التي تنسجم معها أقلّ. عندما سئل جودت سعيد إنْ كان يرفضُ، برفضِه العنفَ وإيصائه باللاعنف، أنْ يطعنَ بـ الجهاد المسلَّح الذي يُعَدُّ عمومًا أمرًا إلهيًا وإنْ كان يرفض دعوة المسلمين إلى معصية الله ورسوله وكتابه، أجاب: هل تعتقد أنه إذا قررنا أنه لا بد من نسخ الرق وجميع أحكامه يكون ذلك إلغاءً للأوامر المُنْزَلة في كتاب الله[33]؟ ويسأل بدهاء مستشهدًا بالآية 60 من سورة الأنفال والتي تأمر المسلمين بـ "إعداد الخيل" لإرهاب عدوِّ الله: إذا قال أحدهم أنَّ إعدادَ الخيل للجهاد أمرٌ يتعلق بالماضي ولا يمكن اعتبارُه في أيامنا هذه قوةً لمحاربة العدوِّ، أيكون مِثلُ هذا التفكير تحديًا لله ولكتابه[34]؟ ولا يفتأ جودت سعيد يقول بأنَّ على كل جيل، مستفيدًا من دروس التاريخ، اكتشافَ آفاق جديدة تتجاوز الحقيقة التي أدركتْها الأجيالُ السابقة. وعلى الأجيال القادمة مواصلةُ هذا البحث عن الحقيقة الذي لا ينتهي أبدًا. ويرى أنَّ من الخطأ قراءةَ القرآن كتعبير نهائي عن الحقيقة، تعبيرٍ جامد نهائيًا. فالقرآن نفسُه يدعو البشرَ ليكونوا حالِّينَ مُرتحلين. يثق جودت سعيد بتطور البشرية: "نحن، بصورة مجازية، ذريةُ ابنِ آدمَ القاتلِ، ولكننا نبدأ بسلوك طريق الابن الآخر." إنَّ مثالَ "الذين قُتِلوا لأجل أفكارهم كابنِ آدمَ وسقراطَ والمسيحِ وغاندي" قد بدأ ينير الضمائر. في المحصلة، يريد جودت سعيد أن يؤْمنَ بأنَّ "دمَ ابنِ آدم لم يُهرَقْ سُدى[35]". ترجمة: محمد علي عبد الجليل *** *** *** [1] جودت سعيد، الدين والقانون والمنهج النبوي للتغيير الاجتماعي، www.jawdatsaid.net. [3] أجوبة على أسئلة عبد الجبار الرفاعي رئيس تحرير المجلة الإيرانية Curent Islamic Issues، www.jawdatsaid.net [4] إجابات على أسئلة عبد الجبار الرفاعي، رئيس تحرير صحيفة مسائل إسلامية راهنة الإيرانية، www.jawdatsaid.net. [5] جودت سعيد، الدين والقانون والمنهج النبوي للتغيير الاجتماعي، سبق ذكره. [6] جودت سعيد يُعرِّف بنفسه. [7] جودت سعيد، الدين والقانون والمنهج النبوي للتغيير الاجتماعي، سبق ذكره. [8] المرجع المذكور. [9] المرجع المذكور. [10] المرجع المذكور. [11] المرجع المذكور. [12] المرجع المذكور. [13] المرجع المذكور. [14] المرجع المذكور. [15] جودت سعيد يُعرِّف بنفسه، سبق ذكره. [16] جودت سعيد، الدين والقانون والمنهج النبوي للتغيير الاجتماعي، سبق ذكره. [17] جودت سعيد يُعرِّف بنفسه، سبق ذكره. [18] المرجع المذكور. [19] المرجع المذكور. [20] المرجع المذكور. [21] المرجع المذكور. [22] المرجع المذكور. [23] المرجع المذكور. [24] إيتيَن دو لا بويتي، مقالة في العبودية الطوعية، باريس، ﭙـايو، 1978، ص 174 – 175. [25] المرجع المذكور، ص 183. [26] جودت سعيد يُعرِّف بنفسه، سبق ذكره. [27] المرجع المذكور. [28] المرجع المذكور. [29] المرجع المذكور. [30] المرجع المذكور. [31] المرجع المذكور. [32] المرجع المذكور. [33] المرجع المذكور. [34] المرجع المذكور. [35] جودت سعيد، الدين والقانون والمنهج النبوي للتغيير الاجتماعي، سبق ذكره.
|
|
|