من أجل حوار صادق ومفيد[1]

 

أكرم أنطاكي

 

الردّ على الوحشية بوحشية إقرارٌ بإفلاسنا الأخلاقي والفكري، ويمكن لهذا أن يكون بداية حلقة مفرغة...
(الماهاتما غاندي، هاريجان، 1-6-1947، ص174)

لدي قناعة مطلقة بأنّ أي دين ليس بوسعه الاستمرار عن طريق القوة الغاشمة. بل بالعكس، من يرفع السيف بالسيف يُقتل.
(الماهاتما غاندي، هاريجان، 9-3-1934، الصفحة 29)

 

أخي وصديقي إدريس

لأنك، ورغم كل الخلاف الواضح والصريح بيننا، ستبقى ذلك الإنسان الصادق الذي أكنّ له كل المودة والاحترام. والذي، لهذا السبب تحديدًا، ومن أجل فتح الباب لنقاش هادىء حول الكثير من القضايا التي ما زالت إشكاليةً في مجتمعاتنا، نشرت معابر على صفحاتها ردك على مقالة أكرم أنطاكي التي عبرتْ، تحديدًا من خلال موقفها الداعي إلى السلام، عن موقف هذا الموقع المتواضع[2].

والخلاف بيننا قد يبدو عميقًا لأول وهلة يا صديقي. وهذا واقع قائم. لكن هذا الخلاف بوسعه أن يتغير حين نهدأ ونتجاوز منطق الغضب ونتفكر بمسؤولية وإنسانية. لأنه خلاف طبيعي مرده ربما الفهم المختلف لكل منا للواقع المحيط، وخاصةً، نعم خاصةً، فهم كل منّا لدينه ولدين الآخرين. كتلك المسيحية التي (من جانبك، ومن منظورك) تقع في خطأ تفسيرها على هواك. كما تقع من نفس المنطلق في خطأ التناول المجتزأ لمفاهيم وقيم إنسانية خالدة يفترض أن تجمعنا كالعدالة والإنسانية واللاعنف.

وأجدني في هذا السياق أمام موقفين: الأول، وهو الأسهل والسائد في بلادنا ومجتمعاتنا، ويدعوني لقفل باب النقاش بعد الرد على ما كتبته بشكل قطعي وصارم. والثاني الذي، من منطلق احترامي ومحبتي لك ولما تمثله، يدعوني، مع التمسك بموقفي الإنساني واللاعنفي والمسيحي معًا، إلى السعي الدائم لإيجاد نقاط تلاق في محاولة لوضع أسسٍ للحوار بيننا كبشر، وبغض النظر عن دياناتنا، مسلمين كنّا أو مسيحيين أو يهود.

وأجدني أعود، أول ما أعود هنا، إلى مقالة صديقٍ ومعلمٍ روحاني كبير، وهو أيضًا مسلم مثلك، لكنه متصوف وأكثر روحانية منك بكثير. مقالة سبق أن نُشرت على صفحات معابر بعنوان بعض المنطلقات من أجل حوار إسلامي مسيحي[3]، التي أرجو أن تعود إليها فتقرأها جيدًا وتتمعن بها قبل أن تفكر بكل اندفاع مخلص لأن تجيبني، وذلك حتى لا تعود فتخطىء مرة أخرى، فتتعدى بشكل غير مقصود، من خلال طرحك لمنظورك الخاص، على دين الآخر الذي يؤسفني أن أقول إنك لم تفهمه بعد. فتقرر مثلاً وبمنتهى الخفة أن "... المسيح عليه السلام فشل في مهمته أمام الصهاينة لأنه كان سابقاً لزمانه، فكان لهم محمد صلى الله عليه وسلم بالمرصاد ليتمم معركته وفريضته..." وهذا خطأ إن تكرر سيجعل الحوار بيننا مستحيلاً ويمنع استمراره. مذكرًا إياك يا صديقي بأن الصهيونية هي حركة قومية يهودية ووليدة القرن التاسع عشر للميلاد، ما يعني أنها لم تكن موجودة أيام السيد المسيح، ما يعني أنك تقصد بتعبيرك هذا اليهود، وهنا أعارضك من حيث المبدأ لأني مقتنع بأن أجمل المواقف المشرِّفة للمسلمين، على مرّ تاريخهم وحتى نشوء دولة إسرائيل، هو أن الإسلام كان، في الديار التي ساد فيها، حاميًا لليهود الذين كان يضطهدهم الحكام المسيحيون في ديارهم.

لأنك مخطىء جدًا في فهمك للمسيحية، ومن منظوري في فهمك حتى لدينك، حين تفسرها كما جاء في مقالتك. فأنا مسيحي، نعم يا صديقي، هكذا ولدت. ومسيحي مشرقي تحديدًا وبكل فخر، بمعنى أني من سلالة أولئك الذين سبقوا الإسلام إلى هذه الديار بـ 650 سنة، هذه البلاد التي سبقنا كلانا إليها اليهود قبل أكثر من ألف سنة على ذلك التاريخ. مسيحي، ويشاركك في الشق الأول من شهادتك الذي يقول أن "لا إله إلاّ الله" ولا يشاركك تحديدًا في شقها الثاني الذي يميزك عنّي، لأني لو كنت أشاركك به لكنت من شريعتك. وهذا موقف سبق لي أن شرحته بوضوح في مقالتي المنشورة على صفحات معابر بعنوان حول جذونا الإسلامية 1[4]. وهذا موقف كان سباقًا إلى فهمه بشكل جيد مسلم وإنساني وشهيد كبير أجلّه، ألا وهو الأستاذ الشيخ محمود محمد طه، الذي أرجو أن تراجع كتابه الرسالة الثانية في الإسلام، الذي نعيد نشره حاليًا على صفحات معابر.

أنا مسيحي نعم، وأؤمن تمامًا بما قاله ذلك الإنسان - الإله في خطبة الجبل[5]:

سمعتم أنه قيل العين بالعين والسن بالسن. أما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشرير بل من لطمك على خدك الأيمن فحوِّل له الآخر. ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فخلِّ له رداءك أيضًا. ومن سخَّرك ميلاً فامش معه اثنين. من سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا تمنعه.

قد سمعتم أنه قيل أحبب قريبك وابغض عدوك. أما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم واحسنوا إلى من يبغضكم. وصلُّوا من أجل من يعذبكم ويضطهدكم، لتكونوا بني أبيكم الذي في السموات. لأنه يُطلِع شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين. لأنكم إن أحببتم من يحبكم فأي أجر لكم؟ أليس العشَّارون يفعلون ذلك؟ وإن سلَّمتم على أخوتكم فقط فأي فضل عملتم؟ أليس الوثنيون يفعلون ذلك؟ فكونوا كاملين كما أباكم في السماء هو كامل.

أؤمن به لإني إنسان، وهذا ما يجعلني أركع أمام ذلك "الإنسان" الذي فدى الإنسانية الخاطئة من على صليبه، وطلب من أبيه المغفرة لأولئك الذين صلبوه لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون، ذلك الذي صلب بين خاطئين من بني الإنسان - وليس بين صعلوكين كما تفضلت بكل تعالٍ - فأهدى أحدهما وفق الرواية الإنجيلية؛ مجرد إنسان يؤكد لك، يا أخي إدريس، أن دينه الذي هو ليس - ولن يكون - موضوع نقاش مع أحد، إنما يشكل فقط بعضًا من قناعته اللاعنفية، التي ليس منطلقها دينيٌ فقط، إنما أيضًا، وخاصةً، إنساني.

فالرجاء يا أخي، ونحن هنا - كما يفترض - لنتناقش في مقالة كتبتُها وتتحدث حول ما حدث ويحدث في غزّة، ومن خلالها حول بعض أوجه القضية الفلسطينية، (الرجاء) أن لا تناقشني من منطلق فهمك الخاص للمسيحية. وذلك للأسباب التالية:

       إن قضية فلسطين ليست قضية دينية ولا قضية صراع أديان، وأقصد هنا، بشكل خاص وتحديدًا، ليست قضية صراع إسلامي يهودي، ولا يجوز تناولها من هذا المنطلق الذي إن اتبعته تسيء أول ما تسيء إلى دينك العظيم. لأن هذا المنطق هو، من منظوري، الوجه الآخر للمنطلق الآخر الذي يعتبر أن هذه الأرض "أرض ميعاد" وعد الله بها في التوراة بني إسرائيل.
لأن قضية فلسطين هي أولاً وآخرًا قضية سياسية وإنسانية. واللاعنفي يجب أن يسعى إلى حلِّها، بالتي هي أحسن.

       كما أنها ليست قضية حقٍّ مطلق يواجه باطلاً مطلق، بمعنى قضية عدالة مطلقة تواجه ظلمًا مطلقًا. حيث لا مطلق في عالمنا الأرضي هذا، كما تعلم جيدًا يا أخي إدريس.

إنما هي قضية أكثر تعقيدًا بكثير، قضية يتحمل مسؤوليتها بالدرجة الأولى العالم المسيحي (إن صحت تسميته كذلك) وعلى مر العصور، كما يتحمل مسؤوليتها غلاة اليهودية الذين أساؤوا فهم دينهم فحولوه من دين إنساني عظيم إلى مجرد قومية تافهة، كما يتحمل مسؤوليتها أيضًا العرب والمسلمون الذين لم يعرفوا بمعظمهم، وإلى الآن، كيفية التعامل معها (ولا مع أنفسهم) بشكل حضاري وإنساني ولاعنفي حقيقي.

قلت العرب والمسلمون بمعظمهم يا أخي إدريس، وأنا أعني ما أقول. لأني، وفي هذه المناسبة تحديدًا، أتفكر أيضًا، ومرة أخرى، بموقف كبير لمسلم كبير وحقيقي ليس من الأكثرية، ألا وهو الشيخ الشهيد محمود محمد طه الذي

... وفى قمة فوران المد القومى العربى الذى قاده الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ، (دعا) الى الصلح مع اسرائيل على أساس الاعتراف المتبادل، وحل قضية فلسطين عبر التفاوض! مذكرًا العرب بأن قضيتهم ليست اسرائيل، وإنما هى اقامتهم على قشور من الدين وقشور من حضارة الغرب، مما جلب عليهم الخسران المبين...

راجع بهذا الخصوص، موقع محمود محمد طه وأنصاره، الموجود على صفحات الإنترنت[6]، كما راجع أيضًا وخاصةً بهذا الخصوص كتابه مشكلة الشرق الأوسط، تحليل سياسي، إستقراء تاريخي وحل علمي الذي بوسعك تحميله من نفس هذا الموقع، كما من المكتبة الإلكترونية لمعابر. ونحن في معابر (عمومًا) إنما نستلهم من مثال هذا الإنسان واللاعنفي المسلم الكبير. فاقرأ يا أخي، أرجوك أن تقرأ وبتمعن، لأن دينك وكتابك يدعوانك قبل كل شيء لأن تقرأ، وحين تقرأ يا صديق ستهدأ وتتفكر وتغفر لأن من يفهم كلّ شيء، يغفر كل شيء.

وأصل هنا في نهاية رسالتي إليك، إلى هذه النقطة الأساسية التي لم أجد سواها حين أستبعد التفاصيل. هذه النقطة التي تشكل جوهر ردك على مقالتي، وتقول بأن اللاعنفيين المسيحيين عمومًا، والغربيين تحديدًا، إنما يناصرون فريضة السلام...  على حساب فريضة العدالة، لأقول إنك مخطىء جدًا في فهمك هذا مع الأسف. لأن الأصح من منظوري المتواضع أن تتمعن قليلاً في تعريف آخر وأصح يقول بأن اللاعنفي الحقيقي هو ذلك الذي يسعى إلى العدالة في هذا العالم، بالتي هي أحسن، أي عن طريق اللاعنف والمحبة والسعي إلى تحقيق السلام بين البشر. من هذا المنطلق، بوسعك أن تنظر بشكل أكثر إيجابيةً إلى موقفي ومواقف معابر بهذا الخصوص. مؤكدًا على بديهية تقول إنه ليس هناك مع الأسف عدالة مطلقة في عالمنا يا سيدي، ومنذ أيام قايين (إن وجد). لأن أول لصٍّ في التاريخ هو من تملك أول قطعة أرض وقال إن هذه الأرض لي، كما قال محقًا ذات يوم الفيلسوف الفرنسي العظيم جان جاك روسو. نعم ليس هناك عدالة مطلقة في عالمنا، إنما هناك سعي وارتقاء إنساني مستمر نحو العدالة[7]، وذلك من خلال التآخي والمحبة الذان يشكلان جوهر دعوة جميع الديانات (بما فيها الإسلام واليهودية). ومن خلال هذا علينا أن نسعى جميعنا لتجنب العنف أولاً وثانيًا، وقدر المستطاع متخذين من أجمل مثال أرضي في هذا السياق، قدوة لنا، هذا المثال الإنساني الذي قدّمه نبي المسلمين محمد ويتحدث عن النصر الذي حققه لعقيدته وفي زمانه حين وقّع على صلح الحديبية مع "أعدائه"، ثم اعتبر حين دخوله مكة أن كل من يدخل إلى بيت أبي سفيان آمنًا.

وللحديث صلة إن شئت.
محبتي وسلامي

*** *** ***


 

horizontal rule

[1]  هذه المقالة هي ردّ أكرم أنطاكي على مقالة إدريس مهدي، المنشورة على صفحات معابر على الرابط: http://www.maaber.org/issue_february09/non_violence1.htm

[2]  بالطبع توجد تباينات في آراء القائمين على الموقع إلا أنها جميعها تنطلق أساسًا من الدعوة إلى السلام والمقاومة اللاعنفية قلبًا وقالبًا.

[5]  إنجيل متى، فصل 5-7

[7]  راجع بهذا الخصوص لصاحب العلاقة، افتتاحية معابر بعنوان: في الإنسان والمدينة 1 – محاولة للنفكر في واجب أسميناه عدالة: http://www.maaber.org/issue_january05/editorial.htm

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود