|
اللاعنف والمقاومةNonviolence and resistance
قرأت لتوِّي ببالغ الانتباه النصوص التي
تقدِّم حملة التعبئة تضامنًا مع الشعب
الفلسطيني والتي أقرَّها "منتدى المنظمات
غير الحكومية الفرنسية من أجل فلسطين"[2] – حملةً المزمع أن تتسنَّم ذروتَها في
تجمُّع كبير سوف ينعقد في 17 أيار 2008 في حديقة
المعارض ببوابة ڤرساي. وفي حواري الودي مع
هذه المنظمات، أود أن أحاول التعبير عن ماهية
تحليلي للوضع الحالي في الشرق الأدنى.
لا
يسوغ التعريفُ عن فضيلة
إلا بالاقتراب من أصحابها. وهذا يصح بالدرجة
الأولى على الوداعة لأنها ليست من الأرض
الفاجرة المليئة، منذ قايين، بروح العنف
وإقصاء الآخر. القاعدة أن سواي الذي ينافسني
يجب أن يموت. لكن الموت هو الوسيلة القصوى
التي دونها مخاطر كثيرة وعدم ألفة مع الدم
وخشية الثأر في المجتمعات القديمة أو السجن
أو الإعدام. القتل يحتاج إلى بهيمية كبيرة
لطَّفَها المجتمعُ وإلى تفعيلٍ للبغض قلَّما
نملك ثمنَه. غير أن الفظاظة إذا لم تصل بنا إلى
الذبح نعيشها في القلب على الكثافة
نفسها، فإذا بنا قتلة بلا سلاح!
ع.، يا صديقي اللاعنفي، باقي الأصدقاء والصديقات في باقي العالم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد، فنحن نرى أن المقاومة اللاعنفية لا تستمد «شرعيتها» من النصوص المقدسة وغير المقدسة من نصوص الفقهاء والفلاسفة وخبراء القانون الدولي، مثلاً، ولا حتى من الضرورة الملحَّة، لكنها شرعية ذاتية، تستمد قوَّتها من الداخل، من شرعية آلية العمل ذاته، وتكمن بالذات في لاعنف المقاومة بصفتها وسيلة شرعية تبتغي الوصول إلى هدف شرعي. في المقابل، فإن المقاومة العنفية لا تفقد شرعيتها بفعل قوة النصوص الدينية والنصوص الأخلاقية بقدر ما تفقدها من جراء لاشرعية أسلوب العمل ذاته، من جراء لاشرعية ذاتية، هزيلة من الداخل، تتجلَّى حصرًا في لاشرعية المقاومة العنفية كوسيلة غير شرعية تهدف إلى نيل غاية شرعية.
كان ديڤيد شتايندل راست طفلاً بعدُ
حين جاء النازيون محتلِّين النمسا، ولقد شهد
الغاراتِ الجويةَ اليومية. كانت صفَّارات
الإنذار عادةً ما تنبِّه السكانَ لكي يتاح
لهم ما يكفي من الوقت لإيجاد ملجأ لهم قبل
بداية القصف؛ أمَّا في ذلك اليوم فقد دوَّت
صفارات الإنذار في اللحظة نفسها تمامًا التي
كانت فيها القنابل قد بدأت تمطر مدينة
ڤيينا الجميلة بوابلها. هرع ديڤيد الشاب
إلى أقرب المباني – وكان كنيسة – واختبأ تحت
أحد المقاعد ووجهُه بين يديه. كانت السماء في
الخارج ترسل بروقًا من الرعب، فيما الأرض
تهتز مكسِّرةً زجاج النوافذ وناثرةً الحطام
في كلِّ مكان من حوله. كان ديڤيد يلقي نظرةً
إلى ما فوقه بين الفينة والأخرى، راجيًا أن
يصمدَ سقفُ الكنيسة المقبَّب حتَّى نهاية
القصف. بعد نحو ساعة، كانت صفرةٌ مطوَّلةٌ
لصفارة الإنذار تعلن نهاية القصف. حين خرج ديڤيد من الكنيسة في ذاك
النهار الجميل من شهر نوَّار، كان طافحًا
بالفرح، يتملَّكه الدَّهش من كونه مازال على
قيد الحياة. كان معظم الأبنية، التي سبق لها
أن صمدت حتَّى ذلك الوقت، قد تداعت إلى خرائب
تطلق الدخان. إذ ذاك استقرت عينا ديڤيد على
مربع صغير من العشب الأخضر وسط الأنقاض
تمامًا. وقد قال لاحقًا: "كان الأمر كما لو
أن صديقًا يقدِّم لي زمردةً في راحة يده. لم
يسبق لي أن رأيت خضرةً مدهشةً كهذه، ولم
يتسنَّ لي أبدًا أن أرى مثلها فيما بعد." * * *
1. مقدمة: تنامى العنفُ في الآونة الأخيرة في حضارة "اِقرأ" تناميًا ملفتًا للانتباه، ولجأ النهجُ "النضالي" إلى عسكرة وسائل المعارضة، وتحولتْ قوى الممانعة إلى ميليشيات تمارس البلطجة و"التطهير العرقي"، واعتمدت الدولُ الرسمية الحلَّ "الأمني" الأقصى في التعامل مع المعارضات الديموقراطية والاحتجاجات الاجتماعية، واندلعت حمَّى المذهبية والحزبية والتقاتل الأهلي والتحارب الطائفي. وقد نجم عن ذلك كلِّه فتكٌ بالأرواح البريئة، وإزهاقٌ للأنفُس المحايدة، واعتداءٌ على أبسط حقوق الإنسان الأساسية، وتعطيلٌ لعملية النهوض والتنمية، وتسريعٌ لقابلية الاستعمار ونسق التدخل الأجنبي في السيادة الوطنية.
|
|
|