|
الـرقَّـــة لا
يسوغ التعريفُ عن فضيلة
إلا بالاقتراب من أصحابها. وهذا يصح بالدرجة
الأولى على الوداعة لأنها ليست من الأرض
الفاجرة المليئة، منذ قايين، بروح العنف
وإقصاء الآخر. القاعدة أن سواي الذي ينافسني
يجب أن يموت. لكن الموت هو الوسيلة القصوى
التي دونها مخاطر كثيرة وعدم ألفة مع الدم
وخشية الثأر في المجتمعات القديمة أو السجن
أو الإعدام. القتل يحتاج إلى بهيمية كبيرة
لطَّفَها المجتمعُ وإلى تفعيلٍ للبغض قلَّما
نملك ثمنَه. غير أن الفظاظة إذا لم تصل بنا إلى
الذبح نعيشها في القلب على الكثافة
نفسها، فإذا بنا قتلة بلا سلاح! القاعدة
التاريخية أن القبيلة الأخرى ليس لها كيان
لأنها ليست قبيلتي. إنها مرشحة للإبسال،
للقطع من أرض الأحياء! ليس المهم أن أبيدها،
ولكن المهم أن أصرف وجهي عنها فتموت، لأن وجهي
هو المعطي الحياة. الإرهاب ما هو إلا تفعيل
للرفض القائمة عليه الجماعة، ولو ادَّعت
المؤانسة. كل جماعة، مهما عظم إيمانُها،
تُغريها القبلية، فتخلط بين عزَّتها وعزَّة
الحقيقة، وتُضخِّم أخطاءَ الغير وتقبِّح
مواقفه وتجمِّل موقعَها وما قالت وما كتبت،
وتسخِّر الفلسفةَ والعلمَ وتزوِّر التاريخَ
لإعلاء شأنها، ولا تعتذر عن قباحة إذا علَّت
الله على جمعها، وتحسب التجمع قوة، وتجعل
نفسها "ضحية" ليقوى عنفُها – كل ذلك لأن
قايين يقتل هابيل من البداءة إلى المنتهى
ليمتلك الأرض. وكلَّما
ضعفتْ الجماعةُ وتقوقعتْ تتربصُ الدهورَ
لتتاح لها فرصةُ الانتقام، وتتغذى من بغضائها
جيلاً بعد جيل، وتعلِّم ناسها الحربَ عن طريق
الخدعة والتمول والعلم، تستقوي بها جميعًا،
ليس حبًّا بالبقاء الخيِّر وطيب العطاء، ولكن
لتتعزَّى بدونية الغير، فتنتفخ على قلَّتها
احتسابًا لسيطرة تجيئها، حتى إذا جاءت،
تستكبر وتلغي الآخرين من الفكر. فإذا ظنَّت
نفسها كبش محرقة، تبكي وتستعطف لتربح
دنيويًّا من شفقة الغير، فتعود عليه
مُذِلَّةً له بالفكر لتعذُّر إذلاله بالفعل
التاريخي. وما
صحَّ في العشائر يصح في الفرد: فإن كلَّ امرئ
قبيلة، وعائلته قبيلة، وفرع العائلة هو أيضًا
كذلك. شحنة بُغض أو ازدراء أو سخرية أو خصومة
مبينة، فإذا بالآخرين أجساد بلا معنى، لا
كيانات إنسانية حلوة. ذلك أن الشراكة
الإنسانية مأثرة نادرة لا يؤتاها الناسُ
إلا مِنْ ربِّهم. فالله وحده مميتٌ فرديةَ
الأنا الفظَّة، به وحده ندرك التواصل، فإذا
نحن في سرِّ حضرة الله فينا. كل مجتمعٍ منغلقٌ
حتى يخترقه الله بالكلمة. وكل فرد منغلق حتى
يتخذه ربُّه بالرحمانية الواسعة. ناس من تراب
وناس من ضياء، وليس بينهم جامع. فالمجتمع
الإلهي ليس منظورًا. ربه يعرفه في اختياره
إياه. وهو قائم في عينيه. وهذا هو ملكوت الله. * * * من
الملكوتيين الكبار
الوُدعاءُ. هذا معنى قوله في الكتاب إنهم
"يرثون الأرض" (متى 5: 4). إن انجذاب الله
إلى الودعاء نراه في المزامير وغيره من أسفار
العهد القديم: الرب "يزيِّن الودعاء بخلاصه"
(مزمور 149: 4). إن
سياق النصوص يجعل كلمة "وُدعاء" مرادفة
لكلمة "متواضعين" (أو "وضعاء"
بالترجمة اليسوعية الأخيرة). ولعل ذلك كان
حاضرًا في ذهن السيد لما قال: "تعلَّموا
منِّي، إنِّي وديع ومتواضع القلب" (متى 11: 29)،
بحيث إن الوديع كان بالضرورة متواضعًا
والمتواضع وديعًا. غير أن الوداعة مفهوم أقرب
إلى اللطف. وفي هذا يقول بولس: "أما ثمر
الروح فهو المحبة والفرح والسلام والصبر
واللطف" (غلاطية 5: 22) إلى آخر الكلام.
واللافت في القرآن أن "اللطيف" اسم من
أسماء الله. وتصير هذه الصفة عند بولس صفةً
للإنسان، ولكنه يستمدها من ربِّه. واللطف
يقال له عند العرب أيضًا الرقة. وهي من
أجمل الخصال لكونها، أولاً، اجتنابًا لكلِّ
ما يجرح الآخر، وهي، ثانيًا، انعطاف عليه
بحيث لا يبقى نتوء بينك وبين الآخر، إذ تتخذه
في نفسك، أيًّا كانت ذنوبُه، وترحمه ولا تدين.
فإذا ارتاح إليك يستريح في الرب. لكن
كلَّ فضيلة ممكن تشويهها لاختلاطها بسيِّئة.
فقد يخامر الرقةَ التميعُ إذا تركتَ الآخر
على ما فيه من ضعف ولم تحاولْ إصلاحه. إذ خوف
اللطيف ألاَّ يصدم الآخر خشية تنفيره وخشية
القسوة في مَن لطف. والقسوة ظلمٌ يخرج به مَن
تُعامله عن طوره لإحساسه بأنه اضطُّهِدَ أو
قُمِع. فكيف ترقُّ ولا تميع؟ الجواب في أن
الرقَّة أصلاً لا تنافي القوة. والفضيلة في أن
تجتمعا لأن الرقة والقوة واحد في الله. عن
المسيح قيل: "لن يخاصم ولن يصيح ولن يسمع
أحدٌ صوتَه في الساحات. القصبة المرضوضة لن
يكسرها والفتيلة المدخنة لن يطفئها..." (متى
12: 19-20). لا يخاصم الإنسانُ اللطيفُ بمعنى أنه لا
يعادي. إنه قد يختلف مع الآخرين في الرأي أو
الموقف، وهو في ذلك صريح، ولكنه يفرق بين
الرأي وصاحبه: فإذا رفض الأول لا يرفض قلبُه
الثاني. المحب لا يكون انفعاليًّا ولا يقيم
على الآخر خطيئتَه. الذي يلطف حتى النهاية لا
يصرخ لأن الصراخ تحمله شحنةُ كُرْه. المحب
يعالج المصاب بخطيئة. وهذا يتطلب رحمةً واسعة.
وإذا ارتفع الصوتُ إزاء الخاطئ لا يهدأ ويرى
أنه هو مكروه. العاصي يعصى ربَّه وأنت، طبيبًا
من عند الله، تلبس اللطف الإلهي لإصلاح مَن
وجب إصلاحُه. أنت لست بمؤدِّب: "فذكِّر إنما
أنت مذكِّرٌ، لستَ عليهم بمسيطر" (سورة
الغاشية 21-22). لا
يصيح اللطيفُ ولا يسمع أحدٌ صوتَه في الشوارع
وحديثُه أشبه بالهمس. وقد علَّمنا
ڤاسيليوس الكبير أنك تعطي صوتَك الحجمَ
الضروريَّ لإسماعه مخاطبَك، وماعدا ذلك
فصراخ. أنت تقدِّم فكرك تقديمًا، وتحاول
الحجة التي يبيحها المنطق. جميل
قول متى عن السيد: "القصبة المرضوضة لن
يكسرها". والصورة أن ولدًا قد يمر بسياج
يؤلِّفه القصبُ ويحلو له أن يضرب قصبةً
فتُرَض؛ فإذا مرَّ آخر قد يرغب في أن يُجهِزَ
عليها. هنا يريدنا الإنجيل ألا "نكسر"
رأس أحد في مشاحنة وألا نشتمه وألا نستكبر
عليه وأن نُعلي شأنه، أيًّا كان، وأن نحترم
أضعف مخلوق مثلما نحترم الأعظم، لأن كرامة
الله واحدة في الجميع، أخطأوا أم لم يخطئوا،
أحاطونا بعاطفتهم أم حاربونا أو تجاهلونا. * * * أذكر لقاءً
بين غاندي وبعض أتباعه قالوا فيه ما مفاده: إن
هذا الذي تحبه – يسوع الناصري – استعمل العنف
(وكانوا يشيرون إلى طرد يسوع التجار من الهيكل)،
فلماذا لا تبيح لنا العنف؟ أجابهم: "إذا
كنتم قادرين على وداعة يسوع لمَّا فعل هذا
فإنِّي أبيح لكم العنف!" الفكرة أن العنف،
جسديًّا كان أم في الكلام أم في التعامل، يسيء
أولاً إلى صاحبه قبل أن يسيء إلى الآخر. وهذا
هو السبب الرئيس الذي يجعلني أكره كلَّ ثورة
تقوم على الدم. إذ لا تستطيع أنت أن تقتل في
أيِّ ظرف ما لم تقتل نفسك روحيًّا. ما
أراده الناصري في قوله: "لا تقاوموا الشرير"
(متى 5: 39) هو أنك لا تردُّ أذًى يلحق بك بأذًى
تلحقه أنت بالآخر، ولا ترد ضربةً بضربة،
ماديةً كانت أم معنوية، لأنك إنْ فعلتَ
يستفحل الآخرُ في غيِّه ولا تشفيه. وأنت أمام
الشرِّ الذي يريده أحدٌ لك مجرَّد طبيب معالج.
المؤمن ليس عنده رد فعل على أحد أو في جدال.
عنده الفعل فقط. وفي هذا المنطق لا عجب في
قول السيد: "أحبوا أعداءكم وصلُّوا من أجل
مضطهديكم" (متى 5: 44). إذ أنت، أولاً، حسَّاسٌ
لكونِ مَن عاداك لا يريد خلاص نفسه، وأنت
منشغل بخلاصه، وليس بما أصابك منه. المسيح
لم يقل إنه ينبغي عليك ألا تأسف لما حصل أو لا
تُصدَم أو لا تُجرَح، ولكنه قال: إنك مدعو إلى
أن تتجاوز كبرياءك حتى يحيا الآخر بهذا
التجاوز ويعود إلى السلام. أنت لستَ قاضيًا
على أحد. وإذا أهانوك وانتقمتَ فمعنى ذلك أنك
طرف وقاضٍ معًا. من
هنا إنك لا تستطيع أن تستقيم داخليًّا وأن
تنقِّي الآخرين إلا بالرقة – هذه الحليمة
التي تصفح عن كلِّ شيء وتترفَّق "ولا تعرف
الحسد ولا العُجْب ولا الكبرياء، ولا تفعل
السوء ولا تسعى إلى منفعتها، ولا تحنق ولا
تبالي بما ينالها من السوء، ولا تفرح بالظلم،
بل تفرح بالحق. وهي تعذر كلَّ شيء وتصدِّق
كلَّ شيء وترجو كلَّ شيء وتصبر على كلِّ شيء"
(رسالة بولس الأولى إلى الكورنثيين 13: 4-7). من
الرقَّة ينشأ الكونُ الجديد الذي الله وحده
ربه إذا كان ربَّ القلوب. *** *** *** عن
النهار، السبت 12 كانون الثاني 2002 |
|
|