|
هـذه
الحـيـاة هـديَّـة! حوار
مع الأخ ديڤيد شتايندل راست كان ديڤيد شتايندل راست طفلاً بعدُ
حين جاء النازيون محتلِّين النمسا، ولقد شهد
الغاراتِ الجويةَ اليومية. كانت صفَّارات
الإنذار عادةً ما تنبِّه السكانَ لكي يتاح
لهم ما يكفي من الوقت لإيجاد ملجأ لهم قبل
بداية القصف؛ أمَّا في ذلك اليوم فقد دوَّت
صفارات الإنذار في اللحظة نفسها تمامًا التي
كانت فيها القنابل قد بدأت تمطر مدينة
ڤيينا الجميلة بوابلها. هرع ديڤيد الشاب
إلى أقرب المباني – وكان كنيسة – واختبأ تحت
أحد المقاعد ووجهُه بين يديه. كانت السماء في
الخارج ترسل بروقًا من الرعب، فيما الأرض
تهتز مكسِّرةً زجاج النوافذ وناثرةً الحطام
في كلِّ مكان من حوله. كان ديڤيد يلقي نظرةً
إلى ما فوقه بين الفينة والأخرى، راجيًا أن
يصمدَ سقفُ الكنيسة المقبَّب حتَّى نهاية
القصف. بعد نحو ساعة، كانت صفرةٌ مطوَّلةٌ
لصفارة الإنذار تعلن نهاية القصف. حين خرج ديڤيد من الكنيسة في ذاك
النهار الجميل من شهر نوَّار، كان طافحًا
بالفرح، يتملَّكه الدَّهش من كونه مازال على
قيد الحياة. كان معظم الأبنية، التي سبق لها
أن صمدت حتَّى ذلك الوقت، قد تداعت إلى خرائب
تطلق الدخان. إذ ذاك استقرت عينا ديڤيد على
مربع صغير من العشب الأخضر وسط الأنقاض
تمامًا. وقد قال لاحقًا: "كان الأمر كما لو
أن صديقًا يقدِّم لي زمردةً في راحة يده. لم
يسبق لي أن رأيت خضرةً مدهشةً كهذه، ولم
يتسنَّ لي أبدًا أن أرى مثلها فيما بعد." *
* * وُلد ديڤيد
شتايندل راست في ڤيينا، النمسا، في 12 تموز
1926، وأمضى طفولته في قرية صغيرة من قرى جبال
الألپ غير بعيدة عن العاصمة. ولما كان والداه
قد تخالعا في وقت مبكر فقد عاش مع والدته
وشقيقيه الصغيرين. اختلف إلى مدرسة القرية
الابتدائية التي لم تكن تشمل غير صفَّين،
وكان يذهب للتزلج في جبال الألپ شتاءً. احتفظ ديڤيد من
طفولته في الريف النمساوي بذكرى ومشهد
الأعياد الدينية الرائعة. كان جميع الأهالي
تقريبًا من الكاثوليك المتديِّنين، وكان
يتملَّكه الانطباعُ بالعبور "من عيد
دينيٍّ لآخر". كان الدين حينذاك لا يزال
يشكِّل جزءًا من نسيج المجتمع بحيث إن "المقدس
والثقافي والطبيعة ما كانوا غير واحد"،
بحسب ديڤيد شتايندل راست. من أجل دراسته
الثانوية، صار ديڤيد نزيلاً داخليًّا مدة
سنتين في مدرسة كاثوليكية متدرِّجة في
ڤيينا. وعندما وصل النازيون في العام 1938،
نقلت والدتُه سكنَها، مع ولديها الأصغرين،
إلى ڤيينا كي تكون أقرب إلى ولدها البكر.
أما المدرسة فكانت بؤرةً لمعارضة الاحتلال
النازي، وإنْ كانت أعمال التحدي الوحيدة التي
كان يحلم بها المراهقون عبارة، على سبيل
المثال، عن التخييم في مجموعات صغيرة على
الرغم من الحظر. تمرَّد الفتيان أيضًا على
السلطة التي أقامها النازيون بتديُّنهم
العميق في سنٍّ يُفترَض فيها طبيعيًّا أن
يتمردوا على دينهم. كانت والدة ديڤيد
تشجِّع نشاطاتِ ابنها السرِّية، موقظةً بذلك
ريبةَ الغشتاپو [المخابرات النازية] التي جاء
عناصرُها أكثر من مرة مستجوبين. كانت فترة ما
قبل المراهقة تلك، على الرغم من الحرب، وعلى
الرغم من الاحتلال النازي والخوف الملازم،
فترةً مسلِّيةً لديڤيد الذي يفسِّر الأمر
بأن "الأطفال لا يفكِّرون أبدًا في الخوف"
في هذه السن. لكن ديڤيد تحقَّق مع مرور
السنين أن رفاقه الأكبر منه، وبينهم عددٌ من
الأصدقاء الذين ترعرع في كنَفهم، قد أُرسِلوا
إلى الحرب وقُتِلوا في ميادين القتال. "في
غضون ستة أشهر كان نصفهم قد مات"، كما كتب
في وقت لاحق. وبدأ ديڤيد ورفاقه بقبول فكرة
موت مبكِّر كأمر لا مفرَّ منه: "لم نكن نحسب
أننا سنعيش أكثر من عمر الثلاثين." استُنفِرَ شتايندل
راست للخدمة في الجيش النازي، بيد أنه "بفضل
من ملاكه الحارس، لم يُرسَل إلى الجبهة قط".
ولم تمضِ سنة حتَّى خلع بزَّته العسكرية
ليصبح فارًّا. أمَّا والدته فقد خبَّأته
عندها حتى نهاية الحرب ومجيء الروس إلى
ڤيينا. لقد نفد الطعام عمليًّا آنذاك.
ويتذكر شتايندل راست أنه كان يقتات بالطحالب
التي كانت تنمو في الربيع على الأطلال
المغبرَّة للمنازل المدمَّرة وبالحمِّص
المسوِّس الذي جلبه الروس. اهتمَّ شتايندل
راست في أول الأمر لإقامة مخيَّمات
للاَّجئين، ثم لتنظيف أنقاض الجامعة. وهو
يتذكر ضاحكًا: "كان ينبغي تجريف الردم طوال
ساعات قبل التمكن من التسجيل." في تلك الفترة، أهداه
صديقٌ له "نظام" القديس بنديكتوس [مبارك]،
ذلك القديس الإيطالي الذي عاش في القرن
السادس ويُعَدُّ أبا الرهبانية الغربية. ففي
العام 520 الميلادي، حرَّر القديس بنديكتوس
نظامًا جديدًا لحياة الرهبان والراهبات،
أكثر مرونة من القواعد المعمول بها، وإنْ كان
يشدِّد على التواضع، والبحث الدائب عن الله،
والتخلِّي عن طلب النَّفْس، والصلاة،
والدراسة، والعمل اليدوي، و"الاستقرار في
الجماعة"، أو ما صرنا نسمِّيه اليوم بـ"الإخلاص
لمكان". ولقد افتُتن ديڤيد بالأفكار
المعروضة في هذا النظام. وإذ كان يتخيَّل أنه
قاب قوسين من الموت، فقد حدَّث نفسه بأن
الحياة الرهبانية، كما عرضها القديس
بنديكتوس، هي الحياة التي يود أن يحياها. بيد
أنه استبعد هذه الرؤية، كونه لا يعرف ديرًا
يُمارَس فيه هذا النظام. إذ ذاك كرَّس شتايندل
راست نفسه لدراسة الرسم وترميم الأعمال
الفنية في مدرسة الفنون الجميلة في ڤيينا.
وقد احتفل بانتهاء سني الحرب في السهرات
الڤييناوية الرائعة (حفلات راقصة، أوپرات،
مهرجانات)، متدبِّرًا أمر دخوله إليها لقاء
سجائر كان يحصل عليها من الجنود الأمريكيين.
بيد أن الشوق إلى الحياة الرهبانية ظل حاضرًا
على الدوام في قلبه لا يفتر، فقرَّر سرًّا أن
يقبلَ ما يأتيه أولاً: "المرأة التي تناسبه
أو الدير الذي يناسبه." لقد دمَّرت الحرب في
أوروبا من كثرة الأعمال الفنية ما جعل
ديڤيد منهمكًا في العمل لسنوات عديدة. ولقد
اهتمَّ أيضًا بالفن الموجَّه للأطفال
وبذائقتهم للفنِّ البدائي، الأمر الذي قاده
إلى القيام بدراسات في علم نفس الطفل وفي
الأنثروپولوجيا في جامعة ڤيينا. قرَّر شتايندل راست،
بعد حيازته شهادة الدكتوراه، أن يذهب إلى
الولايات المتحدة حيث تعيش جدَّته لأمِّه منذ
سنوات وأمُّه التي استقرت منذ وقت قليل في
نيويورك. بعد ستة أشهر من ذلك، حدَّثه أحدُ
أصدقائه عن فريق من الرهبان البنديكتيين [المباركين]
يبنون ديرًا ليعيشوا فيه بحسب النظام
الأصليِّ للقديس بنديكتوس. اعتمادًا على
القليل من المعلومات عنده عن الأمر، شرع
شتايندل راست من فوره في البحث عنهم. وبعد
بضعة أيام، وجد نفسه في أدميرا، في مزرعة
صغيرة من ريف ولاية نيويورك، والتقى مجموعةً
من الرهبان يعيشون في مستودع للغلال وخيام
ويمارسون "النظام" في شكله الأنقى. لقد
لزم الأمرُ ديڤيد شتايندل راست بضعة أشهر
بعدُ قبل أن يجيء للإقامة في "جبل المخلِّص"،
لكنه أدرك من فوره أنه وجد منزله. في العام 1953، انضمَّ
إلى الرهبان المباركين في دير جبل المخلِّص،
حيث أصبح "الأخ ديڤيد". وإبان عشر
سنوات، تابع دراساتٍ في الفلسفة واللاَّهوت
ونادرًا ما غادر الدير. كان الرهبان الاثنا
عشر في جبل المخلِّص، على عزلتهم، يعيشون
حياةً فكريةً غنيةً جدًّا، فكانوا كثيرًا ما
يستقبلون كبار مفكِّري العصر ويصرفون معهم
ساعاتٍ من المناقشات تمتد لساعة متأخرة من
الليل. ونظرًا لذيوع صيت الأب داماسيوس
ڤينزن، رئيس دير جبل المخلِّص، لتبحُّره
في الليتورجيا وفي الفنِّ الديني، فقد عزَّز
من مكانة هذا الدير الطليعي الصغير الواقع في
الريف. إبان هذه السنوات
كلِّها، أصبح الأخ ديڤيد أكثر فأكثر وعيًا
بمشكلات العالم بواسطة صلاته خارج الدير. إذ
إن أشخاصًا شديدي الالتزام اجتماعيًّا، مثل
دوروثي داي وفريق "العمَّال الكاثوليك" Catholic Worker،
دأبوا على تواصل منتظم مع الرهبان[1].
أما الأب دانييل بيرِّغان – وهو أول كاهن
كاثوليكيٍّ رومانيٍّ في تاريخ الولايات
المتحدة يُحكَم عليه بقصاص فيدراليٍّ من جراء
التحريض السِّلمي – فكان كثيرًا ما يتردَّد
على جبل المخلِّص ليؤمَّ رجال دين پروتستانت
في خلوات روحية. بدأ الأخ ديڤيد
بالاهتمام أيضًا بتقاليد رهبانية أخرى،
ولاسيما الرهبانيات الآتية من الشرق. فقد قرأ
مشدوهًا كتاب د.ت. سوزوكي D.T. Suzuki،
علاَّمة الزِنْ الياباني، الذي كان من أوائل
مَن ألهموا الدوائر الفكرية، في إنكلترا وفي
الولايات المتحدة على حدٍّ سواء. ويقول الأخ
ديڤيد شارحًا فيما بعد: "بدأت أفهم أن
هذا النداء الرهباني هو ما يوحِّدنا." كان الأخ داماسيوس
كثيرًا ما يُدعى لإلقاء محاضرات، لكنه بما
أنَّه لم يكن قادرًا على الحضور في كلِّ مكان،
كان كثيرًا ما يرسل رهبانه بدلاً منه. بذا كان
الأخ ديڤيد يذهب للمحاضرة في موضوع
الصلاة، ولكن أيضًا حول الوعي الاجتماعي
والفهم المسكوني للمنقولات الدينية، مفاجئًا
جمهورَه كثيرًا في بعض الأحيان. وينبِّه الأخ
ديڤيد: "كان لذلك موقعٌ حسن لأنَّني،
بدلاً من الحديث إلى مهتدين، كنت أتوجَّه
بالحديث إلى أناس أتَوا كي يسمعوا حديثًا عن
الصلاة. من هنا كان الوَقْعُ عليهم قويًّا
نوعًا ما حين كنت أتطرق إلى مواضيع تخص
المجتمع." قاد الاهتمامُ
بالزِنْ الأخَ ديڤيد إلى لقاء إيدو روشي Eido Roshi،
وهو راهب زِنْ ياباني وصل لتوِّه إلى نيويورك
واتخذ اسم تاي شيمانو Tai-Shimano.
شعر الراهبان من فورهما برابط قويٍّ بينهما.
وبعد وقت قصير من لقائهما، دُعِيَ الأخ
ديڤيد للمشاركة في ندوة نظَّمتْها جامعة
ميشيغان ضدَّ حرب ڤييتنام، فعرض على تاي
شيمانو أن ينضمَّ إليه. وقد حضر تاي شيمانو
إلى الندوة مع الأخ ديڤيد، مُخاطِرًا
بإمكان طرده من الولايات المتحدة، وتقاسم
الراهبان غرفةً واحدةً إبان عدة أيام. ويقول
الأخ ديڤيد: "كان الأمر كما لو أننا سبق
أن عشنا معًا منذ مئات السنين. لقد أقنعني بأن
فهم الرهبانية يمدُّ جسرًا بين الأديان." وإذ عَرَضَ تاي
شيمانو على الأخ ديڤيد المجيء للدراسة في
"زاويته" للزِن zendo في نيويورك، الأمر الذي لم يكن آنذاك
شائعًا على الإطلاق، طلب الأخ ديڤيد من
رهبان ديره الإذْنَ بدراسة الزِنْ. والحال
فقد دعا رئيس الدير تاي شيمانو لتمضية يومين
في جبل المخلِّص مع الإخوة المباركين. وفي
نهاية إقامته، في أثناء حوار يتذكَّره الأخ
ديڤيد كما لو كان مشهدًا يرثى له، طلب
الإخوة المباركون من تاي شيمانو أن يخبرَهم
عمَّا فهمه. "لقد طرحوا عليه كلَّ ضروب
الأسئلة اللاَّهوتية، لكنه لمَّا كان لا يعرف
عن اللاَّهوت المسيحي الشيء الكثير، فقد وقع
في فخاخ شتَّى. لقد برَّحت بي هذه الخبرة
تبريحًا شديدًا، وظننت حقًّا ساعة ذهابه أن
كلَّ شيء انتهى." بيد أن الإخوة تنحَّوا
بالأخ ديڤيد جانبًا كي يقولوا له إنَّه إذا
كان راهب الزِنْ لم يفقه شيئًا، فإنهم مع ذلك
راقبوه بانتباه شديد. وصرَّح الرهبان أمام
الأخ ديڤيد المذهول: "إن طريقته في المشي
والقعود وتناوُل الطعام أقنعتْنا بأنه راهب
حقيقي. تستطيع الذهاب." لقد قُيِّضَ لهذه
الروابط الأولى بين المسيحيين والبوذيين أن
تفتح طريق الحوار بين هاتين الديانتين
الكبيرتين[2].
بذا أصبح الأخ ديڤيد أحد أوائل الرهبان
المسيحيين الذين درسوا الزِنْ رسميًّا في
أمريكا، على الرغم من اضطراره إلى التسجيل في
جامعة كولومبيا كدارسٍ لليابانية "على
سبيل التغطية". في ذلك الوقت، في نهاية
سبعينيات القرن العشرين، "لم يكن مقبولاً
حقًّا لراهب كاثوليكيٍّ أن يدرس الزِنْ".
لكن الأخ ديڤيد مضى يمارس التأمل في "زِنْدو"
[زاوية زِنْ] تاي شيمانو في نيويورك إبان
السنوات الثلاث التالية، ودرس من بعدُ على
العديد من كبار شيوخ الزِنْ الذين علَّموا في
الولايات المتحدة، أمثال سوزوكي روشي
وياسوتاني روشي وسُووِن روشي. من جهته، كان الراهب
السَّكُوتي trappiste
توماس مِرتون مهتمًّا هو الآخر بالعلاقة بين
المسيحية والديانات الآسيوية؛ ومن هنا كان
فرح شتايندل راست عندما اقترح عليه الأخ
داماسيوس أن يقابل مِرتون. ففي نظر شتايندل
راست، "كان مِرتون قد نهل من القراءات ما
جعله يفوقني فهمًا للعلاقة بين البوذية
والمسيحية. أما الوجوه العملية – الخبرات
الشخصية – فقد كانت تهمُّه أيضًا، وهي بالضبط
ما كنت أعرفه أنا". هذا التبادل الأول بين
الراهبين المسيحيين، مِرتون الذي كان ضليعًا
بالأمور النظرية وشتايندل راست الذي يمَّم
وجهه شطر الممارسة، أوجد بينهما لُحمةً
استمرَّت حتى وفاة مِرتون في حادث في بانكوك
في العام 1968. فذات يوم، قال مِرتون لشتايندل
راست: "تلزمنا شجاعةٌ فائقةٌ لنفعل عكس ما
يفعل الآخرون." مذ ذاك أصبح الأخ
ديڤيد محاضرًا ذائع الصيت، باني جسورٍ بين
الشرق والغرب، بين الرهبان والعَلمانيين[3]،
وحتَّى بين الحركة السَّلامية والجيش. ففي
العام 1985، حضرتُ محاضرةً ألقاها الأخ
ديڤيد أمام "القبَّعات الخضر"، وهم
سريَّة من القوات الخاصَّة في الجيش
الأمريكي، كان يخضع لتدريب مدة ستة أشهر في
ولاية ماساتشوستس على الأيكيدو[4]
والتأمل والتغذية الحيوية الراجعة[5]
وعلم النفس. فبعد أن روى لهم خبرته السابقة في
الجيش، تابع الأخ ديڤيد مداخلته حول موضوع
السلام. ولقد كان أكثر المحاضرين نيلاً
لإعجابهم. يدافع الأخ ديڤيد
عن العديد من القضايا منذ عشرات السنين: لقد
شارك في مسيرات من أجل السلام؛ تحدَّث عن
الجوع وعن ضرورة أن توفِّر الدولُ الغنيةُ
حاجاتِ البلدان الفقيرة؛ ولقد ذكَّرَنا
بتحدِّيات عصرنا في مواجهة الأزمات
الإيكولوجية. وإذا كانت محاضراته قد فرضت
عليه التجوال في العالم كلِّه، سواء من أجل
التحدث إلى طلاب جياع في زائير أو إلى
مفكِّرين في ألمانيا أو إلى هنودٍ من قبائل
الپاپاغو في أريزونا، فقد ظلَّ في العمق
ناسكًا. إنَّه ينتمي على الدوام إلى دير جبل
المخلِّص في نيويورك، لكنه يخصِّص اليوم
جانبًا كبيرًا من وقته لخلوات روحية منفردة
في كاليفورنيا. الأخ
ديڤيد شتايندل راست (إلى اليسار)
مع أناستاسيا أوغلوڤا وجوناثان باك، مدير
"مشروع الشكران" في جامعة كورنيل. إن الجوهر الروحي
للأخ ديڤيد هو قطعًا أكثر ما يُدهِشُ فيه.
إن رسالته هي رسالة الشكران. نقرأ في
كتابه الشكران، قلبُ الصلاة[6]:
"إذا كان فيض الشكران مما تقتضيه كلمةُ "عرفان
الجميل" re-co-(n)naissance ممكن البلوغ ذات يوم، فلا بدَّ أن يكون
فيض المحبة وفيض الحياة." إن هذا الفيض،
بحسب الأخ ديڤيد، لَيمنحُنا شعورًا
بالانتماء لأنه يساعدنا على وعي التواكل interdépendance.
فكما قال لي: "إن الشكران هو الجواب الوحيد
الملائم لما أُعطيناه، وما هذه الحياة غير
هدية." كاثرين
إنغرام لقد التقيتُ بالأخ
ديڤيد عدة مرات، وأجريتُ أول مقابلة معه في
العام 1983 في دير وستون في ولاية ڤرمونت. إنه
رجلٌ بالغ العمق، بشوشٌ بشاشةً تبهج النَّفس،
محبٌّ كذلك للضحك ولرواية النكات. جرى لقاؤنا
في مركز الزِنْ في سان فرانسيسكو، حيث ألقى
الأخ ديڤيد عشية ذلك اليوم محاضرةً أمام
ثمانمائة شخص في حوار مع معلِّم التأمل
البوذي جاك كورنفيلد. أما موضوع المحاضرة
فكان: "التحرير الحقيقي للقلب". كاثرين
إنغرام *
* * مقابلة
الأخ ديڤيد شتايندل راست سان
فرانسيسكو، كاليفورنيا، 1 تموز 1988 كاثرين
إنغرام:
كتبتَ منذ بضع سنوات: "إن التبذير والخوف
واللامبالاة تدمِّرنا سريعًا. والوقت
يتعجَّلنا." أين ترانا من ذلك الآن؟ الأخ ديڤيد
شتايندل راست:
لم يحدث تقدُّم كبير، فيما أرى، وإنْ كان من
المفاجئ أن نرى كم هو بطيء هذا "السريع"!
يساعدنا هذا أن نعيش عارفين بأننا دومًا على
شفا الخراب وأن نتحقَّق من أن هذا، في الوقت
نفسه، يمكن له أن يستمرَّ طويلاً على المنوال
نفسه. علينا أن نفعل ما ينبغي علينا أن نفعل
دون أن نهتمَّ للوقت الذي يتطلَّبه القيامُ
بذلك كلِّه. والمفارقة أن علينا أن نعمل كما
لو أننا نملك الوقت المتاح كلَّه، وكما لو
أننا لا نملك أيَّ وقت على الإطلاق. إذا وضعنا
هذين الإلزامين نصب أعيننا، لربَّما تمكنَّا
من القيام بما علينا أن نقومَ به. بعد ذلك، لا
يتعلَّق الأمرُ بنا. كاثرين:
ما الذي تفعله شخصيًّا بهذا الخصوص؟ الأخ ديڤيد:
لقد فهمت أنه ينبغي صرفُ وقت طويل في المكان
نفسه حتى تُتاح رعايتُه حقَّ رعايته.
وبالتالي، فأنا أحاول أن أختصر أسفاري وأن
أقضي وقتًا أطول في المكان نفسه. كاثرين:
كنتَ قلتَ لي في المرة الأخيرة إن تنقلاتك
أتاحت لك وعيَ مشكلات العالم الثالث والعالم
الرابع... الأخ ديڤيد:
نعم، وهو مازال موضوعًا يشغلني. مازلت أسافر
أكثر ممَّا أود، وأنا على اطِّلاع على ما يدور
من أحداث في أجزاء أخرى من العالم عبر أشخاص
يعيشون هناك منذ زمن طويل، متجذِّرين في عمق
في واقع هذه الأماكن. أعتقد أن الوضع يتفاقم
خطورةً في العديد من المواقع. إن أحد أسئلتي
هو إذًا: "إلامَ نحتاج؟" من هنا ينبغي
البدءُ قبل التمكن من عمل شيء ما. منذ آخر حديث
بيننا، قلت لنفسي إن ما نحتاج إليه هو ما
أدعوه "أبطالاً كوكبيين"، مادمت لم أجد
مصطلحًا أفضل. إن القيم التي نكافح من أجلها
يجب أن تتجسَّد في أشخاص حقيقيين. فإذا صحَّ
أن العالم، من بعض الوجوه، قد صَغُر، إلا أنه
قد اتسع بالنسبة لعموم الناس. إن الجماعات
الصغيرة باتت منفتحةً على كلِّية العالم، في
حين كانت منذ وقت غير بعيد لا تعرف غير قريتها
الصغيرة والقرى المجاورة. أما بالنسبة لنا،
كدول متقدِّمة، فالعالم قد تقلَّص. لا يمكن
عمل شيء في مكان ما من العالم دون أن يكون لذلك
أثرٌ على أشخاص آخرين في الطرف الآخر منه. بيد
أننا لسنا حتى الآن جماعةً عالميةً حقيقية. إن
الجماعة تولد اعتبارًا من اللحظة التي تجد
فيها مجموعةٌ من الأشخاص "بطلها"
المشترك. فإذا وجدنا أبطالنا الكوكبيين،
فإنهم سوف يحوِّلون جماهير البشر إلى جماعة
كوكبية. هؤلاء الأبطال،
بنظري، "أناس يجرؤون"، يجرؤون على عيش
القيم التي نحتاج لأن نزرعها اليوم. إنَّهم،
بجسارتهم، يتحدوننا أن نصبح ما نستطيع أن
نكون، أن نصبح على نحوٍ ما على غرارهم، دون أن
نقلِّدهم، بل بأن نحاول ممارسة القيم
الإنسانية الأعمق. بعضنا يخطِّط لنشر حياة
هؤلاء الأبطال الكوكبيين. كاثرين:
هل [الأبطال] المقصودون معاصرون لنا؟ الأخ ديڤيد:
لا، ففي هذه السلسلة بعينها نشدِّد بالأحرى
على أناس ماتوا، دفاعًا عن قضاياهم على
الأغلب. حاليًّا أطرح على نفسي السؤال أيضًا
حول معرفة الأساس المشترك الذي يمكن لنا
بناءً عليه حلُّ العديد من المشكلات التي
تواجهنا. كيف نعبِّر في عصرنا عما كنَّا
نسمِّيه فيما مضى "التاو" Tao
أو "اللوغوس" Logos،
على سبيل المثال؟ ربَّما كان ذلك هو تعبير "الحس
العام" common
sense، شيءٌ قريب من "الحس
السليم" أو "الحكمة الشعبية"، مع
التشديد على كلمة "حكمة". إنه التعبير
الأقرب، على ما يبدو لي، مما كان لاوتسو
يسمِّيه "تاو". آنذاك، كانت كلمة "تاو"
تعني "الطريق"، وقد أعطاها هو معنًى أعمق. أما هيراقليطس
فقد تكلَّم من جانبه على الـ"لوغوس"،
الذي يعني "عالَم" أو "عقل"، وأعطاه
كذلك معنًى أعمق، وهو ما نستطيع أن نسمِّيه
"وعينا الأعمق". نستطيع أن نحيط بالعالم
عِلمًا لأن في داخلنا يكمن ما يجعل العالم
حيًّا: اللوغوس، المبدأ الذي يحيي العالم
وينظِّمه. على هذا النحو كان هيراقليطس
والفلاسفة الإغريق يتمتعون بفهم عقليٍّ
للأشياء. إن ما يستقطب
اهتمام لاوتسو والتاويين هو "الطريق"،
هو: "كيف نعيش؟ كيف نمضي في الحياة متناغمين
مع القوة، مع الدفق؟" إذا كان التاويون قد
تساءلوا عن كيفية إدراك معنى هذا العالم،
فإنما كان ذلك يذهب بهم أبعد من مجرَّد فهم
فكري، حيث كان سؤالهم بالأحرى هو: "كيف
نستطيع أن نضفي معنًى على الحياة والعالم؟"
إننا لا نستطيع فهم الأشياء إلا بالرجوع إلى
الحسِّ العام، إلى الحسِّ الصحيح. فهذا، من
جهة أخرى، ما يشي به تعبيرُ "إعمال الحسِّ
العام". إننا بقدر ما نبلغ رؤيةً أوسع لكلمة
"عام" نكون، بالقدر نفسه، قادرين على
الإحاطة بالعالم. ونحن نتحدث هنا عن الحسِّ
العام أو عن روح الشراكة، لا مع جماعة
الناس وحسب، بل ومع الحيوان أيضًا، والنبات،
ومع الكوسموس ككل – كما كانت الحال مع
اللوغوس والتاو. إن ما يجعل هذا التعبير صعبَ
الاستخدام هو أن أشخاصًا اغتصبوه واستخدموه
خبط عشواء، فتحدثوا، على سبيل المثال، عن "الرأي
العام" أو عن "اللياقات". كاثرين:
أظن أن ڤولتير هو مَن قال إن الحسَّ العام
هو بالتأكيد أحد الأشياء الأقل عدلاً من حيث
التقسيط! الأخ ديڤيد:
بالضبط. الناس يقولون: "ألا تعتقدون بأن
رغبة المرء في أن يكون في الصدارة في عالَمِ إنْ
لم تكن ذئبًا أكلتك الذئاب تنجم عن الحسِّ
العام؟" بيد أن هذا نقيض الحسِّ العام
الحقيقي، لأنه يصدر في هذه الحالة، لا عن
الشراكة، بل عن الاستلاب. كاثرين:
كثيرًا ما يخاف الناسُ أن يجذِّفوا ضدَّ تيار
المجتمع. حين يكون هناك اعتقادٌ واسع
الانتشار، كرغبة المرء في أن يكون في
الصدارة، فإن كلَّ شخص ينحرف عن ذلك يُعتَبَر
شاذًّا، متخلِّفًا، محلِّقًا خارج السِّرب
وخارج العصر. الأخ ديڤيد:
نعم، وبالرجوع إلى فكرة "أولئك الذين
يجرؤون"، فإن عملهم يقوم على كسر قشرة
اللياقات التي تغطِّي القوة العميقة لروح
الشراكة هذه التي توحِّدنا مع الكل. إنهم إذًا
في صراع مع قوى العصر، لأن مالكي زمام السلطة
إنما انتخبهم الرأيُ العام انتخابًا
تقليديًّا. ولكن إذا توكَّلنا على سلطة
الحسِّ العام يمكن لنا اتخاذ موقف مُعارِض
للرأي العام. إن مثل هؤلاء الأشخاص "الذين
يجرؤون" هم نجومٌ تهدينا، لأن هذا بالضبط
ما يجب أن نفعله اليوم: الدفاع عن السلطة التي
توحِّدنا والجهاد ضدَّ السلطات التي
تفرِّقنا. هذه هي الرسالة التي أحاول أن
أمرِّرها في مداخلاتي، رسالة العيش بسلطة
الحسِّ العام. إنها، في المصطلح الكتابي،
فكرة "ملكوت الله". كاثرين:
هلاَّ أسهبت؟ الأخ ديڤيد:
في اللغة الكتابية، إنما بالروح القدس نحيا
نحن البشر، بِنَفَس حياة الله نفسه. هذا الروح
يخترق قشرة الشريعة، قشرة الحرف، قشرة الجسد،
قشرة جميع المواقف كلِّها التي تؤيِّد
اللياقات والتفرقة والانقسام. فالملكوت
إنَّما يعني الحياة بقدرة الروح. يلوح لي أنه
يمكن لنا أن نتخيَّل اليوم عالَمًا فيه يصبح الطفل
الحاضر في سريرة كلٍّ منَّا حيًّا. من شأن روح
الطفولة هذه أن توحِّد العالم. إن تحرير روح
الطفولة هذه فينا مهمةٌ على غاية من الأهمية.
لقد اكتشفنا منذ نحو عشرين عامًا وجوب تحرير المرأة
فينا. ولم يكن ذلك مقتصرًا على النساء؛ فقد
رأى رجال كثيرون في وضوح أن "أنيما"هم
كانت في حاجة لأن تُحرَّر. استطعنا تبعًا لذلك
أن نتوقع حدثًا اجتماعيًّا رئيسًا، هو تحرير
المرأة. وإذا كانت لتحرير المرأة سماتٌ
اجتماعية فإن هذا التحرير يذهب إلى أبعد من
علم الاجتماع. إن مدار التحدي هو تحرير البشر
أجمعين بتحرير "الأنيما"[7]
فينا. هناك المزيد
فالمزيد من أشخاص يشرعون في وعي مدى الضرورة
الملحَّة لتحرير الطفل فينا. إن بقاءنا يتوقف
على قدرتنا على تحرير الطفل الداخلي؛ وهذا
قطعًا واحد من الأسئلة الاجتماعية الأهم في
عصرنا. كاثرين:
أعتقد أن في إمكاننا النظر إلى هذه المسألة من
زاويتين اثنتين. إن معظم المنقولات الروحية
تتكلم بالطَّبع على دهشة الطفولة وطزاجتها
وفضولها، ما يُسمَّى في الزِنْ "روح
المبتدئ"؛ إنها طريقة عفوية في مقاربة
العالم، دونما أفكار مسبَّقة. ولكن، من جديد،
ثمة في بعض الأحيان صورة راسخة عن الأطفال،
صورة "الوحوش الصغار"، الجشعين وغير
الناضجين أمام الألم، غير القادرين على
الشعور بالرحمة أو التعاطف. كثيرًا ما جرت
مقارنة أمريكا، على سبيل المثال، بمراهق يريد
أن يلعب دور "البلطجي" على مسرح العالم.
إنني، وإن كنت أحبذ، من جهة أولى، فكرة تنمية
صفات الطفل فينا، يبدو لي، في الوقت نفسه، أنه
ينبغي علينا أن نبرهن عن نضج أكبر في سلوكنا،
عن مزيد قليل من الحكمة. الأخ ديڤيد:
إذا نظرنا إلى الأطفال قبل أن يصيروا أولئك
الوِلْدان المريعين، فإنهم سيبدون أحيانًا
مسنِّين جدًّا، كالحكماء. وهذا ما يجب علينا
أن نثقِّفه. أحدس أن جانب "الوحش الصغير"
هذا مِنْ خَلْق المجتمع، وهو ليس الموقف
الطبيعي للطفل. ثمة في ثقافتنا شيءٌ من
الاستخفاف بالطفل، شيءٌ لا نستطيع، أو لا
نريد، أن نراه. إننا ننطلق من فكرة أن الطفل
متمرِّد منذ البداية وأن من الواجب ضبطَه.
يُعتَبَر الطفلُ القادمُ إلى الأسرة "همجيًّا"
صغيرًا يجب أن "يُدجَّن" أو "يُمدَّن".
تلك هي نظرتنا إليه قبل ذهابه إلى روضة
الأطفال: يُعتبَر جميعُ الأطفال نَزَّاعين
إلى التمرد حتى يثبت العكس؛ وحتى لاحقًا، في
المجتمع، نُفتَرَضُ غير منضبطين وعاصين
بالطَّبيعة، الأمر الذي يُبرِّر ضرورة
تطويعنا حتى نصير خاضعين للسلطة. إن واقع أن
البشر يميلون ميلاً جارفًا للخضوع للسلطات
الخارجية – وهو ما جرى التحقُّق منه
نفسانيًّا – إنما يعود إلى أن ذلك أسهل علينا:
فهو يقتضينا مقدارًا من الجهد أقل بكثير مما
تقتضيه حياتنا بحسب قناعاتنا الأعمق.
وبالتالي، فإن جميع السلطات في مجتمعنا
تتواطأ على جعلنا أكثر عبودية أمام السلطة
الخارجية. والحال فإن الاستخدام الصحيح
للسلطة، الاستخدام الوحيد الصحيح للسلطة
الذي أستطيع أن أراه، هو تعزيز مَن يحكموننا
كيما يصبحوا مسئولين بحق. إن كتب أليس ميلِّر Alice
Miller ودراساتها
تنحو في الاتجاه نفسه. كاثرين:
في كتابها هذا من أجل خيرك – جذور العنف في
تربية الطفل؟ الأخ ديڤيد:
نعم، وكذلك في الطفل تحت طائلة الرعب.
وهناك، من جهة أخرى، الأبحاث التي أشرف عليها
ستانلي مِلغرام في ييل[8].
كان هدفه منها فهمُ لماذا كانت "محرقة"
اليهود ممكنة، كيف أمكن لأشخاص يعودون مساءً
إلى بيوتهم ليعزفوا موسيقى الحجرة ويقرؤوا
القصائد مع عائلاتهم أن يقتلوا على ذاك النحو
يهودًا وغجرًا وبولونيين إبان ساعات عملهم.
كان مِلغرام يريد أن يعرف إلى أيِّ حدٍّ يمكن
لمتوسِّطي الناس، لا في ألمانيا وحسب، أن
يُنزِلوا آلامًا مبرِّحة بضحية بريئة، وذلك
لمجرَّد أن وجهًا سلطويًّا قد أمرَهم بذلك،
فقام إذ ذاك بوضع هذا الاختبار المثير للجدل
إلى أقصى الحدود والعبقري جدًّا أيضًا... كاثرين:
مع ممثِّلين يتظاهرون بأنهم تلقوا صعقاتٍ
كهربائية... الأخ ديڤيد:
تمامًا. لم تحظَ هذه التجربة بالاستقبال الذي
تستحقه في الدوائر الپسيكولوجية والطبية
النفسية، وذلك لأننا نرغب عن رؤية درجة
استعدادنا، نحن عموم الناس، للخضوع للسلطات
الخارجية. كاثرين:
يسود الانطباعُ أحيانًا بأن هذا لن يتوقف
أبدًا. لقد قرأت مؤخرًا مقالاً عن الحدث
المأساوي الذي وقع ضحيته المناضل السَّلامي
برايَن وِلسون[9].
إن الرجلين اللذين كانا يقودان القطار
يؤكِّدان أنهما لم يفعلا غير تنفيذ الأوامر. يميل الناس إلى
التخلِّي عن سلطتهم الخاصة، مفضِّلين أن
يُقال لهم ما يجب عليهم أن يفعلوا؛ إذ إن من
الأصعب على المرء أن يسلك دربه الخاص، الذي
يُرى بوصفه أكثر إقلاقًا ووحدة. إنهم
يفضِّلون أن يكون لهم رئيسٌ يأمرهم بما يجب أن
يفعلوا وبما يجب أن يفكِّروا. ولعل هذا هو وجه
الخطر في فكرتك حول "البطل الكوكبي". الأخ ديڤيد:
نعم، ولا يمكن لك في ألمانيا، حيث نعمل
حاليًّا على هذا المشروع، أن تستخدمي كلمة
"بطل". هذا مستحيلٌ تمامًا. لكنَّنا لم
نجد بعدُ بديلاً عنها، وربما يكون التعبير
"نجوم هادية" هو الأنسب. كاثرين:
إلا إذا رجعنا في بساطة إلى الإلهام الذي
منحنا إياه يسوع، إلهام المحبة والغفران. الأخ ديڤيد:
نعم، وعلى هذا النحو فعلاً أرى يسوع: كاختراق
للـ"حسِّ العام" بكلِّ عمق هذا المصطلح.
على سبيل المثال، في رسالة بولس إلى
الغلاطيين [3: 27-28]، فهم بولس موقف يسوع وعبَّر
عنه شعرًا: "في المسيح لم يبقَ من بعدُ
يهودي أو يوناني، ذكرٌ أو أنثى، عبدٌ أو حر." لقد تطلَّب
الأمرُ انتظارَ عشرات السنين حتى بدأت ثلةٌ
من الناس تفهم ما تعنيه عبارة: "في المسيح
لم يبقَ من بعدُ يهودي أو يوناني"؛ وأكثر من
1700 إلى 1800 عام كي يُعترَف بأنه "في المسيح
لم يبقَ من بعدُ عبدٌ أو حر"؛ ومازلنا نواصل
النضال على صعيد المرأة والرجل! فهناك يتيح
تصدُّعُ اللياقات الاجتماعية انبثاقَ شيء من
الحسٍّ العام. وحين سننتهي من هذه المشكلة،
سوف تبرز أخرى غيرها. كاثرين:
ألعلَّه وعيٌ يتجلَّى بالتدريج إذن؟ الأخ ديڤيد:
نعم، والأمر ليس كما لو أنِّي أقول إن الأمور
تسير من حسن لأحسن! نعم، هذا صحيح. فعلى نحوٍ
عام، تسير الأمور من حسنٍ لأحسن، وهناك أوجُه
تسير الأمورُ فيها سيرًا أفضل. لكنِّي لست
ممَّن يؤكِّدون أن كلَّ شيء يسير على أفضل وجه
وأننا خرجنا من الفوضى تمامًا. فمن بعض
النواحي تسير الأمور من سيئ لأسوأ! إذا نظرنا
إلى المجتمعات والجماعات القديمة، نلحظ أن
الحسَّ العام كان منتشرًا فيها، وأن الأساطير
والشعائر والرموز كانت تتيح التعبير عن هذا
الشعور بالانتماء للجماعة. وعلى صعيد آخر،
كان هناك الكثير جدًّا من الخوف في تلك
المجتمعات، الكثير من ضيق النظر ومن
اللاتسامح: "جميع الذين ليسوا مثلنا ليسوا
بشرًا" أو أفكار من هذا القبيل. هناك إذًا
نقاط ينبغي تحسينُها. لكن الأمر ليس خطًّا
متصاعدًا، وليس واضحًا أنه خطٌّ نازلٌ أيضًا.
هناك، من جهة، بعض التقدم؛ ومن جهة أخرى،
تزداد الأمور صعوبة. كاثرين:
يتعلَّق السؤال الذي يطرح نفسه حاليًّا
ببقائنا أحياءً. نحن نعيش في عصر بلغ من الخطر
ومن التدمير حدًّا كفيلاً ربما بإيقاظنا،
بدافع من المصلحة الشخصية على الأقل، وبدفعنا
إلى الحياة ونحن أكثر احترامًا للأرض، وإلى
التعايش مع جميع أشكال الحياة على هذا الكوكب.
هل تظن أننا سنتمكن من النجاة؟ الأخ ديڤيد:
هذا سؤالٌ جيد، لكنِّي لا أعرف إنْ كان يجب
علينا أن نجيبَ عليه. لا أعتقد أن أية إجابة،
مهما كانت، يمكن لها أن تساعدَنا. لو قلنا: "نعم،
بالتأكيد، سوف نتمكن من ذلك"، سيكون بدايةً
من الصعب تحقيق مثل هذا الوعد؛ وإذا قُبِلَت
الفكرةُ حقًّا، فإنه يمكن لذلك أن يحملَ
نتائج سلبية حتى: على سبيل المثال، الاستمرار
كالسابق، دون فعل أيِّ شيء لوضع حدٍّ للتدمير. أما لو أخذنا
بالإجابة المعاكسة: "لن ننجو أبدًا"،
فيمكن لهذا أيضًا أن يكون ذا وَقْع سلبي، لأن
من شأن الناس إذ ذاك أن يقولوا: "إن كنَّا لن
ننجو على كلِّ حال فلمَ الاهتمام إذن؟" ما
من واحدة من هاتين الإجابتين يمكن لها إذًا أن
تساعدَنا. في الواقع، علينا أن نعملَ كلَّ ما
ننهض له بغضِّ النَّظر عما إذا كنَّا سننجو أم
لا. وعلينا أن نعيش بحيث إنه، حتى لو لم ننجُ،
فإننا نستطيع القول لأنفسنا: "إن ما عملتُه
كان يستحق العناء." لكن هذه القيمة يجب ألا
تتوقف أبدًا على نجاح أعمالنا. لقد كتب و.س.
ميرڤن W.S. Merwin
في قصيدة بديعة: "في آخر يوم لهذا العالم،
أودُّ أن أغرس شجرة."[10]
إن فكرته هي أنكِ لا تزرعين شجرة كي تحمل
ثمارًا، ولا كإشارة أمل، لكن بكلِّ بساطة من
أجل أن تزرعي هذه الشجرة للمرة الأولى، في هذا
المكان بعينه، حيث ستعيش طويلاً أو لا تعيش،
حيث سترى الشَّمس تشرق أو لا تراها، حيث ربما
ستستشعر رطوبة المساء أو لا تستشعرها، وتعيش
ليلتها الأولى أو لا تعيشها. هذه الشجرة، هذه
البذرة الضئيلة، ذات قيمة عظيمة في حدِّ
ذاتها، لا لمجرَّد فكرة أنها قد تحمل
ثمارًا. إنها في نظري صورةٌ شعرية قوية جدًّا
ومقنعة، أفضل بما لا يقاس من محاولة الإجابة
على سؤال نجاتنا. كاثرين:
كذا نعود على الدوام إلى فكرة العيش في اللحظة
الحاضرة وإلى الممارسة من دون التعلق بأهداف،
سواء كانت إنقاذ الكوكب أو بلوغ اليقظة. الأخ ديڤيد:
أعتقد ذلك، نعم. الصلاة والتأمل هما، في نظري،
احتفال بالحياة، وليسا وسيلةً للوصول إلى
غاية. الاحتفال بالحياة هو احتفال بالحي،
الأمر الذي يحمل كنتيجة ثانوية جعلي أكثر
حياةً، تمامًا كما أن الشِّعر هو ثمرة الوعي
الكامل الذي يجعلك أكثر يقظة. وهذا ليس الحياة
في حدِّ ذاتها، بل هو الشِّعر. لكن الحياة
أكبر من الشِّعر. الصلاة والتأمل ليسا
الحياة؛ فالحياة أكبر من ذلك. الصلاة هي شِعر
"حيويتك الفائقة"، التي هي الروحانية. كلما كنتِ أكثر
حياةً رأيتِ الوقت الذي يلزمك، وكانت لك
الطاقة والإرادة لكي تكرِّسي نفسك فيه. تعني
كلمة spiritus
[الروح] اللاتينية "نَفَس الحياة".
روحانيتك، إذن، شكلٌ مخصوص من حيويَّتك،
تمامًا كما هو التزامك الاجتماعي. إن لم تكن
الحال كذلك فثمة شيء غير متَّسق؛ إنك لستِ
حيةً حقًّا. لا أستطيع فصل الأشياء؛ إذ إن هذا
يشكِّل كلاًّ. تشرَّفتُ
مؤخرًا بالمشاركة في ورشة عمل مدة أسبوع حول
الجسم والروح. في بداية هذه الورشة، أجرينا
تمرينًا عبارة عن تصور جسمنا ورسمه، ثم الشيء
نفسه مع النَّفْس والروح. ولقد تعجبتُ جدًّا
من النتائج. فمعظم القوم تصوَّروا هذه
الحقائق الثلاث تصورًا أقل تشابُكًا منِّي.
فهذه لا يمكن، بحسب فهمي، إلاَّ أن تكون
متراكِبة؛ لا أستطيع أن أراها إلا كأبعاد
حقيقة واحدة بعينها. لرسم الجسم خَطَطْتُ
فحسب محيط الجسم باللون البنِّي. ثم، بخصوص
النَّفْس – وهي ليست في نظري شيئًا يقيم في
مكانٍ ما داخل الجسد، بل هي بالأحرى شكل خاص
من الحياة – رسمتُ أوراق شجر فقط. الآن صارت
للجسم البنيِّ أوراقٌ صغيرة تنمو في كلِّ
مكان، كالشجرة تحمل أوراقًا. بخصوص الروح،
تبقى الشجرة هي نفسها مع أوراقها، لكنِّي
أخذت قلمًا أصفر وبدأت الروح تشع. وظل الرسم
هو هو بعينه. لذا فإنني، حين أتكلَّم على هذين
البعدين المختلفين، – الروحانية والالتزام
الاجتماعي، – فإنهما في نظري وجهان لحيوية
شخص ما. إن درجة حيويتك تتوقف على درجة
التزامك، على رؤيتك، وعلى تَسامُحك. هل
تفهمين ما أريد قوله؟ كاثرين:
نعم، فهمًا جيدًا جدًّا. هل تظن أن خاصية
الحيوية والفهم هذه تستجرُّ أوتوماتيكيًّا
ضربًا من الالتزام الاجتماعي؟ الأخ ديڤيد:
مادمنا نتحدَّث عن الحياة – وما في الحياة من
شيء أوتوماتيكي [آلي] – فإن كلمة "أوتوماتيكي"
لا تبدو مناسبةً في نظري. إنها، على كلِّ حال،
ليست الكلمة التي كنت لأستخدمَها. كاثرين:
طيب، فلنقل بدلاً من ذلك "على نحوٍ تطوري". الأخ ديڤيد:
إذ ذاك أوافق. بعبارة أخرى، ما ليس على ما يرام
في روحانية سيئة هو أنها ليست حيةً أو
متطوِّرةً بالقدر الذي يجب أن تكون عليه. أما
الذين ينغلقون في التأمل، دون أن يرَوا
الرَّابط مع المسؤولية الاجتماعية، فأنا
أقول إن هذا ليس لأنهم غير روحانيين أو غير
حيويين بما يكفي، بل لأنَّهم غير نشيطين بما
يكفي. إن الحيوية الداخلية تجعل المرء
بالضرورة متنبِّهًا لحاجات الآخرين ولفرص
مساعدتهم، الأمر الذي، بدوره، يجعله أكثر
حيويةً ويمنحه الطاقة التي يحتاج إليها في
سبيل خدمتهم. كاثرين:
الموقف المعاكس، بطبيعة الحال، هو حالة
الزَّاهد، الذي يجد أن فعل التأمل، في حدِّ
ذاته، يفيد العالم. الأخ ديڤيد:
أرى فحسب المستوى الذي نستطيع أن نقول عنده:
"بما أن حياتي محدودة، وطاقتي محدودة،
وحظوظي محدودة، فإن كلَّ ما أستطيع عمله
آنيًّا هو أن أكرِّس نفسي للتأمل، وهذا سوف
يملأ حياتي."[11]
بيد أن هناك مخاطرة، وهي أن مثل هذا الزهد
يقودكِ إلى الزهد في مفهوم الزهد الذي كان
مفهومك في البداية، وأن يقودك هذا، بدوره،
إلى أشياء لم تكوني قد فكَّرت فيها من قبلُ
أبدًا، نشاطات كنتِ قد حسبتِ أنَّكِ زهدتِ
فيها. إذا ما استبعدتِ هذه الإمكانية، فإن ثمة
جزمًا شيئًا مغلوطًا في زهدك، شيئًا ينفي
الحياة بدلاً من أن يثبتها. كاثرين:
فلنتحدث، إن راقَ لك الأمر، عن الكنيسة في
أمريكا الوسطى. في المرَّة الأخيرة التي
التقينا فيها حدثتَني عن الأسقف أوسكار
روميرو[12].
فهذا، قبل أن يصبحَ أسقفًا، كان قد بلغ هذه
المرتبةَ بالروح، الأمر الذي يشبه قليلاً قصة
بيكِتْ Beckett.
وهذا يذكِّرني بعبارة لشكسپير: "بعضهم يولد
عظيمًا، وآخرون يبلغون العظمة، وهناك مَن هم
عظماء دون أن يبحثوا عن العظمة." لا ريب أن
أوسكار روميرو كان من هذه الفئة الأخيرة. الأخ ديڤيد:
تمامًا. وهو لم يكن معروفًا جدًّا قبلئذٍ. كاثرين:
هل هذه الأمثلة عن الشجاعة البطولية عديدةٌ
بين الكهنة والراهبات والمسيحيين العاملين
في أمريكا الوسطى؟ وما قولك في ممارسة
اللاعنف في وجه التمييز والمظالم التي تكابَد
كلَّ يوم؟ أنا مقتنعة أن المسيحيين الحاضرين
في هذه البلدان كثيرًا ما يغريهم أن يساعدوا
المجاهدين ضدَّ الاستبداد. الأخ ديڤيد:
نعم، وأنا على اطلاع جيد بالأخص على القضية
لأنني قابلت مؤخرًا أعضاء من جماعة "ماريكنول"[13].
إن آلافًا وآلافًا من الناس، خصوصًا في
السلڤادور وغواتيمالا، يتخذون مواقف
شُجاعة، وهم على استعداد للألم وللموت في
سبيل قضيتهم. وإذا كانت غالبيتهم لم تلفت
الأنظار بقدر أوسكار روميرو فإن بعضهم يحتل
مواقع شديدة الخطورة. وإنه لمن الرائع أن نعرف
أن أناسًا بسطاء جدًّا يذودون عن الحسِّ
العام. يخبرنا الحسُّ العام أن القوة تولِّد
ضدَّها وأن الضَّغط يولِّد ضدَّه. لذا، حتى
إذا اتفق للمرء، في لحظة ما، أن تغريه مساعدةُ
هذا التحرر بواسطة السلاح أو أيِّ شكل آخر من
العنف، فإن هذا لن يجلب، على المدى الطويل،
السلام ولا العدالة. إن إغراء اللجوء إلى
العنف رهيب قطعًا، وإنِّي لَمعجبٌ حقًّا
بالأشخاص الذين يصمدون أمام هذا الإغراء.
وحتى الذين يلجئون للعنف، أجدني معجبًا
بشجاعتهم، حتَّى لو كنت أعتقد أنَّهم ليسوا
متجذِّرين عميقًا في الحسِّ العام تجذُّر
الذين يبقون لاعنفيِّين. ولسوف يثبت لنا
التَّاريخ هذا. تجربة يسوع
نفسه ليست "نجاحًا" وحسب؛ وإنه لَمِنَ
الخطأ التاريخي الجسيم أن نظن أنه صُلِبَ
ومات وانتهى الأمر على هذا النحو. غير أن
الخطأ كان خارجيًّا. فما يجب أن نستخلصه من
قيامته هو استحالة قهر هذا النوع من الحياة.
إذ إن آخرين سيعاودون حمل المشعل. هذا النوع
من الحياة لا يخضع للموت؛ فمادام هناك بشرٌ لا
بدَّ لها من أن توجد. وحتَّى موت الشهداء يمكن
له أن يصبحَ بذرة إيمان، كما يُقال تكرارًا،
لأنه يمكن له أن يلعبَ دور الحافز المشجِّع
للآخرين على التعبير عن الحسِّ العام إيَّاه. كاثرين:
قال كيركِغور: "يموت الطاغية فينتهي
سلطانه؛ يموت الشهيد فيبدأ سلطانه." أنت
تؤكِّد دون التباس أن اللاعنف يتعلَّق
بالحسِّ العام. الأخ ديڤيد:
نعم، هذا ما يبدو لي الأصح نظريًّا؛ بيد أنِّي
أقوله بكلِّ احترام للأشخاص الذين اختاروا
دروبًا أخرى اختيارًا بطوليًّا وبكلِّ إعجاب
بهم. من حظِّي أنِّي لا أكابد الضغوط نفسها،
الأمر الذي يتيح لي أن أتكلَّم عنها في تجرُّد.
لكنِّي لو كنت وسط هذا كلِّه لما رأيت الأمور،
ربما، بمثل هذا الوضوح. كاثرين:
أود أن أعرف رؤيتك الشخصية للموت. لقد قرأت
مقالتك لماذا يصبح المرء راهبًا، وفيها
تتطرَّق إلى علاقة الراهب بالموت. الشرط
المسبَّق، في نظرك، – وأنا هنا أورد معنى
الكلام، – هو أن يحيا المرءُ ملء حياته. ما هي
علاقتك مع الموت؟ ما هي مشاعرك حياله؟ [في تلك اللحظة من المقابلة، سُمِعَ
صوتُ جرس منتصف النهار في مركز الزِنْ،
فاقترح عليَّ الأخ ديڤيد الانضمامَ إليه
في دقيقة صمت من أجل السلام العالمي.] كاثرين:
هل تصلِّي هذه الصلاة كلَّ يوم؟ الأخ ديڤيد:
أجل، وأدعو كلَّ مَن ألتقي بهم في العالم
للقيام بذلك. شكرًا لأنك صلَّيتِها معي. لقد طرحتِ
عليَّ سؤالاً عن الموت. ما الذي تقصدينه بـ"مشاعر"؟ كاثرين:
هل قبلتَ موتك أنت؟ هل تشعر أنك مستعدٌّ
للموت؟ الأخ ديڤيد:
تسألينني إن كنتُ مستعدًّا للموت؟ نعم، أنا
مستعد. هذه إجابةٌ ليست صعبة. أحيانًا أود ذلك
جدًّا. [يضحك.] كاثرين:
أفهم ما تريد قوله. [أضحك.] الأخ ديڤيد:
لقد بلغت شوطًا من الحياة أستطيع معه أن أقول
إنني لو تبلَّغتُ اليوم أنه لم يتبقَّ لي وقتٌ
طويلٌ أعيشه فإنني لن أكون آسفًا إلاَّ على
أولئك الذين سيكون عليهم تنظيف ما أخلِّفه
ورائي! هذا هو همِّي الأول. أحاول أن أرتِّب
قليلاً كتبي ومخطوطاتي بحيث لا أترك الكثير
من العمل لمن يبقى. أما عن شعوري بأني أكملت ما
كنت أود إنجازه، أو بأنِّي لم أتمِّم كلَّ ما
كنت أريد عمله، فهناك دومًا شيء لم يكتمل
إنجازُه. لقد عشت حياةً شديدة الغنى، مليئةً
جدًّا؛ وإنِّي لَممتنٌّ لذلك ولا أطلب المزيد. لكن أيامًا
تمرُّ أيضًا أرى فيها كلَّ ما يمكن لي أن
أفعلَه من حولي بعد، وأختبر امتنانًا كبيرًا
لأني أملك الإمكانية والطاقة لعمله. كاثرين:
ألاَّ يكون للمرء ما يفكِّر فيه غير ما يترك
وراءه هو مكانة راقية نوعًا ما. هذا في الواقع
نوعُ التجرد الذي يمكن للمرء أن يبلغَه حين
يعيش حياة راهب – تجرُّد أكبر من تجرُّد مَن
يعيش في العالم مخلِّفًا وراءه أسرة. لا أدري.
أنت لستَ متزوِّجًا، ذووك رحلوا، لا أبناء لك... الأخ ديڤيد:
عندي الكثير من الأبناء، الأبناء الروحيين. كاثرين:
كنت أقصد بذلك الروابط الخاصة (مثل الزوجة أو
الأبناء)، التي من أجلها يمكن للمرء أن يكون
مستعدًّا لقبول ضرب التعلق الذي هو عاطفةٌ
طبيعيةٌ حين يكون ربَّ أسرة. أما شعرتَ قط بأن
هذا ينقصك؟ الأخ ديڤيد:
لا، أنا لا أشعر بذلك كخسارة. ولكن بقدر ما
تمتدُّ ذاكرتي، عرفتُ دومًا أنه أيًّا كان
خياركِ فإنكِ تختارين أيضًا ألاَّ تسيري في
طريق آخر، الطريق التي لم يجرِ اختيارُها. كاثرين:
نعم، يمكن للاختيار أن يُفهَم أيضًا بوصفه
نهاية الخيارات. الأخ ديڤيد:
وهذا ما كنت أريده: ترك الخيارات الأخرى
جانبًا. حياتي في الحقيقة غنية جدًّا من وجوه
عديدة، بحيث لا يجوز لي أن أشتكي على الإطلاق. عندي أيضًا هذه
الصورة – وهي قناعةٌ حقيقية – أن كلَّ تجربة
من تجاربنا تجعلنا أكثر نضجًا أمام الموت.
ونحن لا نخوض في مثل هذه التجارب لمجرَّد أن
شيئًا ما يحصل لنا فحسب، بل لأننا منتبهين
ومنفتحين أيضًا. كذا فإن ثمة عنصرًا من
الأبدية حاضرٌ كلَّما تجاوبنا مع العالم
حقًّا. إنه شيءٌ لا يمكن للزمن أن يدمِّرَه.
الزمن يروح ويجيء، لكن الـ"آن" ليس من
الزمن. في الزمن ليس هناك غير رَتْق بين
الماضي والمستقبل، ولا شيء غير ذلك؛ أما في
"الآن" فنعيش ما لا يخضع للزمن. في المحبة
والوفاء، في الجمال والطِّيبة، هناك شيءٌ لا
يخضع للزمن. وفي نظري، إنه لَممَّا يعزِّيني
ويطمئنني طمأنينةً عظيمةً أن أعرف أننا لا
نملك غير وقت محدود كي نقوم بما علينا القيام
به وأنه، عاجلاً أو آجلاً، ستأتي ساعتُنا. حتى
تلك اللحظة، سيكون لكلِّ شيء الوقتُ الكافي
للنضوج إبان حياتي. وحدها مظاهر الزمن تختفي.
لا يذهب جُفاءً إلا الذي يمكن له أن يتبدَّد.
وحين يتبدَّد ما يمكن له أن يتبدَّد، يبقى إذ
ذاك ما هو "كائن". كاثرين:
تبقى "الكينونة". الأخ ديڤيد:
تمامًا. حين تأتي ساعتي، فإن كلَّ ما عشتُه –
العلاقات، الصداقات، الجمال، الطِّيبة، كلها
– يكون. عليَّ، من منظوري الحالي، أن
أستخدمَ صيغة المستقبل، لكني لن أُحسِنَ
التعبير. وسأستطيع، فيما بعد، أن أرى العالم
كلَّه من خلال نافذة حياتي التي انتهت
لتوِّها. بطبيعة الحال،
حين نرى حياتنا الماضية، نرى أيضًا السيئات،
كلَّ ما كنَّا نود أن نعمله على نحوٍ مختلف.
وبما أن ذاك يدوم عند الآخرين، فإن الأمر
يولِّد شيئًا من الألم. حين أرى في وضوح
الشرَّ الذي اتَّفق لي أن أُنزلَه بالآخرين،
أو أفكِّر بما فعلته ظانًّا أنِّي أتصرف من
أجل الخير، ثمَّ تبيَّن أنه ضارٌّ أو هدَّام،
فإنِّي أتألَّم كثيرًا. لكنِّي مطمئن، وأومن
عمومًا بأن الأمر سيكون له معنًى أو بأنه سوف
يستقيم في المآل. هذه الطريقة في العمل فيما
يتعدَّى الزمن عصية على الشرح قليلاً، وأنا
نفسي لم أفهم كلَّ شيء. لكننا نعلم أننا
أحيانًا، في أوقات تبدو الحياةُ وكأنها لا
تتحرك، – نعلم أننا في تلك الأوقات حصرًا
نفعل المزيد، نعمل أكثر، ويتحقَّق من الأمور
أكثر مما يتحقق في فترات أخرى أطول بكثير. كما قال ت.س.
إليوت: "إن ما كان وما كان يمكن له أن يكون
إنَّما يشير إلى غاية ما هو حاضرٌ أبدًا."
على نحو ما، أعرف أنه في "الآن الذي لا يموت"[14]
يمكن للممكنات كلِّها أن تتفتح. إنِّي
لَمرتبط، عبر الناس الذين عرفتُهم أو الأشياء
التي لمستُها، بكلِّ ما كان وبكلِّ ما سيكون. كل
شيء مرتبط بكل شيء آخر. حين تزول حدودُ
الزمن وحدودُ المكان، لأن زمني يكون قد انقضى
ولأن مكاني لن يكون بعدُ، سأكون على تماسٍ مع
كلِّ ما كان أزلاً وما سيكون أبدًا. وإنه
لأمرٌ أنتظره بفارغ الصبر! ***
*** *** ترجمة:
أديب الخوري [1]
Dorothy Day
(1897-1980) كاتبة ومجاهدة اجتماعية
من التقليد الكاثوليكي الروماني، شاركت في
تأسيس حركة "العمال الكاثوليك" في
نيويورك، وهي تنظيم سلامي يقدِّم "منازل
ضيافة" للفقراء. وهي معروفة بالأخص
كمشارِكة في تأسيس العمال الكاثوليك،
وهي نشرة تأسَّست في العام 1933 على
المثاليات المسيحية في المحبة والفقر
الطوعي، وتجاهد في سبيل العدالة
الاجتماعية والمقاومة اللاعنفية في "حالة
الحرب". [2]
في الترجمة الحرفية: "هاتين الديانتين
الكبريين". لكننا لسنا أكيدين، في غياب
إحصاءات دقيقة، من تعداد المؤمنين في
الأديان المختلفة؛ والأهم من ذلك برأينا هو
أن "كبر" الدين لا يُقاس بعدد الأتباع (بل
ربما كان العكس هو الأصح!)؛ ونعتقد فوق ذلك
كلِّه أن تعبير "الديانة الأكبر" هو
تعبيرٌ غير بنَّاء ونفضل تجنُّبه. (المترجم) [3]
خطأ شائع يشير إلى أمرٍ مهمٍّ على ما أظن:
الرهبان، في اللاهوت المسيحي، عَلمانيون
وليسوا إكليريكيين. الكهنوت في الكنيسة هو
أحد "الأسرار" التي تُمنَح لأشخاص
بعينهم للقيام بخدمات خاصة. أما الراهب فهو
واحدٌ من أبناء الشعب يختار تكريس نفسه في
النذور الرهبانية الثلاثة المعروفة (الفقر،
العفة، الطاعة)، لكنَّه يبقى عَلمانيًّا (إلا
إذا صار كاهنًا مع كونه راهبًا). إن شيوع
الاعتقاد بأن الراهب والراهبة هم من
الإكليروس إنَّما يشير، برأيي، إلى خلل
شائع بين المسيحيين في فهم الترهُّب وفي
فهم الحياة المسيحية إجمالاً. (المترجم) [4]
أحد الفنون القتالية اليابانية
التي تعود أصولُها إلى الزِنْ، وأسُّه
إتقان الحركة بالتناغم الجسماني والنفسي
مع طاقة النظام الكوني. (المترجم) [5]
الـbiofeedback:
نظام علاجي يجري فيه السَّعي للوصول إلى
تحكُّم ذاتي في بعض الوظائف الفسيولوجية
اللاإرادية، مثل النشاط العضلي أو انتظام
ضربات القلب أو الضغط الشرياني إلخ. (المترجم) [6]
David Steindl-Rast, Gratefulness, the Heart of Prayer, Paulist Press. [7]
"الأنيما" anima،
بحسب علم النفس التحليلي (اليونغي)، هي
الجانب المؤنث من نفس الرجل؛ ويقابلها "الأنيموس"
animus،
الجانب المذكر من نفس المرأة. (المحرِّر) [8]
في مستهل الستينيات، أجرى
الباحث في علم النفس ستانلي مِلغرام Stanley Milgram
(1933-1984) أعمال بحث حول "الطاعة للسلطة"
في جامعة ييل نُشِرت نتائجُها الأولى في
العام 1963. فلقد تمَّ جمعُ أربعين متطوعًا عن
طريق إعلانات صحفية صغيرة، وكان هؤلاء
المتطوعون يظنون أن الاختبار يرمي إلى
تحديد فاعلية العقوبات في الواجبات
التعليمية. كان على كلِّ رجل أن يوقِع ما
كان يظنه شحنة كهربائية بـ"متعلم"
موجود في غرفة مجاورة، وذلك في كلِّ مرة
يخطئ الإجابةَ في اختبار شفهي. لم تكن
الصعقات الكهربائية حقيقية، وكان
المتعلِّم المزعوم يحاكي الألم بالضرب
العنيف على الجدار أو برفض الإجابة عن
أسئلة جديدة. ولمَّا كان في إمكان المتطوع
الذي يقوم بالاختبار أن يختار تفريغًا
كهربائيًّا يتراوح فرقُ كمونه بين 15 و450
ڤولت، فقد لوحِظ أن 65% من المُختَبَرين
أداروا المفتاح، يحضهم غالبًا المسئولُ عن
الاختبار الذي يمثل "وجه السلطة" ويقف
في الغرفة نفسها، حتى 450 ڤولت. وهذا
المقدار من الجهد الكهربائي (فرق الكمون)،
الذي كان المؤشِّر عند حدِّه يشير إلى XXX
وحسب، كان يفوق الدرجة التي كُتِبَ عندها
"خطر، صدمة قوية" بدرجتين! [9]
في الأول من أيلول 1987، نظَّم
المقاتل السابق في ڤييتنام برايَن
وِلسون Brian Wilson
مظاهرةً صامتة ولاعنفية أمام
ترسانة الأسلحة البحرية الكاليفورنية
احتجاجًا على نقل القنابل والعتاد العسكري
إلى أمريكا الوسطى. كان قبل ذلك قد بعث
برسالة إلى سلطات الترسانة ينذرهم فيها بأن
المتظاهرين سيباشرون إضرابًا عن الطعام
وسيجلسون على السكة الحديدية. وفي اليوم
الأول من حركة الاحتجاج، جاز قطارٌ تلقَّى
أوامر بعدم التوقف من فوقه، مما أفقده
ساقيه! [10]
من قصيدة و.س. ميرڤن "فضاء". [11]
أشعر بما يدفعني لتذكير القارئ بأن هذا
يبقى رأي الأخ ديڤيد، وبأن الموضوع أكبر
من أن يُناقش في هذا المعرض. (المترجم) [12]
وليد الإكليروس السلڤادوري
التقليدي، لفت أوسكار روميرو الانتباه
إليه من بين أساقفة أمريكا الوسطى نظرًا
لشجبه للقمع الوحشي الذي تمارسه الحكومة
السلڤادورية بدعم أمريكي، ولأنه طالب
بإصلاحات اجتماعية وزراعية من أجل الفقراء.
اغتيل في 24 آذار 1980 بينما كان يحتفي للقداس
في كنيسته في ضواحي سان سلڤادور. [13]
مُرسَلو ماريكنول Maryknoll،
المعروفون بأعمالهم لصالح حقوق الإنسان،
حاضرون حضورًا قويًّا في أمريكا الوسطى.
ففي العام 1980، كانت هناك أُختان ماريكنول
بين الراهبات الأربع اللواتي جرى
اغتيالهنَّ في السلڤادور. وقد لفتت هذه
الحادثة آنذاك انتباهَ العالم إلى
انتهاكات حقوق الإنسان والفساد السياسي في
البلاد. [14]
"الآن الذي لا يموت" هي
العبارة التي عرَّف بها القديس أغسطينوس
بالأبدية. |
|
|