|
القتل
هو المسألة المطروحة قرأت لتوِّي ببالغ الانتباه النصوص التي
تقدِّم حملة التعبئة تضامنًا مع الشعب
الفلسطيني والتي أقرَّها "منتدى المنظمات
غير الحكومية الفرنسية من أجل فلسطين"[2] – حملةً المزمع أن تتسنَّم ذروتَها في
تجمُّع كبير سوف ينعقد في 17 أيار 2008 في حديقة
المعارض ببوابة ڤرساي. وفي حواري الودي مع
هذه المنظمات، أود أن أحاول التعبير عن ماهية
تحليلي للوضع الحالي في الشرق الأدنى. بكلِّ تأكيد، أؤيد
تمامًا مقولة أن للشعب الفلسطيني الحقَّ في
تضامُن جميع الذين يهتمون للعدالة. فهذه
المقولة هي القاعدة التي ينبغي لتحليلنا أن
ينبني عليها. الشعب الفلسطيني ضحية الاحتلال
والاستيطان اللذين نهضت عليهما دولةُ
إسرائيل بالتواطؤ مع المجتمع الدولي – هذا
واقع لا يقبل الدحض. لكن تحليلنا، اليوم، يجب
أن يتأسَّس أيضًا على واقع آخر لا يُدحَض هو
الآخر: ما من حلٍّ للقضية الفلسطينية قابل
للتدبير ما لم نأخذ بالحسبان وجود الشعب
الإسرائيلي على أرض فلسطين – وهذا لا لأسباب
تتعلق بالحق، بل لأسباب فعلية. فمن
المنظار الفلسطيني، لا يقوم بقاءُ دولة
إسرائيل على الشرعية، بل على الضرورة. ومن
دون الاعتراف بهذه الضرورة لا يمكن أبدًا
لأيِّ سلام أن يحل. ومهما يكن مبدأ "الأمر
الواقع" قابلاً للجدال نظريًّا، فقد بات
هذا المبدأ غير قابل للجدال عمليًّا. وهنا لا
أتطرق البتة إلى المحاجَجة "الصهيونية"،
القائمة على اعتبارات تاريخية و/أو دينية،
لتبرير الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. فما
يرغمنا على قبول وجود الإسرائيليين في فلسطين
كأمر واقع هو إكراه التاريخ وليس مقتضيات
العدالة. ناهيكم أن فكرة شعبين يتاح لهما أن
يعيش كل منهما في دولة حرة وسيدة تفترض القبول
بهذا الوجود أمرًا واقعًا. مذ ذاك، يجب على
"مبدأ الواقعية" أن يفرض نفسه، بما يتيح
التمييز بين المرغوب والممكن والمستحيل. لكن المفجع هو أنه
مازالت هناك، بين الفلسطينيين، أقلية كبيرة
ترفض أيَّ تعايُش مع إسرائيل؛ والأدهى أنه
مازالت هناك أقلية مماثلة في إسرائيل ترفض
التعايش مع فلسطين. وتشكِّل هاتان
الأقلِّيتان اليوم، أكثر من أيِّ يوم مضى،
عائقين يصعب تخطِّيهما للسير في أية عملية
سلام حتى منتهاها. فالسلام لن يكون ممكنًا قبل
أن يعترف إسرائيل بجميع المظالم وجميع الآلام
التي سبَّبها للفلسطينيين "واقع" وجوده
على أرضهم. هنالك مبدأ أساس
آخر ينبغي لتحليلنا أن يتأسَّس عليه: ما من
حلٍّ ممكن يُفرض بالعنف، لا الآن ولا غدًا
– وهو مبدأ يجب القبول به في جذريَّته
كلِّها، ويصح على كلا الشعبين المتخاصمين.
وبما أن إسرائيل هو المعتدي فعليًّا فهو الذي
يجب أن يُطلَب منه أولاً الكف عن اضطهاد
الفلسطينيين وإذلالهم. جزمًا يجب قول هذا للإسرائيليين
أولاً. كما يجب عدم التهاون في إدانة
انتهاكات حقوق الإنسان التي هي فعلة
الإسرائيليين يوميًّا. لكن من الصحيح أيضًا
أن المقاومة الفلسطينية تحشر نفسها في مأزق
مادامت تعتقد أنها يجب أن تلجأ إلى العنف. من
هنا فإن كلَّ نقاش مجرَّد حول حقِّ الشعب
المقموع في استعمال العنف يجب أن يُعتبَر
خارج الموضوع. فالعنف ليس من شأنه إلاَّ أن
يزيد عقدة النزاع تعقيدًا، في حين أن المطلوب
هو حلُّها. والحال، فلا بدَّ لنا من الإقرار
بأن هذا المبدأ لا يعترف به جميع
الفلسطينيين، هيهات. كما لا يعترف به أيضًا،
هيهات، جميع الذين يؤكدون، في فرنسا بالأخص،
تضامنهم مع المقاومة الفلسطينية. وفي
المحصلة، لا هَمَّ إنْ كان هؤلاء أقلية أو
أكثرية، لكن الواقع هو أن عددًا من
الفلسطينيين يصر على ضرورة استعمال العنف من
أجل انتزاع الاعتراف بحقوقهم من الدولة
الإسرائيلية. وأصر أن المسألة، هنا والآن،
ليست مجادلة حول مشروعية العنف – حتى إذا
كانت هذه المشروعية تبدو لي في منتهى
القابلية للجدال –، بل المسألة هي التساؤل
حول الملائمة السياسية والإستراتيجية لهذا
العنف. والحال فإن الواقعية تُرغمنا على
الاعتراف بأن هذا العنف أضحى هدامًا تمامًا،
غير فعال، عاجزًا، وغير مُجْدٍ. فالعنف
الفلسطيني ليس من جرائه إلا أن يحرض عنفًا
إسرائيليًّا أشد ويبرِّره. وهنا لن يستنكف
بعضهم أن يردِّد أن على الإسرائيليين أولاً
أن يكفوا عن عنف الاحتلال – وأنا أوافقهم على
رأيهم تمامًا. لكن إذا كان المقصود من هذا
القول أن الفلسطينيين لن يستطيعوا الكفَّ عن
العنف قبل أن يعترف إسرائيل بحقوقهم، فإن
القول بذاك يعني بالدقة رفض رؤية الواقع ورفض
فهمه. لقد تبلَّغتُ إبان
الأسابيع الأخيرة رسائل إلكترونية كثيرة
بخصوص الوضع في غزة. ومن نافل القول أن عذاب
فلسطينيي غزة يدمي قلبي ويبرِّح بي تبريحًا
عميقًا، شأني في ذلك شأن غيري. وجزمًا فإن
المسؤولية الأولى، هاهنا أيضًا، مسؤولية
إسرائيلية؛ وهي مسؤولية فادحة جزمًا. ولكني
أجرؤ أن أقول إننا، في المحصلة، نعامل
الفلسطينيين كأناس غير مسئولين، ونهينهم
بالتالي، حين نرفض رؤية المسؤولية
الفلسطينية عما يجري. كيف يتعامى المرء إلى
حدِّ ألا يريد أن يفهم بأن بضعة صواريخ مصنوعة
محليًّا تُطلَق من غزة على إسرائيل ليس لها من
جدوى غير المزيد من العنف من جانب
الإسرائيليين. العنف ليس قضاءً محتومًا،
وهو لا يفرض أبدًا قوانينه من تلقاء نفسه.
لكننا ما إنْ نختاره طريقًا فإن قوانينه
صارمة، لا تلين، فاتكة، قاسية، ضارية،
وأخيرًا لاإنسانية. لذا أرى أن من مسؤولية
مَن يودون التأكيد على تضامنهم مع
الفلسطينيين أن يقولوا هذا جهارًا. فلاتخاذ
الموقف المناسب حيال العنف يجب أن يسود
العقل على الانفعال. تؤكد "جمعية
فرنسا فلسطين تضامن" في بيان نشرتْه في 20
كانون الثاني 2008 ما يلي: إن
إطلاق الصواريخ المصنوعة محليًّا على سديروت
لا يجوز له أن يبرِّر اتخاذ دولةٍ فائقة
القوة، ترفض منذ 60 عامًا تطبيق القانون
الدولي، الأهالي المدنيين أجمعين رهائن. إن ج.ف.ف.ت.
تدين بشدة هذا التصعيد الإجرامي ضد المدنيين
الفلسطينيين العُزَّل. [...] وهي تطالب بأن
يتوقف الحصار القاتل على غزة على الفور. إن مثل هذا التصريح
ذو دلالة خاصة، لأنه يعبِّر بالدقة عن الضلال
في التحليل الذي يعقِّم أيَّ احتجاج على
سياسة دولة إسرائيل غير المقبولة فعلاً، مهما
بلغت شدة الشجب في هذا الاحتجاج وجزالته. فمثل
هذا الاستنكار هو في الواقع إقرار: فقولنا إن
"إطلاق الصواريخ لا يجوز له أن يبرِّر"
لهو في الواقع اعتراف بأنه يبرِّر... إذا وجب
القول بأنه ينبغي ألا يبرِّر فهذا بالدقة
لأنه يبرِّر... فلحرمان الإسرائيليين من هذا
التبرير الذي يتذرعون به أمام الرأي العام
الدولي ويفلتون بفضله من القصاص، يجب الكف عن
إطلاق الصواريخ. إن مجرَّد توخِّي الدقة
يجبرنا على تصويب صياغة ج.ف.ف.ت. بحيث تصير: "إن
إطلاق الصواريخ المصنوعة محليًّا على سديروت
لا يجوز تبريره مادام يؤدي حتمًا إلى اتخاذ
دولة فائقة القوة الأهالي المدنيين جميعًا
رهائن" (وهو المطلوب إثباته). إننا نغبن أنفسنا
عندما نتظاهر، بحجة التضامن مع مقاومة
الفلسطينيين، بتأكيد "تضامننا" مع
عنفهم، لأن ارتضاءنا هذا العنف ليس تضامنًا
مع مقاومة الفلسطينيين، بل هو تواطؤ على
نكبتهم. فالفلسطينيون، في المحصلة، حين
يلجئون إلى العنف، لا يفعلون ذلك أملاً
بالنصر، بل بدافع اليأس. فلا يجوز لنا أن
نتواطأ مع هذا اليأس. إن المأسوية القصوى
للعنف الفلسطيني هي أنه عملية انتحار؛ ومن
واجبنا أن نبذل كلَّ ما في وسعنا لتعطيل هذه
العملية. إن بعضهم، بحجة عدم تيئيس غزة، لا
يعترف، وبالأخص لا يريد أن يقول إن
الفلسطينيين خسروا الحرب في الميدان منذ زمن
طويل. حين تُخسَر الحربُ لا يجدي الاستمرارُ
فيها في شيء؛ فالمعارك المتأخرة خاسرة سلفًا.
في المقابل، فإن الإسرائيليين لم يفوزوا
بالسلام. فلكي يفوزوا به، لا مناص لهم أولاً
من الاعتراف بحقوق الفلسطينيين التي لا تقبل
السلب في العيش على أرضهم. إلى ذلك، كيف يجري
تحليل ما يسميه نص المنتدى بـ"المواجهات
بين الفلسطينيين"؟ فهذه المواجهات، كما هو
مؤكَّد، "شوَّشتْ عددًا من المناضلين".
ويضيف النص: "من أجل تبديد هذا التشويش، يجب
تعميق النقاش حول المسائل المطروحة." وهذا
النقاش بالفعل ضروري، رغم ما يؤكده بعضهم من
أن أنصار القضية الفلسطينية يجب ألا يقتحموا
نقاشًا لا يعنيهم. بادئ ذي بدء، من الأكيد أن
رفض المجتمع الدولي، وبالأخص أوروبا، محاورة
ممثلي "حماس" بعد فوزها في الانتخابات
الحرة والديموقراطية في كانون الثاني 2006 كان
خطأ سياسيًّا فادحًا. فرفض كهذا كانت عاقبته
الحتمية حبس "حماس" في قوقعتها
الإيديولوجية المتطرفة. ناهيكم أن "فتح"،
من جانبها، تتحمل مسؤولية جسيمة عن إخفاق
إدارتها السياسية والاقتصادية للأراضي
الفلسطينية. في تصريح لرئيس
مجلس أمن الأمم المتحدة بتاريخ 3 شباط 2006، "هنأ
الشعب الفلسطيني بمناسبة الاستشارة
الانتخابية الحرة والعادلة التي جرت في أمان".
غير أن الرئيس، في خصوص "المنح المالية
الموضوعة تحت تصرف الحكومة"، لحظ أن [...] الدول المانحة الرئيسية
صرَّحت أنها ستعيد النظر في معونتها مستقبلاً
للحكومة الجديدة للسلطة الفلسطينية في ضوء تمسك
هذه الحكومة بمبادئ اللاعنف [أنا
الذي أشدد] واعترافها بإسرائيل وقبولها
بالاتفاقيات والالتزامات المبرمة سابقًا. ليس للمرء إلا أن
يستغرب إهابة المجلس بالسلطة الفلسطينية أن
تطابق بين سياستها وبين "مبادئ اللاعنف".
وإنه لمن الأهمية بمكان أن نعرف بالدقة ما
يرمي إليه مجلس أمن الأمم المتحدة بهذه
العبارة؛ فأقل ما يقال هو أنه قلَّما يستعمل
عبارات كهذه. وكيف لنا أن نتأكد حقًّا من أن
هذا المجلس بعينه يطابق، في كلِّ قرار من
قراراته، بين سياسته وبين مبادئ اللاعنف؟
فضلاً عن أنه من اللافت أن الرئيس لا يواجه
دولة إسرائيل بهذا المطلب، الأمر الذي كان
عليه أن يفعله حتى يكون منسجمًا مع نفسه.
فبخصوص إسرائيل، يكتفي البيان بإعادة
التأكيد على أن "مواصلة بناء المستوطنات
يجب أن تتوقف" وبتكرار "قلقه من
الاستمرار في رفع الجدار الفاصل" – وهذا
أقل ما يقال. هناك إذن كيل بمكيالين. لذا
تراني، من جانبي، لا أعول على هذه الدعوة إلى
"اللاعنف" التي تبدو لي مريبة. غير أن ما سبق لا
يجيز لنا تبرئة الفلسطينيين من المسؤولية عن
اقتتالهم فيما بينهم والاكتفاء بتجريم
إسرائيل والغربيين. فحين يقتل فلسطينيون
فلسطينيين، فمن قبيل عدم النزاهة الفكرية أن
ننفي المسؤولية الفلسطينية ونكتفي بالقول إن
"الذنب ذنب الإسرائيليين" أو "ذنب
المجتمع الدولي". حين يقتتل الفلسطينيون
إلامَ يؤول تضامننا؟ ألا يتساوى سخفُه مع
عجزه؟ ألا تتساوى قلةُ لياقته مع عدم جدواه؟
ألا يتهشَّم؟ لأن السؤال، في النهاية، هو: ما
القضية التي "يستشهد" المقتولون في
سبيلها؟ ما القضية التي يموتون في سبيلها
ومازالت تستحق تضامننا؟ وهل يعقل أن "نتضامن"
مع اقتتال الإخوة؟! ومع ذلك كلِّه، فإن
تضامننا مع شعب فلسطين المعذب ضروري أكثر من
أيِّ وقت مضى، لكن شريطة ألا يكون هذا التضامن
تواطؤًا أبدًا. وفي المحصلة، يبدو
لي أن الضرورة المطلقة تهيب بالفلسطينيين أن
يقرروا التخلي عن العنف. فهذا القرار
سيزيد من قوته اتخاذُه من طرف واحد. لماذا على
الفلسطينيين حصرًا أن يقوموا بالخطوة
الأولى؟ لأنهم، وإن لم يكن ثمة من رابح في
لعبة الكفاح المسلح المأساوية، أول الخاسرين
فيها. أجدني على يقين من أن إعلان قرار كهذا
سيكون له صدًى هائل ووَقْع لا يُستهان به من
شأنه أن يحول جذريًّا طبيعة نزاعهم مع
الإسرائيليين. فلا ريب أن العزوف عن العنف
سيُبرز القضية الفلسطينية واضحةً جلية في
أعين الرأي العام العالمي ويكفل للفلسطينيين
تضامنًا دوليًّا أكبر بكثير جدًّا مما هو
عليه اليوم. وهذا العزوف عن العنف يجب ألا
يكون مجرد "هدنة": فمنطق المهادنة يندرج
هو الآخر في منطق العنف – إذ هو يبلِّغ الخصم
مسبقًا باستئناف العنف، وهو لا يحوِّل طبيعة
النزاع. وقد سبق لسلطات "حماس"
أن اقترحت على إسرائيل وقف إطلاق نار لقاء رفع
حصاره عن غزة. لكن إسرائيل مازال يؤكد عزمه
على مواصلة غاراته العسكرية على غزة مادامت
"حماس" مستمرة في إطلاق صواريخها. كلا
المعسكرين مازال على منطقه الذي هو منطق
العنف، منطق الموت؛ وكلا المعسكرين مازال
يدَّعي أنْ ليس له من خيار آخر، وأن هذا
الخيار يفرضه عليه خيارُ المعسكر الآخر –
وهذا بعينه ما يسمَّى بـحلقة مفرغة. إن تخلِّي
الفلسطينيين الأحادي الجانب عن العنف لن يظهر
وكأنه فعل ضعف، بل وكأنه فعل قوة. فهو، إذا
نُظِرَ إليه بوصفه كذلك، سيباغت دولة إسرائيل
تمام المباغتة ويشل قدرتها العسكرية التي
تشكِّل قوتَها كلَّها في مجابهة عنيفة. ومن
حسناته أيضًا أنه سيتيح لشبكات المناضلات
والمناضلين الإسرائيلية واليهودية من أجل
السلام أن توسع من نفوذها إلى قلب المجتمع
المدني الإسرائيلي وإلى العالم – وهذا
العامل قد يكون حاسمًا. فالعنف الإسرائيلي،
هو الآخر، عملية انتحارية. ومن ثَمَّ أفلا
ينبغي للإسرائيليين واليهود الذين لا يحول
تمسكُهم بحقيقة إسرائيل دون استهجانهم لما
تقترفه حكومتُها من جرائم وتدمير أن يتبنوا
هم أيضًا إستراتيجية لاعنفية من أجل مكافحة
استيطان فلسطين؟ بالإضافة إلى ما تقدَّم، فإن
عزوف الفلسطينيين عن العنف سيتيح انتشار قوة
تدخل مدنية من أجل السلام، سبق لمشروعها أن
كان موضوع حملة نظَّمتْها "الحركة من أجل
بديل لاعنفي" في العام 2005 بالاشتراك مع
العديد من المنظمات اللاعنفية الأوروبية
والفلسطينية والإسرائيلية[3]. وهذه القوة تتألف من متطوعين دوليين
عُزَّل، اتبعوا تدريبًا خاصًّا على الحل
اللاعنفي للنزاعات، وتوكَل إليها مهمةُ
القيام، وسط الأهالي المدنيين، بأعمال
مراقبة وتوسُّط ووساطة ميدانية، بما يتيح
لفاعلي السلام الفلسطينيين والإسرائيليين
استعادة رهانات النزاع التي يصادرها اليوم
منطقُ العنف ويوجد شروط حلٍّ سياسي للنزاع
يقبلها الطرفان المختصمان. والقصد من ذلك هو
نشر العشرات، بل المئات، بل الألوف من الدپلوماسيين
الميدانيين، الغاية الأولى من حضورهم الأعزل
وسط المجتمعات المدنية تبديد المخاوف
والتخفيف من مشاعر عدم الأمان واتخاذ تدابير
لإحلال الثقة بين المتنازعين. وأكاد من الآن أسمع
أصوات المندِّدين يأخذون عليَّ صلفي إذ
ألقِّن شعبًا مقموعًا درسًا في الأخلاق!
فليطمئنوا، إذ إنِّي أعتبر مما لا يُمَس
المبدأ القائل بأن للفلسطينيين،
وللفلسطينيين وحدهم، أن يقرروا وسائل
المقاومة التي يستنسبونها. فوحدهم، في
النهاية، سيؤدون الثمن الواجب دفعه. لكن
مفهومي عن التضامن لا يحرِّم الحوار ولا
المشاركة ولا النقاش، ولا حتى اختلاف الرأي
عند الاقتضاء. فأنا أعتقد أن هذه الأمور جزء
لا يتجزأ من التضامن الأخوي. رُبَّ قائل يقول إن
الفلسطينيين لم يختاروا العنف عن طيب خاطر؛
فهم مجبَرون عليه بحُكم الوضع الذي فرضَه
عليهم عدوانُ العدو الصهيوني بالتواطؤ مع
المجتمع الدولي. لكن ألا ينطوي الأخذُ بهذا
الاعتقاد على تلميح بأن الفلسطينيين سجناء
قدر مأساوي يقضي عليهم بأن يكونوا إما شهداء
وإما قتلة؟ أليس اعتقادٌ كهذا ينكر عليهم أية
استقلالية في الفكر والعمل؟ أليس في رفض
التحاور معهم في خيار السلاح، واقعيًّا،
إنكارٌ لما نعترف لهم به زعمًا من استقلالية؟
أليس في هذا إعفاء لهم من مسؤولية القدرة على
التحليل واتخاذ القرار؟ أليس الإصرار على
مناقشتهم رهانًا على قدرتهم على استقلالية
القرار وحريته، وفي آخر المطاف، على كرامتهم؟
إن الاعتراف بالمسؤولية الفلسطينية في مأساة
العنف لا يعني الاستهانة بالمسؤولية
الإسرائيلية. فكلتا المسؤوليتين لا تخضع
لمبدأ الأواني المستطرقة. لا، أنا لا ألقِّن
درسًا في الأخلاق، بل أحاول تلمُّس تحليل
سياسي ينطوي على خيار إستراتيجي. لا لأن
التساؤل الأخلاقي خارج عن الموضوع في هذا
النقاش – إذ إنه في النهاية جوهري –، بل
لأني، حاليًّا، لا أنوي الوقوف على هذا
الصعيد. منذ سنوات طالت والعنف الفلسطيني
يلوِّث القضية الفلسطينية في أعين الرأي
العام الدولي. والمناضلون المؤيدون
للفلسطينيين يمتعضون من عدم اكتراث الرأي
العام الدولي، لكن من غير أن يفهموا أن هذه
اللامبالاة، في معظمها، تتغذى حصرًا بالعنف
الفلسطيني. فالفكرة السائدة في أوساط
الأكثرية الصامتة هي أن "من حق إسرائيل أن
يدافع عن نفسه". وعلينا أن نعترف هاهنا،
أعجبنا الأمر أم لم يعجبنا، أن لهذه الفكرة
حصةً من الحقيقة وأنها تفعل في الرأي العام
فعل المخدِّر. قد يؤسف لهذا الأمر قطعًا، لكن
ليس بالمستطاع إنكارُه. إن العزوف عن العنف
كخيار سياسي نحن في صدد تحليله ليس مستلهَمًا
من الخيار اللاعنفي، بل يمليه علينا تحليلٌ
سياسي يجتهد أن يأخذ الواقع الراهن في حسبانه.
غير أن هذا العزوف عن العنف لا يعني البتة
الكف عن المقاومة. فضلاً عن ذلك، ليس القصد
منه هو التخلِّي عن الحق في استعمال العنف، بل
التخلِّي، باسم الواقعية السياسية، عن
ممارسة هذا الحق. وهاهنا بالضبط تنطرح مسألة إستراتيجية
العمل اللاعنفي كبديل عن العنف. ونحن نعلم
أن الفلسطينيين يتفكَّرون في اللاعنف منذ
سنوات عديدة. لكن، حتى فيما بينهم، كثيرًا ما
تسود فكرةٌ مفادها أن الخيار اللاعنفي لا
يجوز أن يتضمن نقدًا جذريًّا للخيار العنفي.
وهم، في أغلب الأحيان، يتشبثون بفكرة أن
ضرورة مقاومة ما يكابدونه من مظالم من جراء
الاحتلال الإسرائيلي تعطي الفلسطينيين الحق
في استعمال العنف. لذا تراهم، حتى حين يختارون
العمل اللاعنفي، يقبلون بمبدأ "تنوع
التكتيكات" – أو لنقل "تعددها" – الذي
يجيز في كفاح واحد التوفيق بين الأعمال
العنيفة والأعمال اللاعنفية. بذا يمكن
للاَّعنف، في نظر الكثيرين منهم، أن يساير
العنف في أية لحظة. ومن هنا لا يطرحون
التخلِّي عن العنف كمبدأ سياسي. لكن ما أكنُّه
لهم من صداقة يجيز لي أن أقول لهم إن موقفهم
غير متماسك: إذا كان للتكامل بين العنف
واللاعنف من معنى من منظار العنف، فهو عديم
المعنى من منظار اللاعنف. إنهم بمجرد أن
يعتبروا اللاعنف مكملاً للعنف وحسب يلبثون في
منطق العنف. مع ذلك، فأنا أتفهم
صعوبتهم: فهم لا يجرؤون على التأكيد على خيار
التخلِّي عن العنف لأنهم يعون أن تأكيدًا
كهذا قد يجعلهم مشبوهين، خونةً للمقاومة
الفلسطينية، في أنظار الكثيرين من أبناء
جلدتهم؛ وصحيح أنهم، لو فعلوا، لن يعدموا مَن
يتهمهم بخدمة الصهاينة من حيث لا يقصدون. ويجب
أن نأخذ بالحسبان هنا أن "ثقافة عنف"
حقيقية قد شاعت بين الشعب الفلسطيني إبان
السنين الأخيرة. بات استعمال العنف ينتمي
إلى خياله الجمعي، حتى أضحى في الأساس من
هويته القومية. وذروة المأساة في هذا الوضع أن
هذه الثقافة هي في الواقع "ثقافة موت"؛ و"ثقافة
الموت" هذه تقوم بالأخص على "تقديس
الشهداء". لذا فإن المهمة الموضوعة على
عاتقنا – وهي مهمة ضخمة – هي إذن تفكيك ثقافة
العنف هذه وبناء ثقافة لاعنفية بدلاً منها. في وضع أمثل، ينبغي
للعزوف عن العنف أن يقترن بخيار إستراتيجية
المقاومة اللاعنفية. فهل هذا ممكن؟ لا شيء أقل
نصيبًا من اليقين في الظروف الحالية. ولعل ذلك
مستحيل حتى، باعتباره إستراتيجية شاملة
يُعمَل بها على مجمل الأرض الفلسطينية. وهو
ليس مستحيلاً في حدِّ ذاته، لكنه مستحيل
بالفعل. غير أن العمل اللاعنفي الملفت للنظر
في بلعين ينفحنا بشيء من الأمل حقيقي[4]. كثيرًا ما قيل بأن
الانتفاضة الأولى، التي بدأت في العام 1987
ودامت أكثر من أربع سنوات ونصف السنة، كانت
"لاعنفية"، وهو أمر، إذا توخينا الدقة،
غير دقيق. أجل، لقد قررت اللجنة التنفيذية
لمنظمة التحرير الفلسطينية منع استعمال
الأسلحة النارية، وكان هذا القرار حدثًا تجدر
الإشارة إلى أهميته، ناهيكم عن أعمال لاعنفية
عديدة (عصيانات مدنية، ومقاطعات، إنشاء
مؤسسات موازية، إلخ) تم تنفيذها. لكن الخيار
اللاعنفي لم يوضع في الصدارة قط. كان رمز
الانتفاضة الأولى هو رمي الحجارة؛ وهذا لم
يكن رمزًا لاعنفيًّا، بل رمز عنف، بحيث إن
المقاومة الفلسطينية لم تستفد من الأثر الذي
كان بالإمكان أن تُحدِثَه مقاومةٌ لاعنفية[5]. لقد أسرَّ إليَّ صديق فلسطيني: "لو
كنَّا لاعنفيين في الانتفاضة الأولى لكنَّا
كذلك في الانتفاضة الثانية." وقد وجدت
كلامه هذا مستلهَمًا من حكمة عظيمة. لقد كانت الأحداث
التي دارت في غزة في الـ25 من شباط الماضي
حافلة بالمغزى. فقد تشكَّلت سلسلة بشرية من
شمال شريط غزة حتى جنوبه بطول يقارب الـ40 كم،
وكان المتظاهرون في معظمهم من التلامذة. وقد
نظمت هذه المظاهرة اللجنة الشعبية المناهضة
لحصار غزة بقيادة النائب جمال الخضري الذي
صرح بأن ما يجري هو [...]
عمل سلمي متحضِّر يتيح للناس التعبير عن
رفضهم للحصار وللعقاب الجماعي. ونحن نطلق
صرخة إنذار لكي يتحرك العالم. وبحسب وكالة
الأنباء الفرنسية، [...]
كان عناصر الجيش والشرطة الإسرائيليَين على
أهبة الاستعداد لمواجهة أي شطط عند الحدود،
ملوِّحين بأنهم لن يتورعوا عن إطلاق الرصاص
الحي كملاذ أخير. وبحسب الصيغة
المتَّبعة "لم يقع حادث ملحوظ". غير أن
بعض الشبان الفلسطينيين، لحظة تشتيت
المظاهرة، قاموا برمي الجنود الإسرائيليين
بالحجارة عند معبر إريتز. إن مثل هذا النوع من
الشطط كفيل وحده بإفساد مظاهرة سلمية. جدير
بالذكر أيضًا أنه في بداية المظاهرة أُطلِقَ
صاروخان من شمال قطاع غزة باتجاه الأراضي
الإسرائيلية. أفلا يوجد تناقض صارخ بين تنظيم
سلسلة بشرية – وهو عمل لاعنفي نموذجي – وبين
إطلاق الصواريخ؟! فكيف يُزعَم أن "الرسالة"
التي وجهها العملُ الأول تكمِّل "الرسالة"
التي وجهها الثاني؟ أجل، لقد أعلن قادة "حماس"
أن إطلاق هذه الصواريخ إنما كان ردًّا على
صواريخ أطلقها إسرائيل وأدت إلى مقتل ثلاثة
فلسطينيين في ليلة 24-25 شباط. إن دوامة العنف
هذه هي تحديدًا ما يفوِّت السلام على كلا
المعسكرين. في 27 شباط، تلقيت
رسالة إلكترونية من زياد مدوخ، مؤسِّس
ومنسِّق "مركز السلام في جامعة الأقصى"
في غزة كتب لي فيها: هناك
الكثير من المظاهرات السلمية ضد الحصار
تنظِّمها منظماتُ المجتمع المدني. فنحن نعرف
أن اللاعنف يمكن له أن يلعب دورًا ثمينًا
للغاية. لا بدَّ لنا من
استقبال إشارة الرجاء هذه. أنا أعي تمامًا أن
هذا الخطاب حول نبذ العنف يصعب سماعُه على عدد
كبير من أنصار الفلسطينيين من الفرنسيين. ومع
ذلك، كلما تفكَّرت في الأمر ازددت قناعةً
بأنه وحده قرار فلسطيني بالتخلِّي عن العنف من
طرف واحد قادر، آجلاً، على قلب المعطيات في
فلسطين. وإلاَّ فإن الأمور سوف تزداد سوءًا
كلَّ يوم، وذلك على الرغم من البهلوانيات الدپلوماسية الحالية؛ وإلاَّ فسنبقى شهودًا،
عاجزين وساخطين، على تصاعُد العنف حتى أقصاه. إن المطالب التي
تقدَّم بها "منتدى المنظمات غير الحكومية
الفرنسية من أجل فلسطين" كلها مبرَّر
نظريًّا: -
الانسحاب
من الأراضي الفلسطينية وقيام دولة فلسطينية
قابلة للحياة ضمن "حدود" 1967؛ -
تفكيك
الجدار؛ -
تفكيك
المستوطنات السكنية وإعادة حرية الحركة
للأشخاص والبضائع في الأراضي الفلسطينية
المحتلة؛ -
الاعتراف
بالقدس الشرقية عاصمةً للدولة الفلسطينية
العتيدة؛ -
الاعتراف
بحقِّ العودة للاَّجئين الفلسطينيين؛ و -
الإفراج
عن السجناء السياسيين الفلسطينيين المعتقلين
اعتقالاً غير شرعي. لكن أخشى ما أخشاه
هو أن تصير هذه المطالب، اليوم وغدًا على
الأرجح، أبعد من المنال. علينا أن نتحلَّى
بالبصيرة للاعتراف أنه نظرًا للوضع السائد
لدى كلا المعسكرين، على الأرض وفي الأذهان
بالأخص، فإن هذه المقتضيات غير واقعية، وهي
اليوم، على أرجح احتمال، أقرب إلى رؤية
مثالية إلى الواقع. والاستمرار في التقدم
بها، على غرار ما يجري منذ سنوات، لن يغير في
الواقع شيئًا على الإطلاق. لهذا السبب، فضلاً
عما سبق، بات مراقبون كُثُر يعتقدون أن الوضع
الواقعي يجعل من المتعذر أكثر فأكثر قيام
دولة فلسطينية قابلة للحياة. لذا بات
فلسطينيون، يتكاثر عديدهم، يتفكَّرون جديًّا
في إيجاد دولة واحدة ثنائية القومية
ديموقراطية وعَلمانية. لكن المصيبة أن هذا
المشروع قطعًا أبعد من المنال سواء بسواء. لقد
كنت أقرأ منذ أيام حوارًا، ظلَّ في منتهى
التهذيب، بين شخصيتين فلسطينيتين صاحبتَي
رأيين متعارضين حول هذه المسألة. وما استرعى
انتباهي هو أن حجج واحدهما لدحض وجهة نظر
الآخر كانت أكثر إقناعًا بما لا يقاس من الحجج
التي اجتهد كل منهما في إظهارها تبريرًا
لوجهة نظره. إلى ذلك، يبقى أن
الأهداف التي تقدم بها "المنتدى" عادلة
من منظار القانون الدولي. من حيث المبدأ، لا
يتوقف احترام المقتضيات التي صاغها
الفلسطينيون على قرار من الفلسطينيين، بل على
قرار إسرائيلي. فالفلسطينيون هم المطالِبون،
والإسرائيليون هم أصحاب القرار. أما ما يملك
الفلسطينيون أن يقرروه فهو تحديد المبادرات
التي يستطيعون اتخاذها لإيجاد الشروط
السياسية التي تتيح لهم تحقيق هذه الأهداف. هل
يجب عليهم، والحالة هذه، أن يستعملوا العنف؟
لقد أجابت الوقائع سلبًا عن هذا السؤال.
والوقائع عنيدة كما نعلم. وجواب الوقائع هو أن
العنف لا يكتفي بعدم إعطاء قضية العدالة
دفعًا إلى الأمام، بل يجعلها تتقهقر. لذا فإن
العدول عن العنف يبدو إذن شرطًا من شروط لا
غنى منها لبلوغ هذه الأهداف. لكن نبذ العنف،
فيما يتعدى مفعوله المباشر على الرأي العام،
لا يكفي وحده، إنما يتيح بالدقة ابتكار طرائق
إستراتيجية مقاومة لاعنفية واختبارها[6]. وفي المحصلة، حيال الواقع السائد في
فلسطين حاليًّا، نسأل: ما هو الخيار الأكثر
واقعية يا ترى؟ وجوابنا هو أن الخيار الواقعي
هو الخيار الممكن والمحتمل والفعال
في آنٍ معًا. وخيار العنف ممكن ومحتمل، لكنه غير
فعال. أما خيار اللاعنف فهو ممكن وفعال،
لكنه غير محتمل الآن. من هنا فإن الخيار الواقعي
هو في اتخاذ جميع المبادرات الممكنة لزيادة
احتمالات الخيار اللاعنفي. إن خيار المقاومة
اللاعنفية يقدم مخرجًا "أمثل"، لكنه ليس
مثاليًّا. وليأمل الفلسطينيون الذين
يختارونها بأن يضعوا معالم ستكون نافعة حين
تحرِّض الجرائم والخرائب وعيًا عالميًّا
بالكارثة. الوضع شديد
الخطورة، ولعله أخطر مما نجرؤ على الاعتراف
به. مع ذلك، ليس ثمة قضاء محتوم، شريطة أن
نجتهد في أن نبرهن عن بصيرة منزهة عن الأوهام.
وهذا اجتهادي في المسألة، غير أني لا أزعم أني
وُفِّقت فيه. المطلوب اليوم هو
اجتناب الأسوأ[7]. والأسوأ قد يكون تفجرًا معمَّمًا للعنف:
الطامة الكبرى. على المجتمع الدولي أن يستنفر
قواه من غير إبطاء لإيقاف الحصار الاقتصادي
الذي يفرضه إسرائيل على سكان "قطاع غزة"؛
فالوضع البشري والإنساني بات فيه مأساويًّا،
بل فادح المأساوية. ينبغي في أسرع وقت، من غير
تحديد أية شروط مسبقة، عقدُ حوار دپلوماسي مع سلطات "حماس"
التي تسيطر على القطاع والضغط في الوقت نفسه
على سلطات إسرائيل. فالذريعة التي سادت حتى
الآن والقائلة بأنه "لا يجوز حوارٌ مع
الإرهابيين" ليست مقبولة، مهما كان إطلاق
الصواريخ مستنكَرًا – وأظنني شددت على ذلك
تشديدًا كافيًا –، إذ لا يجوز الاستمرار في
التذرع بهذه الصواريخ لتبرير قعود المجتمع
الدولي عن التدخل. فمصداقية هذا الأخير حين
يطلب من الفلسطينيين "وقف إطلاق النار"
تقاس بالتزامه، بأكبر إصرار ممكن، احترامَ
أبسط مقتضيات الإنسانية حيال الغزاويين. إن
الشروط كلها متوفرة الآن لتطبيق مبدأ التدخل
الإنساني والديموقراطي. فغدًا سيكون الأوان
قد فات. في
26 شباط 2008 * * * استدراك: 29 شباط. الوقائع عنيدة فعلاً! فمنذ أن فرغت من
كتابة هذا النص، لم تكف الوقائع عن الكلام
بصوت عالٍ وعنيف ومميت. ففي صبيحة الـ27 من
شباط، أصابت غارة جوية إسرائيلية مكروباص لـ"كتائب
شهداء القسام" في خان يونس، جنوب غزة،
فقتلت خمسة منهم وجرحت سادسًا. كما أدت غارة
ثانية على الموقع ذاته بعد دقائق إلى جرح
ثلاثة آخرين. وفي اليوم نفسه، أصاب صاروخ
أطلقتْه المقاومة من قطاع غزة إعدادية ساپير، شمال بلدة
سديروت، إصابةً مباشرةً وقتلت إسرائيليًّا.
وكان هذا أول قتيل إسرائيلي منذ أن تسلمتْ "حماس"
السلطة في غزة في حزيران 2007. وقد أكد بيان لـ"حماس"
أن إطلاق الصاروخ هذا هو "رد على المجزرة
الصهيونية التي ارتكبها الطيران الإسرائيلي
هذا الصباح في خان يونس". بعيد ذلك بقليل،
قُتِلَ فلسطينيان وجُرِحَ اثنان آخران في
غارة إسرائيلية جديدة شمال شرق مدينة غزة.
ويوم الخميس، قام الطيران الإسرائيلي بغارات
عديدة على غزة. وخلال يومين، قُتِلَ 31
فلسطينيًّا، بينهم 15 مدنيًّا، بينهم 8 أطفال
كان أحدهم طفلاً عمره ستة أشهر. ومساء الخميس،
أعلنت "حماس" أنها أطلقت 82 صاروخًا. وقد
أصاب اثنان منها مدينة أشكمون ذات الـ120000
نسمة الواقعة على بعد 40 كم من تل أبيب.
والوقائع ما انفكت تنطق. وكلا المعسكرين
المتعاديين سيستمر في التذرع بقتلاه لتبرير
جرائمه. أجل، إن دوامة العنف لعمياء. لقد كتب
ألبير كامو: لن
نعرف شيئًا مادمنا لا نعرف إنْ كان يحق لنا
قتلُ هذا الآخر الماثل أمامنا أو الموافقةُ
على قتله. [...]
فالقتل هو المسألة. أجل، إن القتل هو
المسألة المطروحة. وعلى كلٍّ منَّا، بكلِّ
مسؤولية، أن يجيب عنها. *** *** *** ترجمة:
أكرم أنطاكي [1] جان ماري مولِّر
هو الناطق باسم "الحركة من أجل بديل
لاعنفي" في فرنسا (موقعها: www.nonviolence.fr؛ إيميلها: man@nonviolence.fr). وقد ترجمت له معابر
ونشرت، بالإضافة إلى أكثر من مقال، قاموس
اللاعنف (بالتعاون مع "الحركة
اللبنانية للحقوق المدنية"). [2] راجع: www.plateforme-palestine.org. [3] راجع بهذا الخصوص مداخلتي في لقاء بيت لحم
الدولي في كانون الأول 2005 بعنوان اختيار
اللاعنف لجعل عالم آخر ممكنًا، "مركز
المعلومات عن اللاعنف في ميدي پيرينيه"،
2006. [5] راجع
بهذا الخصوص دراسة محمد أبو نمر الموثَّقة
والعلمية: Nonviolence
and Peace-Building in Islam, Theory and Practice, University Press of [6] راجع بهذا الخصوص كتاب الكفاح اللاعنفي:
خمسون نقطة محورية [Non-violent struggle – 50 crucial points] للمناضل اللاعنفي
الفلسطيني مبارك عوض الذي هو وثيقة ثمينة
للغاية. راجع أيضًا كتيبي اللاعنف
عمليًّا (من منشورات "الحركة
من أجل بديل لاعنفي")، المترجَم إلى
الإنكليزية والعربية، الذي سيُنشَر قريبًا
على موقع معابر. [7] بينما كان الدم يسيل في غزة إبان الأسبوع
الماضي، اتصل محبو سلام إسرائيليون
وفلسطينيون بعضهم ببعض، بمبادرة من أوري
أڤنيري ("كتلة السلام")، فحرروا
عريضة مشتركة تدعو إلى "وقف فوري لإطلاق
النار"، هذا نصها: "لقد تسبَّب
التصعيد حول قطاع غزة وداخله في معاناة
رهيبة لأهاليها الفلسطينيين، رجالاً
ونساءً وشيوخًا وأطفالاً، وللمدنيين
الإسرائيليين أيضًا. كما تسبَّب العنف الذي
يمارسه الجيش الإسرائيلي في سقوط مئات
الضحايا الفلسطينيين، معظمهم من المدنيين
العزَّل. كما تسبَّب الحصار الاقتصادي
المفروض على غزة في وصول معظم أهالي قطاع
غزة إلى خطِّ الفقر، وتسبَّب في تدمير
الاقتصاد وموت العديد من المرضى بسبب منعهم
من الوصول إلى أماكن العلاج. في المقابل،
تسبَّبت الهجمات الفلسطينية على سديروت في
صدمات نفسيه لدى مواطنيها فاقت حالات
الإصابة البدنية بينهم. "إن
الصراع ليس صراعًا بين قوتين متكافئتين، بل
إن القوة الأعظم في الشرق الأوسط، بدعم من
القوة العظمى الوحيدة في العالم، تقوم
باستخدام ترسانتها العسكرية، من آليات
ودبابات ومقاتلات جوية وطائرات مروحية
وسفن حربية، ضد ميليشيات ذات أسلحة خفيفة
وضد منطقة صغيرة ذات كثافة سكانية عالية
مازال سكانها يعيشون تحت الاحتلال والفقر،
حتى قبل فرض الحصار الحالي. "لكن العالقين
في هذا الصراع، من كلا الطرفين، يعانون
جميعًا. فالألم الناتج عن الخوف اليومي من
خطر الإصابة بجراح أو الإصابة بإعاقة مدى
الحياة والألم الناتج عن الخوف من فقدان
أحد الأحباء هو الألم نفسه، سواء كان الشخص
تابعًا للدولة المحتلة أو للدولة الخاضعة
للاحتلال، تابعًا للدولة المضطهِدة أو
للدولة المضطهَدة، تابعًا للدولة القوية
أو للدولة الضعيفة. "الهجمات على
جانبَي الحدود يغذِّي بعضُها بعضًا
ويعزِّز بعضُها بعضًا. والفلسطينيون في غزة
يعيشون تحت الاحتلال، على الرغم من مزاعم
الانسحاب الإسرائيلي؛ وبالتالي، فإنهم
يبحثون عن سُبُل لمقاومة هذا الاحتلال.
لكنهم حين يقوم بعضهم بإطلاق صواريخ ضد
مدنيين فإنهم لا يفعلون سوى تقديم المزيد
من التبريرات للإسرائيليين لتشديد الحصار
وتصعيد العنف على غزة. "إن دورة العنف وسفك الدماء
مستمرة، كما أن التهديد المستمر
من قبل القادة
العسكريين والسياسيين الإسرائيليين
باجتياح قطاع غزة كاملاً واحتلاله يهدِّد،
في حال حصوله، بوقوع المئات وربما الآلاف
من القتلى. "نحن الموقِّعون أدناه،
إسرائيليين وفلسطينيين، لا نقبل بهذا
الوضع كأمر واقع. فهناك العديد من البدائل
الواضحة عن التصعيد الدموي والحصار الخانق، وهي بدائل تحيي الأمل في
إنهاء الحصار ووقف إطلاق النار المتبادل
والأعمال العدائية كافة. "إن الحصار على
القطاع والعقوبات الجماعية المفروضة على
سكانه هو أمر غير مقبول بتاتًا، وهو شكل من
أشكال العقوبات التي كانت متَّبعة في
العصور الوسطى والتي تتناقض تناقضًا
كاملاً مع أعراف حقوق الإنسان والقوانين
الدولية التي ينبغي على إسرائيل، كدولة
محتلة، احترامُها. "لذا ينبغي أن
يتم رفع فوري غير مشروط للحصار عن غزة، ويجب
أن يتمتع القطاع بحرية الحركة، داخليًّا
وخارجيًّا، للأفراد والبضائع. لقد بات من
الواضح تمامًا أن تفاقم معاناة
الفلسطينيين المدنيين في قطاع غزة لن يحل
مشكلة سديروت؛ بل إن الحل الوحيد هو هدنة
تامة متبادلة ووقف لكافة الهجمات المسلحة
للمحتل الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، بما في
ذلك عمليات إطلاق الرصاص من الدبابات
والقصف بالطائرات المقاتلة والسفن
الحربية، ووقف القتل المستهدف والاجتياح
والاعتقالات، ووضع حدٍّ لإطلاق الصواريخ
وقذائف الهاون وإطلاق الرصاص من قبل
الفلسطينيين ضد الإسرائيليين. "كذلك يجب إعادة
فتح ملف الأسرى، بدايةً من خلال عقد
مفاوضات حول مبادلة أسرى فلسطينيين
بالجندي الإسرائيلي جلعاد شليت. "إننا نرى أن هذه
الدعوة إلى عقد هدنة هي بمثابة دعوة واقعية
قابلة للتنفيذ ومرغوبة من الجانبين،
وستؤدي إلى حقن الدماء وتخفيف المعاناة
وإيجاد ظروف أفضل لتحقيق السلام بين
الشعبين، مع الإقرار بأنه لن يكون هناك حل
نهائي بين الطرفين مادامت غزة والضفة
الغربية والقدس الشرقية تحت الاحتلال." للتوقيع على هذه
العريضة، انقر على الرابط: www.ipetitions.com/petition/ceasefirenow/. (المحرِّر) |
|
|