اللاعنف: معارضة ونظام حكم أيضًا
رسـالة إلى صـديق لاعنفـي

إدريـس مـهـدي

 

ع.، يا صديقي اللاعنفي، باقي الأصدقاء والصديقات في باقي العالم،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد، فنحن نرى أن المقاومة اللاعنفية لا تستمد «شرعيتها» من النصوص المقدسة وغير المقدسة من نصوص الفقهاء والفلاسفة وخبراء القانون الدولي، مثلاً، ولا حتى من الضرورة الملحَّة، لكنها شرعية ذاتية، تستمد قوَّتها من الداخل، من شرعية آلية العمل ذاته، وتكمن بالذات في لاعنف المقاومة بصفتها وسيلة شرعية تبتغي الوصول إلى هدف شرعي. في المقابل، فإن المقاومة العنفية لا تفقد شرعيتها بفعل قوة النصوص الدينية والنصوص الأخلاقية بقدر ما تفقدها من جراء لاشرعية أسلوب العمل ذاته، من جراء لاشرعية ذاتية، هزيلة من الداخل، تتجلَّى حصرًا في لاشرعية المقاومة العنفية كوسيلة غير شرعية تهدف إلى نيل غاية شرعية.

إن المشروع السياسي لفلسفة مبدأ اللاعنف في كتاب الله يكون غير ذي معنى أصلاً إذا كان، بعد استلام أصحابه السلطةَ بالوسائل السياسية اللاعنفية، يؤمن باستعمال العنف؛ ويكون غير ذي معنى مرتين إذا كان يؤمن بشرعية هذا العنف، وإنْ يكن ذلك لأهداف «شرعية»، ويكون قد حكم على نفسه بأنه مشروع سياسي غير قابل لتسلُّم الحكم وممارسة السلطة، ولكن لقب الحكم فقط ليس غير، فيكون أشبه ما يكون، من زاوية، بحزب يصلون إلى سدة الحكم بالوسائل الديموقراطية، ثم ينقلبون عليها إذا هم استحلوا دفء السلطة وممارسة ما يشبه نوعًا من الألوهية! وهذا بالذات ما يخيف في الحركات الإسلامية ذات التوجه السياسي في العالم العربي: فـ«جبهة الإنقاذ» في الجزائر كانت أكثر من واضحة في إعلانها أن «الديموقراطية كفر» بعد أن أصبحت، بوسيلة الديموقراطية نفسها، على بعد نصف ذراع من استلام السلطة. – وإذ ذاك ركب الجيشُ هذه الذريعة مثل الذئاب البرية الجائعة، وكانت بداية القارعة!

ومن ثم فنحن نرى أنه، مهما تكن الظروف التي قد تضطرنا، في التصور الإسلامي، إلى ممارسة العنف المضاد، فإنها لا تجعل من هذا العنف أبدًا عنفًا «ضروريًّا» أو عنفًا «شرعيًّا» أو عنفًا «أخلاقيًّا» أو عنفًا «مقدسًا». لكننا حين نمارسه عند «الضرورة» (التي نخالها ضرورة، وقد لا تكون كذلك)، فإن مبدأ اللاعنف يُلزِمُنا أن نوقن بأننا نمارس عملاً غير شرعي، عملاً لا يليق بمبدأ الإنسان، يناقض فلسفة الحياة ويناقض جوهر الإسلام بالذات. إذ ذاك فقط تستحق هذه اللغة، حتى وهي لغة عنيفة، – على أن تمارَس على هذه النية وضمن شروط قصوى من هذا النوع، – أن نصفَها بـ«لغة الأنبياء». وهذا، في نظرنا، ما كان يعتقده الأنبياء في أثناء اضطرارهم إلى استعمال العنف المضاد، دون أن يعترفوا له بمثقال ذرة من «الضرورة» الأبدية أو «الشرعية» السماوية.

هذا التحليل، يا صديقي ع.، يوجد في مقابل ما تذهب إليه على زاوية مستقيمة، وفي مقابل ما تذهب إليه غالبيةُ الكتابات اللاعنفية، من الشرق ومن الغرب معًا، ومن باب أولى ما تذهب إليه الديموقراطيات الحالية، وعلى رأسها أمريكا، في حربها على العراق مثلاً، أو ما تذهب إليه «القاعدة» في حربها على أمريكا نفسها.

والحاصل أن «القاعدة» نفسها تمارس عنفًا مضادًّا، بل قُلْ إرهابًا مضادًّا، تعتقد أنها اضطرت إليه اضطرار المُكْرَه، لا اضطرار صاحب فرصة الاختيار بين حزمة من الخيارات السياسية؛ وأن أمريكا تمارس إرهابًا بنيويًّا بأحدث الأسلحة وضد إرادة العالم ومؤسَّساته القانونية كلِّها، وتكذب على العالم، وتعرف أنها تكذب على العالم، والعالم يعرف أنها تكذب عليه وأنها لم تضطر إلى العنف والتدمير اضطرار المُكْرَه. ومهما يكن من أمر، فإن كلاًّ من معسكرَي أمريكا و«القاعدة»، وتحت حكم «الضرورة القصوى»، الصادقة والكاذبة معًا، جُندٌ، لكلِّ طرف منهما سلاحُه وجندُ «ربِّه» أيضًا إلى جانبه، جعل من عنفه وسفكه للدماء البريئة (وغير البريئة) عنفًا «شرعيًّا» تباركه السماءُ نفسُها وتشرِّعه!

والحال، في نظرنا، أن «رب» أمريكا و«رب» «القاعدة» كليهما، عندما يبرِّران ممارسة العنف وسفك الدماء البريئة، بمباركة من بوش ومن بن لادن معًا، فإنهما لا يجعلان من «عنف الأوضاع الظالمة» و«العنف المضاد» شيئًا مقدسًا أو عملاً مباركًا، ولا من بوش ومن بن لادن قديسَين، لكنهما يصيران فقط «ربين» لا يستحقان معًا صفة الربوبية بالذات.

وفي رأينا، يا ع.، أن فلسفة اللاعنف عند خالص [جلبي]، – وهي فلسفتك أيضًا، – في هذه النقطة الحادة بالذات، بإضفائها الشرعية على «العنف» الذي يستعمله خليفةٌ شرعي أو تستعمله حكومةٌ شرعيةٌ تصل إلى الحكم برضا الناس وبكلِّ الشروط التي اشترطتْها، لكنها في المقابل تطالب أتباع حركات التحرر بأن يموتوا جامدين باسم اللاعنف – هذه الفلسفة، نقول، لا تبتعد إلا بضعة أمتار فقط عن فلسفة أمريكا و«شرعية» عنفها في العراق، وعن فلسفة القاعدة و«شرعية» عنفها المضاد في أمريكا نفسها.

والسبب أنك وخالصًا لم تنتبها إلى أن فلسفتكما في هذه النقطة، عند هذا المنعطف الحاد جدًّا، لم تعد تحارب العنف ولم تعد تلغيه، مهما كنَّا نعلن ذلك آناء الليل وأطراف النهار، بل صارت تُمِده بأسباب الحياة، وتستمر في إنتاجه بالذات، وتتابع استنساخه بنسخة أصلية جدًّا وشرعية جدًّا، وتستنزل عليه بركة النبوة والسماء، لأنها صارت فلسفةً تعترف به، عند نقطة معينة على الأقل، بل وترفعه إلى مستوى «لغة الأنبياء»! وإذ ذاك، عند هذه «الشرعية» بالذات، صارت تُمِد العنفَ بـ«الوجود»، وبـ«شرعية الوجود» أيضًا، كتذكرة مفتوحة إلى يوم القيامة، كان العنف ومازال في حاجة إليها كأحسن ترياق «سماوي» لمتابعة الحياة والقدرة على النمو والتكاثر، بمباركة من الأنبياء ومن ربِّ الأنبياء نفسه بالذات!

والحال، يا ع.، أن هذه الشرعية والقدسية التي يضفيهما الباحثُ اللاعنفي على العنف تحت غطاء حكومة شرعية، وباسم الأنبياء وربِّ الأنبياء، لا تجعل منه عنفًا شرعيًّا ولا عنفًا مقدسًا في نظرنا، لكنها تلغي هذه الشرعية وتنزع هذه القدسية عن هؤلاء الأنبياء وعن ربِّهم أيضًا بالذات.

وأكياس عامرة لك بالصبر وبالمروحة على قراءة هذا الصداع!

وباقي الأكياس للباقين جميعًا.

إدريس
صديق اللاعنفيين

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود