|
العـنـف ضـعـف واللاَّعـنـف قـوَّة
ثمة قيمة ممكنة للاَّعنف أو للأشكال غير العنيفة من
المقاومة.[2] 1. مقدمة: تنامى العنفُ في الآونة الأخيرة في حضارة "اِقرأ" تناميًا ملفتًا للانتباه، ولجأ النهجُ "النضالي" إلى عسكرة وسائل المعارضة، وتحولتْ قوى الممانعة إلى ميليشيات تمارس البلطجة و"التطهير العرقي"، واعتمدت الدولُ الرسمية الحلَّ "الأمني" الأقصى في التعامل مع المعارضات الديموقراطية والاحتجاجات الاجتماعية، واندلعت حمَّى المذهبية والحزبية والتقاتل الأهلي والتحارب الطائفي. وقد نجم عن ذلك كلِّه فتكٌ بالأرواح البريئة، وإزهاقٌ للأنفُس المحايدة، واعتداءٌ على أبسط حقوق الإنسان الأساسية، وتعطيلٌ لعملية النهوض والتنمية، وتسريعٌ لقابلية الاستعمار ونسق التدخل الأجنبي في السيادة الوطنية. ربما يؤدي هذا الشر المتفاقم كلُّه بالحكمة العالية والعقل الرصين والتأمل الحصيف إلى أن يتفكَّر جديًّا في المفاهيم المناقضة البديلة – مثل اللاعنف، والمقاومة الثقافية الاجتماعية، والمعارضة السياسية القانونية، والصفح والمصالحة، وحضور الإنسان المسالم في التاريخ – احترامًا لمصالح العقل العملية والغايات الجوهرية لنشاطه التأملي الكوني، ويشرِّع لإمكان الكلام على دورٍ ممكن لأخلاقيات النقاش وآداب المناظرة والحوار العقلاني، من أجل إرساء هدنة وجودية وعقد حضاري وإجماع مرجعياتي (نسبة إلى الهيئات والاتحادات والمرجعيات الفقهية) يضمن إعادة تملُّك واعية للذات، تؤصِّل علاقتَها مع الأغيار ومع التراث، وتدفع بها نحو صنع المستقبل، مسلَّحةً بقيم الحرية والإبداع والديموقراطية الاندماجية والتشارُكية الفعلية. إن الأمر الجلل عندنا هذه الأيام أن "أزمة الهوية" لدينا قد تحولت إلى حرب أهلية محلِّية، ويمكن لها أن تتسبب في حرب عالمية جديدة بين حضارة "اِقرأ" من جهة وبين إمبراطوريات العولمة وتابعيها من جهة أخرى؛ وإن وجهة العالم بأسره، سلبًا وإيجابًا، قد تتحدد في وطن الكينونة وعلى المسطَّح الذي جهَّزه العرب للتدبير والتعقل. فكيف نوقف هذه الحرب الأهلية المقيتة، فنمنع معاودة ظهور "الفتنة الكبرى" على أراضينا؟ وكيف يمكن لنا أن نؤهِّل الساكن الأصلي حتى يقدر على الاضطلاع برسالته الوجودية الكونية في الآتي القريب؟ ألم تَحِنْ ساعةُ التسلح بالقلم والنقد والحقيقة؟ ألا تكفينا الحروب التي خضناها، والنزاعات التي مزَّقتْنا، والمهاترات التي زرعت فينا بذور الفتن والتشرذم؟! إذا كان العنف رذيلةً وضعفًا، فهل اللاعنف والمنزَع السلمي فضيلة وقوة؟ وهل يكفي التسلح بـ"الإرادة الطيبة" في الصراع السياسي للقضاء على الشرِّ والظلم؟ ألا يوجد تباعُد وغربة بين ما هو "سياسي"، بما هو يرمز إلى القوة والسلطة، وبين ما هو "أخلاقي"، بما هو يرمز إلى الواجب والحق؟ وأي حضور للإنسان المسالم في التاريخ؟ ما تفسير المنحى المرعب للإرادة والخطر المتأتِّي من سلامة النيِّة في عالم سيء؟ كيف يمتلك اللاعنف قدرةً على الحضور والتأثير في حركة التاريخ أكثر من العمل العنيف ذاته؟ وهل يعني تبنِّي اللاعنف الركونَ إلى "اللاَّمقاومة"؟ إن رهان البحث في هذه المسألة لا يرتبط بمسألة الفرمان العثماني أو بمجرد إصدار فتاوى وقرارات – فالكتَّاب ليس لهم مثل تلك السلطة الميتاتاريخية! – بل إن الرهان يقف على أرض زمنية، تعترف بلامعصومية الإنسان وتناهيه، وتكتفي بطرح الأسئلة والتنبيه إلى المخاطر والأزمات. وإنه لشرف أن يكون الكتَّاب أكثر الفئات وعيًا بالأزمة، بل بالكارثة، التي ستحل بالساكن الأصلي نتيجة لجوء إمبراطوريات العولمة في الخارج والدولة في الداخل إلى العنف. لكن لماذا تجد الدولُ نفسَها مرغمةً على الالتجاء إلى العنف؟ 2. الدولة بين
المشروعية والعنف: الدولة تُحدِثُ بُعدًا جديدًا من العنف الجماعي عندما تُقِيمه في
حرب.[3] تكشف الفلسفةُ عن مفارقة صارخة تهز عمل السياسي من جذوره، وتتمثل في المعادلة الصعبة التالية: الأذى الذي تسبِّبه الأنظمةُ الحاكمةُ للشعوب لا يتغذى إلا من العقلانية الصارمة التي تعتمدها هذه الأنظمةُ في حُكمها لشعوبها: فكلما ازدادت درجة العقلانية ازدادت درجة الأذى الذي يعاني منه المحكومون! هذا ما التقطتْه عينُ پول ريكور الناقدة، في كتابه الحقيقة والتاريخ، من مسرح الأحداث السياسية العالمية في زمانه. فهناك اغتراب ناتج عن السياسي، كونه حقلاً تجد فيه السلطةُ حريتَها مطلقةً لفعل ما تشاء بالخلق. وحتى عندما نتحدث عن حرية ممارسة السلطة، وغياب أجهزة المراقبة والمحاسبة، وضعف محصِّنات الديموقراطية، وانعدام المؤسَّسات التي تسهر على حماية "العقد الاجتماعي"، فإننا في الواقع نتحدث عن الشرِّ والظلم والأذى التي يسبِّبها السياسي للمجتمع. إذن فكل دولة تحتاج من جهة رأسها إلى عقل يركِّز النظام ويسرِّع عجلة التنمية؛ ولكن هذا العقل نفسه يتحول إلى معتقَل وقوة تأديب وعقاب، وبالتالي، تخسر الدولةُ ما حقَّقتْه من مكاسب، وتفوِّت عليها ما كانت قد أحرزتْه من تقدم. ألم يقل ماركس، في نقده هيغل، أن [...] الدولة لم تعد تمثِّل العالم الحقيقي للإنسان، بل تحولت إلى عالم آخر، عالم غير واقعي. فهي لم تحل التناقضات الواقعية إلا في حقٍّ وهميٍّ أصبح، بدوره، في تناقُض مع العلاقات الواقعية بين البشر؟ إن مشكل الدولة مزدوج معقَّد: فهي أكثر عقلانيةً من الفرد، وأكثر انفعاليةً وتأثرًا منه. إنها تحتاج إلى القوة، لكن الإفراط فيها يحوِّلها إلى أداة قهر وتسلُّط؛ وتحتاج إلى اللين والمرونة، لكن الاكتفاء بهما قد يحوِّلها إلى جهاز ضعيف وسلطة من ورق! كما أن مشكل الديموقراطية يتمثل في قدرة الشعب على مراقبة الدولة؛ ولكن مشكل المراقبة نفسه غير قابل للتحديد والضبط: إذ ما هي شرائح الشعب التي تتمتع بمشروعية مراقبة أداء الدولة؟ هل هم السياسيون المعارضون، المتعطشون للاستيلاء على الحكم، أم هم المثقفون الذين يُخفون ضعفَهم من خلال توهُّم الإبداع ويسترزقون من موائد الحكام؟ هل هم نشطاء منظَّمات حقوق الإنسان والكهنة الجُدُد للمجتمع المدني، أم هم الفقهاء من أهل الحلِّ والعَقْد الذين حوَّلوا الـ"مرجعية" إلى سلطة "رجعية"؟ إن الجمع بين الحق والقوة يمثل مشكلاً لأية دولة. وآية ذلك أن الحق دون قوةٍ تصونُه حقٌّ ضائع، والقوة دون حقٍّ يراقبها هي سلطان غَشوم. على هذا النحو، يبرز، مع نشأة الدولة، بعضٌ من العنف المشروع. ويبدو أن الوجود السياسي للإنسان يسهر عليه عنفٌ "مشروع" هو عنف الدولة؛ ودون ذلك لا يكون المواطن مواطنًا صاحبَ حقوق ضمن دولة تُعرَّف على أنها جسم سياسي وجهاز حقوقي ينظِّم العلاقات بين الأفراد ويبني علاقاتِ حسن جوار مع الدول الأخرى. بيد أن عنف الدولة لا يكون مشروعًا إلا إذا اتخذ طابعًا جزائيًّا محضًا، وحرص على ترسيخ العدل والإنصاف في تطبيق القوانين. ولا يكون ذلك ممكنًا إلا إذا منعت الدولةُ التجاءَ الأفراد والجماعات والطوائف إلى العنف المنفرد لحلِّ النزاعات التي تحدث بينهم، فتحتكر ذلك لنفسها وتعيد توزيعه على شكل قوانين وهيئات تضمن السِّلم الاجتماعي. من هذا المنطلق، فإن سلطة الدولة ينبغي أن تكون السلطة التي لا رادَّ لقرارها؛ وهي التي ينبغي أن تجمع بين السلطة المادية للإرغام والسلطة المعنوية لتحديد الواجب والمسؤولية. لكن مَن الضامن أن تلتزم الدولُ كلها استعمالَ الحدِّ الأدنى من العنف المشروع؟ ألا يمكن للعنف الذي يتخذ طابعًا جزائيًّا أن يتحول، عندما تستأثر الدولةُ بقوة الردع لنفسها، فتتولَّى مهمة العقاب على نحو مباشر وقاسٍ، إلى عنف "غير مشروع"؟ ثم ألا يولِّد ذلك التوجُّه الخاطئ ردود أفعال عنيفة من قبل المجتمع، فتنتشر ثقافةُ الحقد والضغينة وردودُ الأفعال غير المحسوبة؟ ألا تتحول هذه الدولة نفسها، نتيجة استعمالها العنفَ غير المشروع، إلى دولة مستبدة؟ 3. لامشروعية
العنف: الذهاب إلى الحرب يعني بنظر الفرد، في الوقت نفسه، قتل الإنسان الآخر، مواطن الدولة الأخرى، ووضع حياته في الميزان لكي يستمرَّ وجودُ دولته.[4] يظهر العنف وكأنه البُعد المحبَّذ الذي يتغيَّر من خلاله شكلُ التاريخ؛ فهو الإيقاعُ الذي يتعدَّل بموجبه زمنُ البشر والبنيةُ التي تتقوَّم بها أشكالُ الوعي. فالتاريخ برمَّته مسرح لتفجُّر قوة العنف؛ وأيُّ بحث عن اللاعنف والسلم والتعايش يظهر وكأنه وعي مقلوب بالتاريخ وسوء نية، لأن الوعي بالتاريخ والوعي التاريخي والتاريخية جميعًا تؤكِّد حقيقة العنف الساطعة في صيرورة الأحداث، الغابرة والسالفة والحاضرة والمتوقعة. فمعارضة الحاكم الجائر، ومقارعة الاستبداد، ومقاومة المحتل والتصدي للغازي، كلُّها حركات احتجاجية وأفعال رافضة شرعنت "العنف الثوري" واعتبرت اللجوءَ إلى القوة والسلاح أمرًا مشروعًا! صحيح أن حركة التاريخ خاضعة لصراع الأضداد ولعبة التناقضات، وأن ولادة الأحداث ولادة صعبة تنبجس عبر الهدم والتحطيم، وأن التاريخ يصنعه الأمواتُ أكثر من الأحياء؛ وصحيح أيضًا أن الوعي شقيٌّ، منزعجٌ من ذاته على الدوام، وأن الحقيقة مأساوية ومزعجة، وأن المعرفة الموضوعية فكرة باردة وقاسية وخالية من كلِّ روح وحياة، وأن الدفاع عن الدول والأمم لا يكون بالكلام، وأن النبي "المنتصر" هو النبي "المسلح"... ولكن علينا أن نحترز من هذا الكلام الآن: فالوضعية غير الوضعية، والمقام غير المقام: ينبغي ألا ننسى أن الفارابي لم يكتب المدينة الفاضلة لترجمة جمهورية أفلاطون، – فهذا تحصيل حاصل، – بل من أجل بناء دستور وحدة حضارية زمنَ تشتُّت الخلافة العباسية، وأن الماوردي لم يكتب الأحكام السلطانية ليكشف عن السياسات الدينية للدولة الإسلامية، – فهذا ثيوقراطية مقيتة، – بل ليشرِّع ضرورة التمييز بين السلطان الروحي والسلطة الزمنية، بين مؤسَّسة "الإمارة" ومؤسَّسة "الوزارة"، – وذلك أمر حيوي من أجل تذرية السلطة ونقد تمركُزها الهرمي؛ وينبغي ألا ننسى أن الرسول العربي رفع السيف دفاعًا عن النفس وهو كاره له، وردَّ الفعل ضد معارضيه ولكنه أقل ردود الفعل دموية في التاريخ، خاصةً بعد مؤاخاته بين المهاجرين والأنصار، وإيقافه للتباغض بين الأوس والخزرج، وكتابته "الصحيفة" المشهورة التي ذكر فيها أن أهل الكتاب أمَّة إضافة إلى أمَّة المسلمين، كما تفادى المواجهة المباشرة بحفر الخندق في "غزوة الأحزاب"، وأبرم "صلح الحديبية" مع اليهود، وعزم على الحج دون سلاح، وعقد "بيعة الرضوان" خارج معقله، وفتح مكة دون قتال، وأصدر العفو التشريعي العام عن مناوئيه وأمَّن مَن يدخل بيت أبي سفيان. من هنا فإن العنف ليس في كلِّ الأحوال القرارَ الأصح والوجهةَ الإستراتيجية التي ينبغي للجماعة أن تنخرط فيها دائمًا وأبدًا وفي المواقف كلِّها، بل يمكن له أن يكون علامة يأس وفشل وضعف وتعبيرًا عن انسداد الآفاق، يكشف عن وجود مشكلة في تحديد العلاقة الأنسب بيننا وبين "الآخر"؛ وهو يحتوي على نوع من الجنون المؤقت يسعى للتخلص من أشكال الرقابة كلِّها، وينتهي إلى تدمير الذات والاستسلام والانتحار الجماعي. من ناحية أخرى، يُنتِج الوضعُ العنيفُ تواطئًا أخلاقيًّا بين الجلاد والضحية، يتفقان بموجبه على تحطيم كلٍّ منهما الآخر، فيخرج الإنسانُ من ذلك كلِّه خاسرًا أكبر، لأن الذي يحصل عليه الإنسانُ عن طريق العنف من انتصار وغنائم وتحرير يظل عديم القيمة ولا معنى له، لأنه كان على حساب ما هو أفضل منه. وبالتالي، لا يجوز أن نُخضِعَ قيمَ الحق والكرامة والعدل لسلطة الأقوى؛ إذ ليس للضعيف من حيلة أخرى يتسلَّح بها في كدحه من أجل البقاء سوى سلطة القانون. لكنْ ألا يقتضي احترامُ القوانين وقفةً شُجاعةً من الضمير العالمي، ووصولَ البشرية إلى مرحلة متقدمة من الوعي، حتى يتم القضاءُ على الحرب والعنف؟ فكيف يتحقق الوعي بالعنف؟ 4. نجاعة اللاعنف: إنه ليوجد، إذن، مقام من مقامات المجتمع – هو عنيف بمثل ما هو باقٍ على عنفه بحُكْم الأصل وبحُكْم العرق – فيه ينتصر الكلامُ على العنف.[5] يُقارِن بعضُهم بين طُهْرية العنف البنيوي ونجاعة اللاعنف الدائمة، على الرغم من أن المقارنة هنا لا تجوز، لأن العنف، بجميع أشكاله، مُدان، واللاعنف، في وداعته وهيبته وسحره، أمرٌ مقدس يحظى بالاحترام والتبجيل. فعندما نتذكر المسيح أو الرسول محمد أو غاندي أو نِلسُن مانديلا أو الأم تريزا أو فيصل الحسيني، نجلُّهم ونستحسن أفعالهم ونعتبرهم شموعًا أضاءت – ولازالت تضيء – للبشرية الدرب نحو الحرية والخلاص والمحبة. أما قال غاندي: إن اللاعنف ليس خضوعًا راضيًا للشرير، بل مواجهةُ إرادةِ المستبد بقوة النفس كلِّها؟ اللافت للنظر أن اللاعنف لن يكون فاعلاً، ولن يسطع نجمُه، إلا إذا خرج من دائرة الفرد إلى دائرة الجماعة، وانتقل إشعاعُه من مجال الأخلاق إلى مجال السياسة، ولن يكون ناجعًا إلا إذا تحول إلى فعل مؤثر في حركة التاريخ. إذ يكفي أن يرفض أحدُهم الانصياع في صمت أو أن يقول "لا" بطريقة لائقة حتى يدشِّن مرحلةَ اللاعودة إلى المرحلة القديمة وحتى يخطَّ، بموقفه الهادئ الرصين الشجاع، صفحةً بيضاء ناصعةً من تاريخ أمَّته: ألم يرفض المطران دزمُند توتو العنصرية، ووقف فلاسفةُ ألمانيا ضد النازية، ودفع ياسر عرفات حياتَه ثمنَ معاندته للمشروع الصهيوني، رافعًا شعار غصن الزيتون؟! إن اللاعنف لن يكون له معنى إلا إذا تعالى المبشِّرون به عن زبالة إيديولوجيات التاريخ الوضيعة، وولُّوا وجوهَهم شطر نداء الأقاصي، ونادوا برسالة الطير المهاجر الذي لا يميِّز بين أرض وأرض، بين دين ودين، وبين بلد وبلد، فتكون قلوبُ الناس جميعًا جنسيتَه، والأوطانُ كلها وطنَه، والمقدساتُ كلها قبلتَه، لأن [...] ديانة اللاعنف ليست للقدِّيسين وحدهم، إنما هي للناس أجمعين. إن اللاعنف قانون نوعنا، كما أنَّ العنف قانون البهيمة، على حدِّ قول غاندي. ثم ألم يُلزِم الله خاتم رُسُله ألا يكون "فظًّا غليظَ القلب" حتى لا ينفضوا من حوله [آل عمران 159]؟ ألم يوحِ إليه: فذكِّرْ إنَّما أنتَ مذكِّرٌ، لستَ عليهِم بمُسَيطِر.
[الغاشية 21-22]؟ هكذا، يمكن للاَّعنف أن يكون إستراتيجية المعارضة في الداخل، وحتى المقاومة ضدَّ الخارج، شريطة أن يجمع بين الحشود والفئات والطوائف، فلا يفرِّق إلى ملل ومذاهب وأعراق، وذلك عندما يحقِّق غاياتِ الوطن ومقاصدَ الدين ومصالحَ الناس وأهدافَ الحضارة، ويفتح للبشرية عصرًا من التقدم والرقي. بذا يمكن لحضور الإنسان المسالم في التاريخ أن يكون حضورًا فعالاً، شريطة أن يوحِّد في بنية شخصيته بين الفكر والقول والفعل. انظروا كيف كانت الانتفاضة الأولى حركةً غير عنيفة، سلمية، هادئة، جسَّدت ملحمةً خالدةً بالمعنى التام لكلمة "ملحمة"، وانظروا أيضًا كيف شاركت فيها النسوة والأطفال والمثقفون والشيوخ، وتفكَّروا فيما أحرزتْه من تعاطُف ومؤازرة وتأييد من شعوب العالم كلِّها ومن محبِّي الخير والعدل؛ وانظروا، في المقابل، كيف تتحول حركات "المقاومة" إلى أجنحة مسلَّحة تتصادم على السلطة، وتلوذ بالمرجعيات الرجعية لتُصلِح فيما بينها وتتدخل لها، حتى يرضى عنها أعداؤها، وتسمِّي ذلك "اعتدالاً" و"مرونة" و"تأقلُمًا" مع النظام الدولي الجديد! فكيف لهذا السِّلم أن يؤدي إلى التمسك بحقِّ العودة ويبشِّر، في الآن نفسه، بالحفاظ على القدس والأرض مغتصبةً والثوابت مسقطةً من طاولة المفاوضات؟! وكيف للسلاح أن يؤدي إلى التفريط والهرولة والتعليل، وتبرير الاقتتال الداخلي، والتكالب على سلطة مفقودة على أرض الواقع، والتفريط في سيادة مُداسة بأقدام الغرب الطامع والنظام العربي المنتفع؟! إن شعار اللاعنف هو: لا تقتل، ومبدؤه هو: أحببْ لغيرك ما تحب لنفسك، وانشد حرية الآخرين في اللحظة التي تنشد فيها حريتك، ومجاله هو: الكلام والخطاب – ونحن نعلم أن من الكلام يوجد القول–الحسام، وأن مَن يملك سلطة الخطاب يملك الشكل الأقصى للسلطة: فهو فعل لغوي بامتياز، وحركة كلامية، أو لنقل، حركة نبيلة ومبادرة فردية يمكن لها أن تتحول إلى قانون أخلاقي وأصل ديني وقاعدة فقهية ومبدأ فلسفي يحقن الدماء، يطهِّر التاريخ من الدنس والوجه الدموي المظلم، ويزكِّي النفوس ويُصلِح الأفعال. أليس المسلم الحقيقي هو "مَن سَلِمَ الناسُ من لسانه ويده"، كما يوصي بذلك نبي البشرية محمد (ص)؟ 5. خاتمة: لا أريد فصل هذه التجارب المنفردة لحكمة الصراع الأخلاقي والسياسي ضد الشر الذي يستطيع تجميع الناس ذوي الإرادة الطيبة كلِّهم. في خصوص هذا الصراع، فإن هذه التجارب، مثل أفعال المقاومة غير العنيفة، هي استباقات في شكل رموز حِكَمية للوضع الإنساني، حيث مع اختفاء العنف، يصبح لغز التألم الحقيقي، التألم غير القابل للاختزال، عاريًا.[6] اللاعنف رسالة أخلاقية نبيلة تعلِّم الإنسان وتُخرِجُه من غفلته إلى اليقظة ومن جحوده إلى الشهود. فهو مطلوب في الحالة الداخلية لتجاوُز حالة الفتنة بين المذاهب والأحزاب، بين الأنظمة والشعوب، ولإيقاف حمَّى الحرب الأهلية، المدنية والعسكرية، الجالبة للويلات والمنذرة بالشؤم على حضارة "اِقرأ". وهو أمر متروك للقوى الغازية والمحتلة في الحالة الخارجية: فإن أرادت السلم والتعايش وتخاصُب الحضارات وحوار الأديان فيا حبذا، وكفانا حروبًا واقتتالاً ودمارًا؛ وإن لم تُرِدْ فذلك أمر آخر، واللجوء إلى المقاومة المسلَّحة قد يصير عندئذٍ أمرًا مكروهًا، لكنه مشروع وواجب في ظلِّ عودة الاستعمار واستفحال الاستيطان، لكنْ بعد استنفاد جميع الإمكانات الهائلة التي يتيحها منهج اللاعنف. بدلاً من أن تتنافس الدولُ الفقيرة المنتمية لدائرة الضاد على التسلح وعلى امتلاك الطائرات والدبابات والصواريخ والبوارج والغواصات، فلتتنافسْ على اقتناء الغذاء وتوفير الماء وصنع الدواء وتجهيز المساكن وإيجاد فرص الشغل للعاطلين، ولتعمل على حلحلة مشكل الهجرة والجريمة المنظَّمة والكوارث البيئية والمجاعات! أملنا أن ينجح "صلح مكة" في إصلاح ما أفسدَه اقتتالُ غزة والضفة، وأن يعود الرشدُ إلى جميع الفرقاء في العراق ولبنان وأرجاء حضارة "اِقرأ" كافة، من أجل أن تتحقق المصالحةُ والصفح، وأن تتضافر الجهودُ من أجل التنمية والتحرير عن طريق السِّلم واللاعنف – نهجًا – وإلا، فعن طريق الكفاح والقوة – كُرهًا واضطرارًا[7]. بيد أن ما نتخوف منه هو أن يكون التبشيرُ باللاعنف قيمةً، وبالمسالمة مقامًا للوجود في العالم، تكريسًا للاستسلام ودعوةً للتطبيع والانبطاح أمام الثقافة الغازية والمشاريع المعادية. فكيف يكون تبنِّي اللاعنف خيارًا إستراتيجيًّا لتعزيز حركة المقاومة والصمود، وليس علامةَ انهزام وتقهقُر؟ وكيف نجعل السلم والصفح والسماحة أفكارًا توجيهية تعبِّر عن جوهر الإسلام الحق بدلاً من السيف والقتال والتكفير؟ ما هي الشروط التي ينبغي أن تتوفَّر حتى يكون اللاعنف شيئًا مغايرًا للفعل الارتكاسي السلبي، بعيدًا عن "الدرجة صفر" من الفعل معروضةً على هامش التاريخ؟! *** *** *** مراجع أساسية
-
ريكور، پول، الحقيقة والتاريخ، طبعة
Seuil، باريس، 1955.
-
ريكور، پول، العادل، الجزء الأول، بتعريب المجمع التونسي للعلوم والآداب
والفنون، بيت الحكمة، قرطاج، 2003.
-
ريكور، پول، فلسفة الإرادة: الإنسان الخطاء، بترجمة عدنان نجيب الدين،
المركز الثقافي العربي، بيروت/الدار البيضاء، 2003. [1] كاتب فلسفي. [2] پول ريكور، الحقيقة والتاريخ، ص 235. [3] پول ريكور، المرجع المذكور، ص 239. [4] المرجع المذكور، ص 256. [5] پول ريكور، العادل، الجزء الأول، ص 11. [6] پول ريكور، فلسفة الإرادة: الإنسان الخطاء، ص 246. [7] لا يخفى على القارئ ما ينطوي عليه هذا الرأيُ من تناقُض مع بداية المقال إجمالاً. حسبنا هنا أن نورد، على سبيل التذكير، مقتطفاتٍ مما سبق لنا أن نشرناه في نصنا "هل كان على حق؟"، افتتاحية العدد الثاني من معابر: "كل عنف فهو دليل على إخفاق البشر في تحقيق إنسانيتهم، أي عيش حالتهم الإنسانية السوية؛ وهذا الإخفاق يجب ألا يتنصل منه أحد – حتى المظلوم. إن تسويغ العنف تحت غطاء "الضرورة" هو جعل العنف ضروريًّا فعلاً، وهو تسويغ لكلِّ عنف مقبل، ورفض مسبق لكلِّ إبداع يسمح بتحرير المستقبل من الماضي وفتحه على إمكانات جديدة. [...] بالإضافة إلى ذلك، فإن العنف يفلت من زمام المرء الذي يمارسه ولا يتبع إلا منطقه الخاص. لذا فإن المرء الذي يختار العنف لا يستطيع في أيِّ وقت أن يدَّعي التحكُّم في نتائج أفعاله. عنف الظالم يسوِّغ عنف المظلوم الذي، بدوره، يسوِّغ عنف الظالم من جديد. من هنا فإن إضفاء الشرعية على العنف من العوامل الحاسمة التي تجعل العنف "ضروريًّا" في التاريخ. هكذا فإن العنف يوجِد حتميَّته: المظلوم يحاكي عنف الظالم، بينما يحاكي الظالمُ الشرعيةَ التي أضفاها المظلومُ على العنف، بحيث إن كلاهما، في المآل الأخير، يخضع لمنطق العنف الفالت من عقاله. [...] من ناحية أخرى، فإن "المظلوم" الذي يقرِّر اللجوءَ إلى العنف لاسترداد حقِّه قلما ينفِّذ قراره بنفسه؛ إنه يعطي أمر التنفيذ لآخرين هم غالبًا أبعد ما يكونون عن وعي ضرورة العمل من أجل رفع الظلم ليس إلا. إن نيَّة رفع الظلم، التي هي الباعث النظري على العمل، تتلاشى في الغالب عندما يدخل المنفِّذون في منطق العنف الأعمى الذي لا هدف له سوى نفسه. [...] إن رجل السياسة الذي يزعم (على افتراض صدق نيته) أنه يلجأ إلى العنف "اضطرارًا" لرفع الظلم عن شعبه واسترداد حقِّه يتناسى أنه لكي يستخدم العنف يجب أن يطالب شعبَه بالعنف، وأنه بذلك لا يحرض قوى "معقولة"، منظَّمة، بل قوى هوجاء قابلة للإفلات من عقالها فور استعمالها. وهنا لا بدَّ من حشد وسائل التعبئة العقائدية المتوفرة كافة (دينية، قومية، إلخ.) لإزالة التناقض المذكور بين الغاية والوسيلة في أذهان الناس ولاستنهاض هِمَّتهم (= هواهم) بإقناعهم أنهم يناضلون من أجل أنبل الغايات وأسماها. إن الهوى، وليس العقل، هو الذي يطلق الزناد على "العدو". [...] يبيِّن التاريخ أن العبور النظري سهل جدًّا بين العنف كضرورة تكتيكية وبين تسويغه كفضيلة أخلاقية. لذا تحرص الأطراف المتنازعة جميعًا على تشييد صرح إيديولوجي يردم الهوة بين الغاية والوسيلة، متجاهلةً حقيقةَ أن الغاية العادلة، المتجذِّرة في إنسانية الإنسان، لا يمكن بلوغُها أبدًا بوسيلة غير عادلة، أي غير خليقة بإنسانية الإنسان." (المحرِّر)
|
|
|