|
إضاءات
لا داعي لتكرار الحديث عن
الحال التي آل إليها وضعُنا. تكفي الإشارة إلى
ما أوْرَدَه صحافي تركي بارز في تقويمه للوضع
في العالم العربي، اعتمادًا على التقرير
الإنمائي للأمم المتحدة للعام 2002، الذي يشير
إلى أن مجموع سكان 22 دولة عربية يبلغ 280 مليون
نسمة، وأن عددهم سوف يتجاوز، في غضون 20 عامًا،
400 أو 450 مليونًا. ويبلغ مجموع دَخْل هذه
البلدان مجتمعة 531 مليار دولار؛ وهو يقل عن
دخل دولة أوروبية واحدة مثل إسبانيا (595 مليار
دولار)، مع الأخذ في الاعتبار أن مجموع سكانها
لم يكن يزيد عن 39 مليون نسمة في العام 1998،
ناهيك عن الفوارق الإنمائية بين البلدان
العربية نفسها. أمريكا والعقد الشيطاني أليس
من حقِّنا – كخاسرين – أن نحلِّل الظواهر
المنحرفة في التاريخ البشري، وأن لا نقف بها
عند حدِّها الظاهر المعلوم؟ أليس من واجبنا
أن نقرأ "الآخر" – بالنهج الذي نريد –
بعد أن أشبَعَنا هو قراءةً، ووضعنا، منذ
عقود، تحت مجهر عينه الزرقاء وعقله الباهت؟
والآن، مَن يرشق الرعب البدائي على شاشاتنا
دون خجل؟ من يُحيي المتحجِّر فينا، ليُعيد
الإنسان إلى بداياته المتوحشة؟ من يحترف
صناعة الموت ليجعل من الحروب وجودًا ومن
الدمار فرجة؟! من
المعتقَد أن أول باحث حاول التأسيس منظوميًّا
لنظرية عامة للثقافة هو عالِم
الأنثروبولوجيا الثقافية الأمريكي المشهور
لِسْلي وايت Lesley White
(1900–1975)، مسمِّيًا
نظريتَه هذه "علْم الثقافة"، لتأخذ
دلالاتٍ منظومية وعلمية أرصن وأدق بالمقارنة
مع معاني هذه الكلمة التي استُعمِلَتْ
اصطلاحيًّا منذ بدايات القرن التاسع عشر.
وازدادت شعبية وايت في الولايات المتحدة
الأمريكية بشدة في خمسينات وستينات القرن
العشرين مع انْبعاث وجهة النظر التطوُّرية في
الأنثروبولوجيا الأمريكية؛ إذ إنه كان
المُدافع الوحيد عن النظرية التطورية في علم
الثقافة الأمريكي، وفي الأنثروبولوجيا
ذاتِها، التي غلبت عليها سِماتُ المثالية
والنِّسْبوية relativism
الأمريكية ومواصفاتها، في حين
استخدم وايت حينئذٍ لدراسة الثقافة
المُقارَبة "الحتمية–التكنولوجية" ذات
الآفاق الأرحب، ساعيًا إلى تأسيس طابع موضوعي
للمعارف حول الثقافة.
يحظى
مصطلح "ثقافة" باهتمام متزايد في عصرنا.
والكلمة، بالعربية، هي المصدر من فعل ثَقِفَ
أو ثَقُفَ، وتحتمل معنيين: إما الحذق
والخفَّة والظُّرف في الفهم والحديث، وإما
تهذيب الشخصية الإنسانية وتأديبها والمضيَّ
بها إلى أسمى درجات الكمال – والمعنى الثاني
هو الذي سيكون موضوع حديثي اليوم.
"لسان
الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده"، تغنَّى الشاعر
العربي قديمًا. أو بتعبير آخر: المرء نصفُه
أداءٌ لساني، ونصفه الآخر ثراءٌ داخلي. فمن
قُيِّضَ له أن يجمع بينهما على درجة من الكمال
كان مبدعًا، وساهم إبداعُه في إثراء الثقافة.
والثقافة تغتني بالأفراد، لكنها تتجاوزهم.
فالثقافة جماعية بطبيعتها؛ بل إنها لا تقوم
وتزدهر، في اعتقادي، إلا إذا اندرجت في مشروع
جماعي يعبِّئ طاقات الجماعة في سبيل هدف
مشترك. قد يقوم خارج هذا المشروع فردٌ مثقف أو
مثقفون أفراد، ولكن لا يمكن أن تقوم ثقافة
متكاملة. ويعني ذلك، بالتالي، أنه قد تقوم
ثقافة أفراد، أو ثقافة نخبة محصورة العدد،
دون أن تقوم ثقافة جماعية، تشكِّل مجتمعًا
بأكمله أو بأغلبيته. وأخشى أن تكون تلك حالنا
اليوم؛ وهي أسوء الحالات في عصر تهيمن فيه
وسائلُ الاتصال بمختلف أشكالها. أصحاب
الديانتين الكبريين – الإسلام والمسيحية –
واقعون في مصيدة اللغة، لأن اللغة مصيدة، من
حيث إن الطاقة المدلولية التي تختزنها الكلمة
قد تخرج بناطقها عن القصد الذي أراده، والغرض
الذي رمى إليه. فمبدع الكلمة كثيرًا ما يقع
أسير كلمته: فبدل أن تدل عليه كلمتُه يغدو هو
دليلاً عليها – خاصة إذا كانت الكلمة موحية
بطبيعتها، وتحمل أبعادًا كثيرة قد يريد
صاحبُها بعدًا واحدًا منها – لكنها ما تلبث،
كالانشطار الذري، تولِّد أبعادًا، وتنشر
أجواء، تغريه باللحاق وراءها: لقد تفلَّتتْ
من قبضته ليقع هو في قبضتها. كلٌّ
يريد أن يكتب هذه المرحلة التي لا يمكن أن
تُسمَّى، في إطار الوضع العربيِّ الراهن،
بأقلَّ من "مرحلة الانهيار العربي". كلٌّ
يريد أن يكتبَ – فاصِلاً بين اللغة والواقع،
رافعًا راية بغداد، متأرجِحًا بين هولاكو "الوحْشية"
وهولاكو "المدنيَّة". لكن،
ما من أحدٍ يريد أن يقرأ هذه المرحلةَ، حقًّا. القراءة
مؤجَّلة. بشكلٍ أو بآخر، لسببٍ أو لآخر.
|
|
|