|
بعض منطلقات من أجل حوار إسلامي مسيحي عجبًا
لدين يؤلِّه المسيح كيف يصلبه! وعجبًا
لدين يؤنِّس المسيح كيف ينفي الصلب عنه! 1 أصحاب
الديانتين الكبريين – الإسلام والمسيحية –
واقعون في مصيدة اللغة، لأن اللغة مصيدة، من
حيث إن الطاقة المدلولية التي تختزنها الكلمة
قد تخرج بناطقها عن القصد الذي أراده، والغرض
الذي رمى إليه. فمبدع الكلمة كثيرًا ما يقع
أسير كلمته: فبدل أن تدل عليه كلمتُه يغدو هو
دليلاً عليها – خاصة إذا كانت الكلمة موحية
بطبيعتها، وتحمل أبعادًا كثيرة قد يريد
صاحبُها بعدًا واحدًا منها – لكنها ما تلبث،
كالانشطار الذري، تولِّد أبعادًا، وتنشر
أجواء، تغريه باللحاق وراءها: لقد تفلَّتتْ
من قبضته ليقع هو في قبضتها. واعجبًا
للمبدع يأسره إبداعه! 2 خُذْ كلمة "الروح"،
مثلاً. فهي، في الجذر اللغوي، ذات نَسَب
بالريح (الهواء). وكذا "النَّفْس" و"النَّفَس"
من رحم واحدة. فكلٌّ من "الروح" و"النفس"
يرتد لغويًّا إلى الهواء.*
فقد تغرينا هذه القَرابة الجذرية أو الرحمية
باعتبار الهواء حدًّا للروح أو تعريفًا بها،
فلا يستشكل علينا السؤال الذي موضوعه "من
أمر ربي"، ولا نكون ممَّن لم يؤتَ "من
العلم إلا قليلا"! لكن الروح، أو
النفس، مجرد إيماءة إلى "حركة الحياة"
المتمثلة بتردُّد الهواء في صدر الكائن الحي،
شهيقًا وزفيرًا؛ وهما من مظاهر "حركة
الحياة"، أو من مظاهر "وجود" الروح.
وما كان المظهر لشيء هو الشيء ذاته. لكن الحياة
بدون الهواء لا وجود لها. ولذلك كان اعتباره
مصدرًا للحياة أمرًا مألوفًا في
الميثولوجيات القديمة التي وحَّدتْ بين
الهواء والخالق توحيدًا كان منه إله الهواء: إنليل،
وهو كبير الآلهة في ميثولوجيا سومر. لكن، هل صحيح
أن الله هو الهواء، أو أن الهواء هو الله؟! 3 للُّغة شخصية
كثيرًا ما فرضتْ نفسها على صاحبها،
فاستخدمتْه عوض أن يستخدمها، وفكرتْ به بدل
أن يفكر بها، لما بين الفكر واللغة من وحدة
وترابط، من حيث إن اللغة تصنع الفكر فيما يصنع
الفكرُ اللغةَ، تمثُّلاً بقول دولاكروا. وكثيرًا ما
تنشأ التباسات، وتحدث في الرأي والمواقف
اختلافات، يرجع سببُها، في الأعمِّ الأغلب،
إلى عدم الاتفاق على مدلول كلمة، أو كلمات،
بعينها. وكلما تقدَّم الفكرُ وارتفعتْ درجةُ
الثقافة، ازدادت المصطلحات العلمية والفنية
زيادة تجعل أسباب التفاهم والتواصل بين اثنين
من مستويين غير متكافئين أمرًا في غاية
الصعوبة. وما يصح على الأفراد يصح أيضًا على
الجماعات، التي يزيد في صعوبة التفاهم فيما
بينها اختلافُ لغة جماعة عن لغة جماعة أخرى،
فضلاً عن المستوى الحضاري أو الثقافي الذي
تكون قد بلغتْه إحداها ولم تبلغه أخرى. وكثيرًا ما
ينشأ تضارُب الآراء عن عدم استخدام المنهج
المناسب لموضوعه. فالمنهج العلمي العقلاني لا
ينبغي استخدامه في المسألة الدينية، لأن هذه
تقوم أساسًا على "اللامعقول" Irrational. و"اللامعقول الديني" هو
موضوع خبرة ذاتية روحية، داخلية، لا مكان
فيها للمنهج العلمي العقلاني الذي يقتصر
ميدانُه على عالم الظاهرات التي تنتظمها
نواميس ثابتة، معترف بها موضوعيًّا
وعالميًّا. فالإبانة
الدينية المتعلِّقة بخلق العالم في "ستة
أيام"، مثلاً، لا ينبغي للدين أن يطرحها
كمسلَّمة علمية في مواجهة الكشوف العلمية،
لأنها تسبِّب انهزامًا للفكر الديني. وهذا
الطرح هو من أسباب تراجُع هذا الفكر أمام
المغازي العلمية الحديثة، التي حملت الكثير
من أصحاب الأديان على "إعادة النظر"، لا
في المسلَّمات الدينية – وهذا غير مطلوب
أصلاً – بل في أسلوب تناوُلها وطرحها، وإن
شئتَ فقُلْ: في أسلوب تفسيرها أو فهمها. والحوار
الديني ينبغي له تجاوُز الفروق المتقدمة
الذكر، واختراق حجاب اللغة، بغية الوصول إلى
"العمق الواحد"، إلى "الحقيقة الدينية
الواحدة"! 4 الحقيقة
الدينية حقيقة مطلقة، عبَّرتْ عنها
الأديان بلغة البشر العاجزة، فاكتسب المطلقُ
صفةَ النسبي، والكلِّيُّ صفةَ الجزئي، وأضحى
اللامحدود محدودًا. ولذلك كانت
اللغة الدينية مجرد محاولة، أو إشارة، أو
إيماءة، تبتغي التعبير عن الحقيقة الدينية،
أو إكسابها "الشكل" في التاريخ، لأنه
أداتها الوحيدة للصيرورة فيه. اللغة الدينية تدل
على الحقيقة الدينية، لكنْ لا تحتويها. وعلى هذا، لا
تكون اللغة الدينية هي الحقيقة الدينية،
وإنما هي مطمح يستهدف التعبير عما لا يُعبَّر
عنه، وجهد يرمي إلى وَصْفِ ما لا يوصف، أو
تسمية ما لا يسمَّى. بعبارة أخرى، إن اللغة
الدينية هي تاريخية الحقيقة الدينية التي
اتخذتْ من الإنسان أداةً للإفصاح عن نفسها؛
أو هي تحقُّق الإلهي في البشري بواسطة الوحي،
الذي ما هو إلا تعبير المطلق عن نفسه في
الزمان والمكان، بواسطة اللغة أو الطقس،
أو كليهما جميعًا. هذا هو الأساس
الأول من منهج البحث في الحوار الديني. 5 بما أن اللغة
الدينية نسبية – وبما هي نسبية، هي عاجزة
بإزاء الحقيقة التي تعبِّر عنها، أو تحاول أن
تعبِّر عنها – يسقط كلُّ ادِّعاء تدَّعيه أية
ديانة باحتكار الحقيقة الكلِّية لنفسها – أو
أنها هي الحقيقة الدينية نفسها – لما ينطوي
عليه هذا الادِّعاء من معنى يُكسِب النسبي
صفة الإطلاق، ويجعل المحدود لا حدَّ له،
والتاريخي لاتاريخيًّا. إن مثل هذا
الادِّعاء يتضمن تخطئة كلِّ دين آخر تخطئةً
مطلقة. وفي هذا، فضلاً عن تنكُّره للحقيقة
الدينية في سعيها الدائب للتعبير عن نفسها
بواسطة البشر في كلِّ مكان وزمان، تسعيرٌ
لنيران الأحقاد فيما بين أصحاب الأديان
المختلفة أنفسهم تسعيرًا ينتفي معه مبرِّر
وجود الدين نفسه! هذا، وإن مثل
هذا الادِّعاء يتنكَّر أيضًا لفكرة التطور أو
النماء من خلال اصطراع أو حوار المتباينات أو
المتضادات، ويطالب بجعل الناس "أمة واحدة"،
مما يؤدي إلى الضمور والاضمحلال. في نطاق
النسبي، يصبح كلُّ دين يفضي بصاحبه إلى
اختبار "الحقيقة الدينية" دينًا صحيحًا. هذا هو الأساس
الثاني من المنهج. 6 ينبغي للحوار
أن يستهدف الإغناء والاغتناء: أنا
أغتني بك، وأنت تغتني بي، لأن لغتي محاولة،
ولغتك أنت محاولة أيضًا! الحوار ليس
معناه تحويلك عن موقعك أو عن لغتك، أو تحويلي
عن موقعي أو عن لغتي؛ وإنما معناه أن تكتشف ما
في موقعي أو لغتي، وأن أكتشف ما في موقعك أو
لغتك من ثراء، يزيدك ثباتًا في موقعك
وإصرارًا على لغتك، ويزيدني ثباتًا في موقعي
وإصرارًا على لغتي، بما أفيض به عليك، وبما
تفيض به عليَّ من غنى في تجربتي، وتجربتك، مع
المطلق! هذا هو الأساس
الثالث من المنهج. 7 المعرفة خَلْق
بما هي تغيير، وهي حب بما هي خَلْق. فأنا بعد
معرفتي للشيء غيري أنا قبل معرفتي له. والشيء
المعروف لم يعد كما كان قبل معرفتي له: لقد كان
مجرد موضوع ليس غير؛ أما بعد معرفتي له فأضحى
موضوعًا بالإضافة إلى ذاتي العارفة. فإن أنا
اكتشفت فيه ما لم أكن أعرف، فإنما اكتشف ذاتي
باكتشافي للموضوع، فأغدو عارفًا لذاتي من
خلال الموضوع المعروف، بما أتاحه من تفتُّح
كان، قبل المعرفة، وجودًا بالقوة، كما
يقول أهل المنطق. ولذا كانت المعرفة وجودًا،
لأن الوجود معرفة. وما فرحة
المعرفة إلا فرحة الوجود. فإذا عرفت موضوعًا،
فإنما أجد ذاتي فيه، فأفرح باكتشافي لذاتي،
فأحب موضوعي المعروف، فيكون حبي للمعرفة
حبًّا للوجود. وبين الوَجْد (= الحب) والوجود،
في وحدة الجذر، سببٌ يفضي إلى استشعار وجود
الوجْد بواسطة وَجْد الوجود. فلو أضحت
المسيحية موضوعًا معروفًا للإسلام، والإسلام
موضوعًا معروفًا للمسيحية، لاكتشف كلٌّ
منهما ذاته في موضوعه، وأحب كلٌّ منهما
موضوعه. وهكذا يكون الحب
هو الأساس الرابع من المنهج. 8 في الإسلام
نوع من المسيحية، وفي المسيحية نوع من
الإسلام. فلو تلاقت مسيحية الإسلام بإسلام
المسيحية، لكان في لقائهما خير كثير لكليهما،
وللبشرية جمعاء. وإن هذا
الكتاب**
محاولة لعقد مثل هذا اللقاء. ولعلها محاولة
رائدة تأتي من قِبَل مسلم يعتز بنبيِّه
وكتابه، مثلما يحترم المسيح ويجلُّه بمقدار
ما أعطاه الله من مكانة أشار إليها قرآنُه. لن أكون
مداريًا لجهة على حساب جهة: لا ممالئًا ولا
مناوئًا؛ بل ربما كنت قاسيًا أحيانًا،
وواعيًا لما أنا مُقدِم عليه، وللأثر الذي
سوف يخلِّفه في نفوس مَن سوف يطَّلعون على
الأفكار المعروضة، والمواقف المتخَذة. لن
يُكتَب لهذا الكتاب أن يحظى بقبول العقول
المتحجرة، ولا أن ينال رضا "الرسميين"،
من أيِّ دين كانوا. لقد كتب
مسيحيون في الإسلام، كما كتب مسلمون في
المسيحية. لكن ما كُتِبَ حتى الآن ينطلق، في
كثير من الأحيان، من روح "عقائدية" dogmatic، بعيدة عن روح العدل والإنصاف التي
تُفترَض في كلِّ صاحب دين. إن بحثًا
ينطلق من مبدأ صحة دين الكاتب، وهو يتناول
دينًا آخر، لن تكون نتيجتُه إلا تسفيه هذا
الدين وتخطئته، بحيث يمكننا أن نحكم على
النتيجة سلفًا ونحن على أبواب المقدمة. إن ما
كُتِبَ حتى الآن لا يخرج، في أحسن أحواله، عن
تقويم الدين الآخر بميزان دين الكاتب: فما هو
قريب من دينه صحيح، وما هو بعيد عنه لا
يُعتدُّ به. إن ديني صحيح،
وكذلك دينك؛ ولكن لغتي مباينة للغتك. فهل يمكن
لنا اختراق حجاب اللغة لكي نلتقي في العمق؟ 9 موضوع هذا
الكتاب مسألة الصَّلْب بين المسيحية
والإسلام – وهي مسألة مركزية في المسيحية،
ولا هي كذلك في الإسلام الذي يعتقد عدم الصلب،
تصديقًا لما جاء في كتابه عن هذا الموضوع
البالغ الخطورة. ولسوف أبحث
هذه المسألة من جوانب عدة، وعلى أصعدة
متباينة، سواء من الناحية التأريخية أم من
الناحيتين الميثولوجية والبسيكولوجية،
مبتدئًا بأصول فكرة الفداء، ومصادرها
السابقة على المسيحية، في ديانات ما بين
النهرين وكنعان ومصر وفي ديانات الإغريق وحوض
البحر المتوسط عمومًا. ثم أعرِّج على
الصيغة المسيحية لهذه الفكرة، وعلى الظروف
التاريخية التي ساعدت على انتشارها، وأناقش
النصوص الإنجيلية الواردة بشأنها. ثم أنتقل بعد
ذلك إلى أهم التفسيرات القرآنية، فأناقشها من
حيث قدرتها على الصمود أمام الحجج العقلية،
مبيِّنًا إنْ كان لهذه التفسيرات من أصول
سابقة على الإسلام، أو إنْ كان لها ما يؤيدها
في دراسات الدارسين الغربيين في العصور
اللاحقة، أو في مخطوطات البحر الميت وما
أثيرَ حولها من آراء متباينة. وأخيرًا أتطرق
إلى فكرة الفداء من حيث أصولها البسيكولوجية،
وما إذا كانت هذه الأصول هي وراء النصوص وما
اشتملت عليه من أحداث خارجية جاءت مطابقة
لأحداث الداخل؛ ما إذا كان الشعور بالخطيئة
شعورًا بسيكولوجيًّا موروثًا؛ ما إذا كان
التطلُّع إلى الخلاص، الناتج عن هذا الشعور،
أمرًا بشريًّا في الصميم. فإن كان كذلك، كان
الوصول إلى لغة مشتركة، داخلية، بين
الإسلام والمسيحية، من الأمور الممكنة، لا بل
من الأمور اللازمة. 10 القارئ
المسلم، في الأعمِّ الأغلب، لا يأتلف اتجاهُ
تفكيره مع فكرة الفداء كما تطرحها المسيحية.
ولذلك رأيت أن أمهِّد لها بمقدمة وجيزة،
مستخدمًا فيها لغة قريبة من لغته، متجنبًا في
الوقت نفسه – بمقدار ما أمكنني ذلك – استخدام
اللغة الاصطلاحية المسيحية الموضوعة لهذا
الغرض. ولست أريد
بهذه المقدمة أن ألزِم بها المسيحية بما
اشتملت عليه جملةً وتفصيلاً، لأنها – أي
المقدمة – لا بدَّ من أن تحتوي جانبًا
ذاتيًّا متمثلاً في قدرتي على الفهم
والاستيعاب أو طريقتي في الفهم والاستيعاب.
فأنا أقدِّم فكرة الفداء "المسيحية" (؟)
كما أفهمها: وقع آدم في
الخطيئة، فحلَّ به عقابُ الموت. ولم تقتصر
آثار خطيئته عليه وحده، بل تعدَّتْها إلى
جميع أبنائه الذين تحدَّروا من صُلبه. وهكذا
كان الموت حُكمًا مبرمًا نزل بكلِّ آدمي لأنه
ورث خطيئة أبيه، فكان عليه أن يرث العقاب الذي
نزل به أيضًا. وهكذا كان كلُّ منحدِّر من
سلالة آدم مخطئًا لا محالة، وبالتالي، ميتًا
لا محالة. فالذي يموت إنما يموت لأنه أخطأ ولا
يمكنه الدفع بالبراءة. وهكذا انتشرت الخطيئة
واستشرت، كما ينتشر الوباء ويستشري، فيأتي
على كلِّ من أصابتْه عدواه. لكي يبطل
الحكم أو يُنقَض، لا بدَّ من تصحيح الخطيئة
بولادة روحية جديدة لا تنحدر من صُلب آدم، بل
من كائن مبرَّأ من الخطيئة، ينحدر من سلالة
أرقى من سلالة آدم؛ فإذا مات لم يكن موته
عقابًا، بل كفارةٌ وفداء. وهكذا تُكتَب
الحياة للمولود بالروح، وينجو من حكم الموت (=
الموت الأبدي أو الجحيم)، إذ يبرأ من الخطيئة،
تمامًا كما يُحقَن الموبوء بمصل مضاد، فيشفى
من وبائه.[1] لئن كانت
خطيئة آدم قد حصلت بتدخل من الشيطان (= إبليس)
الذي زيَّن له الوقوع في الإثم، وما نجم عنه
من عقاب، فإن نفي الخطيئة، أو التطهُّر من
آثارها، يتطلب تدخلاً مكافئًا من جانب الله.
فكأن التدخل الشيطاني لا يلغيه إلا تدخُّل
رحماني. وكما أورثت الولادةُ الجسدية الموتَ،
كذلك تورث الولادةُ الروحية الحياةَ. ولقد جاء هذا
التدخل الرحماني على صورة الكفارة أو الفداء،
لأن المخطئ لا يملك التكفير عن خطيئته بنفسه،
بما هو محكوم بالموت؛ بل يملك التكفيرَ عنها
مَن لم يقع في خطيئة، ومَن لم يكن مَن نسل آدم،
ومَن لم يُحكَم عليه بالموت بسبب الخطيئة. هذا
الكائن المتحدِّر من سلالة أرقى من سلالة
آدم، إنْ مات، لا يكون موته عقابًا على ذنب
اقترفه، بل افتداءٌ لأبناء آدم الراسفين في
أغلال الخطيئة، المحكوم عليهم بالموت. وهكذا يكون
موت البريء افتداءً للمذنب من عقاب الموت،
فتُكتَب له الحياة. أي أن موت البريء شرط
لبراءة الميت. ومَن لم يخطئ يموت لكي يهب
الحياة لِمَن أخطأ. فكأن الموت نفي للموت! إن نزول حُكم
الموت بآدم وبذرِّيته من بعده جاء تطبيقًا
لمبدأ العدل الإلهي. أما الكفارة أو
الفداء فتطبيق لمبدأ الرحمة، أو المحبة،
بحسب الاصطلاح المسيحي. فالله يتصف بالعدل
كما يتصف بالرحمة، أو المحبة. ولا بدَّ
للصفتين من أخذ أبعادهما وظهور آثارهما.
فبالعدل كان العقاب، وبالرحمة كان الفداء؛
بالعدل كان الموت، وبالرحمة كانت الحياة. لأن
الصفتين الإلهيتين لا تفعل إحداهما في معزل
عن الأخرى، بل تفعلان متلازمتين. فالله
العادل الذي طرد آدم وزوجه من الجنة، وحكم
عليهما بالموت، يفسح مجالاً لرحمته، أو
محبته، في قلب عدله أو غضبه،***
بحيث لا ينفصل العدل عن الرحمة، ولا تكون
عقوبة بلا كفارة، ولا موت بلا حياة. الموت الجسدي
الذي حلَّ بآدم ما هو إلا مظهر دنيوي، أو
خارجي، للموت الأبدي. وقد يكون الموت الجسدي
بداية لحياة أبدية؛ كما قد يكون نهاية لا حياة
بعدها. فهو نهاية لِمَن أصرَّ على خطيئته ولم
يكفِّر عنها، وبداية لحياة لا يعقبها موتٌ
لِمَن تاب وأناب وكفَّر عن خطيئته. وهو ما
يُعبَّر عنه بـالخلاص. لأن من شأن التوبة
أو الكفارة أن تمحو آثار الخطيئة، وهي الموت (=
الموت الأبدي). فكأن الكفارة إماتة للموت.
وهكذا نكون أمام حالة نفي النفي الهيغلي: موت
الموت = حياة! قلنا إن الموت
أو الخطيئة قد حدثت نتيجةً لتدخُّل شيطاني،
وإن الكفارة أو الحياة قد جاءت نتيجة لتدخُّل
رحماني – مما استتبع أن هذا التدخل قد عَكَسَ
الوجهة التي تسير بالإنسان من الحياة إلى
الموت، فأضحت تسير به من الموت إلى الحياة. ولئن كان آدم
قد هبط بالإنسان إلى الأرض، لقد ارتفع المسيح
(= آدم الثاني) بالإنسان من الأرض إلى السماء! لكن لماذا
الموت؟ لقد كانت خطة
الخلق أن يأتي آدم، من حيث تصميمُه الروحي،
على صورة الله تمامًا. لكن "أبانا" الأول
ما لبث أن سمح للشيطان أن يعبث بصورة الرحمن،
فتوضَّعتْ صورةُ الشيطان فوق صورة الرحمن،
وشاعت في كلِّ جزء من أجزائها كما تشيع نقطة
الحبر في كلِّ ذرة من ذرات ماء الكأس. ومن هنا
نشأت ضرورة فصل الصورتين إحداهما عن الأخرى.
لكن هل يمكن تدمير صورة الشيطان وحدها دون أن
تتأثر صورة الرحمن – والصورتان، كما رأينا،
متداخلتان متشابكتان على نحو يجعل منهما
وكأنهما صورة واحدة؟ هل يمكن زَرْق موضع
الداء في جسم مريض بحقنة مضادة دون أن تحدث
مضاعفات للأجزاء السليمة من جسمه؟ إذن،
القضاء على صورة الشيطان لا يمكن له أن يمرَّ
إلا عِبر القضاء على صورة الرحمن! ولعل هذا
الوضع من الاختيار الصعب يلقي ضوءًا على "سرِّ"
الموت من الناحية الميتافيزيائية، من حيث إنه
الإجراء الوحيد الممكن من أجل القضاء على
صورة الشيطان التي حلَّتْ في آدم وفي ذرِّيته
من بعده. غير أن هذا
الإجراء غير كافٍ وحده، لأنه يُظهِر الله
وكأنه قد عَدَلَ عن خطته الأصلية، وبات
منفذًا لخطة إبليس، الذي أغاظه خلقُ آدم على
صورة الرحمن، فراح يدبِّر له المكائد،
ويزيِّن له الغواية، ويغريه بما وسعه خياله
من مغريات، حتى استجاب له وسقط في الخطيئة،
فخرج عن إرادة ربِّه إلى إرادة شيطانه، وحلَّ
به عقاب الموت. إذن، لا بدَّ
من خطة "جديدة" تكفل تنقية صورة الله من
صورة إبليس، فتقذف بهذه إلى الجحيم، وترتفع
بالأولى إلى النعيم الأبدي. أي لا بدَّ من
عودة آدم إلى ما كان عليه قبل الخطيئة، مبرأً
من كلِّ عيب أو نقص. الخطة الجديدة
تقضي بأن تنطبع صورة الله "الجديدة" في
قلب المؤمن؛ وهي صورة لم تلوثها الخطيئة، ولم
تعبث بها يَدُ إبليس، ولم تتوضع عليها صورتُه.
هذه الصورة الجديدة هي المسيح، آدم
الثاني. وهكذا يكون في
الإنسان صورتان: إحداهما نقية، والثانية
ملوثة. إلا أن القضاء على الملوثة منهما لا
يؤدي بالضرورة إلى القضاء على النقية.
والقضاء على الملوثة إنما يكون من أجل انفصال
النقية انفصالاً يؤهِّلها لمقابلة الله. في
هذه الحالة، لا يكون الموت عقابًا، بل رحمة! لكي تنطبع
صورة الرحمن الجديدة (= المسيح) في قلب المؤمن،
ينبغي له أن يتحد بها صوفيًّا، أو
سِرَّانيًّا، بواسطة سرِّ "القربان"، أو
الإفخارستيا Eucharist،[2]
بأن يتناول الخبز (= جسد المسيح) والخمر (= دمه)،
فيصبح للمسيح أخًا، مولودًا من عذراء كولادته
بلا خطيئة، معذَّبًا ومصلوبًا من خلال عذاب
المسيح وصَلْبه، منتصرًا على الموت من خلال
انتصار المسيح عليه، من حيث إن اقتسام المؤمن
للصَّلْب ما هو إلا قضاء على صورة الشيطان فيه. مثلما كنَّا
هناك بإزاء نوعين من الموت: موت العقاب، وموت
الرحمة، كذلك نكون هنا أمام نوعين من الولادة:
ولادة جسدية بالخطيئة، متحدِّرة من صُلْب
آدم، وولادة روحية من الله، أو من روح
الله، بواسطة المسيح. *** *** *** تنضيد:
دارين أحمد *
هذه النسبة اللغوية لكلمتي "روح" و"نفس"
إلى الهواء تصح كذلك في اللغات السنسكريتية
واليونانية واللاتينية والألمانية. راجع،
مثلاً: كارل يونغ، الإنسان يبحث عن نفسه،
بترجمة سامي علام وديمتري أفييرينوس، دمشق
1993؛ ص 18-19. (المحرِّر) **
هذا النص، في الأصل، مقدمة لكتاب بعنوان مسألة
الصلب بين المسيحية والإسلام، لم يقيَّض
له أن يُكتَب – بكلِّ أسف! (المحرِّر) [1]
وهذا هو سر الإفخارستيا
(القربان المقدس) الذي يتحول به الخبز
والخمر إلى جسد المسيح ودمه. ***
عملاً بالحديث القدسي: "إن رحمتي سبقت
غضبي." (المحرِّر) [2]
لعل في تناول
الخبز والملح، علامةً على التآخي بين
الأصدقاء، ما يقرِّب من فهم طقس الإفخارستيا.
|
|
|