|
المصير العربيُّ: هذه
الكُرة الطائرة 1 كلٌّ
يريد أن يكتب هذه المرحلة التي لا يمكن أن
تُسمَّى، في إطار الوضع العربيِّ الراهن،
بأقلَّ من "مرحلة الانهيار العربي". كلٌّ
يريد أن يكتبَ – فاصِلاً بين اللغة والواقع،
رافعًا راية بغداد، متأرجِحًا بين هولاكو "الوحْشية"
وهولاكو "المدنيَّة". لكن،
ما من أحدٍ يريد أن يقرأ هذه المرحلةَ، حقًّا. القراءة
مؤجَّلة. بشكلٍ أو بآخر، لسببٍ أو لآخر. 2 كلٌّ
يريد أن يكتب: هذه مسألةٌ تعني أنَّ كُلاًّ
يريد أن يُهيمن. صارت "شهوة السلطة" في
الحياة العربية خبزًا يوميًّا. للجميع. لكلِّ
فَرْدٍ. دون استثناء. خِلافةً أو متابعةً لتلك
"اللغة" التي أسَّستْ للحياة العربية،
منذ بداياتها. لغة التفرُّد، والإقصاء. لغة
الحَجْب للإنسان، لكلِّ ما هو إنسانيٌّ. مَن
ليس متسلِّطًا، مَن ليس جزءًا من السلطة،
يكاد ألاَّ يكون موجودًا. هكذا علَّمتْنا هذه
الحياة. "هُوَ"
في السلطة: إذن هو موجود. "هُوَ"
السلطة: إذن هو
الوجود
كلُّه. لماذا،
إذن، لا يكون الضمير "أنا" كمثل الضمير
"هُوَ"؟ لماذا لا يكون في مرتبته، وله
"الحقوق" نفسها؟ هكذا
بُنِيَتْ "أنا–المعارضَة"، منذ
بداياتها على "الثأر" و"الانتقام".
على استخدام أساليب "هُوَ الحاكم"،
لتحطيمه، وإزالته، كما حطَّم هو نفسه الذين
عارضوه وأزالهم. عملة واحدة: المعارضة هي،
أولاً، عُنْفٌ للاستحواذ على السلطة–العُنْف. كلٌّ
يريد أن "يكتب" هذه المرحلة العربية:
الفرد والجَمْع. سائق التاكسي ورجل السياسة.
المصرفيُّ وبواب مَصرفه. عامل المقهى
والمفكِّر. الصحفيُّ والزَّبال. الشاعر
والغانية. مَرْحلةٌ–غابةٌ
وحشيَّةٌ بلا حدود. كلٌّ
يتقدَّم في هذه الغابة، باحثًا عن طريدة. إن
لم يقدر أن يقتل طائرًا، قَتَل شجرةً. إن لم
يقدر أن يأكلَ عدوَّه، أكلَ صديقَه أو جارَه.
الأساسيُّ هو أن يقتلَ ويأكل. لكن،
لماذا لا يريدُ أحدٌ أن يقرأَ، حتَّى ما
كَتَبَه هو نفسه؟ 3 لو
قرأنا ما يُكتَبُ أمامنا، وراءنا، حولنا، إلى
جوارنا، لرأينا ما لم تَرَه عينٌ في التاريخ
كلِّه. بلدانٌ منذورةٌ لإقصاء بعضها بَعْضًا.
لِقتْل بعضها بَعْضًا. شعوبٌ منذورةٌ لنسيان
بعضها بعضًا. للفَتْك ببعضها بَعْضًا.
والأنقاض ليست حجارةً أو جدرانًا أو ترابًا
لا غير. الأنقاض بشرٌ كذلك: أعناقٌ ورؤوس،
سواعدُ وأقدام. وحول
هذه الأنقاضِ وفوقها وباسمها، نُواصل، نحن
الذين نسمِّي أنفسنا عربًا – باسم العروبة
والقومية والدين والتاريخ واللغة وما إلى ذلك
من هذه الكلمات–الجيوش، – نواصلُ السير على
رؤوسنا، أو في عرباتِنا الباذخة أو البائسة،
أو نواصل لعب الورق، واحتساء القهوة...
مُرَّةً كمثل هذه المرحلة، كمثل العروبة. وما
علاقاتنا بالأنظمة التي تسيِّرنا؟ وما
علاقات هذه الأنظمة بنا – نحن البائسين الذين
قلنا لهم: "نعم"، طوعًا أو كُرْهًا،
أملاً أو يأسًا؟ وليست
أديانُنا هي التي تحمينا، بل نحن الذين
نُؤمَرُ لكي نحميها – لكي نؤلِّف الأحزاب
والجمعيات، المراكزَ والمؤسَّسات، دفاعًا لا
عن أدياننا وحدها، بل عن السماء كذلك –
السماء الخالقة، الحامية، والتي هي في غنًى
عنَّا وعن العالمين. كأنما لا حول لها ولا قوة
إلا بنا، برصاصنا، وبأسلحتنا الخفيفة
والثقيلة. كأننا، إذا لم نفعل ذلك، تسقط
نجومُها على الأرض، ويفسد الكون. هكذا
ينبغي أن نموت، وأن تموت أرضُنا، لكي تحيا
السماءُ ونجومُها. كأن هذه لا تحيا إلا بموتنا
– إلا بالموت. كأن السماء لا تحيا إلا من أجل
إنسانٍ ميْت، من أجل إنسان لم يعد موجودًا، أو
إنسانٍ لم يُولد بعد. أمَّا
الطغيان، وسلب الحريات والأموال والأرزاق،
والحرمان من العمل والعلم، والاحتلال،
والفقر والتشرُّد والجوع والاضطهاد والنفي
والسجن والقتل – أما هذه كلها، فأمرٌ محتومٌ،
قضاءً وقدرًا، ولا بدَّ من الصبر – فالسماء
مع الصابرين. 4 ولا
يزال الطلاق والزواج، الشرعي وغير الشرعي،
الحجابُ والسُّفور، لَمْسُ الجسد أو لَمْسُ
العضو، اللحية، العانة، الغائِطُ، البَوْل –
لا تزال هذه القضايا المصيرية الكبرى
شُغْلَنا الشاغل، وشُغْلَ عقلنا المنوَّر،
الحكيم، الكامل، الذي هو وحده يقود الأمة
والوطن والبشرية كلَّها إلى شاطئ النجاة
والخلاص. كلُّ
شيءٍ سدٌّ منيع في وجه الأرض وأبنائها. كلُّ
شيءٍ سجنٌ أسودُ بلا قرار. 5 -
وأين العدو؟ -
ذائبٌ،
سائِلٌ. في الماء الذي نشربه. تحت الوسادة. عند
العتبة. في الهواء والشمس والفضاء. وعندما
نُسأل، و"يجدُّ الجِّدُّ"، لا ندافع عن
وجودنا، عن حرياتنا وكراماتنا، عن عملنا
وخبزنا، عن إبداعاتنا ومنجزاتنا، عن آمالنا
وطموحاتنا، عن آلامنا ومراراتنا، وإنما
ندافع عن "قائدنا" الملهم، العظيم،
الأوحد، إلخ، إلخ، وعن "شعبه" الملهم،
العظيم – البوليس، العبودية، إلخ، إلخ. 6 كلاَّ،
ليست السلطة هي وحدها الضالَّة في هذه
المرحلة العربية الراهنة، بل إن مواطِنَها هو
نفسه ضالٌّ كذلك. وليست السلطة وحدها تحتاج
إلى أن تُبْتكَر من جديد، بل إن المواطن نفسه
يحتاج، هو كذلك، إلى أن يُبْتكَر مِن جديد. -
المعارَضة؟ -
هَهْ!
مهزلة كبرى، كمثل الموالاة، سياسةً وثقافةً،
أخلاقًا وقيمًا وعلاقات. في "الوطن" وفي
"المنفى". سجون أخرى. قيودٌ أخرى. ظلامٌ
آخر. ولم
يعد الأجنبيُّ هو وحده الذي يولِّد الرعب.
الرعبُ الآن يجيءُ خصوصًا من الصديق الجار
المواطن القريب الأليف. يجيء من الشارع الذي
تسكن فيه. من المدينة التي وُلدتَ فيها. من
المقهى والمدرسة والجامعة. وكلٌّ
يريد أن يكون "الآخَرُ" كبش الفداء. وكلٌّ
بريءٌ، والمخطئ هو "الآخَرُ". إنها
ثقافة كبش الفداء. إنها
عقلية كبش الفداء. إنها
الهاوية. 7 ونظلُّ
– نحن العرب – كما كنَّا: كلٌّ غارقٌ، على
طريقته، في هباء الأحداث. كأننا نعيش جميعًا
تحت الزمن. تتجاذب حياتَنا وأفكارَنا
وأعمالَنا القضايا المباشرة المتصلة
بالحاجات الضرورية، الأكل واللباس، أو
بالبذخ والغطرسة الفردية وعُنْجهيَّة
التملُّك – وتسيِّر هذا كلَّه عبقريةٌ خاصة
نتميَّز بها، هي عبقرية التجارة. وإذا
كان عَرَبُ الحاجة معزولين عن قضايا مصيرهم
بفعل الحاجة نفسها، فإن عَرَبَ البذخ
تسيِّرهم وتتحكم بهم شهوةُ المال، بحيث يبدو
المالُ أكبر من مالكه، وبحيث يبدو مالُ
المتموِّلين العرب في أعلى درجات
اللاإنسانية واللاثقافة، قياسًا بأموال
أمثالهم في العالم. فهؤلاء يُنشِئون المتاحف،
ومراكز الفنون، ومراكز المعرفة والبحوث
المتنوعة، في مختلف الميادين، ويقدِّمون
كلَّ ما يحتاج إليه الإبداع والمبدعون، بحيث
يخلقون من بلدانهم بؤرًا للتقدم وللمعرفة. في
حين أن أموال المتموِّلين العرب تُبعثَر في
دكاكين بائسة، وفي قصورٍ أكثر بؤسًا، وراء
قشورٍ تمدُّنية لا تُخبئُ غير البثور من كلِّ
نوع، وبحيث يبدو تاريخ العرب، اليوم، كأنه
ليس إلا تاريخًا لمعدةٍ تتجشَّأ ولرأسٍ ينام. 8 مع
ذلك، كلٌّ
يريد أن يكتب، وما من أحدٍ يريد أن يقرأ. 9 ولم
يعد الشعب واحدًا. فُتِّتَ إلى شراذم (طائفية،
قبلية، عائلية، دينية، تجارية...). الشرذمة من
جهة، والبَوْلَسة (من البوليس) من جهة –
وبينهما الكرسيُّ الحاكم، وحوله تتأرجح
أيامنا، سياسةً وثقافةً. والشاغل المعذِّب،
حُكمًا ومعارضة، لا الناس ومشكلاتهم، لا
التخلُّف، لا التقدُّم، لا التغيُّر، بل
الحُكم نفسه ووسائِلُ الحفاظ عليه، بأيِّ
ثمنٍ، بأية طريقة. ونتابع
حياتنا: نُقصي بعضَنا بعضًا، ونقتل بعضَنا
بعضًا، ونسجن بعضَنا بعضًا. ننتقد السلطة
فيما نتعبَّد لها، ونقاتل من أجلها كلَّ شيء،
ونتحالف من أجلها مع كلِّ شيء. نحن أنفسنا، ضد
الحرية وضد الثقافة. وفي أعماق كلٍّ منَّا
طاغيةٌ وعبدٌ معًا. ونتابع
تاريخًا يلخَّص، في عمق أعماقه، بعبارتين:
شهوة السلطة، وعبقرية التجارة. وكلٌّ
يريد أن يكتب، وما من أحد يريد أن يرى أو أن
يقرأ المصير العربي، مصيره – هذه الكرة
الطائرة. *** *** ***
|
|
|