|
أمريكا والروح
الفاوستية أمريكا والعقد الشيطاني أليس
من حقِّنا – كخاسرين – أن نحلِّل الظواهر
المنحرفة في التاريخ البشري، وأن لا نقف بها
عند حدِّها الظاهر المعلوم؟ أليس من واجبنا
أن نقرأ "الآخر" – بالنهج الذي نريد –
بعد أن أشبَعَنا هو قراءةً، ووضعنا، منذ
عقود، تحت مجهر عينه الزرقاء وعقله الباهت؟
والآن، مَن يرشق الرعب البدائي على شاشاتنا
دون خجل؟ من يُحيي المتحجِّر فينا، ليُعيد
الإنسان إلى بداياته المتوحشة؟ من يحترف
صناعة الموت ليجعل من الحروب وجودًا ومن
الدمار فرجة؟! في
كتابه سقوط الحضارة الغربية، في معرض
تحليله لفترات الردَّة في التاريخ البشري،
قال أوزفالد اشبنغلر: إن ما حَدَثَ يندرج في باب السِّيَر،
وليس في باب الصيرورة؛ إنه يُدرَج في باب
المتحجِّر. وهو ينتمي، دون شك، إلى الماضي،
حيث تكمن ينابيع رعبنا من العالم.[1] وفي
الأسطورة تكمن الينابيع الأولى الأعمق
للنزوع الإنساني – تلك الينابيع الحرة أو
المتطلِّعة إلى التحرر: ينابيع لازمنية، تجلب
الماضي إلى الحاضر، وترشق الحاضر على شاشة
المستقبل، فينجلي الإنسانُ في أبعاده
الكائنة والممكنة. وإذا سلَّمنا بفرضية
منطقية تصل المقدمات بالنتائج، نجد أن صلة
المنشأ بين شخصية فاوست والشخصية الأمريكية
تصلح لأن تكون مدخلاً لمقاربة أنثروبولوجية
حديثة للإنسان الغربي، ومن خلاله، لحضارة
الغرب في مرحلتي تطورها: الأوروبية الأولى
والأمريكية الثانية. وفي تعاقُد فاوست مع
الشيطان (في الأسطورة أو في الأعمال الفنية)
وعيٌ بمصير قادم، مصير امِّحاء الروح
الإنسانية التي ظلتْ، حتى زمن قريب، تصارع
الروح الشيطانية، تلك التي تجمع بين القوة
والفراغ: قوة ظاهرة وفراغ باطن. روح "خذروفية"،
تتأسَّس على دوام الحركة الدائرية
المدمِّرة، ولا تتوازن إلا باستمرارها. ومن
عجيب المفارقات أن سيرة فاوست في التاريخ أو
في الأدب تحيل إحالة مباشرة على سيرة أمريكا
الحديثة، سواء في انبعاثها الجديد على يد
الغربيين كقارة مكتشَفة، وما رافقها من حروب
استيطانية أبادت السكان المحليين، أو فيما
تلا ذلك من حروب التحرير وولادة الولايات
المتحدة، التي اجتمعت فيها ملامحُ القوة
الجديدة الفاعلة في مصير الكون الحديث. ففي
كتاب يوهان سبيس (طبعة فرانكفورت، 1587) محاولة
جادة للبحث في الأصل التاريخي الواقعي لشخصية
فاوست؛ وفيها نجد الملامح الأولى لشخص غريب
الأطوار. اسمه الكامل جورجيوس يوهان فاوستوس.
ولد بحسب السجلات البلدية في مدينة ويتمبرغ
بألمانيا سنة 1480 (قبل سنوات قليلة من ولادة
أمريكا الغربية على يد المستكشف كولمبوس سنة
1492)؛ ثم اتُّهم بالفجور وطُرِدَ من مدينة
ويتمبرغ حرصًا على النظام العام، لأنه يعتبر نفسه نصف إله، وهو في
الحقيقة ليس سوى متبجح معتوه. يدَّعي أنه
يمارس، في آنٍ واحد، الطبَّ وقراءة الكفِّ
ومناجاة الأرواح ويعرِّف بنفسه أنه فيلسوف
وأستاذ...[2] وقد
سعى الباحث إلى تجميع الملامح العامة لهذه
الشخصية "الجامعة بين الخدع الغليظة
والمآثر اللطيفة، في وجه مرح ولسان لبق". هي
شخصية تعادي الاستقرار وتكره الحدود، "محبوبة
عند الشعب ومحتقَرة عند المثقفين"؛ جابت
أرجاء أوروبا ولعنتْها الكنيسة؛ ثم، في آخر
حياتها، تحصل على "حماية كنيسة كولونيا"! وبالنظر
في تاريخ الاحتلال الغربي لأمريكا، نجد أن
الروح الأولى لأمريكا الغرب نُسِجَتْ من
التقاء بين المغامرة والتمرد. فالأوائل الذين
حطوا رحالهم في الأرض الجديدة "لعنتْهم
الكنيسة وطاردهم القانون"؛ وهم، في
معظمهم، من المعدَمين والمغامرين والمحكومين
الفارين من أحكام وجرائم. شنوا حروبًا
استيطانية أولى مع السكان الأصليين؛ ثم
تمردوا على أصولهم الغربية، وشنوا حربين
كبيرتين: الأولى "حرب التحرير" ضد
بريطانيا، التي أدت إلى ولادة الولايات
المتحدة؛ والثانية مشاركتهم الناجعة في
الحرب العالمية ضد نزعتين قوميتين أوروبيتين:
فاشية إيطاليا ونازية ألمانيا. ومن خلال
الحركتين تأكدت الروح الجديدة: نزعة
الاستقلال وإعادة الشباب في الأولى، ونزعة
الريادة والتسلط في الثانية، وما رافقهما من
تواطؤ بين الاغتراب والمعرفة، من جانب، وبين
المعرفة والشيطان، من جانب آخر. تجسَّد هذا
التواطؤ في حركة غير مسبوقة في جرأتها
وتصميمها، تمثَّلت في تطوير علم الذرة، ثم في
إلقاء أول قنبلتين ذريتين على هيروشيما
وناغازاكي. (وذاك ما حصل في تطور شخصية د.
فاوستوس، في تمردها الأول وقطعها مع الجذور
القديمة، وفي تعاقدها الأول مع الشيطان
لاستعادة الشباب، ثم في تعاقدها الثاني من
أجل المعرفة التي قادت إلى المتعة والتسلط.) والروح
الأمريكية الجديدة توجِّهها إرادتان: إرادة
القطع مع الماضي، وإرادة الرسوخ في الحاضر،
عبر الحركة والسلطة والامتداد. والحركتان لا
تتأسَّسان على المبدأ بقدر ما تتأسَّسان على
المصلحة، لأن الخليط الإثني لا يستجيب في
تركيبته إلا للمنظور القريب والواضح. ففي
إحصائيات العام 1990 نجد أن الولايات المتحدة
تتكون من ثلاثة أصول: أوروبية وأفريقية
وآسيوية، تتوزع على خمسة فروع تختلف في
نِسَبِها، لتكون الغلبة للعنصر الأوروبي
بفروعه المختلفة: الإنكليزي (29%)، الألماني (23%)،
الهسباني (9%)؛ ثم الزنوج (29%)، والآسيويين (3%). أشرنا
في البداية إلى الحركة "الخذروفية" التي
تشد هذا الخليط الإثني، لأن الخذروف يتوازن
في السرعة ويختل في البطء. وفي اعتقادنا أن
الانشداد إلى الحاضر، في مقابل القطيعة مع
الماضي، هو ما يفصل الآن بين تصورين انبثقا
معًا، ثم تقاطعا: التصور الغربي للوجود، من
خلال العقلية الكانطية والمنهج الديكارتي،
وما خالطهما من مثالية أخلاقية، من جهة، وبين
جدل هيغلي وتضخم نيتشوي، من جهة ثانية،
تنشدُّ فيهما الروح إلى الأقاصي، وتفتح سُبُل
المغامرة والمقامرة من أجل إرادة حرة تحطم
كلَّ القيود في سبيل تجاوز ممكن ومجهول. ويبدو
أن أمريكا هي تجسيد للممكن المجهول، من حيث
الجمع بين المطلق والمحدود أو بين العبقرية
والانحراف. ومن
هذه الأبعاد المتحررة تطورت أسطورة فاوست
تطورًا تراجيديًّا يجمع بين الأقاصي، فأضفى
عليها مالرو في القرن السادس عشر نزعة ألوهية
فيها تمثُّل لأحلام عصر النهضة: فهو بطل من الشعب، يبحث عن الحلم
والحرية، مُضارِب في التجارة، يتخذ أجنحة نسر.
يتمنَّى أن يصبح إلهًا، ثم يكتفي بأن يصبح
شيطانًا، ثم في النهاية يتحول إلى وحش. هبط
إلى الجحيم ثم صعد إلى النجوم. وفي
القرن التاسع عشر، استطاع غوته، بحسِّه
الخلاق وبشاعريَّته الفذة، أن يعبِّر من خلال
شخصية فاوست عن الروح الكامنة في حضارة الغرب
من خلال ثلاث مراحل: تبدأ من اليأس والتغلب
عليه، وتنتقل إلى الحوار مع الشيطان
والانضمام إليه، وتنتهي بالتعايش معه. وتنبني
التراجيديا على رسم الطريق الوعرة لرجل حرٍّ،
من خلال المغامرة بكلِّ شيء – بالروح حتى –
في سبيل المعرفة. وعلى الرغم من تعاقُده مع
الشيطان ينال المغفرة الإلهية جزاء طموحه. إذ
تنتهي المسرحية بالتأكيد التالي: "إن من
يسعى جهده من أجل تحقيق طموحه يمكن لنا أن
نضمن له الخلاص."[3] وفي
مجمل المقاربات الفنية لشخصية فاوست التقاءٌ
بين العظمة والتهور في شخصية عبقرية منذورة
للشرِّ، تنطلق من إقرار مفاده أن "لدى
الإنسان من الرغبات ما يعجز الله والشيطان عن
تلبيته". وفي
فلسفة التاريخ يتحدث اشبنغلر عن الإنسان
الفاوستي، الذي ينتقل من القلق إلى رؤية
فردية عميقة، تدفع به إلى نموٍّ ذاتي، من خلال
غزو المسافات المادية والروحية؛ فتنتقل
الأنا من الضياع في اللانهائي إلى السيطرة
المطلقة. وهو يؤكد، بوجه خاص، على "الإحساس
بالتوحُّد والعزلة، لأن العزلة هي موطن النفس
الفاوستية"، ويرى أن "النفس الفاوستية
تبحث عن الخلود وتترقَّبه أن يتبع نهاية
الجسد. والخلود، في نظرها، هو نوع من زواج
يشدُّها إلى الفراغ اللامتناهي"[4]. وعندما
احتقر نيتشه أخلاق العبيد، وعندما رسم هيغل
أبعاد الدوائر المغلقة في التاريخ، كان لا
بدَّ من مجيء فوكوياما، بتفاؤله الساذج،
ليشدَّ الحبل حول رقبة التاريخ، وليعلن "نهايته"
السعيدة على يد النظام العالمي الجديد، حيث
تستبد السعادةُ بالأفراد، فينعمون بـ"النعيم
المتطاول"، على حدِّ عبارة أبي العلاء. هل يمكن أن يوجد الله وأمريكا معًا؟ سؤال
وقح، لكنه حقيقي. نتجنَّبه، لكنه قطب الرحى في
جراح وعينا. ولحظة تكون الأجوبة مكرورة
بلهاء، تتَّقد الأسئلة، كيفما كانت، عساها
ترجُّ الوعي المرتبك والمرجوج والمدخول
برياح شتى – رياح السَّموم من سُموم العولمة.
وحينما تتغلب وقاحةُ الحياة على جرأة الفن،
يلجم المبدعُ خياله ليردَّ جماحه إلى الأسفل،
إلى غرائبية الحياة، التي تتجاوز كلَّ
غرائبية، فيبدع من توصيف الواقع ومن لمِّ
شعْثه ما يتجاوز كلَّ تخييل! في
رواية مرافئ الجليد ينتهي النص بالأسئلة
التالية (وتاريخ كتابته يعود إلى العام 1998،
تحت عنوان "ما قبل النهاية"): إن كانت الأساطير قد توقفتْ عند
أسرار الخلق فإن بعض النصوص تتطلَّع إلى
نهاية لا يمكن أن تكون إلا كارثة تدك الكون
دكًّا، حيث تعجن الأشياء المتنافرة، لتؤول
إلى طينها الأول. حين قالت راقية: "لا يمكن
أن يوجد الله وأمريكا معًا"، فكَّر جون
وقال: -
لا يمكن أن تتعايش قوتان في كون واحد.
فتحمست راقية وأضافت: -
كان الله يمثل القَدَر، ويبدو أن
القَدَر لا يصمد أمام القدرة! [...] عندما قالت راقية: "لا يمكن أن يوجد
الله وأمريكا معًا"، أراد الكاتب أن يهذِّب
قولها، لكنه لم يجد صياغة أخرى تحمل وزر
المعنى. عندما انفجرت الحرب اختلَّ الكون،
فترنَّح الكاتب بين عواطف شتى وقال: "هي ذي
العاصفة التي كنت أنوي أن تنتهي بها الرواية."
إلا أن الكلام استعصى، لأن العاصفة عبثت
بكلِّ شيء – بالداخل والخارج – فتحطمتْ كلُّ
النوافذ، وتمزقتْ كلُّ الأشرعة، وغدا الكون
صفيرًا مرعبًا. فكان يكتب نهاية، ثم يمزِّقها.
ومنذ سنوات وهو يبحث عن صياغة ما، قد تكون في
زمن ما، لكنها ليست من زمننا، لأن الصفير
المرعب يتردَّد في كلِّ حين، ولأن الرعب
يُربِك القدرة، ولأن القدرة تُربِك القَدَر.
فلا نهاية لما كان قد انتهى أو لمَّا يبدأ بعد.[5] نهاية
كهذه يمكن لها أن تُعَدَّ من جرأة الفن في
أزمنة أخرى. لكنها، في زمننا، لا تعدو إلا أن
تكون توصيفًا يلهث خلف واقع كارثي سريع
الوقائع، يدمِّر كلَّ ممكنات التطلع والحلم.
عند سيادة الروح الفاوستية يتجاوز الواقعُ
الخيالَ، وتتعرَّى نزعة الشرِّ، مندمجة مع
القدرة الفاعلة، لتصير البشرية مرعوبة
مسلوبة: تنظر وتنتظر "صقور أمريكا" الذين
استعاروا "جناح النسر الفاوستي"، كما
وَرَدَ في الأسطورة، وانقادوا إلى الشرِّ
المحض. فكانت حرب أفغانستان تعرية لتلك
النزعة في أوضح خيباتها، حيث كان الانطلاق من
القضاء على طالبان، ليكون التوقف عند "جزِّ
لحى" الأفغان وانتهاك البلاد وتشريد
العباد. والآن، في بلاد الرافدين، ينشدُّ
العالم إلى الشاشات، ينتظر فصلاً جديدًا
مرعبًا – قد يكون الأخير – من المسرحية
الفاوستية. وفي
هذا الشرط السليب، ومن هذا الموقع المعيب، لا
نملك غير تسمية الأشياء بأسمائها في السؤال
الواضح الفاضح الجارح: "هل يمكن أن يوجد
الله وأمريكا معًا؟" هل
تستطيع الخرافة "الفاوستية" المجسَّدة
تدمير كلِّ المخزون الذي جاهدتْ حضاراتٌ في
بنائه منذ آلاف السنين؟ هل
يمكن لتلك النزعة مصادرة روح الشرق وتطويع ما
بقي من قيم الغرب في سبيل العقد الثاني مع
الشيطان؟ هل
يمكن لقيم التاريخ أن تتلاشى بيسر أمام نزوع
انحرافي جديد؟ *** *** *** |
|
|