|
اللاعنف والمقاومةNonviolence and resistance
يُعَدُّ جودت سعيد (المولود في سورية في التاسع من شباط 1931) أحدَ أوائل المفكرين المسلمين والذي عمل جاهدًا على إدخال مفهوم اللاعنف في العالم الإسلامي. إن كِتاب هذا المفكر يبدو، بلا منازع، أصيلاً تمامًا وخصبًا، وينبغي أن نأسف لعدم الاستفادة منه كثيرًا في قلب العالم الإسلامي نفسه. فالمؤلِّف يعرض أفكارَه في كتاب نُشِر عام 1964 بعنوان: مذهب ابن آدم الأول، مشكلة العنف في العالم الإسلامي. وفي هذا الكتاب أراد أن يرُدَّ على كتابات سيِّد قطب الذي يعتقد، كما رأينا، أن القرآن يشرِّع العنفَ لنصرة دين الله. ويرى أن جواب هابيلَ لأخيه الأكبر قابيل الذي كان يهدده بالقتل: "لئن بسطتَ إليَّ يدَكَ لتقتلَني ما أنا بباسط يدي إليكَ لأقتلَك." (المائدة، 28) يُعبِّر بوضوح عن الموقف الذي ينبغي على المؤْمن المسْلم أن يتَّخذَه ليواجه الإنسانَ العنيف. ويُعلِّق جودت سعيد قائلاً: سواءٌ أكان الموضوع يتعلق بحادثة تاريخية أم بقصة رمزية، ما يبدو لي مهمًا في هذه القصة هو الطريق الذي تدلُّ عليه لكي ترتقيَ البشريةُ إلى مستوى الروح .... ليس هناك في موقف هابيل أي تردد ولا أدنى شك. إنه مصمِّم وعازم على مواجهة نتائج موقفه.
تسحرك السيدة سحر أبو حرب منذ اللحظة الأولى للقائك معها على أكثر من صعيد، فهي تدهشك بثقافتها، وتأسرك بتواضعها، وتفتنك بجرأتها في تناول ما يتهرب من تناوله كبار المفكرين الذين بدأوا يحنون قاماتهم أمام المد الأصولي المنتشر في أرجاء المنطقة. فتنسى معها الوقت ويمتد الحوار معها ساعات دون أن تدرك أن لديك مواعيد أخرى والتزامات وأشغال. وتسأل نفسك: أين كانت هذه السيدة منذ سنوات؟ ولماذا لا يتاح لها الحديث في القنوات الفضائية التي تستضيف "علماء" ومشعوذين ومتطرفين ومحرضين على العنف والقتل والتدمير، لتزيل الصورة المغبشة التي رسمها هؤلاء عن الدين الإسلامي؟ لسحر أبو حرب أربعة كتب في إعادة فهم الدين الإسلامي، وإقامته على أساس واحد: اللاعنف. كتابها الأول كان لا تكن كابني آدم لا قاتلاً ولا مقتولاً، ونشر في العام 1998. ثم كان كتابها الثاني العنف عند ابني آدم، عام 2000، وكتاب دار السلام عن شروط الجهاد والمجتمع المدني عام 2004، ثم عملها المدهش معادلات قرآنية عام 2008، والذي تبسط فيه الدين الإسلامي من خلال معادلات رياضية لتصل إلى نتائج مذهلة منها أن الشرك بالله هو إشراك العنف مع العقل، فإن أنت استعملت عقلك فأنت موحد وإن أنت استعملت القوة العنفية فأنت مشرك. ولها أيضًا مجموعات قصصية وأعمال مسرحية وعمل نثري جميل هو من ذاكرة عشتار. و. س.
لقد شبع القارئ تنديدًا بالأحداث وتصويرًا للمجازر! ربما ينتظر منا رؤية تختلف عن مواقف الشجبِ والادانة وتحميل المسؤوليات وإلقاء التُهم، وقد أتخم تحليلات سياسية وأخرى عسكرية تحمل توقعات أكثرها تفاؤلاً ينذر بكارثةٍ كبرى. مخطئٌ ربما من يظن أن أي فردٍ منّا، بوصفِه "إنسَانًا"، بمنأى عمّا يحصل من آلام هنا أو هناك؛ لأننا بالدرجة الأولى، وقبل كلّ شيء، شركاء في الإنسانية، علاوة على أن كثيرًا من القراءات تبدي قلقًا من تفاقم الأوضاع وامتدادها بحيث تخرج عن سيطرة صانعيها وحدود توقعاتهم وامكانياتهم. وإننا، كأفرادٍ نؤمن بكونية الإنسان وحقوقه ونتخذ من اللاعنف عنوانًا، نتحمل مسؤولية أخلاقية تجاه شركائنا في الإنسانية، وتجاه ما يحصل من أحداثٍ تتجاوز حدود الإبادة في بعض صورها. وإن طرح إشكالية الوضع الإنساني وقضايا السلام في دوامة "المجازر"، التي بَلغت ذروتها القصوى، يضع اللاعنف "حُلمًا" صعبَ المنال ناهيك عن التطبيق.
أخي وصديقي إدريس لأنك، ورغم كل الخلاف الواضح والصريح بيننا، ستبقى ذلك الإنسان الصادق الذي أكنّ له كل المودة والاحترام. والذي، لهذا السبب تحديدًا، ومن أجل فتح الباب لنقاش هادىء حول الكثير من القضايا التي ما زالت إشكاليةً في مجتمعاتنا، نشرت معابر على صفحاتها ردك على مقالة أكرم أنطاكي التي عبرتْ، تحديدًا من خلال موقفها الداعي إلى السلام، عن موقف هذا الموقع المتواضع. والخلاف بيننا قد يبدو عميقًا لأول وهلة يا صديقي. وهذا واقع قائم. لكن هذا الخلاف بوسعه أن يتغير حين نهدأ ونتجاوز منطق الغضب ونتفكر بمسؤولية وإنسانية. لأنه خلاف طبيعي مرده ربما الفهم المختلف لكل منا للواقع المحيط، وخاصةً، نعم خاصةً، فهم كل منّا لدينه ولدين الآخرين. كتلك المسيحية التي (من جانبك، ومن منظورك) تقع في خطأ تفسيرها على هواك. كما تقع من نفس المنطلق في خطأ التناول المجتزأ لمفاهيم وقيم إنسانية خالدة يفترض أن تجمعنا كالعدالة والإنسانية واللاعنف.
ليس العنفُ حتميةً. ولا يفرِض أبدًا قوانينَه من تلقاء ذاته. ولكنْ عندما يختاره البشرُ، يصبح حتميًا بأنْ يكابدون قوانينَه. هذه القوانينُ قاسية. إنها جامدة. إنها مرهِقة. إنها لا ترحم. إنها متوحشة. إنها لاأخلاقية. إنها، في النهاية، لاإنسانية. نتائجُ العنف مخزية. فظيعة. مُخجِلة. هذا هو منطقه. إنه منطق بارد لا تقف في وجهه صيحاتُ الغضب. تشير سيمون ﭭـايل في الإلياذة إلى أنَّ "المحاربين يَظهرَون مشابهين إما للحريق وإما للفيضان وإما للريح وإما للحيوانات الضارية وإما لأي سبب أعمى يسبب الكارثة". العنف، في الواقع، هو سبب أعمى للكارثة. إنه يفعل فعل كارثة طبيعية. إنَّ من طبيعة العنف نفسها أنْ يكونَ آليةً عمياء تجرُّ الإنسانَ في هروب نحو الرعب. يعتقد البشر أنهم يستعملون العنفَ، ولكنَّ العنفَ في الواقع هو الذي يستعملهم. يُخضِعهم ويجعلهم أدواتٍ في خدمته وحده. يتوهمون أنهم يستخدمونه، ولكنه يستخدمهم. فلا يبقى بين الإنسان والفعل العنيف أيُّ مسافة. وبالتالي فإنَّ المسافة التي يمكن وضعها بينهما هي التي تتيح وحدها وعيًا أفضل. ليس هناك في وحشية العنف من مكان للفكر. و"حيث لا يكون للفكر مكان لا يكون للعدل ولا للتعقُّـل مكان. ولذلك يتصرف الرجالُ المسلَّحون بقسوة وجنون". تشير أيضًا سيمون ﭭـايل إلى أنه عندما "لا أريد أنْ أكبِّد العدوَّ إلاَّ خسارةً محدودة فإنني لا أستطيع لأنَّ استخدام الأسلحة ينطوي على اللامحدودية". لقد أوضح ﭙول ﭭـاليري هو أيضًا دوامةَ العنف العمياء بقوله: "يُعرَف العنفُ بهذه الخاصية ألا وهي أنه لا يستطيع الاختيار: كثيرًا ما نقول أنَّ الغضب أعمى؛ فالانفجار أو الحريق يصيب مكانًا معيَّنًا وجميعَ ما يحتويه. إذًا، إنَّ الذين يتخيَّـلون ثورةً أو حربًا كحلولٍ لمشاكلَ محدَّدة يتوهمون عندما يعتقدون أن الشر وحده هو الذي يُقضَى عليه]."
عزيزي أكرم لقد وصلتني مقالتك لا للحرب .. نعم للسلام: لسنا وحوشًا ولن نكون.. ولكننا بشر وسنبقى في ليلة "القدر" الغربي المسيحي من رأس السنة الميلادي، مع مباركة مسيحية من طرف صديقي المسيحي اللاعنفي جون ماري مولَّر. وكانت هدية على المقاس. فالهدايا، عادة، على مقدار مهديها. وقد بدأت في قراءتها - للتو - على "نية" نقل بعض أفكارها الرئيسة، في رسالة سريعة من على شعاع الضوء وعلى سرعته، إلى جون ماري، كما أفعل عادة وعبادة مع مجموعة من الرسائل التي تصله، من العرب، باللغة العربية. ولكنني، وأنا أتفحص كلماتك بقلمي الفسفوري البرتقالي عريض اللسان، أضعت "نيتي" بين حدة الأفكار التي كانت تتناسل تاركة جروحًا خاطفة مثل موسى الحلاقة، بكثير من الهدوء، وبأكثر من الصدق ومن المسؤولية، مما كان يضاعف من حرارة إيلامها البارد. فوقعت تحت إغراء هائل، وعنيف قليلاً أو كثيرًا، في رغبة نقل الضجيج الفكري الذي اندلع في داخلي إليك عبر هذه الضفيرة من الرسائل البسيطة الصاخبة، من غرفة مكيفة جدًا من باريس، حول موضوع غير بسيط جدًا، وغير مكيف جدًا، وبعيد آلاف الأميال عن أزقة باريس المغطاة بالثلج، والمضاءة طول الليل، والغارقة في أضواء أعياد الميلاد ورأس السنة. وهي حكاية عاصرتها أنت أخي أكرم، وكانت حافلة بالدماء، وهي تسيل منذ ستين عامًا وإلى هذا الأسبوع الدامي جدًا بالذات؛ وذلك طمعًا في تسجيل اختلافي معك، ومع الموقف المسيحي اللاعنفي، في معظمه، في الغرب وفي الشرق أيضًا، تحديدًا، فيما يخص موقفه من السرطان الإسرائيلي الغاصب. فقد خِلتك، من خلال مقالتك، تسير على خطى اللاعنفيين الغربيين المسيحيين. وكما يتأكد لي يومًا بعد يوم، ومنذ أكثر من أحد عشر عامًا من اشتغالي على فلسفة مبدأ اللاعنف في الفكر المسيحي وعند الفلاسفة والمناضلين اللاعنفيين الفرنسيين على وجه الخصوص، أنهم يخطئون جدًا موضع فريضة العدالة. وكأني بهم يتعمدون ذلك، ويُعمّقون، من غير فرصة يتيمة للخطأ، موضع بؤرة الألم، وكأني بهم يتعمدون ذلك أيضًا. فسوء الظن مع تكرار الفعل المضنون به من الحزم كما يقول ابن حزم. وقد خلتك، أخي أكرم، عبر كلماتك القاسية، في مقالتك الأكثر قسوة، تريد "السلام" وعلى حساب "العدالة" بالذات، لصالح مجرم محترف لم ينج منه حتى نبي فلسطيني مسلم ومسالم جدًا من حجم المسيح عليه السلام، فعُلّق إلى جدع صليب، وبين صعلوكين بئيسين زيادة في الشماتة والنكاية!!
رغم أنه من غير الممكن أن نلغي العنف وتعبيراته من في المجتمعات المختلفة، ولكن يمكننا تقنين استخدام العنف، والنظر إليه كخيار أخير ومُؤقت، بغية استئناف لغة العقل والحوار. فالعنف يجب ألا يكون خيارًا أولاً، وأو نهائيًا أو مستمرًا، وهو ليس بديل عن لغة العقل والحوار، ويجب وضع ضوابط فيما يتعلق باستخدام العنف، كتحريم استخدامه ضمن المجتمع الواحد والبلد الواحد، إذ سرعان ما ينقلب إلى حرب أهلية، ومجازر إبادة عرقية وطائفية، وكذلك يجب ألا نكتفي بالدعوة الشعرية لنبذ العنف، بل يجب تحويل هذه الدعوة إلى فعل مُلزم عبر آليات مثل الديمقراطية -سيادة القانون- آلية حل النزاعات بين الدول..الخ لكي نتجنب الطرح المثالي المجرد للخيار اللاعنفي. إن فائدة العنف لحسم النزاعات قد اضمحلت في العقود الأخيرة، فلم يعد من الممكن إبادة شعب كامل كما فعل الغزاة الأوربيين مع شعب الهنود الحمر وسكان استراليا الأصليين، وهذا يتعلق بطبيعة العصر الذي نعيشه مع انتشار المعلوماتية ووسائط الميديا والفضائيات والحضور الدولي كعنصر وازن في النزاعات، وكذلك فإن هذا يتعلق بمدى تمسّك الشعوب المُحتلة أو المضطهدة بحقوقها وإصرارها على هذه الحقوق وطرح قضيتها مهما كلف الثمن.
في غضون أشهر، امتدّت الوقفات الاحتجاجية لحركة "نساء بالسواد" من القدس إلى تل أبيب وحيفا، ولم تكد تمضِ سنة حتى عمّت بقية البلاد، مع أن وسائل الإعلام، في أحسن الأحوال، كانت شحيحة في تغطيتها للحركة. وأود في هذا الفصل إمعان النظر ببعض التباينات ضمن حركة "نساء بالسواد"، وإلقاء الضوء على بعض الوقفات الاحتجاجية الفريدة. ولادات متعدّدة تكاثرت الوقفات الاحتجاجية لحركة "نساء بالسواد" طوال الأعوام 1988، 1989 و1990، منبثقة في 39 موقعًا في إسرائيل (انظر الملحق)، ومغطّية عمليًا طول البلاد وعرضها الضيّق. ففي أيٍّ من أيام الجُمَع، خلال هذه السنوات الثلاث المُجهِدة، كان الراكب في سيارة عادية أو في حافلة يواجه الرسالة الملحاحة: "كفى للاحتلال"، في هذا الموضع أو ذاك خلال تنقّله/تنقّلها، خصوصًا إذا كان سفرًا خارج المدينة. ورغم أن قوام الوقفات الاحتجاجية في القدس كان أحيانًا صغيرًا بما يُقَدّر امرأتين أو ثلاثة أو كبيرًا بقدر 120 امرأة (وأكثر في مناسبات خاصة)، فإن التأثير كان تراكميًا ومتواصلاً وقويًا. |
|
|