|
قراءة في خيار اللاعنف والحرب على
غزة..
رغم أنه من غير الممكن أن نلغي العنف وتعبيراته من في المجتمعات المختلفة، ولكن يمكننا تقنين استخدام العنف، والنظر إليه كخيار أخير ومُؤقت، بغية استئناف لغة العقل والحوار. فالعنف يجب ألا يكون خيارًا أولاً، وأو نهائيًا أو مستمرًا، وهو ليس بديل عن لغة العقل والحوار، ويجب وضع ضوابط فيما يتعلق باستخدام العنف، كتحريم استخدامه ضمن المجتمع الواحد والبلد الواحد، إذ سرعان ما ينقلب إلى حرب أهلية، ومجازر إبادة عرقية وطائفية، وكذلك يجب ألا نكتفي بالدعوة الشعرية لنبذ العنف، بل يجب تحويل هذه الدعوة إلى فعل مُلزم عبر آليات مثل الديمقراطية -سيادة القانون- آلية حل النزاعات بين الدول..الخ لكي نتجنب الطرح المثالي المجرد للخيار اللاعنفي. إن فائدة العنف لحسم النزاعات قد اضمحلت في العقود الأخيرة، فلم يعد من الممكن إبادة شعب كامل كما فعل الغزاة الأوربيين مع شعب الهنود الحمر وسكان استراليا الأصليين، وهذا يتعلق بطبيعة العصر الذي نعيشه مع انتشار المعلوماتية ووسائط الميديا والفضائيات والحضور الدولي كعنصر وازن في النزاعات، وكذلك فإن هذا يتعلق بمدى تمسّك الشعوب المُحتلة أو المضطهدة بحقوقها وإصرارها على هذه الحقوق وطرح قضيتها مهما كلف الثمن. فالسود في جنوب أفريقيا تمسكوا بحقوقهم وخاضوا في البداية نضال مسلح لم يجنوا منه شيئًا، ولكنهم بتحولهم للنضال السلمي، ولكن دون التنازل عن حقوقهم، وصلوا إلى النتيجة المرجوة لما فيه خير السود والبيض معًا. لا يعني النضال السلمي أو اللاعنفي التنازل عن الحقوق والاستسلام والسلبية بل هو تكتيك واستراتيجة فعَّاله وفعَّالة جدًا إن أحسن فهمها واستخدامها، وسأضرب هنا مثالاً: لو قام عمال النظافة في مدينة القاهرة بالإضراب لمدة أسبوع ماذا ستكون النتيجة؟ أو لنقل إضراب عمال أي شركة يخضع عمالها لظلم وجور. ببساطة ستنهار الشركة؟ وقد يقوم أرباب العمل بسجن وتخويف وقتل عدد من العمال ولكن النتيجة، وباستمرار الإضراب، ستُلبى مطالب العمال أو تنهار الشركة. إن النضال اللا عنفي والحل السلمي يحتاج إلى وعي وإصرار وتضحيات كبيرة ربما تصل لحد الشهادة، ولكن خسائره تبقى أقل من الحرب وخيار العنف، ومردوده أكبر وأسرع. فالعنف يردّ عليه بعنف، والكراهية تجلب الكراهية، وهكذا ندخل في دورات من العنف تصل إلى حد العدمية. سيقول الطرف الأول هم البادؤون وسيقول الطرف الثاني ألا ترى ماذا فعلوا بنا..الخ وندخل في أحجية الدجاجة والبيضة، أما في حال تبني خيار النضال السلمي والحل اللاعنفي فسيكون الحق واضحًا، وبالتالي يوجد فرصة لمراجعة الخيارات الخاطئة، وهذه الفرصة موجودة دائمًا عند المُعتدي، وتزداد احتمالات هذه الفرصة بإصرار الطرف الثاني على حقه وعدم استخدامه العنف المضاد، وبذلك نغذي إمكانية التلقيم الراجع للضمير الانساني في المعتدي. فالخيار السلمي واللاعنفي هو خيار أخلاقي وعملي معًا. ففي نموذج نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ما كان للسود أن يتحرروا لو أنهم لجئوا إلى إستراتيجية العمليات الانتحارية والتفجيرات في الأماكن العامة، عندها يمكن تخيّل نموذج حرب أهلية ما تزال مستمرة إلى الآن، و لو أن نموذج جنوب أفريقيا العنصري وجد قبل قرنين فقط لم يحل بهذه الطريقة الايجابية، فنجاح الحل السلمي يتعلق بالمتغيرات العالمية الجديدة لدرجة كبيرة. إن السمة العامة للحروب والنزاعات بعد الحرب العالمية الثانية هي عدم الحسم أو الحل السلمي. فبعد حرب حزيران خاض العرب والإسرائيليون عدة حروب: تشرين، لبنان 1982، حرب تموز2006، حرب اجتياح الضفة الغربية، والآن حرب غزة؛ ولن تنتهي أي حرب من هذه الحروب بانتصار الاسرائيليين على غرار انتصارهم في حرب حزيران67، فقد انسحبوا من سيناء وجزء من الجولان وجنوب لبنان وفككوا المستوطنات من غزة لماذا؟ لم يعد بإمكانهم الانتصار بعد الآن، ربما ينتصرون عسكريًا ولكنهم لن يستطيعوا تحويل النصر العسكري إلى نصر سياسي؟ لن يستطيعوا تهجير الفلسطيني بعد الآن من أرضه، فقد ولى زمن التهجير، فالفلسطيني تعلّم من درس التهجير ومأساة اللاجئين والتشرد الكثير. إن أهم مقاومة للاحتلال الإسرائيلي هي أن أبقى في أرضي وألا أغادر وطني ولو كلفني هذا الموت. "لن أغادر" إنه نموذج رائع للنضال السلمي، وأصلاً إسرائيل فقدت الأمل في تهجير الفلسطينيين. ولنأخذ نموذج آخر على الحرب هو حروب الخليج: ففي الحرب العراقية الإيرانية بعد ثمان سنوات عدنا إلى نقطة الصفر؟ وفي الحرب الكويت فشلت محاولة ضم الكويت، وجلب الاحتلال العراقي إلى المنطقة النفوذ الأمريكي، فخسر العراقيون وخسر الكويتيون وخسر العرب، ولم يتحسن وضع أمريكا في الخليج، فأمريكا الآن تحرس آبار البترول بنفسها وهي متخوفة من النفوذ الايراني المتزايد في المنطقة والذي يزاحمها النفوذ الآن في العراق. وفي حرب اجتياح العراق لم ينتصر الأمريكيون سياسيًا، فهم قريبًا سيغادرون العراق بأقل الخسائر الممكنة. لم يبقوا كما بقي الاحتلال العثماني 400 عام في العراق، وكذلك كما بقي الاحتلال البريطاني أكثر من ثلاث عقود في العراق..الخ. إن الخيار العُنفي له تأثيرات جانبية إنسانية باهظة، ربما تزيد على ما نتوخاه منه، والقاعدة الذهبية في الطب تقول: قارن بين جدوى العلاج وبين التأثيرات الجانبية المحتملة للعلاج، وبعدها اتخذ القرار المناسب. فالحرب في صحراء الكويت أو في صحراء سيناء أو فوق هضاب الجولان تختلف كثيرًا عن الحرب على مدن مكتظة بالسكان ومأهولة، فالأبرياء هم ضحايا الحروب، العادلة منها والظالمة، وغالبًا ما يخطط المتحاربون بعيدًا عن مصالح هؤلاء الأبرياء، بل إنهم يصبحون مجرد مادة للمزايدات السياسية. إن الذي يحدث الآن في غزة هو وصمة عار في تاريخ الإنسانية والجنس البشري، إنه مثال صارخ على العنصرية التي لم يستطع الجنس البشري حتى الآن وقفها واستئصالها أسوة بأمراض أخرى كالطاعون والسل والعبودية والقرابين البشرية. وأخيرًا: من المسؤول؟ المسؤول هو الجنون وغياب الرشد، ولكل طرف أن يتحمّل نصيبه من الجنون وغياب الرشد، ولا أقصد بالمسؤولية اليوم فقط، فما كان لحرب غزة أن تحدث لولا وجود سلسلة متتالية من الأخطاء من المجتمع الدولي والعرب والفلسطينيين أنفسهم. ولكن أليست إسرائيل الخاطئ والمجرم الأكبر في هذه الحرب؟ نعم بالتأكيد ولا ينقص ذلك من مسؤوليتها شيئًا؟ ولكن السؤال الحقيقي كيف يمكن لجم وعلاج هذه النزعة العدوانية؟ وما مسؤوليتنا كعرب في ذلك؟ فما كان لإسرائيل أن تقوم بما قامت به لولا أنها تيقّنت من لامبالاة العرب أو على الأقل سلبتهم تجاه عدوانيتها؟ إن المسؤوليين عن انقسام الشعب الفلسطيني هم محرضين على عدوانية الصهاينة بطريقة أو بأخرى، وكذلك المسؤولين عن وجود الدول العربية الاستبدادية الفاشلة الغير قادرة على اتخاذ قرارات سياسية مناسبة هم محرضين على عدوانية الصهاينة. ما يحرض العدوانية هو عدم وجود رادع في الطرف الآخر؟ وكذلك ما يحرض على العدوانية الاسرائيلية هو وجود عدوانية في الطرف المقابل تستند إلى دعاوى تاريخية ودينية، بل وربما دعاوى غير بريئة للمتاجرة بقضية عادلة كالقضية الفلسطينية. وأخيرًا يجب النظر إلى ما يجرى من حرب إبادة في غزة كنتيجة، فالهزائم نتائج أكثر منها أسباب. إنها مناسبة للتقييم والنقد الذاتي ودراسة أفضل الطرق بغية عدم تكرار غزة جديدة ولكن في تاريخ أو جغرافيا جديدة، هي مناسبة للتقييم أكثر منها مناسبة للغضب والثأر والصراخ. ولكن أكثرهم غاضبون. كلنا شركاء 9-1-2009 *** *** *** |
|
|