|
في نقد اللاعنف 1
عزيزي أكرم
لقد وصلتني مقالتك لا للحرب .. نعم للسلام: لسنا وحوشًا ولن نكون.. ولكننا بشر وسنبقى في ليلة "القدر" الغربي المسيحي من رأس السنة الميلادي، مع مباركة مسيحية من طرف صديقي المسيحي اللاعنفي جون ماري مولَّر. وكانت هدية على المقاس. فالهدايا، عادة، على مقدار مهديها. وقد بدأت في قراءتها - للتو - على "نية" نقل بعض أفكارها الرئيسة، في رسالة سريعة من على شعاع الضوء وعلى سرعته، إلى جون ماري، كما أفعل عادة وعبادة مع مجموعة من الرسائل التي تصله، من العرب، باللغة العربية. ولكنني، وأنا أتفحص كلماتك بقلمي الفسفوري البرتقالي عريض اللسان، أضعت "نيتي" بين حدة الأفكار التي كانت تتناسل تاركة جروحًا خاطفة مثل موسى الحلاقة، بكثير من الهدوء، وبأكثر من الصدق ومن المسؤولية، مما كان يضاعف من حرارة إيلامها البارد. فوقعت تحت إغراء هائل، وعنيف قليلاً أو كثيرًا، في رغبة نقل الضجيج الفكري الذي اندلع في داخلي إليك عبر هذه الضفيرة من الرسائل البسيطة الصاخبة، من غرفة مكيفة جدًا من باريس، حول موضوع غير بسيط جدًا، وغير مكيف جدًا، وبعيد آلاف الأميال عن أزقة باريس المغطاة بالثلج، والمضاءة طول الليل، والغارقة في أضواء أعياد الميلاد ورأس السنة. وهي حكاية عاصرتها أنت أخي أكرم، وكانت حافلة بالدماء، وهي تسيل منذ ستين عامًا وإلى هذا الأسبوع الدامي جدًا بالذات؛ وذلك طمعًا في تسجيل اختلافي معك، ومع الموقف المسيحي اللاعنفي، في معظمه، في الغرب وفي الشرق أيضًا، تحديدًا، فيما يخص موقفه من السرطان الإسرائيلي الغاصب. فقد خِلتك، من خلال مقالتك، تسير على خطى اللاعنفيين الغربيين المسيحيين. وكما يتأكد لي يومًا بعد يوم، ومنذ أكثر من أحد عشر عامًا من اشتغالي على فلسفة مبدأ اللاعنف في الفكر المسيحي وعند الفلاسفة والمناضلين اللاعنفيين الفرنسيين على وجه الخصوص، أنهم يخطئون جدًا موضع فريضة العدالة. وكأني بهم يتعمدون ذلك، ويُعمّقون، من غير فرصة يتيمة للخطأ، موضع بؤرة الألم، وكأني بهم يتعمدون ذلك أيضًا. فسوء الظن مع تكرار الفعل المضنون به من الحزم كما يقول ابن حزم. وقد خلتك، أخي أكرم، عبر كلماتك القاسية، في مقالتك الأكثر قسوة، تريد "السلام" وعلى حساب "العدالة" بالذات، لصالح مجرم محترف لم ينج منه حتى نبي فلسطيني مسلم ومسالم جدًا من حجم المسيح عليه السلام، فعُلّق إلى جدع صليب، وبين صعلوكين بئيسين زيادة في الشماتة والنكاية!! فأين نذهب من هنا يا أخي أكرم؟ إنني لا أريد من هذه الرسالة الأولى، وعلى السريع، سوى إخبارك بأنني أعدت قراءة مقالتك لأكثر من خمس أيام مخنوقة جدًا بالدراسة، وبالعمل من أجل كسرة الخبز الحلال، وبالنضال والتظاهر اليومي في شوارع باريس التي كادت تغرق تحت الصبيب المتدفق من المتظاهرين من أجل جبهة غزة ومقاومتها الباسلة. كان الوقت يلتهمني من أجل نفس القضية التي أثرتها في مقالتك الهادئة، ولكنني كنت أغلي. وقد خنقتها بملاحظاتي الحمراء على الهوامش، وبين السطور وتحتها، حتى صارت غير قابلة للفك حتى عندي أنا شخصيًا. ولهذا أطمع أن أنقل لك هذه الملاحظات، واختلافي معك فيما طرحته، وأطمع أن أنقل لك ذلك، أنا أيضًا، بكل صدق ومسؤولية، وربما بأقل من الهدوء، فتلك فريضة تعوزني كثيرًا. وربما تفرضه عليّ -هذا العوز- الأوضاع نفسها الحافلة بالقلق، وربما تفرضه عليّ طبيعة الطاقة التي تهزني من الداخل، وربما لأنني مسلم أيضًا. فقضية فلسطين، وفلسطين كاملة غير منقوصة، يُخيل إلي أنها أقرب إليّ من قربها منك وقربها من حبل الوريد نفسه، فهي ركن من أركان إيماني بالله العادل نفسه سبحانه عز وجل. وربما لأنني أزعم لنفسي أنني أومن بفلسفةٍ لمبدأ اللاعنف، وباستراتيجيةٍ للكفاح اللاعنفي تختلف عن فلسفة مبدأ اللاعنف والعمل اللاعنفي الغربيان. وربما لأنني بدأ يهاجمني الشك في نوايا اللاعنف عند اللاعنفيين الغربيين، وقد صرت إخاله قد "خان" و"يخون" فريضة العدالة، و"مسخ" و"يمسخ" مبدأ اللاعنف الغانديّ نفسه. وربما لأنني أعيش منذ أحد عشر عامًا في دولة انتشر في خلاياها العصبية، والحساسة جدًا، سرطان الصهيونية بشكل رهيب، حتى لصار الرأس والرئيس معًا، فلا تكاد تسمع إلا همسًا. فلست أبالغ في شيء إذا قلت لك، أخي أكرم، بأن الفلسطينيين الأحرار، واللبنانيين الأحرار، أكثر حرية، وعلى وجه الحقيقة، من معظم الفرنسيين، بما فيهم اللاعنفيون أنفسهم، ومن معظم باقي البلدان الغربية والعربية أيضًا. فلا تكاد تجد لاعنفيًا غربيًا حرًا مغامرًا واحدًا يعلن عداءه لإسرائيل في العلن، ويعلن عدم اعترافه بهذا الكيان الذي ولد اغتصابًا وسفاحًا، دون أن يخسر قوته، وقوت عياله، وقد يخسر رأسه أيضًا!! فحتى مارتن لوثر كينغ خسر نفسه لصالح الصهيونية بثمن قليل، فحاز الشهرة وجائزة نوبل، لكنه خسر شعبيته واحترامه، كل يوم، أمام مالكوم إكس الذي عض بالنواجد على مبدأ فريضة العدالة، وخسر مقابلها - يومها - سمعته، والعالم الغربي كله!! وإنني أريد للأمانة أن أنقل نقاشي الحقيقي إليك أخي أكرم، ومن الزاوية الحقيقية، مع إلزام نفسي وعباراتي بفريضة الإحترام وحدها التي تلزمني بها عقيدتي ومروءتي. فأنا مسلم، وأجتهد لأكون مسلمًا عادلاً قبل كل شيء. ومقابل فريضة العدالة مستعد لأن أخسر باقي الفرائض والألقاب، فلا حرج. وعقيدتي في كون ما جاء به الإسلام هو مشروع لاعنف أخلاقي، وإستراتيجي، وعملي، وإنساني، ومنحاز سلفًا إلى فك الصراعات الدولية على أساس فريضة العدالة، وعلى أساس فريضة العدالة وحدها، تبنى العدالة نفسها، وتبنى باقي الفرائض، ومنها فريضة السلام نفسها. والصراعات الدولية والقطرية - في مذهب اللاعنف الإنساني - لا نخوضها من أجل تأسيس فريضة السلام العالمي، بل وعلى حسابها إذا لزمت فريضة العدالة ذلك. فإذا تعارضت فريضة العدالة مع فريضة السلام، في مقاصد اللاعنف الإنساني، فالأسبقية إلى فريضة العدالة من غير أدنى تردد، وسأعود لهذا الموضوع في رسالة تالية. وأعتقد، أخي أكرم، أنك مسيحي قبل كل شيء، وأن مسيحيتك تغلب على عروبتك، وعليها أن تفعل ذلك، أو هكذا إخالك على الأقل عبر مقالتك الأخيرة، وعبر باقي رحلة أفكارك التي تابعتك وأتابعك من خلالها. وكنت أجدك، في كل مرة، تناصر فريضة السلام، ولو على حساب فريضة العدالة. وقد تكرر في مقالتك، على سبيل المثال، كذا مرة مصطلح السلام مقابل مرة يتيمة لا تزيد لصالح مصطلح العدالة. وذلك ليس عيبك وحدك فقط، بل هو توجه فلسفة مبدأ اللاعنف الغربي المسيحي في معظمها، وهي عقيدته المطلقة عندما نصل إلى قصة إسرائيل، فتكاد لا تسمع سوى أغنية "السلام" مصلوبة على هيئة المسيح عند قاض هو الجرم نفسه وصاحب الجريمة نفسها!! ثم ماذا يا أخي أكرم؟ فأريد من خلال هذه الرسالة أن أنقل لك نقاش حقيقي، عبر رسائل حقيقية خالية من المداهنة، وحافلة بالإحترام لشخصك، ولدينك، ولعروبتك، ولمواقفك، ولمقالتك نفسها، ولكنني أريدها رسائل، إن كنت أحتمل أن أخطئ عبر كلماتها البسيطة موضع الحقيقة غير البسيطة، لكنني لا أريد أن أحتمل أن أخطئ عبرها موضع الصدق وموضع المسؤولية، موضع الإحترام لشخصك. فتلك أملاكي، وملك يميني، فلك منها مني الباع الأكبر يا أخي أكرم!! وقد لاحظت أن مقالتك جاءت خالية من أي ذكر، ولو لمرة واحدة، لمصطلح اللاعنف ومشتقاته، أو أشارت أنها تعتمده في التحليل حتى، رغم أنني أجد بشكل قوي - فيما يخص قصة إسرائيل - إن "نتائج" بحثك تعتمد "نفس نتائج" ما قد وصلت إليه كل أبحاث اللاعنفيين الفرنسيين مجتمعين ومتفرقين باسم "مبدأ اللاعنف"!! وباعتمادك "مبدأ الواقع" السحري، الذي اختلقه اللاعنفيون الفرنسيون أنفسهم، لتمرير "السّاحر" الإسرائيلي نفسه عندما عجز عن تحقيق السحر بنفسه، حتى لصارت عبره "فريضة العدالة" وسلاح "مبدأ اللاعنف" مسخًا غير قابلين للإصلاح على المدى القريب!! والحال إنني احمل لك صورة كمؤمن باللاعنف وبالعدالة أيضًا، ولهذا سأحاول جاهدًا أن اعرض اختلافي معك بضم هذه الصورة الجميلة التي لك في ذاكرتي إلى مقالتك. فذلك يساعدني بشكل أفضل على إيجاد أحسن زوايا العرض الممكنة لجعلك تنتبه إلى مراجعة أفكارك التي إخالها تنقصها شجاعة فريضة العدالة؛ والتي تقدمها بهدوء، إلى عالمنا العربي، غير الهادئ جدًا، وفي هذه الأيام العصيبة. فإذا لم يكن لأطمع لإقناعك بأن ما تعرضه من أفكار باسم "مبدأ الواقع" لا يسندها حتى الواقع نفسه، وخالية من روح الشجاعة التي يطالبنا بها مبدأ اللاعنف الغاندي، فعلى الأقل سأستفيد من فرصتي لكي أعرض أمامك وجهة نظر أخرى، ترى الأمور بشكل آخر. فثمة دائمًا زاوية أخرى وأفضل لتقديم شهادتنا للعالم، وللحقيقة، ولله، ولرسله. ليس لخدمة السلام، وإيقاف الحروب، كما تكرر في مقالتك بشكل غريب جدًا يا أخي أكرم، ولكن لخدمة مبدأ فريضة العدالة النسبية الكاملة، كما أكرر أنا بالمقابل، وبشكل غريب أيضًا، وذلك باللجوء إلى وسائل نسبية وعادلة في المقاومة، بما في ذلك وسيلة القتال نفسها. والحاصل أن القتال وسيلة من وسائل الكفاح اللاعنفي في نصوص الإسلام، وفي نصوص غاندي معًا، قد يلجئنا إليه مبدأ الضرورة الحاد، وليس مبدأ الشرعية الأخلاقية، في غياب بدائل لاعنفية حقيقة وعملية وفعالة كما هو الشأن الآن وحالاً في أرض الواقع في جبهة غزة الصامدة. وسنعود لهذه الأمور كلها بالتفصيل الضروري عندما نقف على بعض المقاطع من مقالتك. ذلك إنني باشتغالي على رحلة الأنبياء - في اليهودية والمسيحية والإسلام - وعلاقتهم بمبدأ اللاعنف، استطيع أن ألاحظ، من غير فرصة واحدة للخطأ، إن مبدأ اللاعنف العملي غير الطوبوي، كما هو مبدأ اللاعنف نفسه من الداخل. وأقصد كما أعاد غاندي نفسه صياغة بعض قوانينه بشكل معاصر، في تجربته المعاصرة، وليس كما يحلو للإخوة اللاعنفيين الغربيين أن يفسروه ويمطوه ليوافق كتاب الإنجيل، ويوافق نكبة المسيح الفلسطيني على أيدي الصهاينة أنفسهم، ليَقبل باقي الفلسطينيين بنكبتهم على خطى المسيح المسالم اللاعنفي، الذي يَقبل، في التفسير اللاعنفي المسيحي، أن يُصلب بين صعلوكين على أن يتحرك ليدافع عن قضيته العادلة!؛ وليدعم قصة خلق إسرائيل، وإسرائيل الكبرى، في أكبر جريمة عالمية معاصرة !! والحال أن الحقيقة البسيطة، التي نخالها من وجهة نظرنا، إنما تقول بأن مبدأ اللاعنف العالمي والإنساني بدأ كمفهوم فلسفي عملي وحقيقي، وكسلاح استراتيجي فعال وحقيقي، مع النصوص العالمية والعملية، والدقيقة، التي تقدم بها القرآن الكريم ككتاب للعالمين أجمع؛ وتطور ونقح ما جاء في التوراة والإنجيل. ومع التنزيل الواعي الأول، وليس المثالي، وليس الأخير، كانت أول مقاومة لاعنفية واعية وحقيقية عرفها العرب والمسلمون، بل وعرفها العالم برمته، على مستوى تجربة عملية ولاعنفية واسعة وحقيقية وموثقة؛ على يد رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في مكة وفي المدينة معًا. وليس قبل ذلك بيوم واحد، إلا ما كان من أبعاد روحية وأخلاقية فقط لا غير. فكل ما يُنسب إلى المسيح عليه السلام حول مبدأ اللاعنف السياسي والعمل اللاعنفي الإستراتيجي في فك الصراعات والنزاعات الدولية، كان فوق طاقته، ومتأخر عن زمانه بكثير. والمسيح عليه السلام فشل في مهمته أمام الصهاينة لأنه كان سابق لزمانه، فكان لهم محمد صلى الله عليه وسلم بالمرصاد ليتمم معركته وفريضته. ولو بعث محمد في زمن المسيح لما فعل أكثر مما فعله المسيح نفسه عليهما السلام. ولو تأخر المسيح إلى بعثة محمد لكان قرآنًا يمشي بين شعاب مكة والمدينة. وما ينسب إلى تجربة غاندي نفسه، قابل للنقاش إلى ما لانهاية، ولم يكن السبّاق إليه، وأغلبه عار عن الصحة، ومبالغ فيه إلى درجة الكذب أحيانًا. وسأقف، مع كل ذلك، عند بعض المفاصل في رسائلي اللاحقة أخي الغالي أكرم. والحاصل إنه ليحز في نفسي أن أحدًا من الغربيين اللاعنفيين لا يمتلك الشجاعة لإرجاع الأمور إلى نصابها. وحتى هذه اللحظة لا يعترف لاعنفي فرنسي واحد بأن محمد كان، وما زال، على الأقل من أعظم اللاعنفيين ممن قهروا الظلم والظالمين، وفرضوا العدالة على المسلمين كما على المسيحيين وعلى اليهود. وبين ركام كل الكتب التي كتبت في اللغة الفرنسية منذ عصر رومان رولان وكتابه عن غاندي وإلى هذا الأسبوع لن تجد كتابا واحدًا، أخي أكرم، يصنف محمدًا مع اللاعنفيين، أو يصنف القرآن الكريم في كتب اللاعنف، كما يفعلون مع المسيح ومع الإنجيل. بل يصنفونهما في الخزانة المقابلة تمامًا. ولهذه النقطة الساخنة على كل حال رسالة ساخنة أخرى من هذا النقاش الساخن. والحاصل، لأن تجربة محمد صلى الله عليه وسلم كانت قبل حوالي أربعة عشر قرنًا من مجزرة غزة التي تدور رحاها الطاحنة الآن، فإن فلسفة مبدأ اللاعنف، واستراتيجية الكفاح اللاعنفي الإسلامي، رغم أنها تبدو لي أصيلة جدًا، محفوظة بدقة هائلة في نصوص كتاب الله من غير فرصة واحدة للتحريف أو المساومة أو الإضرار بفريضة العدالة. لكن هذه التجربة اللاعنفية الأولى نفسها، وبسبب جبن العرب والمسلمين وكسلهم الفكري والعملي، وقلة نزاهة أعدائهم ومركزيتهم وعنفهم؛ تبدو قديمة جدًا، وباهتة أيضًا، حتى لكأنها غير قابلة للنقل الواعي والفعّال لفك صراعات العصر الدولية من الداخل ومن الخارج. وصارت تبدو عند بعض العرب والمسلمين - من النّقلة، والواقعين تحت سحرة الغرب المنحازين - تجربة عنيفة جدًا، ومشينة جدًا، وتبعث على العار حتى! لأنها كانت تجربة مشفوعة، عند حد مبدأ الضرورة الأسود، بعنف مضاد كان ضروريًا وكان أخلاقيًا جدًا! بينما اللاعنف الغربي المسيحي يرى - من أبراجه، من باريس، من أعلى نقطة في العالم - أن مقاومة لاعنفية بواحد في المائة من العنف المضاد تُعد مقاومة عنفية بتسع وتسعين بالمائة من اللاعنف! ولكن "خَلق" دولة صهيونية كاملة في أراض الآخرين، وبمائة في المائة من العنف العاري، وتكريس قيامها ووجدوها، منذ ستين عامًا، وبمائة في المائة من العنف العاري، وبمتتالية حسابية من المجازر المحسوبة جدًا؛ صار دفاعًا عن النفس، وصار من باب "مبدأ الواقع" حقيقة واقعية، وحقًا دوليًا عالميًا غير قابل للمساومة، وقابل لكل المجازر. ثم ماذا يا أخي أكرم؟ ثم كان ما يشبه الكارثة عندما جاءت مقالتك، أخي أكرم، وجاءت تطالبنا بالهدوء. وباسم "مبدأ الواقع"، جاءت تنقل لنا صفات الرجل العربي الواقعي الذي يعيش على الأرض، ويفهم الوقائع الأساسية، ويفهم أن إسرائيل أصبحت أمرًا واقعًا، ويفهم أن الوقائع في هذا الواقع لا ترتفع. فإسرائيل واقع بحكم "مبدأ الواقع"، وأي "واقع" بحكم "مبدأ الواقع" هو نوع من "القدر" فلا مقدم ولا مؤخر. وتتابع مقالتك بأن الرجل العربي ليس في مقدوره رفع هذا الواقع، أقصد هذا القدر، وأن أحدًا من الرجال العرب ليس في "نيته" الحسنة أن يفعل ذلك على كل حال! وأما "بعض" من يدعي عكس ذلك، ويرى بأن تحرير فلسطين كاملة غير منقوصة ممكن، وممكن جدًا، فإنما يحاول عبثًا أن يغير القدر، وليست دعواه سوى ضرب من "المزاودة الرخيصة" لغايات ومصالح، لا تخصك أخي أكرم، ولا تخص أغلبية الرجال العرب الواقعيين ممن آمنوا بواقع إسرائيل وآمنوا بحتمية القدر. فلهؤلاء بعض الأوسمة والألقاب وشفاعة المسيح، ولغيرهم مثلي ممن فضلوا أن يسيروا على خطى محمد، وليس على خطى المسيح، في طريقة دفعهما لبني إسرائيل، ولباقي الظالمين، فلهم الويل ولهم المجازر حتى يرشدون، وإلى هذا الحد. ثم ماذا يا أخي أكرم؟ فلقد طالت رسالتي، ولقد تعمدت أن تكون عامة، ومستفزة، ولكنها لا تخلو من صراحة ومسؤولية. فكلماتي لها ما يبررها. وما يبررها أكثر منها في الحقيقة. ولعلي في الرسائل المقبلة أجد فرصًا أكثر للوقوف مع تفاصيل رسالتك، مما يعطيني فرصة أحسن لعرض نقد للفكر اللاعنفي المسيحي والإسلامي معًا في موقفه من السرطان الإسرائيلي، ومن المقاومة ممن التجأت إلى وسائل العنف المضاد. إذ أن مقالتك نوع من "الترجمة" لأطروحات اللاعنفيين الفرنسيين المسيحيين حذو الكلمة للكلمة، من حيث لم تقصد في الغالب. وربما ذلك راجع لطبيعة الغذاء الفكري التي تبني به فلسفتك وموقفك من إسرائيل، ومن المقاومة. وللأمانة لم أجد مقالتك بالأصالة التي كان ينبغي عليها أن تتمتع بها عند سحبها على الوسط الثقافي التي نبتت فيه. ففي كل خطب اللاعنفيين الفرنسيين المسيحيين، وفي كل كتبهم، وفي كل مقالاتهم، وفي كل حديث بين لاعنفيّيْن؛ لا يرد مصطلح "مبدأ الواقع" حتى ترد دولة إسرائيل المهيبة. فمواعظهم لا تملك استعمالاً آخر لهذا المصطلح في أي نازلة أخرى، حتى تستحضر واقع إسرائيل، وإذ ذاك لا تبدو عاجزة جدًا عن مقاومة الظلم كلما صار "واقعًا" مثل "إسرائيل" فحسب، ولكنها تصير أيضًا مبررة لواقعه!! هنا في هذه النقطة يُنسى غاندي، ويُنسى موقفه من إسرائيل نفسها. لأن إسرائيل فوق غاندي، إذ كانت فوق المسيح نفسه، وقد صلبه الصهاينة وكان أعزلاً من غير مقاومة، وعلى بعد خطوات من غزة، وبين صعلوكين زيادة في الشماتة! إن محمدًا جاء ليتمم الرحلة الإنسانية التي أشعل فتيل بدايتها أخيه المسيح، ولكنه جاء ليقلب الصليب، ويجعل منه سيفًا صلبًا متقلبًا، يؤخذ من قبضته وليس من شفرته، عند الضرورة الحادة، وعند ضرورة حادة من حجم السرطان الصهيوني، قاتل الأنبياء، وقاتل المسيح أو ما شُبّه له به، وقاتل السلام والتعارف العالميين إلى يوم الناس! ذلك ما تفعله المقاومة في فلسطين وفي جنوب لبنان. وعندما وصلتني مقالتك قبل خمس أيام كاملة، ثم بعد خمس ثوان كنت قد طبعتها في رق منشور، فما إن بدأت قراءتها من عنوانها حتى كنت أجدني أخضع عنوانها نفسه لإصلاح جوهري، قد يكون علامة ظاهرة على مدى المسافة التي تفصل تفكيرنا ورؤيتنا للأمور، من حجم إسرائيل. فكان مؤدى عنواني، وكان يعني ما أقول جدًا: نعم للحرب .. لا للسلام: لسنا بشر وقد نصير .. ولكننا وحوش وقد لا نبقى، في قلب بزاوية دائرية كاملة. وبينما أنا أرقن لك هذه الكلمات السريعة والغاضبة قليلاً، إذا بمقالة للدكتور محمد العمار - والتي كان لمقالتك فضل في إنتاجها- تصلني تحت هذا العنوان: لا للإستسلام... نعم للاعنف: نحن بشر ولن نكون كذلك من غير إلتزام بالحقيقة ولذلك علينا أن نفعل. وبينما أضاف محمد العمار وبشكل جميل إلى الكلام الجميل لغاندي الذي بدأت به مقالتك قوله: [ليس المهاتما إنما أنا أيضًا]، كتبت أنا بخط أحمر عريض، بعد أن وضعت كلمات غاندي التي تبعث على الخشوع في إطار أحمر،: [هذا ينسف كل المقالة]! والحقيقة إنه ينسف إسرائيل ايضًا! ثم ماذا أخي أكرم؟ فكن بخير، واجعل صدرك بحجم السماء، وصبرك بحجم المسيح، وإني لإخالك كذلك. وإنني أعترف بكل تواضع بأنني امتلك كل ما يكفي من الشجاعة لكي أعلن إنتمائي وبفخر زائد لهذه الأقلية من أعداء حقيقة إسرائيل ووجودها كاملاً، وانتمائي لهذه المقاومة الباسلة في خطوط الجبهة اللاّهبة. فلعل الله يجعل قصة إسرائيل كقصة أصحاب الفيل، فيجعل كيدهم في تضليل، فيرسل عليهم مقاومة ترميمهم بحجارة من سجيل ويجعلهم كعصف مأكول. وأكياس عامرة بالدعاء وبالمقاومة.
إدريس *** *** *** |
|
|