|
إضاءات
هل كان الرسول محمد (ص) يتقن التكلم باللغة اليونانية؟ هذا السؤال ربما يفاجئ البعض لأنه يقفز على ذلك الفهم الشائع لدى المسلمين بأن النبي أمي لا يقرأ ولا يكتب، لأن عدم إتقان الرسول للقراءة والكتابة بلغته سوف يجرنا حتمًا إلى نفي إتقانه لأية لغة أخرى غير لغته الأم. لذا سنحاول أولاً إثبات إتقان الرسول للقراءة والكتابة بلغته قبل تناول ما نود طرحه في هذه الدراسة حول إتقانه اللغة اليونانية. ولنبدأ بمناقشة لفظة الأمي التي ورد ذكرها في عدد من آيات القران الكريم مقرونة مع اسم النبي محمد (ص)، فهل تعني هذه الكلمة ما تعنيه في العادة لفظة الأمي؟ أم أنها تعني شيئًا آخر يرتبط بالسياق الذي يمثله معناها العام، فالذين يؤيدون الرأي الأول، وهم يمثلون السواد الأعظم من المسلمين، يؤكدون كلامهم هذا بجملة من الآيات، من أمثلتها الآية التالية:
ليست مشكلةُ اقتلاع الفلاحين أقلَّ خطورةٍ من مشكلة اقتلاع العمال. فعلى الرغم من أنَّ المرَضَ أقلُّ تفاقماً فإنَّ فيه شيئاً أكثرَ فضحًا؛ لأنَّ ما يتنافى مع الطبيعة الإنسانية هو أنْ يزرعَ الأرضَ أناسٌ مقتلَعون. لا بد من إيلاء الاهتمام نفسِه للمشكلتين. فضلاً عن ذلك، يجب عدم إظهار علامة اهتمام علنية أبدًا للعمال مِن دونِ إظهار علامة أخرى مماثلة للفلاحين. لأنهم شديدو الحذر، شديدو الحساسية، وتُقِضُّ عليهم مضجعَهم دائمًا فكرةُ أنهم منسيُّون. لا شك أنهم يجِدون ضمن الآلام الحالية عَزاءً في ضمان أنه يفكَّر بهم. يجب الاعترافُ بأننا نفكر بهم عندما نكون جائعين أكثر بكثير مما نفكر بهم عندما نأكل ما نشاء؛ كذلك الأمر حتى بين الناس الذين كانوا قد اعتقدوا أنهم وضعوا تفكيرَهم على مستوى أعلى بكثير من جميع الحاجات الجسدية.
الإطار التربوي–الاجتماعي–الفكري الذي ظهر فيه أنطون سعاده كان إطارًا مزدوجًا: تحدده النهضة العربية من ناحية والثقافة الغربية الحديثة من ناحية أخرى، علمًا أن نهضة القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين التي نشأت في مصر وبلاد الشام لم تكن لتنشأ وتنمو كما حصل لولا التربية والثقافة الغربيتان. من هنا كانت أيَّة دراسة جدية منشودة لتكوُّن سعاده العلمي وإنجازه الفكري دراسةً، في الوقت نفسه، لرواد عصر النهضة ومصادرهم الغربية والعربية. وعلى كثرة الدراسات حول النهضة العربية، إما في تاريخها العام كحركة، وإما مع أفراد تأثروا بها وساهموا في صنعها مثل جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني، إلا أن هذه الدراسات تشوبها نقائص عدة – منها أنها لم تحصل على نحو منهجي ضمن مركز أبحاث قائم في ذاته، أو تابع لجامعة، يتولى تبني فريق اختصاصين، وحتى إعدادهم، في النهضة ككل وفي كل من روادها، موكلاً إليه مهمة نشر الأعمال الكاملة أو الكبرى مع دراسة وافية وموثقة وموثوقة لكل عمل.
يمكن اعتبار هذه الكلمات التي اختتم بها بيير تيلار ده شاردان بحثه الذي بعنوان الحياة الكونية مدخلاً مناسبًا للتمعن في حياته. والأهمية الخاصة لهذه الكلمات تنبع من أن تيلار كتبها عام 1916 حين كان يؤدي واجبه كحامل نقالة خلال الحرب العالمية الأولى؛ وأيضًا، لأنها تشير من عدة أوجه إلى ما سيكون عليه التوجه اللاحق لأعماله. مؤكدين على أن خبرته تعيدنا إلى طفولته المبكرة في جنوب فرنسا، وإلى سنوات ترحاله وبحثه العلمي. تلك التي جعلت، خلال السنوات الأربع والسبعين لحياته، من خبرته مع الألوهة ومن نظرته إلى دور الإنسان في العملية التطورية، الهاجس الرئيس لحياته. الأمر الذي ما سنبينه بعرضنا الموجز للمراحل الأساسية الثلاث من حياته والتي هي: سنوات التكوين، سنوات الترحال، والسنوات الأخيرة التي قضاها في مدينة نيويورك.
للوقوف عند الجذور التاريخية لمقاربة النوع وخلفياتها النظرية ومراميها السياسية، لا بدَّ من التعرف على المسار الذي ولدت في خضمه، ألا وهو مسار النسائية كحركة وكفكر، والوقوف عند الشحنة النقدية التي تتمتع بها النظريات النسائية، لأنها ببساطة لم يكن ليكتب لها الوجود ولا القوة التي أصبحت تتمتع بها، لولا هذه الشحنة النقدية لجميع دروب المعرفة الإنسانية، ابتداء من أم المعارف، الفلسفة، ومرورًا بالتاريخ، والأنتربولوجيا، والعلوم البيولوجية والطبية، بل والرياضية، واللسانيات،... إلخ. إن مصطلح النسائية المتداول هاهنا ترجمة للكلمة الفرنسية féminisme، بينما ستستعمل كلمة نسوية كرديف لـ feminine. والمقصود بالنسائية هي ذلك الوعي الفردي والجماعي باللاتكافؤ في العلاقات الاجتماعية بين المرأة والرجل، وتلك الإرادة في تغيير هذا اللاتماثل في أفق المساواة. بينما كلمة نسوية، فهي النعت المشتق من كلمة نساء والذي لا يحيل إلى عقيدة بل إلى الانتماء لجنس النساء.
تصطدم المقاربة التاريخية لشخصية محمد وسيرته بعقبة كأداء هي صعوبة معالجة المصادر المُتاحة. كمثال لهذه الصعوبة، سأستشهد بمؤرِّخ بدايات الإسلام مكسيم رودنسون، مرتين متتاليتين، بما قاله في غضون سنتين. إليكم ما قاله عام 1961 في مدخل كتابه محمد: كتابة سيرة محمد فقط من خلال وقائع لا شكَّ فيها، وبدقة رياضية، ستُختزل إلى بضع صفحات ذات جفاف مُريع. إلا أنه من الممكن إعطاء صورة قابلة للتصديق، وأحيانًا قابلة جدًا للتصديق، عن حياة محمد. ولكن يجب لذلك استخدام معطيات لمصادر لا نملك إلا ضمانات ضئيلة على مصداقيتها. بعد سنتين، عام 1963، في مقال غني جدًا قدَّم فيه "حصيلة الدراسات المحمدية"، اعتبر رودنسون أن القرآن، على صعوبة استخدامه، هو "من بين مصادر سيرة محمد، المصدر الوحيد الذي يمكن تقريبًا الاعتماد عليه كلية".
ولد عام 1905 في مدينة قسطنطينية. نشأ تنشئة دينية واجتماعية وفقًا للتعليم التقليدي، ثم نزل باريس عام 1930. التحق بمعهد اللاسلكي وتخرج منه عام 1935. وفي باريس تعرف إلى المستشرق الفرنسي ماسينيون، كما تيسر له مقابلة (المهاتما غاندي) الذي زار باريس عام 1932... وجاء إلى مصر واتصل بالرئيس ناصر وبقي حتى رجع إلى الجزائر المستقلة عام 1963، ليصبح مديرًا للتعليم العالي حتى عام 1967. ثم صار أحد مستشاري المؤتمر الإسلامي في القاهرة. وبعد أن استقال من منصبه تفرغ للعمل الفكري، وقضى ما تبقى من سنوات عمره في الجزائر حتى وفاته 1973. أبرز كتبه: فكرة كومنولث إسلامي، مذكرات شاهد القرن، شروط النهضة، الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، فكرة الأفريقية الآسيوية، مشكلة الثقافة، في مهب المعركة، ميلاد مجتمع، المسلم في علم الاقتصاد، وقد تأثر فيه بنص ابن خلدون في إنتاج فكرته الأساسية الدورة الحضارية، كما اقتبس من (كانت) فكرة الواجب قبل الحق. وأبدى إعجابه الشديد بجون ديوي. وتأثر بشبنغلر وماكس فيبر.
عند الحديث عن محنة العقلانية العربية المبكرة نستحضر غالبًا اسم ابن رشد، فقد كانت محنته مدوِّية، غير أن هناك محنًا كثيرة أبتلي بها العقلانيون العرب الأوائل، ويمكن القول إنَّ محنة ابن رشد كانت نقطة الذروة في سلسلة المحن التي أصابت الفلسفة العقلانية في ديار العرب. وقد كتبنا في الأوان عن محنة ابن رشد، نبتغي هنا إلقاء بعض الضوء على محنة ابن باجة، فبسبب قلة اهتمام الباحثين بها فإنها بقيت في العتمة فيما اشتهرت محنة ابن رشد وذاع خبرها، ونحن نرى أن المساهمة بقسط في إنارة هذا الجانب المهم من جوانب الفلسفة العربية، يمكِّن من الإلمام بفصل آخر من فصول اضطهاد الفكر العقلاني في البلاد العربية. وبالتالي إدراك أن التكفير الراهن في الحياة الفكرية العربية ليس صاعقة في سماء صافية، فهو يعود بجذوره إلى بحيرة راكدة، يستمد منها مياهه الآسنة.
يحتاج القانون، كبناء مؤسساتي مجرد وقيمة اجتماعية سامية، إلى قوة مستقرة وقادرة تسنده ليشيع وينفذ. وتحتاج القوة التي تنفذ القانون وتحميه، إلى سند مصنوع إما من قبول عام أو خضوع مكروه. ربط القانون في مداه الاجتماعي بقناعة راسخة وقبول حقيقي دليلٌ على توافق وانسجام القانون مع الهوية الفكرية والمستوى الثقافي. لكن، حينما يلجأ مطبقو القانون إلى إخضاع سافر – ونقصد هنا قسر الناس على قبول تنفيذ القوانين عن إكراه لا عن اختيار حر ومسؤول، ليحوز الثقة والنفاذ، فإن ما يخسره القانون من رمزيته وهيبته قوة رسوخه – بث الانسجام وترسيخ القناعة والثقة بالمؤسسات القانونية – يربحه خضوع شامل للزيف وللكذب. وكلما شاع ما هو زائف كلما ضعف بنيان الفكر وتقوضت مجالات تأثيره. إلا إن الذكاء العام لأغلب الفئات الاجتماعية لا يخضع لما هو زائف وشائع إلا إذا تم جره إلى تبرير القوانين لمنفعة غير مشروعة. هنا يتحول الذكاء، كنوع سام من الفكر والمراقبة، إلى أداة لقتل الفكر ومحو المراقبة كقدرة مجتمعية على وقف الجريمة أو النيل من مرتكبيها بعقاب عادل.
|
|
|