|
القوة والقانون، الضعف والذكاء
يحتاج القانون، كبناء مؤسساتي مجرد وقيمة اجتماعية سامية، إلى قوة مستقرة وقادرة تسنده ليشيع وينفذ. وتحتاج القوة التي تنفذ القانون وتحميه، إلى سند مصنوع إما من قبول عام أو خضوع مكروه. ربط القانون في مداه الاجتماعي بقناعة راسخة وقبول حقيقي دليلٌ على توافق وانسجام القانون مع الهوية الفكرية والمستوى الثقافي. لكن، حينما يلجأ مطبقو القانون إلى إخضاع سافر – ونقصد هنا قسر الناس على قبول تنفيذ القوانين عن إكراه لا عن اختيار حر ومسؤول، ليحوز الثقة والنفاذ، فإن ما يخسره القانون من رمزيته وهيبته قوة رسوخه – بث الانسجام وترسيخ القناعة والثقة بالمؤسسات القانونية – يربحه خضوع شامل للزيف وللكذب. وكلما شاع ما هو زائف كلما ضعف بنيان الفكر وتقوضت مجالات تأثيره. إلا إن الذكاء العام لأغلب الفئات الاجتماعية لا يخضع لما هو زائف وشائع إلا إذا تم جره إلى تبرير القوانين لمنفعة غير مشروعة. هنا يتحول الذكاء، كنوع سام من الفكر والمراقبة، إلى أداة لقتل الفكر ومحو المراقبة كقدرة مجتمعية على وقف الجريمة أو النيل من مرتكبيها بعقاب عادل. أن تنظر في أحوال الناس هو أن تعقل منهم خصائص جوهرية. وحينما ينزع الجوهر إلى التفكك، تحضر التبريرات من كل صوب، وينبري من يتحلى بالذكاء لأجل المنفعة غير المشروعة إلى سوق حجج تسوغ من الجوهر ما تعطل، ومن الحياة ما صار عرضة للإهانة والرخص. قد ينشأ الفكر النفعي جلادين لامعين، وقد يقود لسان الحاجة وضروب العوز أصحاب قدرات خاصة إلى تقديمها في معرض نيل منفعة لا يقبلها عقل يفضل النزاهة على براعة التحليل الغائم، ومرامي الصدق الحقيقية على حاجات الرياء الرديئة. يفشى أن التوازن بين القوى المتصارعة ينتج عوامل استقرار مديدة، ولا يقبل هكذا رأي أي دحض. لم لا نقول إن عوامل الاستقرار المفقودة هي التي تدفع فكرًا بلا قاعدة من واقع ملموس، إلى افتراض أن التوازن طريق نحو حل القلاقل والمشاكل. بدل الانطلاق من بدايات صحيحة، يتم إقحام النتائج الوهمية وإرساؤها على سراب حاكم. التوازن مفقود لأن عوامله مقموعة وقواه الحقيقة مصادرة العقل والعمل. تدفعنا الحاجة إلى نزع الوهم استعمال منطق عكسي: حرية الأفراد مطلب لا يمكن الشك في قيمته وجدواه. وفي حال كانت هذه مفقودة، كيف يمكن التكلم باسم دول تنجح في خلق توازن فيما بينها حينما يكون أفراد هذه الدول نفسها يعيشون في قلق خانق وسؤال لا يجد إجابة: متى يستعيد عقل المحللين بساطة ما بديهي ومسلم به، فلا يرجئون ما هو أساسي لصالح ما هو مؤقت، ولا يستسيغون ويستغلون منطق التشويش على حساب مجتمعات يتعرض أفرادها لانتهاكات يومية. كيف يمكن أن تحدث تغيرات شاملة، وتتعرض موازين الاقتصاد إلى تخلخل كبير، فيما أكثر الناس لم يكن لهم رأي ولا دور في كل ما يحدث ويتبدل حولهم. لا يمكن للقوانين أن تتبجح بنصوص من دساتير فقدت أي قيمة فعلية لحضورها، ولا يمكن للفقهاء أن يقوِّلوا الناس ما هم عاجزين عن تطبيقه على أنفسهم. يجري فرض العقاب على مرتشين صغار فيما السجن الذي يقضي فيه المجرم عقوبته قائم على نظام كامل من الرشوة والفساد. عندما يمنع مجتمع كامل من تنظيم نفسه، وتفقد نقاباته ومنظماته كل فعالية على العمل، كيف يمكن القول إن النظام الحاكم في هكذا حالة يحوز شرعية على التكلم باسم شعب يجري تطبيق القوانين عليه باسمه كذلك؟! وعندما يخشى الطلبة من فقدان فرص الالتحاق بالجامعات ولا يجد خريجوها فرصًا للعمل، وتصل مستويات الفقر إلى حدود مرعبة، كيف يمكن التكلم باسم حكومة، تقود شعبًا هكذا حاله، على أنها تلتزم بتطبيق قوانين بلادها؟! تخسر القوانين قيمتها عندما لا تخدم طموح البشر إلى حياة عادلة، ولا تقدر على تعاملهم على مستوى واحد من الاحترام اللائق. حينها يمكن للذكاء النفعي أن يتبجح بوجود آلاف الصفحات من القوانين، في حين أن من يسهر على تطبيقها هو من ينبغي أن يحال إلى القضاء. يمكن لهكذا نوع من الذكاء أن يولد الضغائن، وحينما يستفحل الفقر والظلم، تنشأ تربة صالحة لنمو الحقد والضغينة. إن القانون الذي لا يمكن للبشر التكاتف والتماسك تحت الدفاع عن ضرورة تطبيقه، يغدو نوعًا من الكذب المستمر، ولا يمكن للكذب أن يكون عامل قوة، كما لا يمكن للخضوع أن يكون علامة على قوة القوانين أو ذكاء صانعيها من طغاة ومجرمين. تنشأ العلل من نقيضها. قوة نظام حاكم بلا شرعية من قبل المحكومين، ولا ثقة فعلية وحماية مستمرة من الناس، هكذا قوة تحيى على قوانين وهمية كسيحة سرعان ما تتحول إلى بخار، فيما الناس الذين تهضم حقوقهم وتهان كرامتهم، يجدون في نار الذل مسكنهم، أو في إغراءات الفوضى المضيئة دروب نجاة عمياء لا يمكن التكهن بنهاياتها. لا يعود للقانون قيمة إذا كان طرفا العقاب خصمين، فالقاضي الذي يحكم كخصم ينزل العقاب، يحول الجاني إلى موضوع له، إلى شيء يجري عليه الحكم كما لو كان مثالاً، نموذجًا بلا صفة بشرية خاصة ولا تميز اجتماعي. بدل أن يكون القانون ملاذًا يتحول إلى وكر لضعيفي النفوس حيث تباع المبادئ وتشترى الذمم عبر الأحكام العمياء لقاء هدف نفعي محض، هدف يحافظ على مكانة مباني العدالة كسلطة قمع ولا يحافظ عليها كضمير للنزاهة والشرف. على القاضي أن يختبر الألم الذي حول شخصًا ما إلى جاني، إلى موضوع للحكم البات. عليه أن يتعلم الرأفة قبل أن يفكر في صواب الحكم الذي لم ولن يقدر على محو الآلام. *** *** *** |
|
|