|
تأملات مالك بن نبي في الحضارة
ولد عام 1905 في مدينة قسطنطينية. نشأ تنشئة دينية واجتماعية وفقًا للتعليم التقليدي، ثم نزل باريس عام 1930. التحق بمعهد اللاسلكي وتخرج منه عام 1935. وفي باريس تعرف إلى المستشرق الفرنسي ماسينيون، كما تيسر له مقابلة (المهاتما غاندي) الذي زار باريس عام 1932... وجاء إلى مصر واتصل بالرئيس ناصر وبقي حتى رجع إلى الجزائر المستقلة عام 1963، ليصبح مديرًا للتعليم العالي حتى عام 1967. ثم صار أحد مستشاري المؤتمر الإسلامي في القاهرة. وبعد أن استقال من منصبه تفرغ للعمل الفكري، وقضى ما تبقى من سنوات عمره في الجزائر حتى وفاته 1973. أبرز كتبه: فكرة كومنولث إسلامي، مذكرات شاهد القرن، شروط النهضة، الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، فكرة الأفريقية الآسيوية، مشكلة الثقافة، في مهب المعركة، ميلاد مجتمع، المسلم في علم الاقتصاد، وقد تأثر فيه بنص ابن خلدون في إنتاج فكرته الأساسية الدورة الحضارية، كما اقتبس من (كانت) فكرة الواجب قبل الحق. وأبدى إعجابه الشديد بجون ديوي. وتأثر بشبنغلر وماكس فيبر. انطلق بن نبي في أطروحاته الحضارية من منظورات الإصلاحية الإسلامية، التي اعترفت بتقهقر العرب والمسلمين في مجال الحضارة وتقدم الغرب، وحملت نظرة منفتحة عن العالم، وهو ما يضعه على تباين مع الإسلاميين الجدد. فعلى الرغم من انتقاده الظاهرة الاستعمارية الغربية، لم يندفع إلى صياغة موقف عدائي تنابذي لحضارة الغرب. وقد شارك الشعوب العربية، في خمسينات القرن العشرين، التفاؤل بالمستقبل إثر المناخ السياسي الذي أحدثته ثورة 23 تموز، وصعود زعامة عبد الناصر، ودوره في مؤتمر باندونغ 1955، وفي نظرته لدور العرب في كتلة عدم الانحياز، والدوائر الثلاث. فكتب في هذا السياق ما بين العامين 1955-1960: فكرة كومنولث إسلامي، وفكرة الأفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ، والصراع الفكري في البلاد المستعمرة. وهي كتابات انطوت على نظره تأملية في الحاضر والمستقبل، قائمة على نوع من التفاؤل بالمستقبل، وبالعالم أيضًا، هي نظرة أبعد من استراتيجية تدمج بين التأمل الفكري والسياسي. وقد أصَّل نظرته تلك بتأمله لمفهوم الثقافة والحضارة، فقدم أفكارًا في مؤلفاته عن الثقافة والحضارة برؤية جديدة، فكانت أفكاره في مشكلة الثقافة امتدادًا وشرحًا لأفكاره التي عرضها في كتابه شروط النهضة، الذي كتبه في فرنسا عام 1949، انطلاقًا من التجربة الجزائرية، ليطبقها على العالم الإسلامي. وقدَّم أطروحته عن قابلية الاستعمار وهي تصور الحال النفسي والشلل الفكري للبلاد العربية والإسلامية، ولوضعية التخلف التي باتت تغرق بها، وتجعلها خارج التاريخ والفاعلية، وبالتالي أصبحت مهيأة لاستقبال الاستعمار، فتصور استراتيجية لمواجهة حال التخلف هذه ووضعية قابلية الاستعمار، تقوم على فكرة نهضة تشابه في علائمها تجربة النهضة الأوربية، حيث يستعيد فيها التراث عبر تنقيته من الشوائب التي علقت أثناء فترات الانحطاط، وذلك استنادًا إلى يقظة الفرد، وتغيير ما بنفسه. فهو يرى أن الثقافة لا يقتصر ميدانها على الأفكار فحسب، وإنما تضم أسلوب الحياة في مجتمع معين من ناحية، كما تخص السلوك الاجتماعي الذي يطبع تصرفات الفرد في الناحية الأخرى. إن تنظيم المجتمع وحياته وحركته، بل فوضاه وخموده وركوده، كل هذه الأمور ذات علاقة وظيفية بنظام الأفكار المنتشرة في المجتمع، فإذا ما تغير هذا النظام، فإن جميع الخصائص الاجتماعية الأخرى تتعدل في الاتجاه نفسه. لم يضع الحضارة الإسلامية في تعارض مع الحضارة الغربية الحديثة، بل رأى إمكانية التعايش معها، على الرغم من وقوف الظاهرة الاستعمارية الغربية حاجزًا بينهما. وهو يبسط مفهومه للثقافة فيجعله يرتكز على الإنسان أولاً، ثم على التراب والزمن. أما ما يمنح الحضارة روحها الخاصة، فهي الأخلاق والجمال والصناعة والمنطق العملي. وأعتقد أنه من الممكن والواجب قيام حضارة آسيوية أفريقية تجدد القيم الإنسانية، وأن تتسم علاقتها مع الحضارة الغربية بروح المشاركة في بناء الحضارة، لا العداوة. وأشار إلى أنه، إذا قررنا أن لمسألة الثقافة نوعيتها التاريخية والاجتماعية في حدود الزمان والمكان، وأن لأية ثقافة بحكم هذه النوعية وجودها الخاص الذي يرسم حدودها على الخريطة، إذا ما قررنا ذلك فمن العسير علينا ألا نربط هذه الملاحظة النظرية بالمشكلات السياسية التي تثير اهتمام العالم بعامة، والبلاد التي تخصها تلك المشكلات هي البلاد الأفروآسيوية بخاصة. فإذا ما أخذنا مثلاً موقف البلاد التي اتبعت في سياستها الدولية روح مؤتمر باندونغ المتمثلة في (الحياد الإيجابي)، فمن الطبيعي أن نتصور أن هذه البلاد ينبغي أن تفكر في اقتصادها طبقًا لهذه الخطة السلوكية، بل أن تفكر في سياستها أيضًا بتلك الروح. أليس من الطبيعي أن تتجه هذه البلاد إلى أن تفكر في ثقافتها بالطريقة نفسها، وأن تكون ثقافتها متجاوبة مع فكرة (الحياد الإيجابي). ومن ثم يؤكد أن الوضع الاجتماعي في البلاد الأفريقية الآسيوية، ومن بينها البلاد العربية الإسلامية، يحتوي في مرحلة تطورها الراهنة كثيرًا من العناصر النوعية، التي تتفق وفكرة الحياد الإيجابي بحكم ضرورة داخلية، فهناك إذن ثقافة تتفق مع هذا الاتجاه السياسي بصورة طبيعية، فتجاوز في نظرته هذه للتعاون حدود الأديان إلى المجالات الحضارية الأرحب. المستقبل، الأربعاء 24 تشرين الثاني 2010، العدد 3838، رأي وفكر، صفحة 19 |
|
|