|
بيير تيلار ده شاردان – سيرة ذاتية قصيرة
هنالك تواصل مع الله، وهناك تواصل مع الأرض، وهناك تواصل مع الأرض عن طريق
الله.
يمكن اعتبار هذه الكلمات التي اختتم بها بيير تيلار ده شاردان بحثه الذي بعنوان الحياة الكونية مدخلاً مناسبًا للتمعن في حياته. والأهمية الخاصة لهذه الكلمات تنبع من أن تيلار كتبها عام 1916 حين كان يؤدي واجبه كحامل نقالة خلال الحرب العالمية الأولى؛ وأيضًا، لأنها تشير من عدة أوجه إلى ما سيكون عليه التوجه اللاحق لأعماله. مؤكدين على أن خبرته تعيدنا إلى طفولته المبكرة في جنوب فرنسا، وإلى سنوات ترحاله وبحثه العلمي. تلك التي جعلت، خلال السنوات الأربع والسبعين لحياته، من خبرته مع الألوهة ومن نظرته إلى دور الإنسان في العملية التطورية، الهاجس الرئيس لحياته. الأمر الذي ما سنبينه بعرضنا الموجز للمراحل الأساسية الثلاث من حياته والتي هي: سنوات التكوين، سنوات الترحال، والسنوات الأخيرة التي قضاها في مدينة نيويورك. 1. سنوات التكوين ولد بيير تيلار ده شاردان في الأول من أيار 1881، من أبويين هما عمانوئيل وبيرت-أديل تيلار ده شاردان. وفي الوقت الذي كانت فيه أصول كلٍّ من والديه متميزة، إلا أننا سنؤكد منها على أن والدته كانت ابنة الأخت الكبرى للمدعو فرانسوا-ماري أرويه، المعروف أكثر بڤولتير. كما كان الابن الرابع لعائلة أنجبت أحد عشر طفلاً. ولد في دار عائلته في سارسونا الواقعة قرب المدينة التوأم المعروفة بكليرمون-فيران والعائدة لمقاطعة الأوفيرن القديمة. وقد تركت سلاسل البراكين الخامدة للأوفيرن والبقايا المحمية لغابات هذه المقاطعة الجنوبية أثرًا كبيرًا على تيلار. الأمر الذي عبَّر عنه في سيرته الذاتية الروحية قلب المادة حيث قال: الأوفيرن قولبتني. لأن الأوفيرن كانت بالنسبة لي متحفًا لتاريخ الطبيعة ومحميةً للحياة البرِّية. كما أعطتني سارسونا التي في الأوفيرن الطعم الأول لفرحة الاستكشاف. إني مدين للأوفيرن بأثمن ممتلكاتي التي هي: مجموعة من الحصى والصخور الذي ما زال ممكنًا اكتشافها هناك حيث عشت. متنبهًا إلى هذا العالم الطبيعي، طوَّر تيلار قدراته الفائقة على مراقبة الأشياء. تلك القدرات التي ساعده على تطويرها والده الذي كان شديد الاهتمام بالعلوم الطبيعية. ورغم هذا، لم يكن عالم النبات والحيوان في الأوفيرن، كما لم تكن منازل عائلته الموسمية هي أكثر ما طبع ذاكرة طفولته، إنما ما طبعها بشكل أساسي كان مقدار تلمسه لهشاشة الحياة ولصعوبة إيجاد أي واقع ملزم وثابت. ويتذكر فيقول: ما الذي أتذكره؟ لقد كانت أولى ذكرياتي عندما كنت في السادسة من عمري وحين قصَّت والدتي بعض الخصل من تجاعيد شعري، كيف أني أمسكت بإحدى هذه الخصل وألقيت بها في النار فاحترق الشعر خلال ثانية. وتملكني خوف كبير؛ لأني علمت بأني فانٍ... ما الذي كان يخيفني حين كنت طفلاً؟ كان يخيفني افتقاد الأشياء إلى الأمان. وما الذي كنت أحبه؟ كنت أحب جنِّيًا من الحديد كنت أمتلكه! ومالكًا عقد محراث كنت أتخيل نفسي، وكان عمري آنذاك سبع سنوات، بأني أملك كنزًا لا يفنى ولا يفسد. ثم تبين لي أن ما أملكه لم يكن سوى قطعة حديد قابلة للصدأ. حين اكتشفت هذا الأمر، ارتميت على العشب وبكيت بأغزر الدموع التي ذرفتها خلال حياتي. وكانت خطوة قصيرة بالنسبة لتيلار كي يعبر من "آلهته الحديدية" إلى تلك الحجرية. فالأوفيرن قدمت له تنوعًا مدهشًا من الحجارة بدءًا من الجمشت، مرورًا بالسترين والعقيق، معددين فقط بعضًا من تلك التي دعمت أبحاث شبابه الباحث عن واقع يدوم. ومن دون أدنى شك أيضًا رعت التقوى القوية لوالدته طبيعته الحساسة. ما يجعل تعليق تيلار على تأثير والدته عليه ملفتًا للنظر. بهذا الخصوص كتب قائلاً: أصابتني شرارة، فأشعلت النار في قلبي. ومن دون شك أتتني هذه الشرارة عن طريق والدتي، نابعة من قلب التيار الصوفي المسيحي، لتضيء وتوقد النار في قلب روحي الطفولية. وعن طريق هذه الشرارة، بني عالمي الذي كان ما زال غير مكتمل الشخصية، فتحققت كامل وحدانيته. وقد كانت هذه التقوى الباكرة راسخةً تمامًا، حيث أنه حين انتسب إلى (مدرسة ودير) نوتردام دو مونجر الواقعة قرب فيل فرانش على نهر السون، والتي تبعد 50 ميلاً عن مدينة ليون، كما كانت طبيعته الدؤوبة قد تشكلت بشكل جيد. ونجده خلال الأعوام الخمسة لدراسته هناك، يستبدل أمانه الذي بناه من الحجارة بتقوى مسيحية أثر فيها إلى حدٍّ كبير كتاب توما الكامبي التشبه بالسيد المسيح. لذلك نراه، حين قارب على التخرج، يكتب إلى أهله مبينًا رغبته في أن يصبح يسوعيًا. وقد أعطاه تدريبه كيسوعي حافزًا قويًا للاستمرار في تفانيه لكلٍّ من البحث العلمي من جهة ولحياة الصلاة التي اختارها لنفسه من جهة أخرى. عام 1899 انتسب إلى دار الرهبنة اليسوعية في إيكس بروفانس. وهناك طور تقواه المتصوفة التي تعلمها من قراءاته في مونجر. وأيضًا، هناك في إيكس بروفانس، بدأت صداقته مع أوغوست فالانتان الذي كان درس الفلسفة على يد موريس بلونديل. عام 1901، وبسبب الحركة المعادية للدين، طرد اليسوعيون وعدد من الرهبنات من فرنسا. فنقلت دار الرهبنة إيكس بروفانس، والتي كانت قد انتقلت عام 1900 إلى باريز، مقرها إلى جزيرة جيرزي الإنكليزية. لكن بيير، وقبل أن ينتقل إلى جيرزي، كان قد قدم أولى ندوره لدى الجمعية اليسوعية في الـ26 من آذار 1902. خلال تلك الفترة، لم يكن ما أثر على طمأنينة حياة تيلار الدينية هو فقط الحياة السياسية الفرنسية، إنما أيضًا، وبشكل مؤلم، المرض التدريجي الذي تسبب في شلل شقيقته الأصغر مارغريت-ماري، والمرض المفاجىء لشقيقه الأكبر ألبيريك. كانت وفاة ألبيريك، في أيلول 1902، حين كان بيير ورفاقه من اليسوعيين يغادرون باريز إلى جرزي. وقد تسبب موت شقيقه الأكبر الناجح والمرح معًا، والذي تبعه عام 1904 وفاة شقيقته الأصغر لويز، في الابتعاد المؤقت لتيلار عن الاهتمام بأمور هذا العالم. وبالفعل، كما عبَّر عن ذلك شخصيًا، فإنه لولا بول فروسار الذي كان معلمه السابق خلال فترة بدايته، والذي شجعه على اتباع العلم كدرب مشروع إلى الله، لما استمر في دراساته العلمية ولكان اختار اللاهوت عوضًا عنها. من جرزي، أرسل بيير، لإتمام تعليمه الداخلي، إلى المعهد اليسوعي للقديس فرانسيس في القاهرة في مصر. وخلال الأعوام الثلاث التي تلت، تطورت ميوله المتعلقة بعلوم الطبيعة، ومن خلال غزواته الطويلة للريف القريب من القاهرة كان ينكب على دراسة النباتات والحيوانات والمستحاثات العائدة إلى مصر القديمة. وفي الوقت الذي كان يتابع فيه بجد متطلبات دراسته كان تيلار يجمع المستحاثات ويراسل علماء الطبيعة في مصر وفي فرنسا. وتبين مجموعة رسائله لتلك الحقبة المصرية شخصيةً ذات قدرات عالية في المراقبة. عام 1907، نشر تيلار أول مقالة له بعنوان أسبوع في الفيوم. كما أنه أُخبر في نفس العام 1907 أنه، وبسبب اكتشافه لثلاثة أنياب عائدة لأسماك قرش في مقالع قرب القاهرة، فإن أصنافًا جديدة من هذه الأسماك قد أسميت بتيلارديا وأن ثلاثة أنواع جديدة من القرش قدِّمت من قبل مراسله السيد بريور إلى الجمعية الجيولوجية الفرنسية. ومن القاهرة، عاد بيير إلى إنكلترا ليتابع دراساته الثيولوجية في مركز أور في هاستينغ. خلال الأعوام ما بين 1908 إلى 1912 عاش تيلار حياة منتظمة جدًا كطالب يسوعي. ورغم هذا، كانت العلاقات الحميمة التي استمر بها مع عائلته واضحة من خلال المشاعر العميقة التي عبَّر عنها حين وفاة شقيقته الكبرى فرانسواز في الصين عام 1911. فقد كانت هذه الشقيقة هي الوحيدة من عائلته التي اختارت الحياة الدينية، ما جعل منها أختًا صغرى للفقراء لأنها عملت بين فقراء شانغهاي في الصين. لذلك وبسبب نكرانها الذاتي وتفانيها في حياتها ترك موتها أثرًا كبيرًا على تيلار. وتبين مراسلاته خلال مرحلة هاستينغ أن متطلبات دراساته اللاهوتية قد تركت له ما يكفي من الوقت كي يتابع تحرياته الجيولوجية للطبقات الحوارية لمنحدرات هاستنغ أو للطبقات الغضارية قرب منطقة ويلد. حيث أن رسائله تبين مدى حماسه لكلا النوعين من الدراسات. وفي اختصار، بوسعنا أن نقول إن ثلاث تطورات مختلفة ومتداخلة حدثت خلال هذه الحقبة وأثرت فعلاً على المجرى اللاحق لحياة تيلار. وهذه كانت قراءته لكتاب هنري برغسون التطور الخلاَّق، وهجوم البابا بيوس العاشر على الحداثة، واكتشافه لمستحاثة سن في منطقة هاستينغز. حين قرأ تيلار كتاب هنري برغسون الصادر حديثًا التطور الخلاَّق وجد نفسه أمام مفكرٍ حلَّ إشكال الثنائية الأرسطية للمادة والروح لصالح حركة كون يتطور مع الزمن. وقد تعرف تيلار على كلمة تطور من خلال برغسون. فربط، على حدِّ قوله، ما تعنيه هذه الكلمة بالـ الكثافة وبالمدى الاستثنائيين الذين جعلا المشهد البريطاني يبين لي – ولا سيما عند غروب الشمس – كيف تبدو أخشاب سوسكس حاملةً كل تلك المستحاثات التي كنت استكشفها، من مقلع إلى آخر، في تربة الويلد[1]. وأيضًا، من برغسون، استقى تيلار منظور التطور المستمر. فالتطور كان يعكس دائمًا، من منظور برغسون، "تيار حياة" لا يوجهه أي هدف نهائي. مشيرين هنا إلى أن تيلار سيخالف برغسون فيما يتعلق بتوجه الكون. حيث أنه سيضع لاحقًا مفهومه الخاص المتعلق بالعملية التطورية استنادًا إلى خبرته وإلى سنوات أعماله الحقلية. عام 1903، كان تيلار في مصر، حين حلَّ البابا بيوس العاشر مكان البابا ليون الثالث عشر الذي وافته المنية. مما أدى إلى التخلي عن الزخم التطلعي للبابا الراحل ليون من قبل محكمة البلاط (الكوري) الإيطالية المحافظة، ليحل محله التمترس والهجوم على طيف من الأفكار التي صنفت تحت عنوان "الحداثة". وقد بدا ذلك واضحًا في المنشور البابوي المتعلق بعقائد الحداثة[2] والذي أصدره البابا في العام 1907، وفي بيان الإدانة[3] الذي صدر عنه في نفس العام. حيث ومن ضمن العديد من الكتب التي حرِّمت كان كتاب برغسون التطور الخلاَّق الذي لم يكن محرَّمًا حين قرأه تيلار في هاستينغز. ما يعني أنه وفي قلب هذا الوسط الكنسي باشر تيلار بوضع رؤيته الخاصة المتعلقة بالطبيعة الروحانية للكون. وأيضًا، خلال سنواته في هاستنغز، التقى تيلار ومعه عدد من اليسوعيين الآخرين بتشارلز داوسون الذي كان هاويًا لعلم المستحاثات. ولم يكن بيير، الذي اكتسب خلال سنوات وجوده في القاهرة اهتمامًا كبيرًا بالمستحاثات وبأنماط الحياة لحقبة ما قبل التاريخ، قد أصبح بعد عالمًا متمكنًا في ذلك المجال، كما أن مستوى دراساته لم يكن ليؤهله بعد لأن يحدد بدقة طبيعة وعمر المستحاثات العائدة للحقبة ما قبل التاريخية. لكنه، خلال الفترة المحدودة لشراكته مع داوسون اكتشف، خلال إحدى حفرياته، مستحاثة سن، ما جعله يصبح معروفًا في الوسط العلمي. وهكذا أصبح حماس تيلار للدراسات العلمية لإنسان ما قبل التاريخ يتحول إلى توجه مرجح سيطبع الحقبة التي ستعقب تقديم ندوره في آب 1911. ما بين 1912 و1915، تابع تيلار دراساته الباليونتولوجية (علم المستحاثات). لكنه، وبسبب مبادرته للالتقاء بمارسيل بول في متحف العلوم الطبيعية، وبسبب تلقيه دروسًا في متحف باريز وفي المعهد الكاثوليكي مع جورج بوساك، بدأ في تنمية خبراته المعلقة بجيولوجية العصر الفجري The Oecene period، الأمر الذي مكنه من الحصول على شهادة دكتوراه في العام 1922. وأيضًا، التحق بيير بالحفريات التي كان يقوم بها علماء باليونتولوجيا كبار كالأب هنري برويه، والأب هوغو أوبرماير، وجان بوساك وسواهم، والمتعلقة بالحقبة الأوريغناسية في كهوف واقعة في جنوب فرنسا، وفي حقول فوسفورية غنية بالمستحاثات في بلجيكا، وفي حقول رملية واقعة في جبال الآلب الفرنسية. وأيضًا، في الوقت الذي كان فيه تيلار يتابع عمله العلمي الواعد، جدد في باريز علاقته مع ابنة عمه مارغريت تيلار شامبون، التي تمكن عن طريقها من الدخول إلى وسط اجتماعي مكنه من النقاش النقدي ومن تبادل الأفكار من مناظير مختلفة. وسط هذه الأجواء تمكن تيلار من تطوير فكره حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914. حين اندلعت الحرب في شهر آب، عاد تيلار إلى باريز ليساعد مارسيل بول في ترتيب القطع في المتحف، وليساعد مرغريت في إدارة مدرسة البنات التي كانت تديرها والتي تحولت بسبب الحرب إلى مشفى. كما بدأ بالاستعداد لاستدعائه إلى الخدمة. وكان شهر آب كارثيًا بالنسبة للجيش الفرنسي. حيث نفَّذ الألمان خطة شليفن وأصبحوا في نهاية الشهر على بعد ثلاثين ميلاً من باريز. لكن في أيلول دخل الفرنسيون إلى المارن، وتمكن سكان باريز من التقاط أنفاسهم. وأيضًا، بسبب تأخر استدعائه إلى الخدمة، أعاده رؤسائه اليسوعيون مرة أخرى إلى هاستينغز من أجل اتمام المرحلة الثالثة من دراسته الكهنوتية هناك؛ تلك السنة التي تسبق الندور النهائية. وبعد شهرين من هذا جاءه نبأ وفاة شقيقه الأصغر غونزاغوي في معركة قرب سواسون. ثم بعد ذلك بفترة قصيرة، تلقى تيلار أمرًا بالالتحاق بكتيبة تم تشكيلها حديثًا في منطقة الأوفيرن. لذلك فإنه، بعد أن قام بزيارة عائلته وشقيقته العاجزة غيغيت في سارسونا، باشر خدمته كحامل نقالة طبية لدى فرقة المجندين من شمال أفريقيا في كانون الثاني من العام 1915. ونجد الأثر الكبير للحرب على تيلار مسجلاً في مراسلاته مع ابنة عمته مارغريت. تلك المراسلات التي جمعت لاحقًا في كتاب بعنوان تشكل عقل. فهذه الرسائل تعطي صورة حميمية لحماس تيلار منذ البداية لمهمته كجندي وكاهن، وعن تواضعه كحامل ناقلة إلى جانب أولئك الذين كانوا يحملون السلاح، وعن إعيائه الشديد بعيد المعارك في إيبر وفي فردون، عن بطولته وهو يقوم بمهمته في مساعدة رفاقه في الكتيبة الرابعة المختلطة، وعن اكتشاف رؤيته الصوفية المتعلقة بعالم يتطور في قلب ما يعيشه من حرب. كما نجد في هذه الرسائل نواة العديد من الأفكار التي طورها تيلار في السنوات التي تلت. كمثال على ذلك، ما كتبه تيلار إلى ابنة عمته خلال إحدى استراحات معركة فردون الشرسة في العام 1916 حيث جاء: لا أعرف أي نصب ستقيمه البلاد لاحقًا على تلة فروادوتير من أجل تخليد ذكرى هذه المعركة. هنالك واحد فقط يبدو لي مناسبًا: ألا وهو وجه كبير للسيد المسيح. فوحدها صورة المصلوب بوسعها أن توجز وأن تعبر وأن تمحي كل الفظاعة والجمال والأمل والسر العظيم الكامن في مثل هذا الكمِّ الهائل من الصراعات ومن الأحزان. ناظرًا إلى هذا المشهد من الكفاح المرير، أشعر بأنه قد تملكتني بالكامل تلك الفكرة التي تقول بأنه كان لي شرف الوقوف في واحد من مكانين أو ثلاثة حيث، وفي هذه اللحظة تحديدًا، تنبثق كل حياة الكون لتحل مكان الألم. لأنه هنا تحديدًا – وهذا ما أصبحت أؤمن به أكثر فأكثر – يتجسد مستقبل عظيم[4]. خلال هذه السنوات الأربع في الخنادق الدامية حاربت كتيبة تيلار في بعض أشرس المعارك، في المارن وإيبريس عام 1915، ونيوبور عام 1916، وفردون عام 1917، وشاتوتيري عام 1918. وقد كان تيلار شخصيًا فعالاً جدًا في كل تلك الاشتباكات ما أدى إلى حصوله على وسام فارس لفيلق الشرف[5] عام 1921. وقد عبَّر خلال مراسلاته أنه على الرغم من الاضطراب الذي كان يشعر به كان هناك أيضًا هدفًا وغايةً حياتية مستترة وغامضة أكثر مما بوسع التاريخ أن يعبره لنا. وقد اكتشف تيلار هذا المعنى العميق في معمعان المعركة. وفي أكثر من رسالة عبَّر بيير عن هذه الرغبة غير المفهومة للجندي المجاز بأن يعود إلى خطوط الجبهة. حيث قال في إحدى رسائله: ما زال الهدوء نفسه يسري في عروقي. ما زال مستقبلنا غامضًا، سواء من حيث الوقت أو من حيث الصيرورة. لأن ما يفرضه المستقبل على وجودنا الراهن ليس تمامًا ذلك الشعور بالكآبة؛ إنما هو بالأحرى نوع من الجدِّية، والعزلة، والامتلاء وأيضًا الترقب. وهذا الشعور الذي تحدُّه طبعًا أطر من الحزن – ذلك الحزن المرافق لأي تغير جوهري –؛ إنما يؤدي أيضًا إلى نوع من الفرح الأسمى... وهذا ما أدعوه "الحنين إلى الجبهة". والأسباب التي تؤدي إلى هذا الحنين، من منظوري، هي أنه لا بد للجبهة من أن تجتذبنا لأنها، بطريقة ما، تشكل الحدود القصوى بين ما نعلمه بالفعل وبين ما زال قيد التشكل. فالشخص لا يرى فقط أمورًا ليس بوسعه اختبارها في مكان آخر، إنما يشهد منبثقًا من الداخل تيارًا كامنًا من الوضوح، والطاقة، والحرِّية، التي من الصعب أن يجدها في الحياة العادية – والشكل الجديد الذي تتخذه الروح من جراء هذا هو شعور الفرد بأنه يحيا الحياة الجماعية لكل البشر، مؤديًا وظيفة أعلى بكثير من تلك الوظيفة الفردية، وواعيًا بشكل كامل لحالته الجديدة. ما يجعل من البديهي أنك في الجبهة لا تنظر إلى الأشياء بنفس الطريقة التي تنظر إليها حين تكون في المؤخرة؛ لأنه إن فعلت، فإن المشاهد التي تراها، والحياة التي تحياها، ستصبح أثقل مما بوسعك احتماله. وهذا التعالي يترافق مع بعض الألم. لكنه يبقى تعاليًا بالفعل. لهذا يشعر المرء أنه على الرغم من كلِّ شيء، يحن إلى الجبهة[6]. تتجلى من خلال هذه السطور مقدرة تيلار على التعبير بوضوح عما يتفكر به. وأيضًا، كانت جهوده للتعبير عن رؤيته المتنامية للحياة أثناء الإجازات العرضية قد أعطته إنذارًا مسبقًا لكيف سيتم استقبال عمله من قبل السلطات الكنسية. لأنه على الرغم من أنه كان قد سمح له بتقديم ندوره النهائية أمام جمعية يسوع في العام 1918، إلا أن ما كتبه من أرض المعركة كان قد أربك رؤسائه اليسوعيين، وخاصة منها تلك المتعلقة بإعادة التفكير بمواضيع التطور والخطيئة الأصلية. وبشكل متدرج، بدأ تيلار يدرك أن ما تحتاج إليه الكنيسة، على حدِّ قوله، هو: ... إعادة تقديم العقيدة، بشكل أكثر واقعية، وعالمية، وبطريقة أكثر "كونية"...[7] وهذه الإنجازات غالبًا ما كانت تولد لدى تيلار شعورًا يجعله "يركن إلى ما يعتبر قويمًا (أي أورثوذوكسي)، وإلى الشعور في الوقت نفسه بما هو إبداعي (أي هيتيروذوكسي)"[8]. فقد كان مقتنعًا أنه كان فعلاً يتلمَّس شيئًا، وكان مقتنعًا بأن رؤيته ستتحقق على الرغم من كلِّ العقبات. كما عبَّر عن قناعته هذه في رسالة كتبها عام 1919 حيث قال: ... إن ما يسهِّل الأمور في ذهني في هذه المرحلة، هو أن النقاط التي تبدو خطرة في هيكلية تعليمي ذات أهمية ثانوية بالنسبة لي. فما أريد نشره ليس مجرد آراء إنما روح: والروح بوسعها أن تحيي كل العروض الخارجية...[9] ويعود تيلار بعيد تسريحه من الخدمة في العاشر من آذار 1919 إلى جرزي ليستعيد مرحلة دراسية تحضيرية تؤهله لإتمام شهادة الدكتوراه في الجيولوجيا في السوربون، خاصةً وأن المسؤول الإقليمي لليسوعيين في ليون كان قد أذن له بمتابعة دراساته في العلوم الطبيعية. خلال هذه الفترة التي قضاها في جرزي، كتب تيلار مقطوعته الشهيرة التي تشبه الصلاة القوة الروحية للمادة[10]. بعيد عودته إلى باريز، تابع تيلار مع مارسلان بول دارسته لمستحاثات الطبقة الفوسفورية للمرحلة الأيوسينية السفلى في فرنسا. وقادته رحلاته الحقلية الكثيفة إلى بلجيكا حيث باشر أيضًا التوجه إلى النوادي الطلابية مبشرًا بمفهوم التطور وبعلاقته باللاهوت الفرنسي المعاصر. وفي خريف 1920 باشر تيلار الذي كان قد عين أستاذًا للجيولوجيا لدى المعهد الكاثوليكي بإلقاء محاضرات على الطلاب الذين عرفوه كداعية متحمس للفكر التطوري. لكن ما حصل في المقابل كانت ردة الفعل المحافظة للكنيسة الكاثوليكية بقيادة هيئة محكمة بلاط البابا بيوس العاشر (الكوري) التي كانت قد رصدته منذ العام 1914. خاصةً وأن البابا بينيديكتوس الخامس عشر أعاد تجديد هجومه على التطور، وعلى "اللاهوت المحدث"، وعلى طيف واسع من الأخطاء المرتكبة التي اعتبرتها كوري الفاتيكان خطيرة. ويتوصل تيلار إلى قناعة مفادها أن العمل في الحقل لن يساعده فقط في عمله، إنما سيهدىء الجو المعادي له في الحلقات الدينية والمتعلق بالعمل الذي يقوم به، وخاصةً بالجدال المشحون الذي وجد نفسه متورطًا به مع عدد من المفكرين الفرنسيين. وكانت فرصة للعمل الحقلي في الصين قد قدمت لتيلار منذ بدايات العام 1919، حين وجهت إليه دعوة من قبل العالم اليسوعي إميل لينسنت، الذي كان يقود عملاً باليونتولوجيًا في ضواحي بيجين. لذلك نجده في الأول من نيسان 1923 يبحر من ميناء مارسيليا في اتجاه الصين وهو لا يفكر البتة بأن هذه الرحلة التي تصورها قصيرة، ستكون فاتحةً لتلك السنوات العديدة من الترحال التي ستليها. 2. سنوات الترحال كانت المرحلة الأولى من تواجد تيلار في الصين هي في تينتسين، وهي مدينة تقع على شاطىء البحر على بعد ما يقارب الثمانين ميلاً من بيجين، فهناك أشاد أميل ليسنت متحفه الذي حوى على المستحاثات التي جمعها منذ وصوله إلى الصين في العام 1914. وكان اليسوعيان الفرنسيان مختلفان من حيث الطبيعة. فليسنت الذي من الشمال، كان غير تقليدي من حيث اللباس، قليل الكلام، ومستقلاً جدًا في عمله، واهتمامه الأول كان جمع المستحاثات وليس محاولة شرحها. بالمقابل كان تيلار أكثر لباقة، يستمتع في المحادثات الاجتماعية حيث كان في وسعه أن يبين ويفسر معلوماته الجيولوجية لحلقة علمية أوسع. لذلك، نراه مباشرة بعيد وصوله يصبح متآلفًا مع مجموعة ليسنت، وبناء على طلب من هذا الأخير، يقدم تقريرًا للجمعية الجيولوجية الصينية. في حزيران 1923، قاد تيلار وليسنت بعثة إلى صحراء أردوس الواقعة غرب بيجين، قرب حدود منغوليا الداخلية. وقد قدمت هذه البعثة، بالإضافة إلى البعثات المتتالية التي قام بها ليسنت عام 1920، لتيلار معلومات قيمة حول البقايا الباليوتية في الصين. وتعطي مراسلات تيلار خلال هذه المرحلة ملاحظات خارقة حول الشعوب المنغولية والمناظر الطبيعية ونباتات وحيوانات في المنطقة. كان الاهتمام الرئيسي لتيلار خلال هذه المرحلة منصبًا على التضاريس الطبيعية. ورغم أنه كان يتعامل مع العديد من الجماعات الإثنية إلا أنه نادرًا ما كان يسمح لنفسه بالتدخل في ثقافاتها أكثر من الحدِّ الضروري الذي يمكِّنه من القيام بعمله أو من تلبية فضوله العام. لذلك نرى، ولسخرية القدر فيما يتعلق بعمله، أن المنقول الكونفوشي وما يهتم به من طبيعة كونية للسماء والأرض وللإنسان بقي خارج نطاق اهتماماته. لكنه في المقابل، كان ينظر إلى الشعوب القبلية وإلى روحانيتها المنبثقة من الأرض وكأنها تشكل ببساطة مرحلة تطور بدائية من الوحي المسيحي. في أيلول من العام 1924، عاد تيلار إلى باريز حيث قدَّم ملخصًا عن أعماله أمام المعهد الكاثوليكي. لكن الجو الفكري لم يكن قد تغير كثيرًا في الأوساط الفكرية الكاثوليكية. والبابا الجديد، بيوس الحادي عشر، كان منذ توليه منصبه في العام 1922 قد أطلق العنان للجماعات المحافظة. ضمن هذه الأجواء وصلت إلى روما نسخة من تقرير قدَّمه تيلار في بلجيكا. لذلك، وبعد شهر من عودته من الصين، أمر بالمثول أمام رئيسه المنطقي كي يوقع على بيان يعلن فيه تبرأه من أفكاره المتعلقة بالخطيئة الأصلية. في ذلك الحين كان أوغوست فالانتان الصديق القديم لتيلار يدرِّس اللاهوت في ليون، ورأى تيلار استشارته فيما يتعلق ببيان الاستنكار الذي طلب منه توقيعه. وما حصل أنه في اجتماع ضمَّ اليسوعيين الثلاث، وافق رئيس تيلار على أن يرفع إلى روما نسخة معدلة من بيان الاستنكار الذي كان مطلوب منه توقيعه. خلال هذه الفترة، وقبل أن يصله جواب روما على تعديلاته المقترحة، استمر تيلار بتقديم دروسه لدى المعهد. ويتذكر الطلاب الذين كانوا يحضرون تلك الدروس في حينه الحيوية المميزة لذلك الأستاذ الشاب وشروحاته العميقة المتعلقة بالإنسان الخالق Homo Faber. لأن الإنسان كصانع للأدوات وكمستعمل للنار، يشكِّل ويعبِّر، من منظور تيلار، عن لحظة هامة من لحظات تكوُّن الوعي لدى الكائنات. في هذه المرحلة تحديدًا، بدأ تيلار باستعمال تعبير إدوارد سويس "البيوسفير" للدلالة عن الطبقات الأرضية للكائنات الحيَّة. لا بل إن تيلار وسَّع هذا المفهوم بحيث أصبح يشتمل على الطبقة الأرضية ذات العلاقة بتفكير الكائنات، والتي دعاها بالنووسفير Noosphere، وهي عبارة مستقاة من أصل الكلمة اليوناني للكلمة الذي يعني "العقل". لكن محاضراته المليئة بالطاقة، وتأثيره المتزايد، أزعج في حينه مجموعةً من الأساقفة الفرنسيين، الذين رفعوا بحقه شكوى إلى الفاتيكان مطالبين بإسكاته.
في ذلك الحين كان الرئيس الأعلى (أو جنرال) لليسوعيين هو فلاديمير ليدوشوفسكي، الذي كان ضابطًا سابقًا في الجيش النمساوي، وكان توجهه أقرب إلى الجناح المحافظ في الفاتيكان. وهكذا في العام 1925، أمر تيلار مرةً أخرى بتوقيع وثيقة يستنكر فيها نظرياته المثيرة للجدل، وبأن يغادر فرنسا بعيد انتهاء الفصل الدراسي. أما شركاء تيلار في المتحف، وتحديدًا منهم مارسلان بول والكاهن برويل، فقد نصحوه بترك اليسوعيين والتحول إلى كاهن رعية. بينما نصحه آخرون، كصديقه أغوست فالنتان، بالتوقيع على الوثيقة من منظور أن هكذا توقيع سيكون تعبيرًا عن وفائه للجمعية وليس تنازلاً فكريًا أمام متطلبات المجمع الكنسي. وحجة فالنتان في ذلك أن صحة روح تيلار إنما هي في النهاية شأن سماوي. لذلك، وبعد أسابيع من الخلوة والتفكير والتمارين الغنوصية، وقَّع تيلار في تموز 1925 على الوثيقة. مشيرين أنه وفي نفس الأسبوع، كانت تعقد في تينيسي في الولايات المتحدة ما عرف في حينه بـ"محكمة القرد" التي كانت أيضًا تدين مفهوم التطور. في ربيع العام التالي، غادر تيلار فرنسا على ظهر سفينة بخارية متوجهًا نحو الشرق الأقصى. وكانت تلك المرحلة الثانية له في تينتسين مع ليسنت متميزة بالعديد من التطورات الهامة. حيث كانت بادىء ذي بدء زيارة ولي العهد وأميرة السويد، التي تلتها زيارة ألفريد لاكروا من متحف باريز للعلوم الطبيعية إلى بيجين، حدثًا هامًا أدى إلى الانتقال التدريجي لتيلار من إطار تينتسن إلى الدوائر العلمية الأكثر تطورًا في بيجين. وهناك كانت مجموعات أمريكية، وسويدية، وبريطانية قد باشرت العمل في موقع غني هو موقع شوكوتين. فالتحق تيلار بهم، مساهمًا بمعارفه المتعلقة بالتشكيلات الجيولوجية للصين وبمساهماته المتعلقة بالإنسان العائد لما قبل التاريخ في الصين. كما شارك بالتعاون مع ليسنت في بعثة هامة في ديلانور شمال بيجين. وأخيرًا، وفي محاولة للتعبير عن آرائه بصورة يمكن أن يتقبلها رؤساؤه كتب كتابه الشهير الوسط الإلهي. ذلك العمل الروحي والصوفي الذي أهداه إلى من أحبوا هذا العالم؛ والمعبِّر عن منظوره المتعلق بالإنسان كـ"مادة بلغت أكثر مراحلها توقدًا". في تلك الأيام، كان تيلار يراسل رؤساءه الذين سمحوا له أخيرًا، في آب 1927، بالعودة إلى فرنسا. لكن قبل أن تطأ قدمه مارسيليا، كان هجومًا جديدًا على فكره بسبب مجموعة من محاضراته كانت قد نشرت في إحدى الصحف الباريزية. في ذلك الوقت كان تيلار الذي أعاد صياغة ونشر كتابه الوسط الإلهي، متلهفًا لمواجهة مباشرة مع نقاده. وفي النهاية، جاء مساعد القائد الأعلى لليسوعيين إلى باريز ليبلغ تيلار بضرورة إيقاف نشاطه اللاهوتي وبحدِّ نفسه بالعمل العلمي فقط. وسط هذا الجو القمعي، وجد تيلار نفسه مجبرًا على مغادرة فرنسا والعودة إلى الصين في حزيران 1928. وكانت إحدى عشر عامًا من النفي الطوعي قضاها تيلار في الصين، ولم يعد خلالها إلى فرنسا إلا في خمس زيارات قصيرة. وكانت هذه الزيارات لمقابلة عائلته وأصدقائه الذين كانوا يوزعون نسخًا من مقالاته، وأيضًا ليقدم بعض المحاضرات في النوادي الطلابية في بلجيكا وفي باريز والتي استمرت تعمل كمنبر لنشر أفكاره. عام 1929، وقبل عودته إلى الصين، سافر تيلار إلى أثيوبيا وإلى أرض الصومال. كما أنه لعب دورًا رئيسًا في الأعوام 1929-1930 في اكتشاف وشرح "إنسان بيكين" الذي تم اكتشافه في شوكوتيين. وفي عام 1930 التحق ببعثة راي شابمان أندروز بناءً على دعوةٍ من قبل المتحف الأمريكي للعلوم الطبيعية. وفي السنة التي تلتها قام بزيارة إلى أمريكا ألهمته في كتابة كتابه روح الأرض. ما بين أيار 1931 وشباط 1932 سافر إلى أواسط آسيا مع البعثة الصفراء الشهيرة التي رعتها شركة سيتروين للسيارات. وعام 1934 سافر مع جورج بربور في رحلة إلى أعالي نهر اليانغ تسي وإلى المناطق الجبلية في شزوان. وبعد سنة التحق في الهند ببعثة جامعتي يال وكامبريدج بقيادة هلموت دي تيرا، ومن ثم التحق ببعثة فون كونيغسوالد في جافا. وفي نفس العام ذهب مع بعثة يال وكامبريدج مع هيلموت دي تيرا إلى إندونيسا وجافا. لذلك وكنتيجة لعمله الحقلي الكثيف، أصبح معترفًا به كأحد الجيولوجيين الرئيسيين في حقل علوم الأرض. وهذه الشهرة، مضافًا إليها نظرياته البديعة المتعلقة بالتطور الإنساني، جعلته شخصًا له مكانته الهامة بالنسبة للحكومة الفرنسية وفي الأوساط الثقافية في الشرق وفي الغرب. وقد زاد من جعل منجزاته العلمية أكثر مدعاة للملاحظة، المآسي التي عاشها ما بين الأعوام 1932 و1935 كوفاة والده ووالدته وشقيقه الأصغر فيكتور وشقيقته الحبيبة غيغيت الذين توفوا جميعًا أثناء غيابه. تطابقت السنوات الأخيرة لمنفاه الصيني، ما بين 1939 و1946، مع وقوع الحرب العالمية الثانية وانهيار سلطة وسياسات الجمهورية الصينية. خلال هذه الفترة قام تيلار وصديقه اليسوعي بيير لوروي بإنشاء معهد للبيوجيولوجيا في بيجين من أجل حماية مجموعة لينسين وتأمين مختبر يتيح لهم الاستمرار في تصنيفاتهم وتفسيراتهم لما تعنيه هذه المستحاثات. لكن أكبر إنجاز له خلال هذه الحقبة كان عام 1940 حين أنهى كتابه ظاهرة الإنسان الذي كان أهم ما تضمنه عرضه الخلاق لظهور الإنسان كعامل جامع للعملية التطورية. ما يجعل من هذا الكتاب، ومن خلال عرضه – كما تبين اللوحة السابقة – للمراحل الأربعة للعملية التطورية (أي تطور الكون، وتطور الأرض، وتطور الحياة، وتطور الوعي) نوعًا أدبيًا جديدًا. مع نهاية الحرب، سمح لتيلار بأن يعود إلى فرنسا حيث ساهم في العديد من النشاطات. فنشر العديد من المقالات في المجلة اليسوعية الفرنسية المعروفة دراسات Etudes. كما قام بتدقيق صياغة ظاهرة الإنسان وأرسل نسخةً منه إلى الفاتيكان طالبًا الموافقة على نشره، لكن هذه الموافقة لم تصله خلال حياته. كما طلب منه أن يترشح إلى كرسي دراسات ما قبل التاريخ الذي كان يشغله صديقه القديم الكاهن دو بروي. لكن جهوده من أجل استعادة مكانته والتجاوب مع ما يتطلبه منه متابعيه المتحمسين لأفكاره تسببت بإعيائه الشديد، وبإصابته في الأول من حزيران 1947 بنوبة قلبية. ما نجم عنه تأجيل التحاقه ببعثة جامعة كاليفورنيا إلى أفريقيا، والتي كان يرعاها صندوق فايكنغ لمؤسسة ينر–غرين في نيويورك. تلك الرحلة التي كان تيلار ينظر إليها كفترة استراحة فاصلة تمهد لمواجهته مع روما فيما يتعلق بكتابه ظاهرة الإنسان وبعمله مع السوربون. خلال فترة نقاهته من مرضه، كرِّم تيلار من قبل وزارة الخارجية الفرنسية من أجل إنجازاته العلمية والفكرية، ورقي إلى رتبة ضابط في جوقة الشرف. في تشرين الأول 1948، سافر تيلار إلى الولايات المتحدة حيث كان قد تلقى دعوة لإلقاء مجموعة محاضرات أمام جامعة كولومبيا. لكن المسؤول اليسوعي المحلي في الولايات المتحدة رفض السماح له بذلك. وفي تموز 1948، تلقى دعوةً من روما لمناقشة الخلافات المحيطة بأفكاره. فتأكد تيلار أن مستقبله المهني إنما يتوقف على هذا اللقاء، واستعد على حدِّ قوله لـ"ملاقاة النمر..." كانت روما في العام 1948 مدينة تتعافى من آثار الحرب وما خلَّفته من دمار. كذلك كان مجلس محكمة بلاط (كوري) الفاتيكان يعيد تنظيم نفسه، لأن البابا بيوس الثاني عشر الذي كان قد استلم مهام منصبه في العام 1939 وفرض على نفسه نوعًا من العزلة خلال سنوات الحرب، بدأ منذ نهايات الأربعينات بتطوير خططه المتعلقة بالعام 1950 كعام مقدس. مشيرين إلى أن هذا البابا، وكديبلوماسي قديم للفاتيكان، استمر بتبني النهج المحافظ لمحكمة البلاط، ولكن بطريقة أكثر ذكاء ومن خلال بذل جهد فكري أكبر. حين وصل تيلار إلى روما أقام في مقر اليسوعيين في مدينة الفاتيكان. وبعد عدة لقاءات مع جنرال اليسوعيين الأخ جانسينز، تأكد من أنه لن يسمح له بنشر أعماله خلال حياته؛ لا بل أكثر من ذلك، تأكد بأنه لن يسمح له بقبول منصب تدريسي في معهد فرنسا Le College de France. ويؤكد كلُّ من تحدث إلى تيلار بعد عودته من روما إلى باريز على مقدار إحباطه بعيد محاولته تلمس تفهم القوى المعادية له والتي كان عاجزًا عن مواجهتها. لذلك نراه خلال العامين التاليين يسافر بكثرة إلى إنكلترا، وأفريقيا، والولايات المتحدة، محاولاً إيجاد مكان مناسب للعيش بعد أن أغلقت أمامه أبواب الصين التي تغير نظامها السياسي. وفي كانون الأول 1951 قبل منصبًا كباحث لدى مؤسسة فينير–غرين في نيويورك. 3. السنوات الأخيرة في نيويورك وافق رؤساء تيلار اليسوعيين على قراره بالعيش في نيويورك ما حلَّ مشكلة الالتباس المتعلق بمكان إقامته. فعاش السنوات التي تلت مع الآباء اليسوعيين في دير القديس إغناطيوس الواقعة في بارك أفنيو التي كان يذهب منه كل يوم، سيرًا على الأقدام، إلى مكتبه لدى مؤسسة فينر–غرين وإلى منزل صديقه وسكرتيرته المتطوعة رودا دي تيرا. وتبين مراسلات تيلار مع الأب بيير لوروي خلال هذه السنوات الأخيرة، والتي طبعت مؤخرًا باللغة الإنكليزية تحت عنوان رسائل من صديق، على انتفاء شعور المرارة لديه، وعلى التركيز على وحدة التفكير العلمي. عام 1954، قام تيلار بزيارته الأخيرة إلى فرنسا. حيث ذهب جنوبًا برفقة صديقه لوروي ليزور كهوف منطقة لاسكو. لكنهما وقبيل توجههما إلى لاسكو توقفا في سارسونا حيث التحقت بهم السيدة دي لا تيرا. فتدرجوا معًا في غرف منزل تيلار حتى وصل إلى غرفة والدته حيث قال تيلار وكأنه كان يتحدث مع نفسه قائلاً: "هذه هي الغرفة التي ولدت فيها". في حينه، وعلى أمل أن يقضي سنواته الأخيرة في بلده، كتب تيلار مرة أخرى إلى رؤسائه مستأذنًا منهم حق عودته إلى فرنسا بشكل نهائي. لكن طلبه رفض بشكل مهذب، لا بل إنه شجِّع على العودة إلى أمريكا. توفي بيير تيلار ده شاردان يوم الأحد، المصادف ليوم عيد الفصح، في العاشر من نيسان 1955 الساعة السادسة مساءً. وقد حضر جنازته يوم الأثنين من الفصح عدد قليل من الأصدقاء. كان الأب الذي قدم القداس يومها هو الأب لوروي والأب المسؤول عن كنيسة القديس إغناطيوس الذين رافقوا جثمانه إلى مدفن يقع على بعد 60 ميلاً من نيويورك ويدعى مدفن القديس أندرو على الهيودسون، في مكان كان آنذاك دارًا للرهبان اليسوعيين. لقد كانت حياة تيلار بسيطة وهادئة لذلك انتهت ببطء كشجرة الحياة التي صوَّرها والتي تبدو في أعلاها نصف منفتحة وتحمل في قلبها كرامةً دائمة. لأنه وكما كتب مصورًا شجرة حياته: قبل أن نحاول سبر سرِّ هذه الحياة. دعونا ننظر إليها بتمعن. لأنه مما يبدو وكأنه تأمل من الخارج، هنالك درس وقوة بوسعنا استخراجها منها: ألا وهو الإحساس بشهادتها[11].
* * * ملحق1: أعمال تيلار ده شاردان: - ظاهرة الإنسان. - رسائل مسافر. - المجموعة الزوولوجية (ذات العلاقة بعلم الحيوان) الإنسانية. - الوسط الإلهي. - مستقبل الإنسان. - نشيد إلى الكون. - الطاقة البشرية. - تفعيل الطاقة. - أوضح نفسي. - المسيحية والتطور. - قلب المادة. - نحو المستقبل. - تكون عقل: رسائل من كاهن مجند (1914-1919). - كتابات في زمن الحرب. - رؤية للماضي. - ظهور الإنسان. - رسائل بين صديقين (1926-1952). - رسائل إلى ليونتين زانتا. - مراسلات بين تيلار ده شاردان وموريس بلونديل. - دراسات لده شاردان ودي تيرا. ملحق 2: حول الحبر الأعظم وموقفه من أعمال بيير تيلار ده شاردان: توفي تيلار في العام 1955. لكن، في العام 1962، صدر تعميم عن مكتب الحبر الأعظم يحذر مرةً أخرى من أفكاره غير القويمة يقول: إن بعض أعمال الأب بيير تيلار ده شاردان، وحتى منها تلك التي نشرت بعيد وفاته، قد طبعت وهي تلقى رواجًا لا يمكن الاستهانة به. لذلك، وبغض النظر عن بعض جوانبها الإيجابية المتعلقة بالعلوم والفلسفة واللاهوت، فإنه من الواضح أن هذه الأعمال مليئة بملابساة مكررة وبأخطاء جدية مهينة للعقيدة الكاثوليكية. لذلك فإن آباء المجمع المقدس العائد للحبر الأعظم، يحثون جميع الأساقفة ورؤساء المعاهد الدينية، وعمداء المعاهد ورؤساء الجامعات، على الدفاع عن عقول البشر، وخاصةً منها عقول الشباب، من أخطار أعمال الأب تيلار ده شاردان وأتباعه. مشيرين إلى أن كل هذه الأعمال قد طبعت بعد وفاته، ومن دون إذن من الفاتيكان. ترجمة: أكرم أنطاكي *** *** *** [1] من كتاب قلب المادة نقلاً عن كتاب روبرت سبايت حياة تيلار ده شاردان. [2] The encyclical Pascendi (1907). [3] The decrees of Lamentabili (1907). [4] تشكل عقل. [5] Legion d'honneur، وهو أعلى وسام شرف فرنسي. [6] تشكل عقل. [7] المرجع السابق. [8] المرجع السابق. [9] المرجع السابق. [10] راجع معابر على الرابط http://www.maaber.org/issue_september04/evolution10.htm. [11] ظاهرة الإنسان.
|
|
|