|
أنطوان سعاده... الباحث في الأديان
الإطار التربوي–الاجتماعي–الفكري الذي ظهر فيه أنطون سعاده كان إطارًا مزدوجًا: تحدده النهضة العربية من ناحية والثقافة الغربية الحديثة من ناحية أخرى، علمًا أن نهضة القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين التي نشأت في مصر وبلاد الشام لم تكن لتنشأ وتنمو كما حصل لولا التربية والثقافة الغربيتان. من هنا كانت أيَّة دراسة جدية منشودة لتكوُّن سعاده العلمي وإنجازه الفكري دراسةً، في الوقت نفسه، لرواد عصر النهضة ومصادرهم الغربية والعربية. وعلى كثرة الدراسات حول النهضة العربية، إما في تاريخها العام كحركة، وإما مع أفراد تأثروا بها وساهموا في صنعها مثل جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني، إلا أن هذه الدراسات تشوبها نقائص عدة – منها أنها لم تحصل على نحو منهجي ضمن مركز أبحاث قائم في ذاته، أو تابع لجامعة، يتولى تبني فريق اختصاصين، وحتى إعدادهم، في النهضة ككل وفي كل من روادها، موكلاً إليه مهمة نشر الأعمال الكاملة أو الكبرى مع دراسة وافية وموثقة وموثوقة لكل عمل. ومن هذه الشوائب أن أحكامًا تعميمية أصدرت على النهضة في مجملها، كان يتحكم بها هوى عقيدة أو أخرى من العقائد المسماة "سلفية" أو "تقدمية"، فعميت عن إيجابيات النهضة الموضوعية وعن سلبياتها الموضوعية لتبرز سلبيات وإيجابيات تفرضها الأفكار المسبقة لهذه الأطر العقائدية. لعل أنطون سعاده كان آخر النهضويين المسكونين بالهمِّ النهضوي. وإدراكًا منه أن الفكر التنظيري لن يكفي على كافة الصعد في بيئة عانت الاستبداد والقهر والتخلف طوال قرون فهو لم يكتف بمهمة "التفسير" بل سعى أيضًا إلى "التغيير". لذلك لم يتوقف عند حدود الكلمة المكتوبة، بل انطلق ينشر أفكاره بكلمة الفم أسوة بمؤسسي الرسالات، فكان مبشرًا يذهب هو إلى الناس ومعلمًا يأتي الناس إليه. والبشرى التي حملها كانت بشرى النهضة بالتحديد. وكان يركز على تعبير "النهضة القومية الاجتماعية" أو "الحركة القومية الاجتماعية"، مفضلاً مفهومي "الحركة" و"النهضة" على مفهوم "الحزب" التقليدي. فالأحزاب المنفصلة عن النهضات هي تكتلات سياسية تسعى إلى مصالح وقتية جزئية، أما الأحزاب النهضوية فهي حركات اجتماعية تسعى إلى تجديد شامل عبر تهذيب النفوس بالعلم والأخلاق لكي تجعل من أمَّتها أمَّة قائدة، رائدة، تنشر النور على العالم. من هنا تتردد في قاموس سعادة مصطلحات مثل: النخبة، المعرفة، المناقب، الحق، الخير، الجمال... إلخ. ويمكن اعتماد هذه المصطلحات مدخلاً إلى دراسة فكره وحركته، فالمجتمع الجديد المنشود هو المجتمع النخبوي، والحركة التي تسعى إلى تأسيس هذا المجتمع المتنوِّر القوي تعمل على خلق النخبة بالمعرفة والقيم. والنخبة في مفهوم هذه الحركة ليست نخبة انعزالية على غرار "النخب" العسكرية والعقائدية التي حكمت في بعض دول أمريكا اللاتينية وسواها، أو النخب في مفهوم المفكر الألماني فردريك نيتشه والقادة السياسيين المتأثرين به. النخبة في مفهوم سعاده تتحقق عندما يصير كل فرد في المجتمع، بالمعرفة والمناقب، فردًا منتجًا لحمل رسالةالنهضة. لذلك كان سعادة متشددًا جدًا في شأن المعرفة والمناقب. وكما ربطت الرسالات الدينية بين الإيمان وعمل الصالحات، هكذا ربط هو، في رسالته القومية – الاجتماعية، بين العلم والأخلاق. وطالما ترددت عبارة "المناقب" في المصطلح الحزبي. ولعل معظم تدابير الفصل، الآني والدائم، التي طاولت بعض أعضاء حزبه حصلت لأسباب "مناقبية". لقد شاء سعاده حركته القومية الاجتماعية نموذجًا للمجتمع الذي سعى إلى إنشائه. وهذا يفسر محاولاته المستمرة لتغذيتها بالمعرفة والقيم وتنقيتها من كل الشوائب. ومن أجل توسيع مساحة النهضة في جسم المجتمع، بادرت الحركة إلى تأسيس مدارس نموذجية أو إلى تأسيس فروع لها في المدارس القائمة. هكذا أُنشئت، خصوصًا في النصف الأول من الخمسينات، بعد استشهاد سعاده مباشرة، مدارس في سوريا ولبنان، أو مديريات حزبية في بعض المدارس. كما عمدت الحركة، من أجل تعميم أفكارها وأهدافها على أوسع نطاق، إلى إنشاء صحف، بمبادرات رسمية أو فردية، منها جرائد يومية مثل البناء، ومجلات فكرية–سياسية مثل النظام الجديد والزوابع، ومجلات أدبية مثل مجلة المجلة. وحفزت أكبر عدد ممكن من أعضائها على دخول الحركات الثقافية، مثل جمعية أهل القلم في لبنان، ومختلف الحركات النقابية. لم يكن سعاده آخر النهضويين المحتملين فحسب، بل لعله كان أعظم النهضويين أيضًا. وتتجلى عظمته النهضوية، إضافة إلى وضوح أفكاره وجلال أهدافه وقوة حجته، في ثلاثة خطوط جديدة أطلقتها مؤلفاته الرئيسية. فكتابه نشوء الأمم استهل خطًا في الفكر القومي الاجتماعي والسياسي يجعل منه فيلسوفًا اجتماعيًا–سياسيًا أصيلاً . وهو نفسه وعى أهمية عمله، فميَّز بين "ناقل الفلسفة" أو "معلم الفلسفة" من ناحية و"الفيلسوف" المبدع من ناحية أخرى. نحن هنا أمام زعيم سياسي فذٍّ، بل زعيم نهضة سياسية، يدعو إلى إحياء أمَّته ومجتمعه دعوة لا تكتفي بالخطابة أو النقل عن الآخرين، بل دعوة مرتكزة إلى العلم، وإلى عمله هو بالذات. والواقع أن كتاب نشوء الأمم يزخر بأسماء علماء الاجتماع الذين درسوا عوامل الأمة والقومية والمجتمع. لكنه لا يكتفي بنقل نظريات هؤلاء، بل يعرضها أفضل ما يكون العرض، ويتعلم منها الكثير، ويقف حيالها موقفًا تحليليًا، نقديًا، فاهمًا، عميقًا، بهدف تقديم رأيه هو وموقفه هو من هذه المسائل. الخط الفكري الثاني أطلقه سعاده في كتابه الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية، هذا الكتاب الذي يمكن اعتباره الأول من نوعه في الدراسات الدينية المقارنة في اللغة العربية. فهو ينظر إلى الدين من وجهة محايدة تقع خارج النظرة التقليدية اللاهوتية. ويكمن تصنيفه في خانة علم الاجتماع الديني: ليس علم الاجتماع السلوكي–الإحصائي الذي لم يكن قد اكتسب هويته بعد في الدوائر العلمية لدى تأليف الكتاب، بل علم الاجتماع النظري–الفلسفي. وانسجامًا مع نظرة سعاده في نشوء الأمة وطبيعتها ومع دعوته إلى نهضة قومية قائمة على قاعدة الوحدة الاجتماعية، يسعى الكتاب المذكور إلى إبراز وجوه الاتفاق بين المسيحية والإسلام، مؤكدًا على لقاء هاتين الديانتين في الجوهر وعلى أن الخلاف بينهما لا يتعدى بعض النقاط التفصيلية. وإذا كان هدف الدين تشريف الحياة الإنسانية، فكل ما يؤدي إلى انتهاك القيم الإنسانية باسم الدين، مثل الحروب الأهلية، يصدر عن سوء فهم وسوء تفسير وسوء استعمال للدين، ولا تجوز نسبته إلى الدين الصحيح. الخط الفكري الثالث أطلقه سعاده في كتابه الصراع الفكري في الأدب السوري. النظام الاجتماعي كما دعا إليه كتاب نشوء الأمم، والوحدة الاجتماعية القائمة على التفاهم الديني، كما في دعوة كتاب الإسلام في رسالتيه، شرطان ضروريان للنهضة، ولكن غير كافيتين. ثمة شرط آخر ضروري جدًا، هو الإبداع الأدبي والفني. وهذا الإبداع يحصل لا في الشكل فقط، بل في الجوهر أولاً، أي في المحتوى: في نفس المبدع وفكره وحياته. وعلى الأديب أو الفنان هنا أن يستلهم الفلاسفة في معالجتهم مسائل الوجود وهموم الإنسان واهتماماته ومعاني الحياة ومراميها ونهضة المجتمع، لا بل أن يفكر هو مليًا في هذه الأمور ويكوِّن اقتناعات ومواقف حيالها تتجلى في كل عمل من أعماله الإبداعية. وأعطى سعاده نماذج من أعمال الشعراء والأدباء التي تقف عند التجديد الشكلي، ونماذج أخرى من أعمال يميزها محتواها وشكلها معًا. ونظر إلى فكره وحركته كحافز على التجديد في الحياة والأدب والفن. وكانت دعوة سعاده هذه في طليعة العوامل التي حرَّكت النهضة الأدبية العربية وأدَّت إلى نشوء الشعر العربي الحديث. بل كان الوجهان الكبيران لهذه الحركة، الشاعران علي أحمد سعيد (أدونيس) وخليل حاوي، من معتنقي رسالته والمقتنعين بنظريته الأدبية هذه. الكتب الثلاثة المذكورة، مع الخطوط التي أطلقتها في حقول الفلسفة والاجتماع والدين والأدب والفن، تجعل من سعاده شخصية عملاقة نادرة على صعيد القيادة السياسية، لا في لبنان فحسب بل حول العالم. ولا شبيه له في هذا المنحى، حسب تقديري، سوى عدد ضئيل جدًا من قادة الحركة الاشتراكية الأوروبية في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. ترى أي قائد اجتماعي–سياسي كان مجبولاً بالثقافة الإنسانية التي تجمع الفلسفة والدين والاجتماعيات والآداب والفنون بهذه الأصالة؟ ولئن بدا طبيعيًا أن يكون مكان مثقف مبدع من هذا النوع منابر الجامعات والمراكز العلمية، إلا أن همَّ سعاده، كما قلنا، تعدى "تفسير" العالم إلى "تغييره". وهذا، في رأيه، يحصل من طريق التنظيم السياسي. وما انفك يوضح لأبناء أمته أن السياسة التي يحملها إليهم مختلفة كثيرًا عن السياسات الصغيرة التي ألفوها، وأنها سياسة كبيرة جدًا، حُبل بها في رحم النهضة. الكتب الثلاثة المذكورة ليست كل ما كتب سعاده. ولا تقل عنها أهمية كتاباته السياسية والعقائدية وتحليله للأحداث الراهنة. ولا بد لدارس أنطوان سعاده، في أيٍّ من هذه الأعمال الثلاثة أو سواها، من قراءة نتاجه كله. وتركيزنا على نشوء الأمم والإسلام في رسالتيه والصراع الفكري إنما حصل لأن كلا من هذه الأعمال يتميز بصفة البحث العلمي، ويغطي حقلاً فكريًا رئيسًا ولا يتوجه خطابه إلى المنضوين حزبيًا. خطاب سعاده، من أوله إلى آخره، كان خطابًا نهضويًا. والنهضة عنده "خروج من البلبلة والفوضى إلى الوضوح والنظام". كان كمثل سقراط في تعليمه وكمثل أفلاطون في تأليفه. لكنه تجاوز الاثنين معًا في جمعه، إلى صفتيِّ المعلم والمؤلف، صفة القائد السياسي. والذين تجمعوا حوله، كما قلت، شكَّلوا نواة المجتمع المنشود. القارئ الضليع في الفلسفة والعلوم الاجتماعية والآداب يدرك جيدًا، إذ يتعمق في قراءة نتاج سعاده، أنه أمام ظاهرة غير اعتيادية تمثِّل، فكرًا وشخصًا، ذروة الذروة التي بلغتها النهضة. ويزداد دهشة – مهما كان موقفه حيال دعوة سعاده للقومية – عند اطلاعه على التنظيم الذي استطاع خلقه لدى أتباعه، خصوصًا في لبنان وسوريا وبين المهاجرين السوريين–اللبنانيين. ولا بد من أن يقف متسائلاً: كيف استطاع هذا الرجل، الذي قضى في ريعانه، أن يضع كل هذه الكتب والمقالات؟ من أين جاء بالوقت ليكون مؤلفًا بهذه الغزارة والنوعية التي تعكس عبقرية فكره، وليكون في الوقت نفسه زعيم حركة سياسية مصنوعة في الوطن، وفي الوطن وحده، أي غير مستوردة ولا مرتهنة، صهرت كوكبة من أبناء مجتمعه على مختلف مذاهبهم ومناطقهم وطبقاتهم في بوتقة واحدة وألهبت لديهم الحماسة على تحويل مجتمعهم كله إلى مجتمع نخبة ومجتمع نهضة؟ من يتعرف على أنطون سعادة للمرة الأولى اليوم، بعد خمس وخمسين سنة من استشهاده ومئة سنة من ولادته، سواء حصل هذا اللقاء عبر كتاباته مباشرة أو في دائرة جامعية من دوائرالعلوم الاجتماعية أو السياسية أو التاريخ أو الفلسفة أو الأدب، لا يقدر إلا أن يقف مشدوهًا أمام واقعة قتله، وهي أبشع جريمة اقترفتها "الدولة" اللبنانية منذ اكتسابها هذه التسمية. ويجدر أن يعرف كيف تحولت هذه الملحمة العظيمة المكتوبة بالدم إلى شعر وأدب عظيمين، لا تقتصر ملكيتهما على الذين تعمدوا بهذا الدم بل تمتد إلى الأمة بأسرها. فهذه الملكية، كما قال سعاده نفسه: "وديعة الأمة... متى طلبتها وجدتها". كما يجدر بدولة تليق بها هذه التسمية – والدولة مؤسسة واستمرار – "إعادة محاكمة" سعاده وإظهار صورته الحقيقيةعلى الملأ: صورة المفكر الأصيل والبطل القومي وأحد رموز الأمة الكبار عبر تاريخها. ومما يعنيه هذا الكلام إطلاق اسم أنطون سعاده على أمكنة كالشوارع والجامعات والمؤسسات الثقافية، وتدريس كتاباته في المدارس والجامعات، مع جبران خليل جبران ونعيمه وسائر المفكرين والمبدعين ورجال النهضة الذين أغنوا التراث الإنساني. هذا الكلام كله لا علاقة له بالسياسة والأحزاب، فمن يقوله ليس حزبيًا ولا سياسيًا، لكنه مثقف وباحث ومؤلف في الإنسانيات، اطَّلع اطِّلاعًا واسعًا وعميقًا على كتابات أنطون سعاده وعلى الكثير مما يشابهها في الكتابة العربية والأجنبية حتى بات يدرك جيدًا موقع سعاده الفكري. والمؤسف أن قيمة سعاده الفكرية الحقيقية لم يبرزها أحد حتى اليوم. والطبعات المختلفة التي صدرت من أعمال سعاده الرئيسية الثلاثة: نشوء الأمم، والإسلام في رسالتيه، والصراع الفكري، هي، في معظمها، طبعات تغلب فيها الأهداف "الحزبية" على الأهداف "العلمية". لا أقول أبدًا إن الأهداف الحزبية تعارض الأهداف العلمية. إلا أن كتب سعاده، هذه الثلاثة وسواها، صدرت حتى اليوم، طبعة بعد طبعة، من دون مقدمة وافية لكل كتاب تكون بمثابة دراسة جدية مقارنة حوله – فتحلله في ذاته، وتدرسه في ضوء ظروفه وفي ضوء ما يشبهه من كتابات عربية وغير عربية. وما نطلبه مختلف جدًا عن أي شيء من اكتشاف العنوان الأصلي الذي شاءه سعاده لكتاب الإسلام في رسالتيه أو سواه من كتبه، إذا ظل هذا "الاكتشاف" بعيدًا عن دراسة العمل المنشور في العمق وإعادة إصداره مع هذه الدراسة الشاملة. وهذا يحتاج إلى فريق عمل رصين في فكر أنطون سعاده، تتولى إعداد أفراده في الفلسفة والتاريخ والعلوم الاجتماعية والسياسية والآداب دوائر علمية جامعية مكرسة لدراسة التراث بكل قيم العلم والشرف والنزاهة والمحبة التي لا تستحق أي جامعة هذا الاسم بانفصال عنها. |
|
|