|
منقولات روحيّة
"المسيح"
مفهوم ديني تتقاسمه ثلاثة أديان، هي الإسلام
والمسيحية واليهودية. وهو، على الرغم من
تفاوت أهميته ومركزيته بين هذه العقائد، ومن
اختلاف مضامينه، فإن جوانب مشتركة تبقى واضحة
للعيان بالنسبة لمؤرِّخ الأديان والباحث في
العقائد المقارنة. وهذا ما سوف نحاول إيضاحه
في هذا المقال الوجيز الذي لا يمكن له أن يفي
الموضوعَ حقَّه أو يضيء جوانبَه كلَّها. طبيعة
الإنسان هي هي في كلِّ زمان ومكان: اقتران
جسم بوعي، هما وجهان للتعبير عن حقيقة
واحدة، متمايزان، لكنْ غير منفصلين. إن كلاً
من هذين الوجهين ينمو ويتطور ويتنوع
تلقائيًّا وعفويًّا، من الميلاد حتى الممات؛
لكن بمستطاع الفرد أن يمسك بزمام هذا التطور
ويوجِّهه. تلك هي إحدى القدرات التي يتميَّز
بها الإنسانُ عن سائر الكائنات الأدنى منه
على سلَّم التطور الأرضي. ويتفرع عن هذا
الواقع نوعان من الثقافة، وُجِدا في سائر
البلدان وجميع العصور، لكنْ بوجود اختلافات
نسبية: فإما أن يُمنَح الجسمُ المزيد من القوة
والمرونة والصلابة، من أجل تحمُّل إرهاق
الصيد والحرب والكفاح اليومي ضد قوى الطبيعة،
وإما
ألا يبقى
الجسم هو هدف الجهود الفردية الأوحد، لأن
للوعي أيضًا متطلباتِه. تتميَّز
وجهةُ نظر الأديان ذات المنشأ السامي [نسبة
إلى سام بن آدم]، في جملة ما تتميَّز به،
بجنوحها إلى نَفْي كلِّ ما لا يهم الإنسان بما
هو كذلك: يترتب على ذلك أنها تنفي خلودَ النفس
الحيوانية، كما تنفي أيضًا – وهو ما يساوي
الأمر نفسه من بعض الوجوه – ارتحالَ النفس
عبر وجودات غير بشرية. على كلِّ حال، لا يمكن
لنا أن نتكلَّم هنا على النفي إلا على نحو
خارجي تمامًا ونسبيٍّ جدًّا؛ ذلك لأن الأخطاء
لا وجود لها في وحي الرسالات، ولأن الأمر
يتعلق هنا بمفهومٍ، فيه التركيب والتبسيط إلى
حدٍّ كبير، عن أحوال ما بعد الموت، التي
ترتدُّ في جملتها إلى حالتين "أبديتين":
الجنة والنار. ولئن كنَّا، من خلال هذا
المفهوم، ننكر على الحيوان أن تكون له نفسٌ،
فلأنه، من حيث هو كائن غير بشري، لا يستطيع أن
يسهم مباشرة في أسباب الخلاص [النجاة]، ولا
يستطيع – تبعًا لذلك – أن يخلِّص نفسه
انطلاقًا من حالته الخاصة. كذلك، كلُّ حالة من
أحوال ما بعد الموت لا تنطبق على الحالة
البشرية، فإنما تمتصها ضمنًا – إن لم يكن
صراحةً – أحوالُ الجحيم أو أحوال "الأعراف"
[ما بين الجنة والنار] Limbes، على حسب الأحوال.
غنيٌّ عن القول إنه إنْ كانت الأحوالُ غير
البشرية – طبعًا نحن هنا لا نتكلَّم على
الأحوال الملائكية – يمكن تمثُّلها في
الجحيم لأنها لا تحمل أسباب الخلاص، فإن من
الممكن، من ناحية أخرى – ولسبب لا يقل عن ذلك
– تمثُّل هذه الأحوال نفسها في "الأعراف"
لأنها لا تحمل أسباب الهلاك. تبعًا
لذلك،عندما يُعْلَن "الوثنيون" و"الهراطقة"
[الزنادقة] مستبعَدين من الخلاص – وبمقدار ما
هو كذلك – فإن هذا لا يعني، من الناحية
الباطنية – وجوب نزولهم منازل الجحيم. من
ناحية أخرى، فإن تصوير الأحوال غير البشرية –
أو دون البشرية، إن شئتم – في أحوال الجحيم
يجد تسويغَه في أن ارتحال النفوس ينطوي على
عذاب، أو إن شئنا الدقة، على تناوب أحوال
السعادة والشقاء، من حيث إن الكائن لا خلاص له
إلا في الفردوس. لكن هذه الحجة يمكن قَلْبُها،
ويمكن لها أن تفيدنا أيضًا في البرهنة على أن
الارتحال، مادامت الآلامُ التي تنشأ عنه غير
دائمة، ليس "جهنميًّا" بالمعنى المطلق
الذي تضفيه على هذه الكلمة وجهةُ النظر
اللاهوتية.
سِفْر
دزِيَنْ مقتطفات باختصار،
هناك ثلاث سلاسل من كتب كيو تي: 1.
سبعة مصنفات سرية؛ 2.
14
مصنفًا من الشروح والتعليقات ومعجم
للمُسارَرين؛ و 3.
35
مصنفًا مخصَّصًا للعامة. أما "سُوَرُ
دْزِيَن" فهي مقتطفات مستقاة من المصنف
الأول من السلسلة الثانية. وقد أوْرَدَتْ
السيدة هـ.ب. بلافاتسكي في كتابها العقيدة
السرية مقبوسات عديدة من سلسلة الشروح
نفسها. اعتمدنا في
هذه الترجمة أسلوبًا استبدلنا فيه
بالمصطلحات الشرقية الخاصة (التي يمكن
الاطلاع عليها في النصِّ الإنكليزي المرفق)
كلماتٍ عربيةً تؤديها على أقرب وجه ممكن،
وذلك توخيًا لجعل العقيدة السرية أقرب
منالاً بقدر المستطاع إلى القارئ العربي
الباحث الذي لم يألف الاصطلاحات السنسكريتية
والصينية والتيبتية إلخ. ونحن نأمل بذلك ألا
نكون خنَّا روحَ السُّوَر. غير أننا ندعو
القارئ، الذي نضع بين يديه نصًّا في وسعه أن
يقرأه قراءة ميسورة ويفهمه فهمًا أكثر
مباشرة، أن يبذل جهدًا مضاعفًا باتجاه العمق. في العام 1888،
منحت السيدة بلافاتسكي هذه السُّوَر للعالم
من جديد. وقد آن الأوان، برأينا، لكي تتأسَّس
عليها نظرةٌ جديدة إلى الكون والإنسان، تفتح
أفقًا للإنسان العربي، الذي تستغلق عليه
المعاني السرَّانية العميقة لتراثه الكتابي
المقدس، فتزوِّده بمفاتيح نفيسة لتأويل نصوص
هذا التراث، بما ينأى به عن التفسيرات
الحرفية القاتلة. ألم يقل القديس بولس إن "الحرف
يقتل، أما الكلمة فتحيي"؟! د.
أ. ***
توضيح تُدعى
المقتطفات التي يقوم عليها هذا البحث، والتي
تتشرف معابر بنشرها مترجمةً لأول مرة إلى
العربية، "سُوَر دزِيَن" Stanzas
of Dzyan.
وهي تتألف من قسمين أساسيين: القسم الأول يدعى
"التطور الكوني" Cosmic
Evolution؛
فيما يُدعى القسم الثاني "نشأة الإنسان" Anthropogenesis. ونشير
هنا إلى أن هـ.ب. بلافاتسكي كانت أول من عرَّف
العالم بوجود هذا السِّفر في أواخر القرن
التاسع عشر. فقد بنتْ عليه كتابها الرائع العقيدة
السرية، حيث تحدثت عن أصل الكون والمنظومة
الشمسية وتطورها عبر مراتب وجودها، وعن نشأة
الإنسان وتفتحه عبر ذرِّياته المتتابعة، وعن
الأصل المشترك لجميع الأديان. على
هذا السِّفر، في محاولة متواضعة للربط بين
الأسطورة والعلم، بنينا محاولة بحثنا هذا،
حيث...
عُرِف
شنكرا، المولود في جنوب الهند في القرن
الثامن للميلاد من أبوين من البراهمة، باسم
شنكراتشاريا Shankarāchārya،
أي "المعلِّم شنكرا". إذ سرعان ما ظهرت
عليه منذ الصغر علامات النجابة، من قدرات
عقلية رفيعة وتضلُّع في المسائل الروحية
والمذهبية المختلفة. كان همُّه الأول هو
النهوض بتأليف شامل بين مختلف ألوان طيف
المذاهب الهندوسية، فلسفيِّها وإلهيِّها، في
منهاج واحد متساوق، قائم على الميتافيزياء
الصرف. ولقد كان سُنِّيَّ الرأي في تمسُّكه
بالـفيدا، غير أنه سعى إلى إبراز التوافق
في ظاهر التناقض بين تعاليمها بالتركيز على
الأجزاء الختامية للـفيدا، ألا وهي الـأوبنشاد.[1] نَسَبَ
شنكرا تأسيسَ الـفيدنتا إلى الحكيم
بادَرايَنا Bādarāyana (400 م) الذي شكَّلت
تصانيفُه أهم الثيمات التي عرض لها شنكرا
لاحقًا. وعلى الرغم من زَعْم هذا الأخير بأنه
مجرد شارح للـفيدنتا فقد كان، بلا أدنى
ريب، من أكابر "العارفين بالله" الذين
أنجبتْهم الهند. وقد ساح طويلاً في طول البلاد
وعرضها، مؤسِّسًا "زوايا" رهبانية ashrama عديدة، ومدبجًا
المقالات في الـفيدنتا "اللاثنوي" advaita.
كان، على قصر عمره، عاملاً دؤوبًا لا يعرف
الكلل، وديالكتيكيًّا بارعًا لا يُجارى. ولما
حضرتْه الوفاة كانت منزلتُه قد توطدتْ
توطُّدًا قويًّا وصارت نظرياتُه في
الإلهيَّات (= الميتافيزياء) من أشد العقائد
تأثيرًا في مذهب أهل الباطن الهندوس، بما
مهَّد الطريق لبناء قاعدة راسخة لتجديدات
فقهية أصيلة وللقيام بإصلاحات عميقة طالت
مختلف مناحي الحياة...
|
|
|