|
مفهوم
"المسيح" بين
التوراة والإنجيل والقرآن "المسيح"
مفهوم ديني تتقاسمه ثلاثة أديان، هي الإسلام
والمسيحية واليهودية. وهو، على الرغم من
تفاوت أهميته ومركزيته بين هذه العقائد، ومن
اختلاف مضامينه، فإن جوانب مشتركة تبقى واضحة
للعيان بالنسبة لمؤرِّخ الأديان والباحث في
العقائد المقارنة. وهذا ما سوف نحاول إيضاحه
في هذا المقال الوجيز الذي لا يمكن له أن يفي
الموضوعَ حقَّه أو يضيء جوانبَه كلَّها. ولسوف نبتدئ ببسط المفهوم
التوراتي للمسيح، أولاً، ثم ننتقل إلى
المفهوم الإنجيلي، فالقرآني، معتمدين
اعتمادًا أساسيًّا على ما تقدِّمه لنا الكتبُ
المقدسة الثلاثة، ومبتعدين، قدر المستطاع،
عن مقولات اللاهوت والتفسير. "المسيح" (أو المشيح)
كلمة آرامية–عبرية، مشتقة من الفعل الثلاثي مشح
الذي يعني، كما في العربية، اللمس والتمسيد
الرفيق بالكف. وبالمعنى الطقوسي التوراتي فإن
المسيح هو الممسوح بزيت المعبد المقدس من أجل
تبريكه وإسباغ طابع القداسة عليه. هذا الزيت
يُحضَّر من زيت الزيتون النقي، ممزوجًا
بأطياب معينة، وفق مقادير خاصة، ويدعى زيت
المسحة، ولا يجوز استخدامُه في الأغراض
الدنيوية. فالمسح الطقوسي، والحالة هذه، هو
نوع من شعائر التَّعْدية والعبور rites
de passage أو المُسارَرة Initiation،
التي تنقل الشخص أو الشيء الممسوح بالزيت من
مجال ما للناس إلى مجال ما لله. أول مسح طقوسي بالزيت
يصادفنا في كتاب التوراة هو ما قام به يعقوب
في سِفر التكوين (الإصحاح 35) عندما نَصَبَ
عمودًا (مذبحًا) وسَكَبَ عليه زيتًا في الموضع
الذي تراءى له الربُّ فيه، ودعا المكان "بيت
إيل". وفي سفر الخروج (الإصحاح 30)، يبيِّن
الربُّ لموسى كيفية تجهيز زيت المسحة،
ويأمره أن يمسح به تابوت العهد وبقية
الأدوات الطقسية، ويحرِّم عليه استخدامَه
إلا للأغراض الشعائرية. بعد ذلك، في سفر
الخروج (الإصحاح 40)، يأمره أن يمسح أخاه
هرون وبنيه كهنةً على إسرائيل. ومنذ ذلك الوقت
صار مسح الكهنة طقسًا متَّبعًا حتى نهاية
القصة التوراتية. ولدينا مثال واحد عن مسح
الأنبياء، وهو ما وَرَدَ في سفر الملوك الأول
19: 16، عندما أمر الربُّ النبيَّ إيليا أن يمسح
تلميذه أليشاع نبيًّا بعده قبل صعوده حيًّا
إلى السماء. وعندما ابتدأ عصر الملوك في
إسرائيل، صار طقس المسح بالزيت بمثابة
تنصيب رسمي للشخص الذي اختاره الربُّ لحكم
إسرائيل، وتكريسه للرسالة المنوطة به تجاه
شعب يهوه. كان شاؤل أول من مُسِحَ
ملكًا على إسرائيل بأمر من الرب، ودُعي بـ"مسيح
الرب". وهنا نفهم من سفر صموئيل الأول، الذي
نَقَلَ قصة اختيار شاؤل ومَسْحِه، كيف أن
طقسَ المسح يُحوِّل الشخص الممسوح إلى
شخص جديد يحلُّ عليه روحُ الرب، حيث نقرأ: «[...]
فيكون من هناك، أنك تلقى زمرة من الأنبياء
النازلين من المَشْرَف، [...] فينقضُّ عليك
روحُ الرب، وتتنبأ أنت معهم وتصير رجلاً آخر.
وإذا وَرَدَتْ عليك هذه الآيات، فاصنع ما
تجده يدُك، لأن الربَّ معك.» (10: 5-7) وعندما غضب الربُّ على شاؤل
لأنه لم ينفِّذ أمره كاملاً بقتل شعب
العماليق عن بكرة أبيهم، رجالاً ونساءً
وأطفالاً، مع بقرهم وغنمهم وكلِّ مواشيهم،
غادَرَه روحُ الرب وحلَّ به روحٌ رديء يسبِّب
له نوباتٍ من الجنون. بعد ذلك أمَرَ الربُّ
النبيَّ صموئيل أن يمسح الفتى داود ملكًا
بدلاً عن شاؤل، الذي قضى نحبه بعد فترة قصيرة
في معركة مع الفلسطينيين. وبعد أن غادر روحُ
الربِّ شاؤل حلَّ على داود، الذي يصف
علاقتَهُ بإلهه بالكلمات التالية: «هذه كلمات
داود الأخيرة: وحيُ داودَ بنِ يُسِّي، وحيُ
الرجل القائم في العُلا، مسيح إله يعقوب
ومرنِّم مزامير إسرائيل: "روحُ الربِّ
تكلَّم بي وكَلِمَتُه على لساني. قال إله
إسرائيل: إلخ."» (صموئيل الثاني 23: 1–3). نلاحظ في هذا
النص كيف يجمع مسيحُ الربِّ بين المُلك
الدنيوي وبين النبوة والكهنوت: فهو يكلِّم
الربَّ ويكلِّمه الربُّ، ولسانُه ينطق بوحي
إلهه، وهو الوسيط بامتياز بين عالم الألوهة
وعالم البشر. عندما شاخ داود واستلقى على
سرير الاحتضار، أوصى بالمُلْك لابنه سليمان
بمباركة من الرب، وأمر صادوق الكاهن وناثان
النبي أن يمسحا سليمان ملكًا بعده. وهنا
تستمر العلاقة المباشرة بين الربِّ ومسيحه؛
وهو يتراءى له في أحلامه ويكلِّمه دون وسيط.
نقرأ في سفر الملوك الأول 3: 5-12: «وفي جبعون
تراءى الربُّ لسليمان في الحلم ليلاً وقال:
"اسأل ما تريد أن أعطيك." فقال سليمان:
"[...] فهَبْ عبدَك قلبًا فهيمًا ليحكم شعبك
ويميِّزَ بين الخير والشر [...]." فَحَسُنَ في
عيني الربِّ أن يكون سليمان قد سأل هذا الأمر.
فقال له: "[...] فهاءنذا قد فعلتُ بحسب كلامك.
هاءنذا قد أعطيتك قلبًا حكيمًا فهيمًا، حتى
إنه لم يكن قبلك مثلُك ولا يقوم بعدك مثلُك.» بعد وفاة سليمان، في القصة
التوراتية، وزوال ما يُدعى بالمملكة
الموحدة، التي انقسمت إلى مملكة السامرة
ومملكة يهوذا، تحوَّل طقسُ المسح بالزيت
إلى إجراء روتيني يقوم به كبيرُ الكهنة من أجل
تنصيب الملك الجديد الذي انتقل إليه المنصبُ
بالوراثة أو بالاغتصاب. وكانت مراسم التنصيب
تجري في أجواء اعتيادية؛ وغالبًا ما لا يذكر
النص الكتابي شيئًا عنها، بل يكتفي بالقول إن
فلانًا قد مَلَكَ على أورشليم أو على
السامرة، وأن مُلْكه قد دام كذا سنة. ولكن
جميع ملوك السامرة، منذ يربعام بن ناباط،
مؤسِّس مملكة إسرائيل، قد حادوا عن الدين
القويم وعبدوا الآلهة الفلسطينية التقليدية؛
وكذلك فعل معظم ملوك يهوذا. وهذا ما خلق لدى
أنبياء العهد القديم، الذين كانوا يعنِّفون
ملوكهم بشدة على عدم إخلاصهم ليهوه، رجاءً في
مَلِك مثالي قادم ومسيح حقيقي للرب. وشيئًا
فشيئًا، أخذ مفهوم المسيحانية messianic
المَلَكية بالتغير: فبدلاً من التغنِّي
بفضائل الملك المسيح المعاصر، راحت مزامير
العهد القديم تتطلَّع إلى الملك المسيح
القادم، وتصف مجدَه وكفاحَه وانتصاراته. وقد
تكرَّس هذه الاتجاه بعد زوال مملكة إسرائيل–السامرة
في العام 721 ق م وتحوُّلها إلى ولاية آشورية،
وزوال مملكة يهوذا في العام 578 ق م وتحوُّلها
إلى ولاية بابلية، وانتهاء ما يُدعى بعصر
الملوك. فمسيح الربِّ لم يعد مَلِكًا يحكم على
شعب يهوه في الزمن الحاضر، بل تحوَّل إلى
شخصية رؤيوية نبوية، سوف تظهر في المستقبل
لتعيد العصر الذهبي لإسرائيل، وتجمع شتات
المنفيين في الأقطار البعيدة وتُرجِعَهم إلى
أورشليم، وتحاربَ أعداء شعب يهوه في كلِّ
مكان، لتجعل أممَ الأرض قاطبة في النهاية
عبيدًا لبني إسرائيل. وبما أن سلالة داود هي التي
حكمت أورشليم حتى دمارها وسَبْي أهلها على يد
البابليين، فإن المسيح القادم سيكون من نسل
داود الذي وَعَدَه الربُّ بأن نسله سوف يحكم
في أورشليم إلى الأبد، على ما نقرأ في العديد
من مواضع الكتاب، ومنها ما وَرَدَ في المزمور
89: «لا أنقض عهدي، ولا أغيِّر ما خرج من شفتي.
مرة حلفت بقدسي أني لا أكذب لداود. نسله إلى
الدهر يكون، وكرسيه كالشمس أمامي.» فالمسيح
القادم هو غصنٌ ينبت من شجرة نسب داود التي لم
تنقطع، على ما نقرأ في سفر إرميا 23: 5-8: « [...]
وأقيم لداود غُصنَ بِرٍّ، فيملك وينجحُ،
ويُجري حقًّا وعدلاً في الأرض. في أيامه
يُخلَّصُ يهوذا، ويسكن إسرائيل آمنًا [...]: "حي
هو الربُّ الذي أصْعَدَ وأتى بنسل بني
إسرائيل من أرض الشمال ومن جميع الأراضي التي
طَردتُهم إليها، فيسكنون في أرضهم."» ونقرأ
في سفر إشعيا أيضًا عن الغصن الذي ينبت من
شجرة داود بن يُسِّي: «ويخرج قضيبٌ من جذع
يُسِّي وينبت غصنٌ من أصوله، ويحلُّ عليه
روحُ الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة
والقوة.» وبتأثير الأفكار
الزرادشتية التي شاعت في المنطقة المشرقية
عقب استيلاء قورش على بابل في العام 539 ق م
ووراثة فارس للإمبراطورية البابلية، قامت
الإيديولوجيا التوراتية بالمزاوجة بين فكرة
المسيح القادم وفكرة المخلِّص الزرادشتي.
فوفق التعاليم الأصلية لزرادشت، يظهر في آخر
الأزمنة مخلِّص البشرية الذي يقود المعركة
الفاصلة الأخيرة ضد الشيطان ويقضي عليه. عند
ذاك يقوم الله بتدمير العالم القديم الملوَّث
بعناصر الشر، ثم يعمل على تجديده، ليغدو
فردوسًا خالصًا يعيش فيه الأخيارُ الصالحون
في زمن مفتوح على الأبدية. وفيما بعد، أدخلتْ
التطويراتُ اللاهوتية اللاحقة تنويعاتٍ
جديدةً على فكرة المخلِّص الزرادشتي. فهذا
المخلِّص المدعو ساوشنياط سوف يأتي من نسل
زرادشت نفسه، عندما تحمل به عذراءٌ تنزل
للاستحمام في بحيرة كاناسافا، حيث تتسرب إلى
رحمها بذور زرادشت التي حفظها الملائكة في
البحيرة إلى اليوم الموعود. لقد أثَّرتْ فكرة نهاية
الزمن هذه بقوة على فكرة ملكوت الربِّ القادم
على الأرض في التوراة، ولكن بعد تحويرها بما
يتلاءم مع الإيديولوجيا التوراتية الشوفينية.
فإذا كان التاريخ في المفهوم الزرادشتي يسير
نحو استئصال الشرِّ في العالم واستعادته
نقيًّا طاهرًا، كما كان في لحظة الخلق الأول،
ليعيش فيه الصالحون، فإن التاريخ في المفهوم
التوراتي يسير نحو سيادة الإله يهوه الكاملة
على الأرض، بعد أن يرسل مسيحَه قُدَّامه،
ليمهِّد له الطريق ويكسرَ شوكة أعداء إسرائيل
ويعيدَ أمجاد أورشليم الضائعة. أما مراحل
التاريخ السابقة فلا يوجِّهها صراعٌ بين
الخير والشر، كما هي الحال في المذهب
الزرادشتي، بل صراعُ يهوه ضد الآلهة الأخرى،
ومحاولتُه تنصيب نفسه معبودًا أوحدَ لدى
الشعب الذي اختاره، ثم قيادة هذا الشعب في حرب
ضروس ضد بقية الأمم والشعوب، لإخضاعها
وتحويلها إلى خدم وعبيد لدى بني إسرائيل. عند
ذاك ينتهي التاريخ، ويحلُّ ملكوت الربِّ على
الأرض: ملكوت يديره يهوه بنفسه. يبتدئ ملكوت الربِّ بما
تدعوه أسفار الأنبياء بـ"يوم الرب". في
ذلك اليوم يرسل يهوه، ربُّ القوات، على الأرض
عددًا من الكوارث الطبيعية تمهِّد لهجومه
الكاسح على الأمم: فالسماوات «تُطوى كسِفْرٍ
وتذوي قواتُها كافة» (إشعيا 34: 4)؛ والشمس
تنقلب ظلامًا والقمر دمًا (يوئيل 3: 4)؛ وأرض
أدوم تكون «زفتًا مشتعلاً، لا تنطفئ ليلاً
ولا نهارًا، ودخانها يصعد مدى الدهر» (إشعيا
34: 9-10)؛ يعمُّ الظلام والسحاب والضباب، فيمشي
الناس كالعُمْي، وبنار غيرة يهوه تُلتهَم
الأرض، لأنه يصنع فناءً مباغتًا لسكانها (صفنيا
1: 14-18)؛ «فتُطرَح قتلاهم وينبعث النتن من
جيفهم وتسيل الجبال من دمائهم» (إشعيا 34: 3). ثم
يتدخل يهوه بشخصه لإفناء الأمم: فهو يستيقظ
مثل جبار تَعْتَعَه السُّكْرُ ويضرب أعداءه
في أدبارهم (مزمور 78: 65-66)، ويجمع إليه الجيوش
ويستعرض قواته (إشعيا 13: 3-4)، ويبدأ هجومه
بصرخة الحرب المُرَّة (صفنيا 1: 14). بعد هذه الأحداث الجِّسام
تدخل الأرض في حالة فردوسية مهيأة لسعادة بني
إسرائيل الذين يتسلَّطون على من بقي حيًّا من
الأمم الأخرى. نقرأ في سفر إشعيا 11 و14: «وفي
ذلك اليوم يعود الربُّ فيمد يده ثانية ليفتدي
بقية شعبه [...]. يجمع المنفيين من إسرائيل ويضم
المشتَّتين من يهوذا من أربعة أطراف الأرض»
(11: 11-12)، «[...] فتقترن بهم الغرباء وينضمون إلى
بيت يعقوب [...]. ويمتلكهم بيتُ إسرائيل في أرض
الربِّ عبيدًا وإماءً، ويسبون الذين
سَبَوْهم ويتسلَّطون على ظالميهم» (14: 1-2). نعود إلى مسيح آخر الأزمنة
لنضيء أهمَّ معالم شخصيته: فهو يولد كطفل
خارق، تجتمع فيه صفاتُ الآلهة والبشر معًا.
نقرأ في سفر إشعيا 9: 2-6: «الشعب السالك في
الظلمة أبصر نورًا عظيمًا، والجالسون في ظلال
الموت أشرق عليهم نور [...]. لأنه يولد لنا ولد،
ونُعطى ابنًا، وتكون الرياسة على كتفيه،
ويُدعى اسمُه عجيبًا، مشيرًا إلهًا قديرًا،
أبًا أبديًّا، رئيسَ السلام. لنموِّ رياسته
وللسلام لا نهاية، على كرسي داود وعلى
مملكته، من الآن إلى الأبد.» وهنالك إشارة
واحدة في الكتاب إلى ولادة هذا الطفل من عذراء.
نقرأ في سفر إشعيا 7: 14: «ويعطيكم السيد نفسه
آية: ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه
عمانوئيل.» والاسم عمانوئيل في العبرية
يعني "الرب معنا". وهو يُدعى ربًّا
وسيدًا، ويجلس عن يمين يهوه في آخر الأزمنة.
نقرأ في المزمور 110 على لسان داود، فيما
يُفهَم منه إشارة إلى مسيح آخر الأزمنة، الذي
سيظهر ليدين الأمم ويحاكمها وينتقم لشعبه: «قال
الرب لسيِّدي: "اجلس عن يميني حتى أجعل
أعداءك موطئًا لقدميك." [...] يَدين الأمم،
ويملأها جُثثًا ويحطم الرؤوس في الأرض
الواسعة.» هذه الصلة الحميمة بين
الربِّ ومسيحه يُعبَّر عنها مجازًا بصلة
الأبوة والبنوة. نقرأ في المزمور 2: «أعلن حكم
الربِّ. "قال لي: أنت ابني، وأنا اليوم
ولدتُك. سلْني فأعطيك الأمم ميراثًا، وأقاصي
الأرض ملكًا. بعصا من حديد تكسِّرهم، وكإناء
خزَّاف تحطِّمهم."» إن ما نفهمه من قول
الربِّ لمسيحه في هذا المزمور «أنا اليوم
ولدتك» هو أن علاقة الأبوة والبنوة بين
الطرفين ليست علاقة قديمة، بل حادثة، وأنها
قد تأسَّستْ بعد مسحه واختياره، دون أية
صلة ميتافيزيائية، أي من نوع يجعل مسيح
الربِّ مشاركًا له في الطبيعة أو القِدَم. ومن الجدير ذكرُه هنا أن صلة
الأبوة والنبوة هذه ليست وقفًا على مسيح آخر
الأزمنة. فلقد دعا الكتاب قبل ذلك ملوك
إسرائيل الأوائل بـ"أبناء الرب". نقرأ
على لسان يهوه في المزمور 89: «وجَدْتُ داود
عبدي، ومسحتُه بزيت قداستي. [...] يدعوني قائلاً:
"أنت أبي وإلهي وصخرة خلاصي." وأنا أجعله
بكرًا، فوق ملوك الأرض عَلِيًّا.» وفي سفر
صموئيل الثاني 7: 13-14، يقول يهوه بخصوص أبوَّته
للملك سليمان: «هو يبني لي بيتًا لاسمي، وأنا
أثبِّت كرسي مملكته إلى الأبد. أنا أكون له
أبًا وهو يكون لي ابنًا.» هذه الأبوة المجازية
هي نوع من التبنِّي لشخصية مميَّزة، حلَّ
عليها روحُ الرب، وتكلَّم من خلالها
وكلَّمتْه، وجعلها وسيطًا بينه وبين شعبه.
فإذا كان شعبُ إسرائيل جملةً ابنًا ليهوه (على
ما نقرأ في العديد من مواضع الكتاب، ومنها
الخروج 4: 22: «إسرائيل ابني البكر»، وهوشع 11: 1:
«لما كان إسرائيل غلامًا أحببتُه، ومن مصر
دعوتُ ابني»)، فإن ذلك المختارَ من إسرائيل هو
الأجدر بهذا اللقب، وبنوَّته للربِّ إنما
تعكس نوع العلاقة التي أسَّسها يهوه مع شعبه
منذ البداية. على أن نوعًا من الحقيقة
المسيحانية، القائمة في عالم المُثُل قبل
تجسُّدها الواقعي في عالم الظواهر، يمكن
عزوُها إلى مسيح آخر الأزمنة، من خلال مفهوم
"ابن الإنسان" الذي نصادفه في سفر دانيال
7: 9-14. ففي مقطع شديد السرَّانية والغموض من
رؤيا دانيال نواجه شخصية ضبابية يدعوها النص
بـ"ابن الإنسان"، تُدعى للمثول في حضرة
الربِّ، الذي يلقِّبه النص هنا بـ"قديم
الأيام"، فيعطيه سلطانًا أبديًّا على
الأرض: «وبينما كنت أنظر إذ نُصِبَتْ عروش،
فجلس قديم الأيام، وكان لباسُه أبيض كالثلج،
وشعر رأسه كالصوف النقي [...]. وكنت أنظر في
رؤياي ليلاً، فإذا بمثل ابن إنسان آتٍ على
غمام السماء، فبلغ إلى قديم الأيام، وقُرِّب
إلى أمامه. فأُوتِيَ سلطانًا ومجدًا ومُلكًا.
فجميع الشعوب والأمم والألسنة يعبدونه،
وسلطانُه سلطانٌ أبدي لا يزول، وملكوته لا
ينقرض.» هذه هي الإشارة الوحيدة إلى
"ابن الإنسان" في الأسفار التوراتية
القانونية. إلا أن هذه الشخصية قد بقيت موضع
تأمل لاهوتي في الأسفار غير القانونية التي
كُتِبَ معظمُها فيما بين القرنين الأول قبل
الميلاد والأول الميلادي، والتي جرى
استبعادُها من التوراة العبرية في نصِّها
النهائي الذي اعتمده مجمع يمنيا حوالى سنة 90 م.
ولعل المقطع التالي، الذي أنقله عن سفر أخنوخ
الأول، يعطي صورة عن التأملات اللاهوتية
المتأخرة بخصوص "ابن الإنسان" المحجوب.
فأخنوخ، الذي صعد إلى السماء في رؤى الليل
وقادتْه الملائكةُ في جولة كشفتْ له فيها
أسرارَها، يصف لنا مواجهته مع ابن الإنسان
بالكلمات التالية: «هناك رأيت الذي رأسُه
مبدأُ الأيام. كان رأسُه مشتعلاً بياضًا مثل
الصوف، ومعه كائنٌ آخر له مظهر الإنسان،
ووجهُه ممتلئٌ نعمةً كملاكٍ قدوس. فسألت
الملاك أن يكشف لي سرَّ ابن الإنسان: مَن هو،
ومن أين أتى، ولماذا يرافق مبدأ الأيام. فقال
لي: "هو ابن الإنسان الممتلئ بالخير، الذي
به يحيا الخير، وتنكشف الكنوز الخبيئة، لأن
ربَّ الأرواح قد اختاره. قَدَرُه خيرٌ كلُّه
أمام ربِّ الأرواح إلى الأبد. إن ابن الإنسان
الذي رأيت سيخلع الملوكَ والجبابرةَ
والأقوياءَ عن عروشهم لأنهم لم يُسبِّحوا
بحمده، ولم يمجِّدوه، ولم يعترفوا بمصدرِ
مُلْكِهِم وسلطانهم. سوف يخلع قلوب الأقوياء،
ويكسر أسنان الخطأة، ويخفض وجوه العُتاة،
فيمرِّغها بالعار، ليجعل الظلمةَ مسكنَهم
والديدانَ سريرَهُم، هناك يضطجعون ولا
يقومون."»[1] *** لقد
جاءت هذه التأملات في فترة شهدت ازدهار
الأفكار المسيحانية المهدية، حيث راح الناسُ
يترقبون ظهور المخلِّص، وفي هوس جمعي يرصدون
علامات اليوم الأخير، خصوصًا في فلسطين التي
تغذَّتْ أكثر من غيرها بفكرة "المسيح
المنتظَر"، وذلك بتأثير الأفكار
الزرادشتية، من جهة، والأفكار التوراتية، من
جهة أخرى، على الرغم من أن أهلها لم يكونوا
يهودًا في معظمهم. في هذا المناخ النفسي
والفكري جاءت ولادةُ يسوع وحياتُه القصيرةُ
العاصفة بين العام 6 ق م وحوالى العام 30 بعد
الميلاد. "يسوع
ابن الإنسان"، رسم غير مؤرَّخ لجبران خليل
جبران (متحف
تلفير للفن، سافانا) من المهم، فيما يتعلَّق
بفهمنا لسيرة يسوع وتعاليمه، أن نميِّز في
النصِّ الإنجيلي بين ما قاله يسوع نفسُه وما
قاله الآخرون عنه. فمؤلِّف إنجيل لوقا يروي
لنا في قصة الميلاد أن الله قد أرسل الملاك
جبرائيل ليبشِّر السيدة مريم بمولد يسوع.
فلما رأتْه مريم خافت واضطربت، فقال لها
جبرائيل: «"لا تخافي يا مريم، فقد نلتِ نعمة
عند الله. وها أنت ستحبلين وتلدين ابنًا
وتسمِّينه يسوع. هذا يكون عظيمًا، وابن
العليِّ يُدعى، ويعطيه الربُّ الإله كرسي
داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب أبد الدهر،
ولا يكون لمُلْكه نهاية." فقالت مريم
للملاك: "كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً؟"
فأجابها الملاك وقال لها: "الروح القدس
يحلُّ عليك وقوة العليِّ تُظِلُّك. فلذلك،
القدوسُ المولودُ منك يُدعى ابن الله."» (لوقا
1: 26-35) في هذا المقطع عددٌ من الألقاب
المعزوَّة إلى يسوع، التي تتطابق مع ما
وَرَدَ في نبوءات العهد القديم عن المخلِّص
القادم: فهو "ابن داود"، وهو "ملك
إسرائيل"، وهو "ابن الله"، وهو المسيح
الذي يحكم إلى آخر الدهر. ولكن يسوع قد تفادى، إبان
فترة دعوته، الإشارةَ إلى نفسه بأيٍّ من هذه
الألقاب، بينما أطلقها عليه الآخرون، على
الرغم من ممانعته الواضحة لها وتهرُّبه منها.
فعندما رأى الناس معجزاتِه تداعوا إلى تنصيبه
ملكًا، ولكنه توارى عن الأنظار وانصرف إلى
الجبل وحده (يوحنا 6: 15). وعندما قال له أحد
تلامذته، وهو نثنائيل: «رابِّي، أنت ابن
الله، أنت ملك إسرائيل»، لم يجبْه بما يوحي
بقبوله للَّقب، وإنما صرف أذهان تلامذته إلى
اللقب الذي كان يفضِّله – وهو "ابن الإنسان"
– حين أجاب: «الحقَّ الحقَّ أقول لكم: من الآن
ترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون
وينزلون على ابن الإنسان.» (يوحنا 1: 49-51) وعند
شفائه للممسوسين كانت الشياطين تخرج منهم وهي
تصرخ وتقول: «"أنت المسيح ابن الله!"،
فكان ينتهرها ولا يدعها تتكلَّم» (لوقا 4: 41).
وعندما قال له بطرس: «أنت المسيح ابن الله
الحي»، أوصى تلامذته ألا يخبروا أحدًا بأنه
المسيح، ثم راح يحدثهم عن ابن الإنسان وعن
مهمته في هذا العالم وعن قدومه الثاني في آخر
الزمان، قائلاً: «فإن ابن الإنسان سوف يأتي في
مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذٍ يجازي كلَّ
واحد حسب عمله.» (متى 16: 13-28) وفي رواية لوقا
للحادثة نفسها نجد يسوع أكثر حدة فيما يتعلق
بتفاديه لقبَ المسيح وتحويل أنظار تلامذته
إلى مفهوم "ابن الإنسان": «فقال لهم: "وأنتم
مَن تقولون إني أنا؟" فأجاب بطرس وقال له:
"مسيح الله." فانتهرهم كي لا يقولوا لأحد
عنه»، وابتدأ يعلِّمهم أن «ابن الإنسان ينبغي
أن يتألم كثيرًا، ويُرفَض من الشيوخ ورؤساء
الكهنة والكتبة ويُقتَل، وبعد ثلاثة أيام
يقوم.» (لوقا 9: 20-22) وفيما يتعلق بلقب "ابن
داود"، فقد أعلن يسوع صراحة أن المسيح ليس
من سلالة داود عندما قال لجماعة من
الصادوقيين: «كيف يقولون إن المسيح هو ابن
داود، وداود نفسه يقول في كتاب المزامير: "قال
الرب لربِّي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك
موطئًا لقدميك"؟ فإذا كان داود يدعوه ربًّا
فكيف يكون ابنه؟» (لوقا 20: 41-44) لقد كان تفادي يسوع لهذه
الألقاب نابعًا من تداعياتها السياسية لدى
أهل مقاطعة اليهودية والجماعات اليهودية
القليلة الموزعة في فلسطين. وبدلاً منها فقد
فضَّل يسوع أن يطلق على نفسه لقب "ابن
الإنسان"، الذي يحمل مضامين لاهوتية لا صلة
لها بالهموم السياسية والنزعات القومية. وقد
أعلن في أول تبشير علني له عن فحوى رسالته،
عندما دخل المجمع في مدينة الناصرة. نقرأ في
إنجيل لوقا 4: 18: «وجاء إلى الناصرة حيث نشأ،
ودخل المجمع يوم السبت على عادته، وقام ليقرأ.
فدُفِعَ إليه سِفْرُ إشعيا النبي. ولما فتح
السِّفر وجد الموضع الذي كان مكتوبًا فيه: "روح
الربِّ عليَّ لأنه مسحني لأبشِّر المساكين،
وأرسلني لأشفي منكسري القلوب، لأنادي
للمأسورين بالإطلاق وللعُمْي بالبصر، وأرسل
المنسحقين في الحرية، وأكرُز بسَنَة الربِّ
المقبولة." ثم طوى السفر وسلَّمه للخادم
وجلس، وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم
شاخصة إليه، فابتدأ يقول لهم: "اليوم قد
تمَّ هذا المكتوب في مسامعكم."» كما أوضح يسوع لتلامذته
تدريجيًّا مفهومَه الخاص عن ملكوت الله،
وميَّزه بحدَّة عن ملكوت يهوه الذي كان
اليهود يتطلَّعون إليه. فملكوت يسوع هو ملكوت روحاني،
يشمل الأمم والشعوب قاطبة، ورابطةٌ تجمع
المؤمنين بعضهم إلى بعض وإلى خالقهم، بعد
عصور الظلام التي باعدتْ فيما بينهم. إنه عصر
تتم فيه معرفةُ الآب، أبي البشر أجمعين الذي
لم يعرفه اليهود قط. قال يسوع لليهود: «"أنا
هو الشاهد لنفسي، ويشهد لي الآب الذي أرسلني."
فقالوا له: "أين هو أبوك؟" أجاب يسوع: "لستم
تعرفونني أنا ولا أبي. لو عرفتموني لعرفتم أبي
أيضًا."» (يوحنا 8: 18-19) وقال لهم أيضًا: «"أنا
أتكلَّم بما رأيت عند أبي، وأنتم تعملون بما
سمعتم عند أبيكم [...]." فقالوا له: "[...] لنا
أب واحد وهو الله." فقال لهم يسوع: "[...]
أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن
تعملوا [...]. الذي من الله يسمع كلام الله. لذلك
أنتم لستم تسمعون لأنكم لستم من الله."» (يوحنا
8: 38-47) مع ظهور يسوع الذي افتتح
ملكوت السماوات يَعقِد الله صلحًا مع البشرية
ويمدُّ لها يد الخلاص من الخطيئة الأولى ومن
الموت ومن سلطان إبليس، أمير الظلام، الذي
كان سيد هذا العالم قبل البشارة، ويعقد معها
عهدًا جديدًا هو عهد الله مع الإنسانية،
يحلُّ محلَّ العهد القديم الذي كان عهد يهوه
مع بني إسرائيل. فالملكوت حاضر، هنا
والآن، بعد ظهور المخلِّص وموته الطوعي فداءً
عن البشرية الخاطئة؛ ولسوف يستمر بعد ذلك
ردحًا من الزمن يكفي لتنقية العالم من عناصر
الشر، وحرمان الشيطان مما تبقى له من سلطة.
عند ذاك سيعود ابن الإنسان، في قدومه الثاني،
على غمام المجد في اليوم الأخير الذي يشهد
دمار العالم القديم، فيجلس على عرش مجده
ليميز الأشرار من الصالحين، فيفتح بوابة
النعيم لأهل اليمين ويفتح بوابة الجحيم لأهل
اليسار. نقرأ في متى 24: 29-30: «بعد ضيق تلك
الأيام، تُظلِم الشمس، والقمر لا يرسل ضوءه،
والنجوم تتساقط من السماوات، وقوات السماوات
تتزعزع. حينئذٍ تظهر علامةُ ابن الإنسان في
السماء [...]. فيرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت،
فيجمعون مختاريه من الرياح الأربعة [...].» وفي
متى 25: 31-34: «ومتى جاء ابن الإنسان في مجده،
وجميعُ الملائكة القديسين معه، فحينئذٍ يجلس
على كرسي مجده، ويجتمع أمامه جميع الشعوب،
فيميز بينهم كما يميز الراعي الخراف من
الجداء. فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن
اليسار. ثم يقول الملك للذين عن يمينه: "تعالوا،
يا مباركي أبي، لترثوا الملكوت المُعَدَّ لكم
منذ إنشاء العالم [...]." ثم يقول للذين عن
اليسار: "اذهبوا عني، يا ملاعين، إلى النار
الأبدية المعدة لإبليس وملائكته [...]."» ويسوع، بإعلانه لإنجيل
الملكوت، قد افتتح نظامًا دينيًّا جديدًا.
فالشريعة التوراتية تنتهي ويبطل مفعولُها مع
البشارة الجديدة، وسلسلة أنبياء العهد
القديم تتوقف عند يوحنا المعمدان. ففي قول
يسوع المشهور: «أريد رحمة لا ذبيحة» (متى 9: 13)
تقويضٌ لمؤسَّسة القربان التوراتي، وإعلانٌ
لبطلان الطقوس التوراتية، وتأسيسٌ لطقوس
تقوم على القلب، لا على الدم. لقد حمل اليهود
نير الشريعة بسبب غلاظة قلوبهم؛ أما المؤمنون
الجدد فيحملون نير المسيح، وهو هيِّن وخفيف،
على ما يقوله يسوع في إنجيل متى 11: 28-30: «تعالوا
إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال،
وأنا أريحكم. احملوا نيري عليكم وتعلَّموا
مني [...]، لأن نيري هيِّن وحملي خفيف.» وهو يصف
شريعة العهد الجديد بالخمرة الجديدة التي لا
يجوز أن تُصَبَّ في جرار قديمة هي شريعة العهد
القديم، لئلا تفسد الخمر وتتشقق الجرار (متى 9:
17). هذه الشريعة الجديدة قوامها المحبة. قال
يسوع في جوابه لفريسي سأله عن الوصية العظمى
في الناموس: «"تحبُ الربَّ إلهك من كلِّ
قلبك ومن كلِّ نفسك ومن كلِّ فكرك." هذه
الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلُها: "تحب
قريبك كحبِّك لنفسك."» (متى 22: 35). وقال أيضًا:
«وصية جديدة أنا أعطيكم: أن تحبوا بعضكم بعضًا.»
(يوحنا 13: 34) هذا الرَّجَحان للأخلاق على
الطقوس يتجلَّى، في أوضح صوره، في هزئه من
طقوس الطهارة الشكلية التي تشكِّل لباب
الشريعة القديمة. فعندما ثار الفريسيون لأنهم
رأوا تلاميذ يسوع يأكلون بأيدٍ غير نظيفة قال
لهم: «ليس شيء من خارج الإنسان إذا دخل فيه
يقدر أن ينجِّسه. لكن الأشياء التي تخرج منه
هي التي تنجس الإنسان [...]. لأنه من الداخل، من
قلوب الناس، تخرج الأفكار الشريرة [...].» (مرقس
7: 15-23) ومع هذه الشريعة الجديدة،
يتجاوز يسوع موسى، ولا يبقى للهيكل اليهودي
ما يسوِّغ استمرارَه. وهذا ما أعلنه صراحة
عندما سألتْه المرأة السامرية، وقد اعتقدت
أنه نبي يهودي: «"آباؤنا سجدوا في هذا
الجبل، وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضعَ
الذي يجب أن يُسجَدَ فيه." فقال لها يسوع:
"يا امرأة، صدِّقيني، إنه تأتي ساعة لا في
هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب. أنتم
تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لما
نعلم."» ثم أوضح لها أن الخلاص لا يتم قبل
التخلُّص من اليهود، عندما أردف قائلاً: «لأن
الخلاص هو من اليهود. ولكن تأتي ساعةٌ – وهي
حاضرة الآن – حين الساجدون الحقيقيون يسجدون
للآب بالروح والحق [...].» (يوحنا 4: 19-23) في مشهد المحاكمة التي قادت
إلى موت يسوع، أعلن يسوع عن نفسه كملك ومسيح
وابن لله. فهو الملك، ولكن مملكته ليست أرضية،
بل روحانية، على ما وَرَدَ في إنجيل
يوحنا، عندما سأله الوالي الروماني بيلاطس: «هل
أنت ملك اليهود؟»، فأجابه يسوع: «"مملكتي
ليست من هذا العالم. لو كانت مملكتي من هذا
العالم لكان خدَّامي يجاهدون لكي لا أُسْلَمَ
إلى اليهود." فقال له بيلاطس: "أفأنت إذن
ملك؟" أجاب يسوع: "أنت تقول إني ملك. لهذا
قد ولدت أنا، ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد
للحق."» (يوحنا 18: 33-37) وهو المسيح، ولكنه ليس
المسيح اليهودي، بل "ابن الإنسان" الذي
افتتح ملكوت الخلاص والغفران، الذي سيظهر مرة
أخرى في نهاية الأزمان، لا لتخليص شعب
إسرائيل، بل للفصل النهائي بين الخير والشر.
ففي إنجيل متى سأله رئيس الكهنة: «"أستحلفك
بالله الحي لتقولنَّ لنا هل أنت المسيح ابن
الله؟" فقال له يسوع: "هو ما تقول. وأنا
أقول لكم: سترون بعد اليوم ابن الإنسان جالسًا
عن يمين القدير وآتيًا على غمام السماء."»
(26: 63-64) نلاحظ في هذا المقطع من إنجيل متى كيف
أكد يسوع، لآخر مرة، على الصلة الوثيقة بين
لقب المسيح "ابن الله" ولقب "ابن
الإنسان" بمعانيه التي أفصح عنها سِفْرُ
دانيال وعددٌ من الأسفار التوراتية غير
القانونية. فالمسيح ليس "ابنًا لله"
بالمعنى التوالدي للكلمة، وليس من طبيعته
ذاتها، ولا معادلاً له في القِدَم، بل هو
تجسيد في الزمن والتاريخ لحقيقة سالفة ونموذج
قائم في عالم المُثُل. لقد كان عند الله كفكرة
تنتظر التحقق. وعندما حملت العذراء بيسوع من
غير أب بشري، تجسَّدت الفكرةُ في إنسان هو "ابنٌ
لله"، مثل سائر البشر، ولكنه ابنٌ مميز
لأنه لم يولد من روح إنسانية، بل من روح الله
مباشرة، على حدِّ قول الآية الكريمة: «ومريم
ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفحنا فيه من
روحنا» (التحريم 12). وعلى حدِّ تعبير إنجيل متى
1: 18: «لما كانت مريم مخطوبة ليوسف قبل أن
يجتمعا، وُجِدَتْ حُبلى من الروح القدس.» ولكي أقرِّب مفهومَ "ابن
الله" كما استخدمتْه الأناجيل إلى الذهنية
الإسلامية، فإني ألجأ إلى مقارنة مفهوم ابن
الإنسان بمفهوم "الحقيقة المحمدية" في
الفكر الصوفي الإسلامي، ومرادفه الآخر: "الإنسان
الكامل". فالنبي محمد (ص) هو تحقُّق في الزمن
والتاريخ لحقيقة سابقة على وجود الإنسانية،
وتجسيد في التاريخ لشخصية تقع في مركز الوسط
بين عالم المثال وعالم الواقع. مثل هذه
الأفكار يجد سندًا قويًّا له في عدد من
الأحاديث التي يشير النبي فيها بوضوح إلى أن
وجوده التاريخي لم يكن إلا بَلْوَرَةً لفكرة
قديمة؛ ومنها قوله لأحد الصحابة: «أولُ ما
خَلَقَ الله نور نبيِّك يا جابر»، وقولُه
أيضًا: «كنتُ نبيًّا وآدمُ بين الماء والطين.»
والحديث الثاني يذكِّرنا بقول يسوع: «الحقَّ
الحقَّ أقول لكم: قبل أن يكون إبراهيم أنا
كائن.» (يوحنا 8: 58). وهذا ما يقودنا إلى مفهوم
المسيح في القرآن الكريم. *** يُدعى
يسوع في القرآن الكريم بالاسم عيسى.
والكلمة، على ما نرجِّح، قد جاءت من الاسم
التوراتي يِشو–وا، المختصرة عن يهو–شوا،
وتعني "خلاص الرب". وقد جرى لفظ الاسم
بالآرامية، التي كانت لغة فلسطين، بصيغة يشوع،
التي تحوَّلت في الأناجيل اليونانية إلى إيسوس
Iisous
أو إيسو، بحذف حرف السين الذي
يلحق أسماء العَلَم الإغريقية. ومنها جاء
الاسم "عيسى" في العربية والاسم Jesus
في اللغات الأوروبية، الذي يضاف إليه عادة
لقبُ المسيح Christ،
فيقولون: Jesus Christ،
أي "يسوع المسيح". وكلمة Christ
في اللغات الأوروبية مأخوذة من الكلمة
اليونانية Χριστος،
خريستوس؛ وهي التي استخدمتْها الترجمة
اليونانية للتوراة، المعروفة باسم "الترجمة
السبعينية" Septuagint،
كمقابل للكلمة العبرية مشيح. يتصل لقبُ المسيح بعيسى
عليه السلام في آيات الكتاب الكريم. فقد
وَرَدَ الاسم عيسى مقرونًا بالمسيح إحدى عشرة
مرة، وذلك كقوله تعالى: «إنما المسيح عيسى ابن
مريم رسولُ الله وكلمتُه ألقاها إلى مريم
وروحٌ منه» (النساء 171). كما وردت الإشارة إلى
عيسى باسمه المجرَّد، كقوله تعالى: «يا عيسى
إني متوفِّيك ورافعك إليَّ ومطهِّرك من الذين
كفروا» (آل عمران 55)، أو مضافًا إلى "ابن
مريم"، كقوله تعالى: «وآتينا عيسى ابن مريم
البيِّنات وأيَّدناه بروح القدس» (البقرة 253).
أو بـ"ابن مريم" فقط، كقوله: «ولما
ضُرِبَ ابنُ مريم مثلاً إذا قومُك منه
يصدُّون» (الزخرف 57). وقد ناب لقبُ "المسيح"
مرة واحدة عن الاسم، وذلك في الآية 172 من سورة
النساء: «لن يستنكف المسيح أن يكون عبدًا لله
ولا الملائكة المقربون». لا تفيدنا آياتُ الكتاب في
معرفة معنى كلمة "المسيح". وبما أننا لا
نجد في العربية جذرًا للكلمة سوى الفعل
الثلاثي مسح الذي يفيد، كما في الآرامية
والعبرية، معنى اللمس والتمسيد الرفيق
بالكف، فقد ذَهَبَ معظم المفسِّرين إلى القول
بأن لقب المسيح قد جاء من قيام عيسى بشفاء
المرضى بلمسة يده. ولكننا نرجِّح أن يكون
اللقب القرآني ذا صلة بالمعنى التوراتي
والإنجيلي. فإذا كان المَسْحُ بالزيت دلالةً
رمزيةً على مباركة الله للملك أو الكاهن أو
النبي، فإن هذا المعنى متضمَّن في الآية
الكريمة التي يقول عيسى فيها: «إني عبد الله
آتاني الكتاب وجعلني نبيًّا وجعلني مبارَكًا»
(مريم 30-31). وإذا كان المسْح بالزيت دلالة
رمزية على اختيار الله للممسوح، وتفضيله
واصطفائه على الناس طُرا، فإن هذا المعنى
متضمَّن في الآية الكريمة: «إن الله اصطفى آدم
ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين» (آل
عمران 33). وإذا كان المسح أيضًا يدل على حلول
روح الربِّ على الممسوح ووقوفه إلى جانبه عبر
مراحل حياته، فإن هذا المعنى متضمَّن في قوله:
«وآتينا عيسى البيِّنات وأيَّدناه بروح
القدس» (البقرة 253). وأيضًا: «وإذ قال الله يا
عيسى ابن مريم اذكرْ نعمتي عليك وعلى والدتك
إذ أيَّدتُك بروح القدس» (المائدة 110). وكما كان ليسوع المسيح في
الرواية الإنجيلية ظهوران: ظهور في التاريخ،
وظهورٌ ثانٍ في آخر الأزمان، يُفتتَح معه
اليومُ الآخر ونهايةُ التاريخ، كذلك هو الأمر
بالنسبة لعيسى في الرواية القرآنية. فقد ظهر
عيسى أولاً كرسول ونبي، ثم نجَّاه ربُّه من
الصلب وأجاز عنه كأسَ الموت، فرَفَعَه إليه
في انتظار اليوم الأخير الذي يُفتتَح بعودة
عيسى كعلامة أساسية من علامات الساعة. نقرأ في
سورة النساء 156-158: «وما قتلوه وما صلبوه ولكن
شُبِّه لهم [...] وما قتلوه يقينًا بل رَفَعَه
الله إليه وكان الله عزيزًا حكيمًا. وإن من
أهل الكتاب إلا ليؤمننَّ به قبل موته ويوم
القيامة يكون عليهم شهيدًا». ونقرأ في سورة
الزخرف 57-61: «ولما ضُرِبَ ابن مريم مثلاً إذا
قومك منه يصدُّون وقالوا أآلهتنا خير أم هو؟
ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خَصِمون. إن
هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني
إسرائيل. [...] وإنه لَعِلْمٌ للساعة فلا
تمترُنَّ بها واتبعونِ هذا صراط مستقيم». هذه الإشارات الموجزة عن
دور عيسى في آخر الزمن لا تقترن في الكتاب
بمزيد من التفاصيل. ولكن الحديث الشريف قد
توسَّع وأفاض في مسألة القدوم الثاني لعيسى؛
ومنه نورد نتفًا هي غيض من فيض. فقد روى مسلم: «لا
تقوم الساعة حتى تروا عشرَ آيات: طلوع الشمس
من مغربها، والدخان، والدابَّة التي تكلِّم
الناس، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى عليه
السلام، إلخ.» وعلى ما نفهم من عدد آخر من
الأحاديث فإن القدوم الثاني للمسيح عيسى ابن
مريم يسبقه ظهور "المسيح الدجال" الذي
يأتي من بلاد المشرق، فيدَّعي الصلاح، ثم
يدَّعي النبوة، ويقول إنه المسيح، ثم يدَّعي
الألوهية، ويُجري معجزات عظيمة، منها إحياء
الموتى وإسقاط المطر بإشارته، فيتبعه
المنافقون والمرتابون، وينجو من حيله
المؤمنون. بعد ذلك يبعث الله عيسى ابن مريم،
فينزل عند المنارة البيضاء في دمشق، واضعًا
كفَّيه على أجنحة ملاكين. إذا طأطأ رأسه قطر
وإن لم يصبه بلل، وإذا رفعه تحدَّر منه لؤلؤ
كالجمان، فينفخ على الكفار فيبيدهم. ونفختُه
النارية هذه تصل أينما تلفَّت إلى حيث ينتهي
بصره. بعد ذلك يحكم عيسى البشر بالعدل
والقسطاس، وتدخل الأرض في حالة فردوسية ردحًا
من الزمن ينتفي فيه الشر من الوجود، فتضع
الحرب أوزارها، وتتحول السيوف إلى مناجل،
وتتلاشى العلل والأمراض، ويحرس الذئب الغنم
فلا يضرُّها، ويراعي الأسدُ البقرَ فلا
يضرُّها، ويلعب الصبيُّ بالثعبان فلا يضرُّه.
بعد ذلك يموت عيسى، ويصلِّي عليه المسلمون،
ثم تموت كلُّ نفس حية وتعود إلى بارئها. هذا
الوصف للحالة الفردوسية التي تسود في نهاية
التاريخ يشبه وصف ملكوت الربِّ في المصادر
الكتابية. نقرأ في سفر إشعيا عن مسيح آخر
الأزمنة وافتتاحه للملكوت ما يلي: «ويحلُّ
عليه روحُ الرب [...]. ولذته تكون في مخافة
الربِّ، فلا يقضي بحسب نظر عينيه، ولا يحكمُ
بحسب سمع أذنيه، بل يقضي بالعدل للمساكين
ويحكمُ بالإنصاف لبائسي الأرض، ويضربُ الأرض
بقضيب فمه ويُميت المنافق بنفخة شفتيه [...].
فيسكن الذئب مع الخروف، ويربضُ النمر مع
الجدي، والعجلُ والشبل والمُسَمَّن معًا،
وصبيٌّ صغير يسوقها، والبقرة والدابة
ترعيان، تربض أولادُهما معًا، والأسد يأكل
تبنًا كالبقر، ويلعب الرضيع على سَرَب
الصِّلِّ ويمدُّ الفطيم يده على حجر الأفعوان.»
(إشعيا 11: 1-8) *** في
ضوء ما تقدَّم ذكُره، نخلص إلى النتائج
التالية بخصوص النقاط المشتركة بين المصادر
الثلاثة حول مفهوم المسيح: 1.
المسيح
شخصية إنسانية ذات طبيعة فائقة، يحلُّ عليها
روحُ الله، ويرفعها إلى مرتبة وسطى بين
العوالم الدنيوية والعوالم القدسية. 2.
يلعب
المسيح دورًا أساسيًّا ومركزيًّا في نهاية
الزمن وأحداث اليوم الأخير. 3.
يطلق
النصُّ التوراتي والنصُّ الإنجيلي على
المسيح مجازًا لقبَ "ابن الله" للتعبير
عن مكانته الفذة والمميزة. وبشكل خاص، فإن
القراءة المباشرة للنصِّ الإنجيلي، بعيدًا
عن التأويلات اللاهوتية،[2]
تضعنا أمام صورة شعرية، لا أمام دوغما دينية
فيما يتعلق بلقب "ابن الله". لقد استعملت
الأناجيلُ اللقبَ كوسيلة للإفصاح عن أهمية
يسوع بالنسبة للعالم. فهو المثال الأعلى
للعلاقة الأكمل بين الإنسان والله، وهو الذي
وجد أتباعُه أنفسَهم من خلاله في حضرة الله،
ووجدوا معنى الله في حياتهم، لأنه أكثر البشر
إحساسًا بوجود الآب، وأكثرهم إخلاصًا في
طاعته والاستسلام لمشيئته. أما النص القرآني
فيعبِّر، من ناحيته، عن مكانة عيسى الفذة
والفريدة عند الله من خلال ألقاب وأوصاف
متعددة. فهو "كلمة الله"، وهو "من روح
الله"، وهو "قول الحق"، و"رحمة"،
و"شاهد"، و"وجيه"، و"آية"، و"مبارك"،
وما إلى ذلك من الألقاب التي تجعله أكثر
الجميع قربًا من الله، وتستدعي استدعاءً
خفيًّا مضامينَ لقب "ابن الله" في
الأناجيل، بعيدًا عن شكل هذا اللقب الذي
تفاداه النصُّ القرآني في غمار مكافحة
العقيدة القرآنية التوحيدية للعقائد
التعددية لأهل الجزيرة العربية في ذلك الوقت. أخيرًا، إن خير ما اخترتُ أن
أختتم به هذه الدراسة العاجلة كلماتٌ عبَّر
فيها المهاتما غاندي عن موقفه من يسوع، أقتطف
لكم بعضها: -
«لقد
أعطتْني الأناجيلُ الراحةَ والفرحَ غير
المحدود.» -
«إن
مثال يسوع يشكِّل عاملاً أساسيًّا في إيماني
الذي لا يموت بمبدأ اللاعنف.» -
«إن يسوع عندي هو
واحد من كبار المعلِّمين الذين عرفتْهم
الإنسانية. وعلى الرغم من أن أتباعه يرون فيه
ابنًا لله، إلا أن قبولي بهذه العقيدة أو
رفضها لا يجعل ليسوع تأثيرًا أكثر أو أقلَّ
على حياتي، ولا يقرِّبني من رؤية العظمة في
تعاليمه ومذهبه أو يمنعها عنِّي. إني أرى في
حياة يسوع مفتاحَ قُربه من الله. لقد عبَّر،
كما لم يستطع أحدٌ غيره، عن روح الله وإرادته.
بهذا المعنى، ومن هذا المنظور، أراه وأتعرَّف
إليه كابنٍ لله.» ***
*** *** [1]
J.H. Charlesworth, ed., The Old Testament Pseudoepigrapha, p. 13 ff. [2]
أنا هنا لا أقلِّل من قيمة
التأويلات اللاهوتية بالنسبة للإيمان
المسيحي، لأن لها من المشروعية ما لا يمكن
للقراءة المباشرة أن تفصح عنه؛ وكلاهما يجد
له سندًا قويًّا من النص.
|
|
|