|
موجة
غبطة المنعتق الحي تقديم
النص عُرِف
شنكرا، المولود في جنوب الهند في القرن
الثامن للميلاد من أبوين من البراهمة، باسم
شنكراتشاريا Shankarāchārya،
أي "المعلِّم شنكرا". إذ سرعان ما ظهرت
عليه منذ الصغر علامات النجابة، من قدرات
عقلية رفيعة وتضلُّع في المسائل الروحية
والمذهبية المختلفة. كان همُّه الأول هو
النهوض بتأليف شامل بين مختلف ألوان طيف
المذاهب الهندوسية، فلسفيِّها وإلهيِّها، في
منهاج واحد متساوق، قائم على الميتافيزياء
الصرف. ولقد كان سُنِّيَّ الرأي في تمسُّكه
بالـفيدا، غير أنه سعى إلى إبراز التوافق
في ظاهر التناقض بين تعاليمها بالتركيز على
الأجزاء الختامية للـفيدا، ألا وهي الـأوبنشاد.[1] نَسَبَ
شنكرا تأسيسَ الـفيدنتا إلى الحكيم
بادَرايَنا Bādarāyana (400 م) الذي شكَّلت
تصانيفُه أهم الثيمات التي عرض لها شنكرا
لاحقًا. وعلى الرغم من زَعْم هذا الأخير بأنه
مجرد شارح للـفيدنتا فقد كان، بلا أدنى
ريب، من أكابر "العارفين بالله" الذين
أنجبتْهم الهند. وقد ساح طويلاً في طول البلاد
وعرضها، مؤسِّسًا "زوايا" رهبانية ashrama عديدة، ومدبجًا
المقالات في الـفيدنتا "اللاثنوي" advaita.
كان، على قصر عمره، عاملاً دؤوبًا لا يعرف
الكلل، وديالكتيكيًّا بارعًا لا يُجارى. ولما
حضرتْه الوفاة كانت منزلتُه قد توطدتْ
توطُّدًا قويًّا وصارت نظرياتُه في
الإلهيَّات (= الميتافيزياء) من أشد العقائد
تأثيرًا في مذهب أهل الباطن الهندوس، بما
مهَّد الطريق لبناء قاعدة راسخة لتجديدات
فقهية أصيلة وللقيام بإصلاحات عميقة طالت
مختلف مناحي الحياة.
استمدَّ
شنكرا العناصر الأساسية لنظرياته من نقاط
مختارة من الـأوبنشاد، فأعمل فيها عقله،
مستنبطًا وشارحًا، سندُه الحاسم في ذلك
خبرتُه الروحية المباشرة. فالنصوص في نظر
شنكرا، على سعتها وكثافتها، مشبعة بتعليم
باطني يشدِّد على أن للذات أو الهوية الحقة
(آتما ātmā، أو "الروح") لكلِّ
إنسان علاقة نوعية وجوهرية مع روح كلِّية
سرمدية هي آتمن ātman؛
وهذه تدعى في المطلق برهمن Brahman. يقول: "برهمن وجود
دائم، نقي، منير، طليق، بكلِّ شيء عليم، وعلى
كلِّ شيء قدير." وهو مصدر الظواهر
والتجلِّيات في الوجود ومآبها جميعًا. لهذه
الإلهيات وجهان على جانب كبير من الأهمية: بما
أن برهمن وحده حق وقيوم، فإن كلَّ
الموجودات المتعيِّنة والمتناهية في العوالم
الأربعة "وهمية" وإلى زوال. ولكن بما أن
هذه الموجودات، بما هي صور عابرة، هي في
صميمها تجلِّيات لـبرهمن فإن لـ"الوهم"
نفسه قيمة أونطولوجية موجبة. يشار إلى "الوهم"
في الهندوسية بكلمة مايا māyā – وهو مصطلح
يشير كذلك إلى قدرة الوهم على حجب الحق بما
ليس له وجود بذاته، بل يستمد وجوده من وجود
الحق (= برهمن). وإلى هذا مردُّ تسمية
عقيدة شنكرا بـأدْفـَيـْتا – "اللاثنوية"
(وهو اسم آخر للتوحيد الميتافيزيائي) – من حيث
إنها لا تألو جهدًا في إرجاع كلِّ الظواهر
إلى مبدأ أصلي دينامي مبدع.
لا
يدرك الإنسان بحواسه إلا المظاهر الوهمية
الخادعة للحق الأسمى. وهذه المعرفة المحدودة،
المقيَّدة والمقيِّدة، هي، بالمعنى الوجودي،
"جهل" (أفِديا avidyā، "لامعرفة") لأنها
غير متسقة مع ما يتعالى عن الظاهرات
المتجلِّية في الزمان والمكان، ويشتمل عليها
كافة، ويتخلَّلها في الوقت نفسه. يتمثل هذا
"الجهل" في عدم التمييز، بالكشف
العقلي، بين الروح المتعالي من جهة وبين
تجلِّياته الطارئة من جهة أخرى. وذلك هو "اللبس"
الذي هو "أصل كلِّ شر"، على حدِّ قول
شنكرا. غير
أنه تبقى لبعض الأشكال المحددة، ضمن الإطار
"الأدنى" والطارئ للوجود، قدسية خاصة
ذات صفة دائمة: الـفيدا، شعائر العبادة
النقلية ومناسكها، ناموس كرما karma، نظام المراتب
الاجتماعي، إلخ. فثمة "خواص جوهرية" guna
للنظام الكوني، أو "صفات" تعيِّنه.[2]
فلئن صحَّ قولنا إن برهمن، بما هو الوجود
المطلق والحق الأسمى، متعالٍ عن هذه
التعيُّنات وهو "بلا خواص" (نيرغونا nirguna)
يصح أيضًا أنه ينطوي، بالقوة والإمكان، على
الخواص الثانوية لإله شخصي "ذي صفات" (سَغونا
saguna)،
تنبسط عندما يدخل في علاقة مع الكون؛ كما
ينطوي على الـدهرما والشرائع والأخلاق: برهمن
هو مصدر "الأسفار المقدسة والمعارف
كلِّها، ومسؤول عن التمايز إلى آلهة وحيوان
وبشر ومراتب ومراحل حياة". إن
المشاركة رمزيًّا في هذه الأشكال النقلية،
على كونها ثانوية، من خلال مناسك العبادة
ورياضة النفس والسلوك القويم، تهيِّئ الفرد
الذي تفتَّح توقُه الإلهي إلى المعرفة
لاختبار معرفة برهمن المطلق اللامتعيِّن.
وتصير المعرفة في صورتها النقية هذه مصدر
كشف ووعي كلِّيين للوحدة المبدئية بين الروح
الفردية ("الذات" ātmā) وبرهمن – وعي
هو، في الوقت نفسه، "انعتاق في الحياة" (جيفَن
موكتي jīvan-mukti) من مكائد وَهْم العالم
وتحرر من عجلة الولادة والموت (سمسارا samsāra):
"غاية الـأوبنشاد إزالة الوهم ببلوغ
معرفة وحدة الذات [مع برهمن]." قد
تبدو هذه العقيدة الصوفية ناسخة لجميع
الأشكال الأخرى للمنقول الهندوسي،[3]
من حيث إنها تعتبِر التعيُّنات في التجلِّي
الكوني وهميةً برمتها؛ لكن هذه التعيُّنات
تُعتبَر أيضًا في هذه العقيدة مظاهر متعددة
لتجلِّي الذات الإلهية. لذا يشدد شنكرا على
سُنِّية الـفيدا وكلِّ الشرائع
الاجتماعية الهندوسية، لكنه يشرحها في ضوء
إلهيات الـأوبنشاد ويكشف بذلك عن معناها
العميق. ثمة
الكثير في عقيدة شنكرا مما يشي بمؤثرات
بوذية، حتى إن بعض المستشرقين مال إلى
الاعتقاد بأنه كان بوذيًّا في الخفاء إبان
حياته، مارس نوعًا من "التقية". لكن هذا
الرأي مجانب للصواب لأنه لا يأخذ بالحسبان وحدة
المنقولات الروحية في بعدها الباطن،[4]
وبالتالي وحدة التحقُّق بالمبدأ الإلهي
الأعلى، الأمر الذي يستتبع تشابُه
التعبيرات عن هذا التحقق. ثم إن التأليف
المذهبي الشامل الذي نهض به شنكرا كان عاملاً
حاسمًا في إقصاء البوذية من الهند، باعتبارها
فرعًا من فروع باطن الهندوسية لا يصلح منهاج
حياة للجماهير العريضة، بل للنخبة وحدها.
وبذلك وطَّد شنكرا الـدهرما في الهند
وأحياه من جديد.[5] ديمتري
أفييرينوس *** النص موجة
غبطة المنعتق الحي حينما، في المدينة،
يتملَّى لوحة سكانها المبرقشة، رجالاً
ونساءً ذوي أسماء وصور متنوعة، حسني الهندام
ولابسين حليَّ الذهب، مفرِّجًا عن نفسه معهم،
وهو يعي في سريرته أنه الشاهد المحض –
الحكيم، الذي زهق جهلُه بانكشاف طبيعته الحق،
لم يعد ألعوبة الوهم. حينما، في الغابة، ينظر
إلى رؤوس الشجر المحنية تحت ثقل الأوراق
والثمار، ويسمع الزقزقات المختلفة لأسراب
العصافير المختبئة في الفيء الكثيف، لا مقرَّ
له، في الليل كما في النهار، غير فسحة صغيرة
عند جذع شجرة – الحكيم، الذي زهق جهلُه
بانكشاف طبيعته الحق، لم يعد ألعوبة الوهم. حينما يقيم في معبد
يومًا، وفي يوم آخر في قصر منيف، على صخرة
تارة، وعلى ضفة نهر طورًا، أو حين يقاسم أحد
الزهَّاد الوادعين الكبار كوخَه – الحكيم،
الذي زهق جهلُه بانكشاف طبيعته الحق، لم يعد
ألعوبة الوهم. حينما يروِّح عن نفسه
هنا مع أطفال لعوبين يصفقون بأيديهم، وهناك
مع امرأة شابة جميلة، وحين يتكلم مع عجائز
مغتمِّين، أو مع رجال من كلِّ الصنوف –
الحكيم، الذي زهق جهلُه بانكشاف طبيعته الحق،
لم يعد ألعوبة الوهم. حينما يتكلم مع الفقهاء
الذين يتلذذون بما طاب لهم من مُتَع العلم، أو
مع خيرة الشعراء، ممَّن تنطق شفاهُهم عن جوهر
فنِّ الشعر نفسه، وفي أوقات أخرى مع مناطقة
قديرين مأخوذين بالاستنتاج – الحكيم، الذي
زهق جهلُه بانكشاف طبيعته الحق، لم يعد
ألعوبة الوهم.
حينما، بترويض نفسه
الدائب على التأمل، وقلبه فياض، يقيم منسكًا
إلهيًّا بأزهار مناسبة متفتحة وفواحة
العبير، أو بأوراق تامة الطهارة، مبتهج
الذهن، فانيًا في تسبيحه – الحكيم، الذي زهق
جهلُه بانكشاف طبيعته الحق، لم يعد ألعوبة
الوهم. حينما يذكر أسماء تلك
التي تحدب على الكائنات، واسم ذاك الذي
يَهَبُ السكينة، أو اسم ذلك الذي يتخلَّل
كلَّ شيء، أو حين يذكر اسم قائد الجحافل
الإلهية، أو اسم ذاك الذي يُظهِر الكون،
فتغرورق عيناه بدموع الغبطة – الحكيم، الذي
زهق جهلُه بانكشاف طبيعته الحق، لم يعد
ألعوبة الوهم. حينما يتطهر في أمواه
الغانغا، حين يستعمل ماء بئر أو ماء غدير،
أكان هذا الماء باردًا أو فاترًا ولذيذًا، أو
حين يكون جسمه المغطى بالرماد أشبه بالكافور
– الحكيم، الذي زهق جهلُه بانكشاف طبيعته
الحق، لم يعد ألعوبة الوهم. حينما يكون منشغلاً
بأغراض حالة اليقظة وحواسها، حين يحلق في
الحلم ويتمتع بموضوعاته، أو حين يدرك الغبطة
غير المنقطعة للنوم العميق – الحكيم، الذي
زهق جهلُه بانكشاف طبيعته الحق، لم يعد
ألعوبة الوهم. حينما يكون عاريًا، حين
يتسربل بثياب كثياب الآلهة، أو حين يستر
حقويه بجلد حيوان، حليمًا، لا همَّ له،
زارعًا الفرح في قلوب أقربائه – الحكيم، الذي
زهق جهلُه بانكشاف طبيعته الحق، لم يعد
ألعوبة الوهم. حينما يكون راسخًا في سَـتْـفـا،
حين – وهو مابرح مرتاحًا – يكون على تماس مع
طبيعة رَجَـسْ، أو مع طبيعة تَـمَـسْ،
أو حين ينعتق من هذه الخواص الكونية الثلاثة،
نقيًّا أبدًا، مسايرًا تيار الوجود المقيَّد
تارةً، مسرورًا على درب الكشف تارة أخرى –
الحكيم، الذي زهق جهلُه بانكشاف طبيعته الحق،
لم يعد ألعوبة الوهم. حينما يلزم الصمت أو
حين يبدي ميلاً إلى الكلام، حين تجعله غبطةُ
قلبه يقهقه ضاحكًا أو يمسك لسانه، أو حتى حين
يفحص باهتمام عن أمر ما من أمور الدنيا –
الحكيم، الذي زهق جهلُه بانكشاف طبيعته الحق،
لم يعد ألعوبة الوهم. حينما يسكب جرعات من
الخمرة الرقيقة في الأفواه اللوتسية
المتفتحة للـشكتي، أو حين يحتسي منها هو
بفيه نفسه، مبيِّنًا بذلك على أن الـ"لي"
والـ"لك" لا يدنِّسان الطبيعة اللاثنوية
– الحكيم، الذي زهق جهلُه بانكشاف طبيعته
الحق، لم يعد ألعوبة الوهم. حينما يتلذذ بمعاشرة
أتباع شيفا أو قرينته شكتي، حين يقيم بين
ظهراني عِباد فشنو، بين عِباد سوريا، أو
عِباد غنيشا، متخلِّصًا باللاثنوية من كلِّ
ما يجزِّئ – الحكيم، الذي زهق جهلُه بانكشاف
طبيعته الحق، لم يعد ألعوبة الوهم. حينما يدرك الماهية
الخالصة من خلال التنوع الذي لا يُحصَى
للصفات والتعيُّنات، اللابسة صورة حينًا،
والمتجرِّدة من الصور حينًا آخر – هذه الماهية
التي هي عينها ماهيته وماهية شيفا – حينما،
أمام هذه الروعة، يهتف: "ما ذاك؟" –
الحكيم، الذي زهق جهلُه بانكشاف طبيعته الحق،
لم يعد ألعوبة الوهم. حينما يدرك الثنوية
برمَّتها بوصفها الحقيقة أيضًا، بوصفها
صيرورة الوجود، بحسب القول العظيم الذي
أشبعه فهمًا وتأملاً في معانيه العميقة،
حينما – إذ يختفي وَهْم الثنوية غير
الموحَّدة – يذكر بلا توقف: "شيفا! شيفا!
شيفا!" – الحكيم، الذي زهق جهلُه بانكشاف
طبيعته الحق، لم يعد ألعوبة الوهم. ذاك الحكيم ينعم
بالانعتاق بلا انقطاع، راسخًا كلَّ الرسوخ في
حقيقة الوجود العليا، التي بلغها سريعًا
بفضل نظرة الـغورو الرحمانية، كالرحيق،
يغطس مرارًا وتكرارًا في بحيرة الغبطة
الفطرية، كاملاً في مسلكه – هو خيرة بني
البشر: الشاعر يعلنه أمير الزهَّاد،
يوغانيًّا محققًا، نبيًّا حقًّا. *** *** *** ترجمة: ديمتري
أفييرينوس [1]
تنطوي الـأوبنشاد على زبدة
التعاليم الباطنية التي تسمى أيضًا بالـفيدنتا
Vēdanta،
أي "نهاية الـفيدا". وبرأينا، تصح
الترجمة أيضًا بـ"غاية الـفيدا"
باعتبار أن "نهاية" الشيء هي "غايته". [2]
تتصف الهيولى الأولى غير المتمايزة prakriti،
بحسب فلسفة سامكهيا Sāmkhya
الهندية، بثلاث خواص guna:
تَـمَـسْ tamas
التي تشير إلى الكمون والعطالة والظلمة؛
رَجَـسْ rajas
التي تشير إلى التحرُّض والفعالية
والحركة؛ وسَـتْـفَـا sattva
التي تشير إلى الإيقاع والتناغم والسكينة.
على هذا الأساس، تُصنَّف المادة المتعينة
بحسب رجحان نسبة إحدى هذه الخواص الثلاثة
الفاعلة فيها، فتكون "تَمَسية" أو "رَجَسية"
أو "سَتْفية". [3]
الواقع أن دور حكيم من نمط شنكرا
(بخلاف دور البوذا) لا يتمثل في "نسخ"
ما قبله من الأشكال النقلية، بل في "إحيائها".
ودليلنا على ذلك، فيما يختص بشنكرا بالذات،
هو أنه، إلى جانب عقيدته "التوحيدية"
الخالصة، كان كذلك نصيرًا متحمسًا لعبادة
الإله شيفا الذي رفع إليه العديد من
القصائد والصلوات والأدعية؛ الأمر الذي
يعكس الأفق الواسع لحساسيته الصوفية في
جانبها "التعبُّدي" (بهكتي bhakti).
من هنا لا يسعنا إلا أن نشير إلى التوازي
بين دور شنكرا في تجديد الهندوسية وبين دور
محيي الدين بن عربي في "إحياء" الإسلام. [4]
"دين الحكمة" Wisdom
Religion، بحسب السيدة
بلافاتسكي، أو "المنقول القديم" Tradition
Primordiale، بحسب رونيه غينون. [5]
لقد ظهرت البوذية في وقت كان فيه
الـدهرما قد بلغ نهاية حدِّية دنيا،
فكان لا بدَّ من ظهور حكيم من عيار البوذا
للنهوض بالتجديد الروحي انطلاقًا من
الباطن؛ وبذلك مُهِّد الطريق لشنكرا
لإتمام هذا التجديد حتى يشمل الظاهر أيضًا،
انطلاقًا من المنقول الهندوسي نفسه. على
أنه لا مجال للمقارنة، من حيث التحقق
الروحي، بين "النهر" شنكرا و"البحر"
بوذا. |
|
|