|
اليوغا الانعتاق والاتحاد مقدمة طبيعة
الإنسان هي هي في كلِّ زمان ومكان: اقتران
جسم بوعي، هما وجهان للتعبير عن حقيقة
واحدة، متمايزان، لكنْ غير منفصلين. إن كلاً
من هذين الوجهين ينمو ويتطور ويتنوع
تلقائيًّا وعفويًّا، من الميلاد حتى الممات؛
لكن بمستطاع الفرد أن يمسك بزمام هذا التطور
ويوجِّهه. تلك هي إحدى القدرات التي يتميَّز
بها الإنسانُ عن سائر الكائنات الأدنى منه
على سلَّم التطور الأرضي. ويتفرع عن هذا
الواقع نوعان من الثقافة، وُجِدا في سائر
البلدان وجميع العصور، لكنْ بوجود اختلافات
نسبية: فإما أن يُمنَح الجسمُ المزيد من القوة
والمرونة والصلابة، من أجل تحمُّل إرهاق
الصيد والحرب والكفاح اليومي ضد قوى الطبيعة،
وإما
ألا يبقى
الجسم هو هدف الجهود الفردية الأوحد، لأن
للوعي أيضًا متطلباتِه. وبالفعل،
نجد الوعي خاضعًا لنوعين من التأثير: أحدهما الدوافع
المغروسة في الجسم التي يلقي انحرافُها بنا
في أحضان الرغبة والشهوة؛ وثانيهما الأشواق
إلى تجاوُز الوضع الراهن بتبنِّي نظرة جديدة
إلى الوقائع و"اتباع الطُّرُق التي يشير
إليها ذلك الفرحُ المصاحب للمشاركة الواعية
في التطور المبدع"، على حدِّ قول برغسون. إن
الدوافع متأصلة في جميع الكائنات الحية التي
تخضع لمبدأ اللذة؛ وهي التعبيرُ الحي عن
إرثها الطويل، العائد بأصوله إلى مستهل
الحياة على كوكب الأرض. أما الأشواق فهي خاصية
البشر الذين يمتثلون لمبدأ السعادة؛ وهي،
من هذا القبيل، تبشِّر بإمكانات مستقبل مذهل
للوجود الإنساني. إن
أصل هذا التوق وتلك الدوافع ليس في الجسم
منَّا، كما أنه، يقينًا، ليس في البيئة
المحيطة بنا؛ الأمر الذي يدعونا إلى ولوج
مستوى ثالث للوعي، نكون فيه شهودًا فاعلين،
بأفكارنا وبأعمالنا، قادرين على اختيار ما
يتناسب منها مع تحقيق أشواقنا: هذا الوعي هو
ما ندعوه بالـ"وعي الروحي"، الذي أسُّه
انعتاق الوعي من قيود الأنيَّة ego
الشخصية الضيقة واتحاده بالوعي الكلِّي
الشامل. إن انعتاق هذا الوعي الكامن فينا
وتفتُّحه يمثل تطورًا، تحرِّكه المحبة، وحده
من شأنه أن يساعدنا على فهم المغزى من الحياة
بعامة، والمغزى من حياتنا بخاصة. لقد
عرفت المجتمعاتُ البشرية كلُّها، بدون
استثناء – حتى تلك التي ندعوها "بدائية"
– هذه الإمكانية الكامنة في الإنسان،
وطوَّرتْ فنونًا لتحويلها من حكم الوجود
إلى حكم الوجوب، أي مما هي عليه إلى ما يجب
أن تكون عليه. في هذه المقالة المكثفة نتناول
بالدراسة إحدى هذه الطُّرُق: اليوغا. لقد
كثرت الدراسات التي بحثت في اليوغا في الآونة
الأخيرة وتشعَّبتْ مناحيها. لكننا، لما كنَّا
من المنجذبين إلى دين الحكمة، دين
الإنسان الكلِّي الشامل – دين الروح، حيث
لا أنا ولا أنت، بل أنا أنت، وأنت أنا، وكلانا
في الكلِّ وبالكلِّ وللكلِّ – ولما كان
إيماننا الأوحد هو المحبة الإنسانية
الشاملة، ولما كنَّا نرى في اليوغا (من حيث هو
"لب"، لا من حيث هو "قشر") مثالاً
نموذجيًّا للطُّرُق إلى دين الحكمة، فإننا لن
نعمد إلى حَصْرِه، كما فعل أنصارُ المدرسة
التاريخية، في الإطار الضيق للهند وحدها، بل
سوف نُخرِجُه من نطاق العقائد والمراجع
المتعصبة التي تزعم احتكار الحقيقة، ونرى فيه
"فلسفة" حية للروح، قابلة للتطبيق على
مستويات الوعي الإنساني كافة. يجدر
بنا هاهنا، وقد أتينا على ذكر كلمة "حكمة"،
أن نتحدث بعض الشيء عن مضمونها، فنقيم موازنة
بين منظورها وبين منظور العلم، في محاولة
للوقوف على وجوه التشابه والاختلاف بينهما. المقصود بالحكمة هو ذلك التراث
الفكري الإنساني الذي تحدَّر إلينا من العهود
الغابرة المتقدِّمة على العصر الفلسفي. وفي
رأي حكماء الحاضر أن الحكمة القديمة اشتملت
على المعرفة الإنسانية بكاملها وفسَّرتْ
الكون والإنسان تفسيرًا شموليًّا وكليًّا.
ويؤكد أولئك الحكماء أن الفلسفة هي تراجُع
لتلك الحكمة التي تجاوزت التفكير العقلي إلى
وضوح الرؤية.[1] أما
العلم فهو، على تقدُّمه المتسارع والخطوات
الحثيثة التي خطاها في سبيل المعرفة والتي لا
يمكن إنكارها، ما يزال بعيدًا عن الحقيقة في
جوهرها، ويتلمس قشرتها بدون أن يسبر منها
اللب؛ ولا بدَّ له، إن شاء التوصل إلى تفسير
نهائي للكون، من الإحاطة بجميع الظاهرات التي
يحفل بها الوجود. ولما كانت تلك الظاهرات
لانهائية من حيث التعدد والتشعب والتشابك،
وكان العلم وحده أعجز من أن يرى الكلَّ في
الظاهرة أو الواقعة، فإن الحكمة لا تحاول
إيجاد التفسير النهائي في الظاهرات الخاضعة
للتحول وللتبدل، بل تفتش بالأحرى عن "ثبات"
يشاهد الوعي الإنساني من خلاله أبعاد موضوع
المعرفة كلَّها ضمن وحدة كلِّية متماسكة.[2] تقوم
الحكمة، إذن، على مبدأ أساسي هو وحدة الحياة،
أو "وحدة الوجود" (ابن عربي). فالحياة
واحدة، على الرغم من تعدد تجلِّياتها،
والوجود واحد على الرغم من تكثُّره، والمطلق
والكون والإنسان كلٌّ متَّحد في الجوهر. أما
الإنسان، فهو، على تعقيد بنيانه الباطن،
تعبير حيٌّ عن هذه الوحدة، وإليه أُسنِد دورُ
استيعائها عبر كشف جَوَّاني عميق مباشر. لقد
أبَتِ الحكمة مسايرة بعض الفلاسفة والعلماء
في تأليه الفكر، أو في تأليه الدماغ
البشري، بوصفه مقرًّا مزعومًا لهذا الفكر، بل
آثرت، بالأحرى، توجيه طاقات الفكر والقوى
الكامنة في الدماغ – القاعدة المادية للفكر
– نحو بلوغ هذا "الكشف" عن الوحدة
المبطِّنة للكثرة والتنوع. الحكمة
غير مقيدة بالجزء لأنها تتخطَّى الأجزاء إلى
الكل؛ لا بل وترى في الجزء صورة مصغرة عن الكل.
فأصغر ما في الكون لا يُعتبَر – في عرف الحكمة
– جزءًا، بل "بؤرة" يتركز فيها الكل.
العلم بالجزئيات وحدها، كما ترى الحكمة، قد
يزجُّ بنا في متاهة الوجود العظيمة، فنعجز عن
رؤية التعدد في الوحدة، الكثير في الواحد. أما
النظرة الكلاَّنية holistic
– وهي نظرة لا تتم إلا بتحرر الوعي من قيوده،
كما سنرى – فإنها تشير إلى نقل الأجزاء من
حيِّز التعقيد والتشعب والتشابك إلى عالم
الوحدة والتماسك، وتؤكد أنها ليست، على
تعددها الظاهر، غير صور متعددة لحقيقة واحدة
أزلية–أبدية. لقد
حار الإنسان طويلاً في أمر ظاهرة الوجود،
فحاول أن يتلمَّس طريقه في متاهة الفكر،
عاجزًا عن الغوص في بحر التنوع والكثرة
الطبيعيين ليبصر فيه الوحدة.[3]
ولقد أدت الثنوية التي كرَّسها الفكر،
نتيجة تجاهُله للوحدة المبطِّنة للكثرة
وللتنوع، إلى حَفْرِ هوة عميقة بينه وبين
الطبيعة؛ الأمر الذي نجم عنه اغترابُ الإنسان
عن الكرة الأرضية التي يحيا عليها، فاعتبر
غاية وجوده السيطرة على الطبيعة بإذلالها
وإخضاعها، لا بالانسجام مع قوانينها
والامتداد فيها[4]؛
بتفجير المادة، لا بتوجيه طاقاتها لخير
الإنسان؛ بتسخير الحيوان وقتله قتلاً قاسيًا
لا يخلو من وحشية، لا بمحبته والتآلف معه؛
بالعنف والشر، لا بالمسالمة والخير. هذا ولم
يكتفِ الإنسان بإخضاع الطبيعة والحيوان،
فاشتهى أيضًا أن يُخضِع إخوته في الإنسانية
لأهوائه ونزواته، لأطماعه وعنجهيته، فتفاقمت
المأساة وازدادت الغربة! ولقد جلبت هذه
الغربة على الإنسان كوارث شتى، فجعل – وقد
نسي أنه لا يُجنى من الشوك عنبٌ – يلعن الوجود
ويتهم النظام الكوني بالظلم والتجبُّر، "يؤمن"
تارة، و"يلحد" طورًا. كذا
تقوم الحكمة على رَدْمِ الهوة التي حفرها
الإنسان بيديه بينه وبين نفسه، بينه وبين
الطبيعة والكون، وبينه وبين أخيه الإنسان،
بما ندعوه "فلسفة الاتحاد": اتحاد
الإنسان مع نفسه في إطار مصالحة
جَوَّانية عميقة مع الذات؛ اتحاده مع الكون
في إطار الحياة؛ واتحاده مع أخيه الإنسان
في إطار محبة كونية شاملة. اليوغا والاتحاد يُعَدُّ
الحديث الذي سُقناه مقدمةً لهذا البحث
ضروريًّا قبل أية محاولة لفهم فلسفة اليوغا
كمنهج من مناهج الحكمة. ولما كانت كلمة يوغا
yoga
ذاتها ما تزال – في حدود علمنا – غامضة في
أذهان الكثيرين فسوف نبدأ بالتعريف بها: يوغا
كلمة مشتقة من الجذر السنسكريتي يوغ yug
الذي يعني "اقتران الشيء بالشيء" أو "الاتحاد".
وهي، من حيث مضمونها، تشير، على مستوى أول،
إلى تحقيق مصالحة جَوَّانية عميقة في النفس
بين الدوافع الدنيا للإنسان وأشواقه العليا.
فاليوغاني yogi
(المتحقق باليوغا)، قبل كلِّ شيء، هو الإنسان
المتَّحد مع نفسه أو "المتوحِّد" في ذاته[5]؛
كما أنها تشير، على مستوى ثانٍ، إلى تحقيق
الاتحاد مع المطلق الحاضر في الوجود،
بقطبيه المحسوس وغير المحسوس. قد
يبدو لنا، للوهلة الأولى، أن التعريف على
المستوى الثاني صحيح من وجهة نظر الحكمة كما
بسطناها أعلاه. فالإنسان الذي شقَّ صدعًا
بينه وبين الحضور الإلهي يتوق إلى تحقيق
الاتحاد مع هذا الحضور. بيد أن إمعان النظر
سرعان ما يكشف لنا الغلط الذي ينطوي عليه هذا
التعريف، من حيث إنه لا يأخذ بعين الاعتبار
أنه ما من شيء أو كائن في الطبيعة إلا
والمبدأ الإلهي مبطون فيه، لأن هذا المبدأ،
في بساطة، "كلِّي الحضور" Omnipresent،
أي حاضر في كلِّ شيء! كذا يجب على القائل بمبدأ
الوجود الواحد ألا ينظر إلى اليوغا باعتباره
وسيلة للتوحيد بينه وبين الطبيعة والكون عبر
الوعي، بل منهج يقوده إلى "وعي" الوحدة
القائمة أصلاً والمبطِّنة للكثرة
وللتنوع. فلسفة
اليوغا، إذن، فلسفة اللاثنوية non-duality:
فالمرئي والمدرَك غير منفصلين عن اللامرئي
وغير المدرَك. ويشدد اليوغانيون، في هذا
الصدد، أن جميع الشرور والآلام التي ترزح
البشرية تحت نيرها متأصِّلة الجذور في جهل
هذه الحقيقة – ونعني جهل الإنسان لجوهر
الحياة الواحدة السارية في الكون. لكن سؤالاً
يطرح ذاته بإلحاح: كيف للإنسان أن يعي هذا
الجوهر، فيخطو من الجهل إلى المعرفة فالوعي[6]؟ يجيب
المتسرِّع على الفور: بالفكر! لكن إمعان النظر
في هذا السؤال يقودنا إلى أن الفكر لا يسعه
أن يعي من الوجود سوى الكثرة والتنوع
الظاهريين، وليس له أبدًا أن تنكشف له
الوحدةُ لكي يعمل على تحقيقها. وتجدر الإشارة
هنا إلى أن الكثرة والتنوع ليسا وهمًا، كما
يؤكد بَـتَـنْـجَلي، كبير أساتذة الـراجا
يوغا والمنظِّرين له؛ إنهما ماثلان في صُلب
الظاهرات في الكون. لكن المأساة تبدأ عندما
يتوهم الفكر أن العناصر المشكِّلة للكثرة
وللتنوع مستقل بعضها عن بعض ولا رابط أو لحمة
تجمع فيما بينها. هاك مقطع اقتطفناه من "أوبنشاد
قطرة الكوثر" (أمرتابِندو أوبنشاد)
يبيِّن دور الفكر في الوقوع في شباك الوهم: 1. الذهن،
ولا شيء سواه، هو
العلَّة المباشرة لعبودية
البشر ولحريتهم
أيضًا! فعندما
يتعلق بخيرات
هذا العالم يقود
إلى العبودية؛ أما
إذا انعتق من هذا التعلق فهو
يقود إلى الحرية. 2. فمن
أجل التوق إلى الانعتاق على
الذهن أن يتحرر من قيود الرغبة في
خيرات هذه الدنيا؛ وينبغي
على مريد الانعتاق أن
يقطع أولاً القيود
التي تأسر ذهنه. 3. لا
يتم بلوغ الحالة السامية إلا
عندما تتم للذهن، وقد
تحرَّر من كلِّ تعلق، السيادةُ
الداخلية بهدم
كيانه نفسه! ترينا
هذه الأوبنشاد[7] أن الفكر عاجز
– إذا أسأنا استعماله بـ"التعلق بخيرات
هذه الدنيا" – عن تغيير وجهة نظرنا إلى
الكون. فما السبيل حينئذٍ؟ لا يبقى إلا أن
نوقظ فكرنا من سباته، ونحرِّره من القيود
التي نكبِّله بها، فنبصر الوحدة القائمة
فينا، أي الحضور الإلهي في أعماقنا. فمتى
أبصرناه في أنفسنا تمكنَّا من رؤياه في
الكلِّ وفي الجميع وصرنا تجليًّا حيًّا من
تجلِّياته.[8] لكننا
نعاود هنا التساؤل: ما الذي يحول دون تفتحنا
الروحي؟ إنها مايا maya
– تلك "اللعبة الكونية" التي
نشارك فيها دون أن نفهم أصولها؛ مايا: "وهم"
الوجود الذي يرينا الكلَّ منقسمًا إلى
ثنائيات لا حصر لها: كلٌّ وجزء، مطلق ونسبي،
نور وظلمة، إنسان
وحقيقة، إلخ. وهو نتيجة حتمية لطبيعتنا غير
النقية: أدران في الجسم، تنافُر في المشاعر،
اضطراب في الذهن. لكنْ، متى تنقَّى الجسمُ،
وتناغمت المشاعرُ، وخَلُدَ الذهنُ إلى
السكينة، ومتى أدركنا أن كلَّ ما نرى وما لا
نرى في هذا الكون الشاسع إنْ هو إلا رغوة
وفقاعات على سطح بحر الحقيقة الكلِّية،
تجلَّتْ لنا وحدةُ الحياة في كامل ألَقِها. زبدة
القول إن اليوغا، كما سنبحث فيه، لا يرمي إلى
إخراجنا من ذواتنا، أو إلى جعلنا نتجنب
الكثرة والتنوع، بل، بالأحرى، إلى تحقيق غاية
وجودنا: وحدة في الجوهر في تعدد وتنوع
لانهائيين! نظرة إجمالية إلى طُرُق اليوغا طُرُق
اليوغا عديدة، والمناهج والفنون التي
طوَّرها اليوغانيون كثيرة؛ حتى إننا لا
نظنُّنا مخطئين في قولنا إن "طُرُق اليوغا
كنفوس بني آدم"[9]؛
لكنها جميعًا تستهدف غاية واحدة هي تحقيق الاتحاد
– ونعني به: تحقيق الحضور الإلهي في الإنسان؛
الأمر الذي يمكِّنه من اختبار وحدة الوجود
باستغراق الذهن والشعور في الوعي الكوني
الشامل. يقودنا تعدد الطُّرُق إلى طرح
التساؤل التالي: ما علَّة وجود الطُّرُق
العديدة، والغاية واحدة، كما رأينا؟ أليس من
شأن هذا التعدد أن يقود إلى التشتت والتجزؤ؟ على
الرغم من كون الإنسان تجسيدًا حقيقيًّا
للوحدة فهو كائن مركَّب في غاية التعقيد.
وهذا التعقيد هو الذي يستدعي تعدُّد
مدارس اليوغا. لا يوجد في الحقيقة إلا يوغا
واحد؛ لكن التعقيد والتشابك اللذين يتصف
بهما الإنسان، في جسمه وعواطفه وذهنه،
أوْجَدا عدة أبعاد يعمل اليوغا من خلالها.
لكننا، إذا تذكَّرنا ما لخضوع الجسم
لتلقائيته وحدها من أثر وخيم على اتزان
المشاعر وهدوء الذهن، وما للانفعالات من
طغيان على الذهن وأثر سلبي على الوظائف
الحيوية للجسم، وما لاضطراب الذهن وتشوُّشه
من بلبلة للمشاعر وإخلال بتناسق أجهزة البدن،
أدركنا عجزنا عن فصل طُرُق اليوغا بعضها عن
بعض؛ فهي تتكامل جميعًا في وحدة الكيان
الإنساني.[10]
نكتفي هاهنا بلمحة خاطفة عن أهمِّ طُرُق
اليوغا: 1.
اليوغا الذي ينطلق من الجسم
يُدعى هاتها يوغا hatha-yoga؛
وهو يرتبط مباشرة بالجسم: بالعناية به وبصحته
وبالمحافظة على تناسق وظائفه الحيوية، من أجل
تحرير الطاقة الكامنة فيه ليكون أداة طيِّعة
بيد الوعي. إنه يشتمل، بالدرجة الأولى، على
التمارين والرياضات الجسمانية التي تهدف إلى
التركيز على الجسد وتخليصه من التلقائية التي
تتصف بها المادة، وصولاً إلى هدوئه التام
والسيطرة عليه.[11] يؤكد
بعضهم أن الجسد مقاومة سالبة تعيق التطور
الروحي للإنسان. لكننا، من جانبنا، نميل إلى
الاعتقاد بأن هذا لا ينطبق إلا على الإنسان
الذي لا يعي من وجوده إلا المستوى المادي فقط،
مهملاً بذلك وجود مستويات أخرى عقلية وروحية.
أما الإنسان الذي يرى في الوجود المادي حقلاً
لتطبيق المثالية وهيكلاً لعبادة المطلق،
فليس الجسد مقاومة سالبة أمام تطوره الروحي،
بقدر ما هو الرحم التي تشهد الولادة الروحية
الجديدة. الجسد، إذن، من أدوات الخلاص بقدر
ما هو من أسباب العبودية. 2.
اليوغا الذي ينطلق من
المشاعر يدعى بهكتي يوغا bhakti-yoga.
وهو يقوم على المحبة:
محبة المطلق ومحبة العالم. إنه إلفة المحبة
والعبادة الحارَّة والخدمة والتضحية
الدائمة، التي توجِّه مشاعر الإنسان نحو
المطلق، فتطهِّرها وتزيل منها كلَّ صفة شخصية
أنانية. إن محبة الإنسان من محبة المطلق
للإنسان، ومحبة المطلق تفتح قلب الإنسان
على المحبة الكلِّية في الوجود، فيرى الـبهكتا
– وهو كلُّ إنسان مُحِبٍّ – المطلقَ في كلِّ
شيء وفي دخيلة نفسه. 3.
ينطلق غنانا يوغا gnana-yoga
(غنا = يعرف) من الذهن ليرفعه إلى مرتبة العقل،
مرتبة الحكمة والمعرفة.[12]
يناسب هذا اليوغا الفلاسفة والمفكرين، من حيث
إنه ينطلق من موضوعة فلسفية واحدة هي حقيقة
المطلق في الإنسان (إيشفرا)، وبذلك يطرح
مباشرة كافة الأسئلة الأولية التي تلخِّص
الوجود وغايته: من أنا؟ من أين أتيت؟ كيف
وُجِدت ولماذا؟ إلى أين أمضي؟ ومن هنا يقوم
على اكتناه المبادئ الكونية المنبثقة عن
المبدأ الأسمى.[13]
وثمة ركيزتان أساسيتان ترتكز عليهما حقيقة
المطلق: -
الأولى، هي أن كلَّ ما نرى
وما لا نرى ليس إلا فيضًا من المطلق وصدورًا
عنه وتجليًا له على مراتب الوجود الكبرى. ولما
كان يتعذَّر على الذهن البشري تصوُّرُ حقيقة
المطلق، لا بدَّ لِمَن يريد تحقيق المطلق من تخطِّي
مرتبة الذهن. -
الثانية، هي اتصاف المطلق
بثلاث صفات: أ. القدرة الكلِّية؛ ب. المعرفة
الكلِّية؛ ج. الحضور الكلِّي. وبما
الإنسان أكمل تجلٍّ للمطلق على مرتبة الوجود
الأرضية فإن المطلق يكشف عن ذاته للإنسان
متجليًا في صور ثلاث: المادة، الطاقة، الوعي.
وتتمثل صفة الحضور الكلِّي في المادة،
وصفة القدرة الكلِّية في الطاقة، وصفة
المعرفة الكلِّية في الوعي. ولما كان
الإنسان يجمع في ذاته هذه الصفات في صورها
الثلاث فإن غنانا يوغا يشدِّد على
التنقيب عن المطلق في الباطن، وليس في الظاهر.
فالإنسان الضائع في متاهة الوجود يتعذَّر
عليه إدراكُ المطلق ما لم يستشعر نورَه يشعُّ
في داخله.[14] ينطلق
غنانا يوغا من موضوعة "المطلق كائن"،
فينزِّه المطلق عن نسبية الوجود، وبذلك
يجرِّده من كلِّ علَّة؛ فيكون المطلق،
بالتالي، "العلة التي لا علَّة لها". لكن
المطلق ليس متساميًا ومفارِقًا transcendent
وحسب، لكنه محايث immanent
أيضًا. فالإنسان، كما تقدَّم، تجلٍّ للمطلق
وتركيز له في بؤرة كونية. لذا ينبغي عليه أن
يدرك أن كلَّ شيء ينبض بالحياة وبالطاقة
وبالفكر. ومتى تحقَّق له ذلك، لن تبقى الحياة
في نظره مجرد بناء نظري؛ فيسمو حينئذٍ، من
خلال صفة المحايثة، إلى وعي الاتحاد بالمطلق
الذي يتجاوز الزمان والمكان. هكذا
تكون كينونة الكائن الأسمى–المطلق هي
الركيزة الأولى في فلسفة اليوغا.[15]
وتتجلَّى فعالية المطلق في مظاهر ثلاثة: أ. سَتْ
Sat،
أو الكينونة الكلِّية؛ ب. تشيت Chit،
أو وعي الكينونة؛ ج. آنندا Ananda،
أو الغبطة الإلهية. وقد عبَّرتْ فلسفة سمكهيا
عن تكوين الوجود من خلال التوازن بين هذه
الخواص الثلاث التي يتحد بعضُها ببعض لتشكيل
العالم، الذي ينجم تنوُّعه عن اختلاف
النِّسَبِ بين هذه الخواص في امتزاجها. أما
"أنيَّة" الإنسان – وهي التجلِّي
الإنساني للأنيَّة الإلهية الأولى التي
أوْجَدَتِ الكون – فتمر في تطورها بأشواط
تجلِّي الكون ذاتها، حيث ينتج كلُّ شوط عن
سابقه من جراء اضطراب التوازن بين الخواص
الثلاث. ويُعبَّر عن هذه الخواص كما يلي: أ. تَمَسْ
tamas،
وتشير إلى العطالة والظلمة وكلِّ ما يغشي
بصيرة الإنسان عن رؤيا المطلق؛ ب. رَجَسْ rajas،
وتشير إلى الطاقة والفعالية والحركة؛ ج. سَتْفا
sattva،
وتشير إلى النور الخالص والسكينة، إلى
الإيقاع والتناغم والتوازن، وإلى انفتاح
الذهن على حقيقة المطلق. وتمثل هذه الخاصية
الثالثة في الإنسان شوط يقظة الوعي وتجاوُز
الأنيَّة الفردية.[16] 4.
كرما يوغا karma-yoga:
كلمة كرما مشتقة من الجذر السنسكريتي كْرِ،
وتعني "الفعل". وتشير هذه الكلمة إلى
الفعل أو "معلول الفعل". وكرما، على
مستوى الإنسان، يعني العمل المرتبط بكياننا
كلِّه. فقد يتم العمل على المستوى المادي، لكن
دوافعه ونتائجه تكمن على مستويي المشاعر
والذهن وتظهر فيهما أيضًا.[17]
الفعل نتاج للفكر؛ لذا يكون معلول الأفعال هو
معلول الأفكار. ويقوم كرما، أي "قانون
السببية الكوني"، على العلَّة والمعلول
معًا، ويعلِّل مسألة الثواب والعقاب، كما
يُعتبَر قاعدة تفسير "العَوْد للتجسُّد"
أو التقمُّص reincarnation.[18]
أما الانعتاق، موكتي mukti،
فلا يتم، وفقًا لهذا اليوغا، إلا بالعمل
السليم؛ لذا يشدِّد أساتذة هذا اليوغا على العمل
السليم ويعبِّرون عنه بالحقائق الثلاث
الآتية: أ.
العمل
هو حركة الكون، أو الكون في حركة. فكلُّ ما
في الكون يعمل، من أصغر قُسَيْم في الذرة إلى
أكبر جُرْم سماوي. وبما أن الإنسان لا ينفصل
عن الكون ويشكِّل وإياه كلاً واحدًا لا
يتجزأ، فإنه لا يشذُّ عن هذه القاعدة، ويجب
عليه، بالتالي، أن يؤدي عمله أداءً سليمًا
لكي ينسجم مع حركة الكون. ب.
تشير
الحقيقة الأولى التي يتصف بها العملُ السليم
إلى أن العمل يختلف عن المهنة: المهنة
تشير إلى المعيشة، إلى الكسب المادي؛
بينما يشير العمل إلى الحياة، إلى الغنى
الروحي. ت.
يُستنتَج
من الحقيقة الثانية أن من واجب المرء أن
يعمل من أجل العمل وحده، بصرف النظر عن
الثمار التي تعود عليه. فثمرة العمل
الوحيدة هي الغبطة التي تملأ وجدان
الإنسان العامل. وحتى هذه الغبطة، يجب على
المرء ألا يتعلَّق بها أو يتوقعها؛ وبهذا
تصير جميع أعماله مكرَّسة لخدمة المطلق وخدمة
الإنسان – صورة المطلق – فيتناغم مع نظام
الوجود. مفتاح
العمل السليم، إذن، هو التجرُّد أو اللاتعلق
detachment.
وباللاتعلق ينجز المرء الـدهرما الخاص به
swadharma،
أي "واجبه". ويُعتبَر الإنجازُ الكامل
للواجب الذي نتحمله من أعمارنا الماضية شرطًا
أساسيًّا للانعتاق وتحقيق الاتحاد. فيما يلي
مقتطَف من البْـهَـغَـفَدغيتا (كتاب يوغا
العمل بامتياز)، فيه يعلِّم الأفاتارا (=
التنزُّل الإلهي) كرشنا تلميذَه أرجونا روحَ
العمل السليم: لا يبلغ المرءُ التحررَ من العمل (ذروة
طريق العمل) بدون الانخراط في العمل، ولا هو
يبلغ الكمال (ذروة طريق المعرفة) بمجرد الزهد
في العمل./ حقًّا ما من أحد يستطيع أن يبقى
قاعدًا عن العمل حتى هنيهة واحدة؛ كلُّ أحد
مشدود إلى العمل حتمًا بخصائص هي من فطرته./
ومَن يلجم ظاهرًا أعضاء الحسِّ والعمل، إنما
يجلس ذهنيًّا، متشهِّيًا موضوعات الحواس –
هذا المرء ذو العقل المخدوع يُدعى منافقًا./
بيد أن مَن يضبط بالذهن أعضاءَ الحسِّ
والعمل، أيا أرجونا، ويبقى غير متعلِّق، يقوم
بيوغا العمل عبر هذه الأعضاء، ويتقن عمله./
لذا أدِّ الواجب المنوط بك؛ فالعمل أرقى من
القعود عنه. بالعزوف عن العمل لا تستطيع حتى
أن تقوم بأود جسمك./ فالمرء لا يقع في حبائل كرما
إلا عندما ينخرط في أعمالٍ غير العمل من أجل
التضحية. لذا، أيا أرجونا، قُمْ بواجبك على
خير وجه، حرًّا من التعلُّق، من أجل التضحية
وحدها.[19] 5.
نصل أخيرًا إلى الـراجا
يوغا raja-yoga،
أو اليوغا "المَلَكي"، الذي لا يشير
اسمُه إلى تفوُّقه على بقية طُرُق اليوغا
بقدر ما يشير إلى أن الذهن "سلطان"
الحواس الخمس وسيِّدها. وبالفعل فإن الـراجا
يوغا يستهدف إيقاظ الوعي على مستوى الكيان[20]
مباشرة بتحرير المبدأ الذهني الأرفع Supramental
(المصطلح لشري أوروبندو) من ربقة الأنيَّة
الفردية. هذا اليوغا يُدعى أيضًا أشتنغا
يوغا ashtanga-yoga،
أو "يوغا الأذرُع (= الأشواط) الثمانية"،
ويشتمل، كما صاغه الأستاذ بتنجلي، على ثمانية
أشواط، تُعتبَر الخمسة الأولى منها بمثابة
التوطئة للأشواط الثلاثة الأخيرة، التي
تُعتبَر، بدورها، المستويات الثلاثة
المتسامية للتأمل.[21]
تضم الأشواط الثمانية مرحلتين ابتدائيتين،
تُعنيان بالسلوك الأخلاقي، وهما:[22] أ.
ياما yama،
أو النواهي؛ وهي تتضمن خمس قواعد مسلكية ناهية
عن أفعال معينة بغرض ضبط النفس، ألا وهي: 1.
اللاعنف؛ 2. الانتهاء عن الكذب؛ 3. الانتهاء عن
السرقة؛ 4. الكف عن الفاحشة؛ 5. اللاتعلُّق. ب. نياما
niyama،
أو الأوامر؛ وهي تشتمل على خمس قواعد آمرة،
تُعتبَر مبادئ للسلوك القويم، هي: 1. النظافة؛
2. القناعة؛ 3. التقشف؛ 4. محاسبة النفس؛ 5.
مراقبة الله. يليهما
شوطان نفسجسميان هما: ت. آسنا
asana،
أو الأوضاع البدنية: ثمة 84 وضعية بدنية
وصفها أساتذة اليوغا، الغاية منها الإسراع في
تطوير السيرورات النفسجسمية وتنميتها
للمساعدة على تفتح الطاقة الكامنة أسفل
العامود الفقري والملتفة على ذاتها على هيئة
الأفعى كونداليني kundalini.[23] ث. براناياما
pranayama،
أو ضبط التنفس؛ والغاية منه توقيع
التنفس، الأمر الذي يؤدي إلى سيلان إيقاعي
للـبرانا prana،
طاقة الحياة، وإلى تيسير تركيز الذهن. وتأتي
أخيرًا أربعة أشواط نفسذهنية هي: ج.
برتياهارا
pratyahara،
أو انسحاب الحواس من موضوعاتها. يُشبَّه
هذا الانسحاب بالسلحفاة عندما تسحب أطرافها
إلى داخل بيتها. ويصل اليوغاني بهذه الرياضة
إلى التحكم التام بحواسه، بحيث يمكن له أن
ينفصل تمامًا عن عالم الخارج ليستغرق
تدريجيًّا في عالم الداخل. ح.
دهارَنا
dharana،
أو التركيز الذهني على نقطة واحدة؛ وهو
أول مراحل التأمل التي تتوقف فيها تقلبات
الوعي الذهني، فيبقى موضوعُ التأمل وحده
ماثلاً في الذهن. خ.
دهيانا
dhyana،
أو التأمل؛ وفيه يستحضر الذهنُ كلَّ
الأفكار المتعلقة بموضوع محدَّد ويؤلِّف
فيما بينها. د.
سمادهي samadhi،
أو الاستغراق: هو الكشف الروحي الذي
تصير فيه الذات المتأمِّلة واحدة مع موضوع
تأملها. فإذا كان المطلق هو موضوع التأمل فإن
الكشف أو "المشاهدة" contemplation
يعني الاتحاد بالروح مع المطلق. يعتبر أساتذة
اليوغا هذا الكشف غاية سُؤْلهم والغبطة
العليا. وللـسمادهي درجات لا مجال هاهنا
للتوسع فيها[24]؛
بيد أن التأمل، كونه عماد اليوغا، يستحق منا
وقفة خاصة. من
أجل توضيح مفهوم التأمل بالمعنى اليوغي
للكلمة نقتبس هذا التشبيه من أوبنشاد كاتها:
إنها تقدم صورة مَرْكَبة (تمثِّل الجسم
البشري) تجرُّها جيادٌ جامحة (الحواس) يعجز
الحوذي (الذهن) عن كبح جماحها وتوجيهها. أما
الروح (أتمن atman)
القابعة في المركبة فهي تتألم في صمت. يشير
اليوغا، في هذا الصدد، إلى منهج تأملي يسمح
للحوذي–الذهن بكبح جماح الجياد–الحواس حتى
يتمكَّن من إيقاف المركبة، بحيث تقدر الروح
أن تنزل منها، أي
أن تغادر الجسم نهائيًّا بعد أن تنتهي الحاجة
إليه. يبدأ
التأمل بالتركيز، أولاً، على الجسم حتى يتمَّ
للمتأمل ضبطُ دوافعه وتوجيهُها وِجْهتها
الطبيعية؛ الأمر الذي يساعده على التحكم
بمشاعره وعواطفه وضبطها. وينتقل الذهن
بالتأمل إلى التركيز على المشاعر والعواطف
ذاتها لتنقيتها من كلِّ شائبة، فتتَّزن
وتتناغم، ولا تتناقض مع الذهن، بل تنسجم معه
وتتكامل. ثم يصل الذهن بالتأمل إلى ذاته في
محاولة لتخطِّي ذاته والاتحاد بالعقل
الكلِّي الساري في الوجود بأسره في استغراق
تام. ويصرِّح بتنجلي، أستاذ اليوغا الكبير،
في اليوغا سوترا ("حِكَم اليوغا"):
"اليوغا هو إبطال تقلُّبات الذهن." قد
تبدو لنا هذه العبارة غامضة أول الأمر؛ لكن
الغموض ينقشع إذا تذكَّرنا استحالة وعي وحدة
الوجود من خلال ذهن مضطرب مشوَّش.[25]
تخطِّي الذهن نحو ما يعلو عليه هو، إذن، الشرط
اللازم والكافي للمشاهدة الروحية أو الكشف
العقلي، الذي يُعتبَر بمثابة التتويج لجهود
طالب الـراجا يوغا. ولعلنا بالآيات
التالية، التي استقيناها من أوبنشاد كاتها
وأوبنشاد مَيْتري (بعد أن غيَّرنا في
ترتيبها) تلخيصًا لهذه الطريقة اليوغية،
نكتفي منها بهذا المقدار: 14. عندما
يتم للمرء التحررُ من الرغبات المعشِّشة في
قلبه كلِّها يصير
الفاني خالدًا. 13. ذلك
هو اليوغا، ألا
وهو السيطرة التامة على الحواس. عندئذٍ
يزول تشويش المرء. اليوغا
هو حقًّا البداية والنهاية. 10. عندما
تتوقف الحواسُ الخمس وتتوقف
معرفةُ الذهن وتخلد
الفطنةُ إلى السكون – ذلك
هو الطريق الأسمى. (أوبنشاد
كاتها) 34. سمسارا[26]
هو فكرة الشخص ذاتها. ينبغي
عليه أن ينقِّيَها من غير كلل. المرء
يصير ما يفكِّر فيه – ذلكم
هو السرُّ الأبدي. بسكينة
الفكر يهدم
المرء الأفكار الشريرة والخيِّرة. بذات
رصينة، متَّكلة على الروح، ينعم
المرء بغبطة دائمة! لو
أن المرء ركَّز فكره على برهمن تركيزًا
شديدًا لتحرَّر
من العبودية والقيد! عندما
نُبْطِلُ حركة الذهن ونحرِّره
من الأسى والكسل، وعندما
نصل إلى حالة غير ذهنية – تلك
هي الحقيقة السامية! (أوبنشاد
مَيْتري) بعد
ذلك كلِّه يتَّضح لنا كيف تسعى مدارس اليوغا
التي عرجنا عليها جميعًا إلى الغاية نفسها: أ.
الـهاتها يوغا، بفضل
تركيزه على الجسم، يقود إلى سكون الذهن على
نحو غير مباشر. بيد أننا ننوِّه هنا إلى أن تأثير
الذهن الناضج على الجسم أكبر بكثير من تأثير
الجسم عليه؛ فالـهاتها يوغا ليس غاية
في حدِّ ذاته بقدر ما هو وسيلة تمهِّد لسكون
الذهن. ب.
المحبة توق وشعور عميق
بالوحدة الكلِّية. فمن خلال محبتنا للمطلق،
التي تجسِّدها ممارستُنا لـبهكتي يوغا،
نتوق إليه ونتَّحد به في السكينة والسلام. ت.
لما كانت الحكمة والمعرفة
هما غايتا غنانا يوغا فإن تأثيره يقع على
صعيد الذهن مباشرة. ث.
الفكر صورة من صور العمل؛
إنه العمل في حقل التصور والتذهُّن. لذا،
كلما كان موضوع الفكر نبيلاً كان العمل الذي
يقوم به ساميًا. فإذا قام الإنسان بتوجيه عمله
الفكري كلِّه نحو المطلق ونحو خدمة الإنسان –
"خليفة" المطلق على الأرض – فإنه يستمد
من سكينة المطلق سكون الذهن. ذلك طريق الـكرما
يوغا. استقطاع ننوِّه
هنا إلى أننا، إذ نقول إن التأمل يحقق سكون
الذهن، لا نعني أن سكون الذهن يتحقق في أثناء
التأمل وحسب: التأمل الحق هو ما يتم في كلِّ
لحظة، ويتحقق في أثناء الحياة اليومية عبر انتباه
يقظ يستهدف علاقاتنا مع الأشياء
والكائنات، ويتخذ موضوعًا له كلَّ ما نرى
ونسمع ونفكر فيه ونقوم به. ولعلنا في العبارات
التالية (التي اقتبسناها عن فكر المرحوم
الفيلسوف روبير لنسن) نوضح المقصود بالتأمل
الحق: أ.
التأمل هو معرفة النفس. ب. التأمل
هو تحقيق صمت فكري من شأنه أن يسمح لنا
باكتشاف مستوى للوعي أرقى من الذهن. ت. التأمل
هو ما يكشف لنا أن الفكر ما هو إلا جملة ذاكرات
حاكتْها الكلمات والصور المدوَّنة في الماضي. ث. التأمل
هو اكتشاف الصلة العميقة التي تشدنا إلى
الكون، وتحرِّرنا من غربتنا ومن عزلتنا ومن
خوفنا من الموت. ج.
التأمل
هو ما يحرِّرنا من قبضة ذاكرات الماضي
وعاداته الآلية ويجعلنا نتناغم مع تجدد
الحاضر في إبداعاته اللانهائية. ح.
التأمل
هو ما يحرِّرنا من أصفاد أنا–نيتنا ويفتح
قلبنا لنطلَّ منه على آفاق داخلية شاسعة لا
تُحَدُّ. خ.
التأمل
هو اكتشاف الحقيقة المبطِّنة للمظاهر
الكثيرة. د.
التأمل هو ما يكشف لنا
المعنى العميق للمحبة الكونية وللوعي الكوني. ذ.
وأخيرًا، التأمل هو النسمة
الحلوة التي تلفح وجهنا عندما نجلس تحت ظلِّ
شجرة، دون أن نفعل شيئًا أو ننتظر شيئًا. بذا
يصير التأمل حياة، وتصبح الحياة غبطة! اليوغا وفلسفة الألم قد
يتساءل بعضهم: كيف للحياة أن تصير غبطة –
والشر والألم يملآن العالم؟! يقودنا هذا
التساؤل مباشرة إلى الحديث عن مفهوم الألم
كما يقترحه اليوغا. عندما
تعترض سبيلَنا مصاعبُ الوجود – ونشير هنا،
تصديقًا لتعليم أستاذنا ندره اليازجي، إلى أن
عالمنا هو "عالم الصعوبة" – نحاول
تخطِّيها بتقصِّي أسبابها في المجتمع الذي
نحيا فيه، في إشراطات طفولتنا، في تصرفاتنا،
في الأعباء الذي نحملها من أعمارنا السابقة،
إلخ.[27]
(كذلك المحلِّل النفسي يحاول أن يجد، لكلِّ
حالة على حدة، المعلولات التي قد تساعده على
إلقاء بصيص ضوء على حالة الإنسان المتألِّم،
لعل ذلك يقوده إلى تشخيص علَّته النفسية
وإعانته على الخروج من محنته.) أما
فلسفة اليوغا فترى أن الألم ظاهرة
متأصِّلة في الطبيعة البشرية،[28]
وتتغلغل جذورُها في الوجود ذاته، بسبب انغلاق
الوعي في المادة.[29]
فمادام الإنسان لم يقف بعد على سيرورة التطور
الروحي تبقى علَّة الألم كامنة فيه، حتى إذا
توفرت له، في صورة مؤقتة، شروطٌ معيشية سهلة.
لذا يركز أساتذة اليوغا على مفهوم الألم، لا
لتخليصنا من آلامنا الحالية وحسب، بل ومن
الألم الكامن فينا أيضًا. وهذا لا يتم لنا
ما لم ندرك جذور الألم. فممَّ ينشأ الألم؟
حتى نتمكَّن من الإجابة على هذا السؤال يجب
علينا أن نتحدث قليلاً عن فلسفة الحرية التي
تقول بها الحكمة. ثمة،
في الوجود، حركة داخلية، ملتفَّة على ذاتها،
تحاول أن تعي ذاتها، لكي تتحرر وتحقق
غائيَّتها المنصوص عليها في بداياتها
الأولى؛ لتعود ثانية وتصير إلى حركة جديدة
تتغلف على ذاتها، لتتحرر مرة أخرى، وهلمجرَّا.
إن هذا ما تدعوه الثيوصوفيا بسيرورة الانغلاق
Involution
والانفتاح Evolution،
أو بفعل التطور.[30] والتطور حرية،
يظهر الوعي فيه من خلال الظاهرات التي
تغلِّفه، فينعتق منها ليعود إلى حالته
البدئية الأصلية. ولما كان الإنسان، كما
رأينا، نموذجًا مختصرًا للكون، وكانت الحركة
التي تجري فيه مقايِسة للحركة التي تجري في
الكون، ففيه يتحقق الانغلاق والانفتاح
مثلما يتحققان في الكون، إنما في تركيز شديد.
فهو، إذن، يسير بحريته نحو تحقيق ذاتها
تحقيقًا تصاعديًّا. وساعة يحقق الغاية التي
من أجلها وُجِدَ، يبلغ كمال حياته الأرضية،
فينعتق من دورات الولادة والموت، ليتابع
تطوره على مراتب أرفع فأرفع. ليس
للإنسان أن يتدخل في فعل التطور؛ كلُّ ما هو
موكل إليه هو أن يعي مسرى التطور هذا. فلفعل
الوعي، في حدِّ ذاته، دورٌ في تسريع التطور
الإنساني؛ لا بل إنه هو فعل التطور على مستوى
الإنسان. التطور الحقيقي يبدأ حين يعي
الإنسان الحركة الكونية التي تتسارع فيه،
ويدرك أنه ساحة تتلاقى فيها جميع التيارات
التطورية في الكون. لا يبقى عليه عندئذٍ سوى
أن يتناغم مع قانون التطور، ليعود بذلك إلى
المبدأ الأول، إلى النظام الكلِّي الذي عنه
انبثق، وبه "يوجد ويحيا ويتحرك" (القديس
الرسول). ينشأ
ألم الإنسان، إذن، عندما يُغفِل الحركةَ
الكونية التي تتسارع فيه. ولما كانت غائيةُ
هذه الحركة، التي تحدَّثنا عنها بإيجاز شديد،
هي حرية الإنسان الحقيقية فإن إغفالَه لها
يرديه في هوَّة الحتمية والجبرية؛ ومن هذه
الحتمية ينشأ الألم. فما هي الأسباب التي تحول
دون الإنسان ووعي تطوره؟ إنها "العلل
العميقة" التي تتسبَّب في شقاء الإنسان
وألمه؛ وهي خمس: الجهل، والأنانية،
والانجذاب، والنفور، والتعلق بالحياة. وفيما
يلي محاولة بسيطة لاستجلاء معانيها. لا
تكفي كلمة "جهل" للتعبير عن معنى العلَّة
العميقة الأولى؛ فالمقصود بالجهل هنا ليس
انتفاء العلم، إنما جهل طبيعتنا الحقيقية.
الجهل، إذن، يعنى نسيان طبيعتنا الإلهية –
النسيان الذي نغرق جميعًا في لجَّته. فحتى
يتمكن الوعي من تحقيق الظاهرة – أية ظاهرة –
ضمن الحركة الداخلية للوجود، يتعيَّن عليه أن
ينغلق على ذاته، ويغلِّف ذاته بالمادة، ويقبل
كلَّ ما يترتب على ذلك من تكثُّر وتنوع. ومع
استمرار ما ندعوه بـ"الهبوط" أو
الانغلاق يغفو الوعي أعمق فأعمق. وإذ يحين
أوانُ استيقاظ الوعي وإفصاحه عن ذاته، ويبدأ
الصعود أو الانفتاح، يكون، بعد إغفاءته
الطويلة تلك، قد "نسي" أصله الإلهي. ذلكم
هو الجهل – العلة العميقة الأولى. ولحظة
بلوغ الوعي المملكةَ الإنسانية يبدأ برعمُ
وعي جديد بالتفتح والإفصاح عما ينطوي عليه،
فيما ندعوه بـ"الأنْسَنَة" humanization
(على حدِّ تعبير تلار دُه شاردان): يبدأ
الإنسان أول أمره بوعي جسمه الكثيف؛ ثم
تتمايز عواطفُه ومشاعرُه، بكلِّ تلاوينها؛
ومن هذه المرحلة ينتقل إلى الوعي على المستوى
الذهني عندما يبدأ بالتفكير.[31]
لكن كلَّ شوط من أشواط تفتح الوعي هذه تترافق
بنسيان شبه تام لطبيعة الإنسان الحقيقية،
الأمر الذي يقود هذا الأخير إلى محاولة إيجاد
حقيقته في كلِّ ما يعيه من ذاته، فيظنُّ، على
التوالي، أن حقيقته تكمن في جسمه، ثم في
عواطفه، ثم في ذهنه.[32]
وتلك هي "الأنانية"، العلة العميقة
الثانية. ليس
المقصود بالأنانية هنا معناها الضيق؛ لذا
نفضل أن نستبدل بها كلمة الـ"أنا" أو
الأنيَّة.[33] والأنيَّة هي
محاولة المرء تعيينَ هويته في كلِّ ما يطاله
وعيُ ذاته. فإذا قلنا إن الإنسان يجهل طبيعته
الإلهية فسوف ينأى، إذن، عن تعيين هويته
فيها، ولن يعيِّنها، بالتالي، إلا في "شخصيته"
الزائلة. ذلكم هو مفهوم الأنانية: تعيين
المرء هويته في شخصيته.[34] ويؤسفنا القول
إن الإنسان، والحال هذه، يهدد الشرارة
الإلهية فيه بالانطفاء لأنه لا يفعل أكثر من
الضياع في شِعاب الشخصية الزائلة. الجهل،
إذن – جهل الإنسان حقيقتَه – هو الذي يوقعه
في شَرَك تعيين هويته في شخصيته المحدودة. ومن
هنا ينمو لديه الإحساسُ بالعزلة؛ فهو، إذ
يعيِّن هوِّيتَه في شخصيته، يحس بها معزولة
عن الشخصيات الأخرى، منفصلة عنها. ومن هذا
الإحساس ينشأ كلٌّ من "الانجذاب" و"النفور"،
وهما العلَّتان العميقتان الثالثة والرابعة،
اللتان تشكلان غالبية قواعد التعامل بين
الناس في غالبية المجتمعات. فكيف ذلك؟ "ينجذب"
المرء إلى الأشياء وإلى الأشخاص الذين
يوفِّرون لِذاته إحساسًا كاذبًا بالأمان
وبالسعادة؛ و"ينفر"، في المقابل، من
كلِّ ما وكلِّ مَن يعود عليه بالخطر
وبالتعاسة. ففي السعادة التي يحاول المرءُ
اقتناصَها، فتفلت منه، وفي التعاسة التي
يحاول اجتنابَها، فلا يستطيع، تكمن جذور
الشقاء والمعاناة البشريين. فالانجذاب
والنفور، بما أنهما لا يولَدان إلا بين عناصر
منفصل بعضها عن بعض، ينشآن عن الأنيَّة:
فحيثما توجد الأنا يوجد بالضرورة الـ"لاأنا"
أو "الآخر"؛ وبالتالي، كلما عزَّز
المرءُ في نفسه نزوع أناه إلى ترسيخ المفاهيم
التي تبني عليها صَرْحَ استمرارها، يكون كلٌّ
من انجذابه ونفوره أشد حدة، فيزداد بذلك "التعلُّق"،
العلَّة العميقة الخامسة. لما
كان المرء يرغب أساسًا في الانقياد
لانجذاباته فإن تعلُّقه بموضوعاتها يزداد.
بيد أن نفوره أيضًا من الأشياء التي يكرهها،
أو لا يميل إليها، يزيد من تعلقه بالأشياء
التي ينجذب إليها ويرتاح إلى وجودها قريبة
منه، ويرسِّخ هذا التعلق.[35]
يتعلق المرء بالأشياء فتستحوذ عليه، وعندما
يُحرَم منها يتألم. وهو، متى حصل على ما
يشتهي، يستزيد منه، فينجذب إليه أكثر؛ فإذا
فَقَدَه ازداد تعلقًا به أكثر وأكثر. من هنا
نتوصل إلى الحقيقة الهامة التي مفادها أن حصول
المرء على الأشياء التي يشتهيها يعادل تمامًا
حرمانه منها! "التعلق
بالحياة" – وهو النتيجة المنطقية اللازمة
عن جهل الإنسان حقيقته – يرافق دومًا انغلاق
الوعي في المادة. وهو ظاهرة نلمسها عند
الغالبية الساحقة من الناس – حتى الذين
يعيشون منهم تحت وطأة شروط قاسية؛ بل حتى
الذين تساءلوا عن القضايا العميقة في الحياة. تلك
هي العلل العميقة الخمس التي تشكِّل حلقة
مغلقة يصعب كَسْرُها: جهلُنا لحقيقتنا يولِّد
نزوع الأنا إلى تكريس المفاهيم التي تختلقها؛
وعن هذا النزوع ينجم كلُّ ما نحس به من انجذاب
ونفور يعزِّزان تعلقاتنا. وفي وسعنا أن نعكس
التسلسل، فنقول إن التعلق يحتِّم وجود
الانجذاب والنفور، اللذين يعزِّزان الإحساس
بالأنا المنفصلة، الذي من شأنه أن يحول بيننا
وبين إدراك حقيقتنا. وهكذا يقع المرء ضحية
حلقة محكمة الاتصال، سلسلة لا تنتهي من العلل
والمعلولات التي توقعنا في شباك الوهم الكوني
– مايا. إن
كلاً منَّا معنيٌّ بالعلل العميقة، وإنِ "ابتسمتْ
له الحياة" بالمعنى المتعارَف عليه. أما
بتنجلي – أستاذ أساتذة اليوغا – فيؤكد (مصدِّقًا
لما قال به البوذا) أن كلَّ ما في الوجود
يعبِّر عن الألم. فحتى السعادة ذاتها تتضمن
نقيضها: الشقاء. إذا
لم نكتفِ بإلقاء نظرة سطحية إلى الأمر،
وأعْمَلْنا بصيرتَنا، تبدَّى لنا بوضوح
مبلغُ هشاشة ما يسمِّيه البشر "سعادة".
تُعتبَر الحركة والتحول والتبدل والولادة
والموت أبرز سمات وجودنا، بكلِّ ما فيه من
وقائع وظواهر. إننا اليوم نعيش عصرًا من عدم
الاستقرار في العالم، لأن الأشياء تتحرك
أمامنا تحركًا سريعًا بالمقارنة مع عهود
خَلَتْ من الهدوء النسبي. لكن الحرب تتناوب
والسلم، والمدنيَّات تدول، والأُسَر
تتفكك، والمحبين تباعد بينهم الأيامُ، مهما
طال بهم اللقاء؛ الشباب يشيخون والأحياء
يموتون، إلخ. هذا كلُّه يحدث منذ أن كانت
الدنيا. وتلك ليست نظرة متشائمة إلى الوجود،
بل نظرة واقعية: الوجود يشير حقًّا إلى الألم
والبؤس والشقاء. والإنسان الذي لا تهمُّه من
الحياة إلا قشورها، ويحسب أن الظروف الخارجية
هي التي سوف تأتيه بسعادة (ندعوها نحن سعادة
كاذبة)، يشعر أكثر من غيره ببؤس الوجود وألمه
بسبب حركة التغير الملازمة لتلك الظروف
والقلق المستمر الذي ينطوي عليه هذا التغير. اليوغا وغبطة الوجود لن
نتجاهل الحركة الإنسانية النبيلة التي
تمخَّض عنها الألم. لكنْ مهما بذلت هذه الحركة
العظيمة من مجهود لتخفيف غلواء الألم ومرارة
البؤس فإن النتائج ستبقى ما بقيت الأسباب؛
الأمر الذي سوف يتطلب المزيد من الجهود،
المزيد من الألم. لذلك يتوفر اليوغا، كأيِّ
منهج من مناهج الحكمة، على علاج الداء
نفسه، وليس على التخفيف من أعراضه. قد
يظن بعضهم أن المرء، بين اللحظة التي يدرك
فيها وَهْمَ سعادته الكاذبة واللحظة التي يعي
فيها حقيقته، يمر بفترة طويلة من القحط،
لأنه، وقد أدرك بؤس العالم، تظلم الدنيا في
عينيه فيعمى عن رؤية الجمال والغبطة اللذين
يشعَّان من تجلِّيات الحياة ولا يكترث لهما،
بل يميل إلى التخلِّي عن واجباته وإلى هَجْرِ
المجتمع والاعتكاف. إن من يفهم الأمر على هذا
النحو يفوته المغزى من فلسفة الألم اليوغية.
نحن نعلم أن الوردة لا تعمِّر بعد تفتحها أكثر
من بضعة أيام، ثم لا تلبث أن تذوي؛ لكن هذا ليس
من شأنه أن يثنينا عن الاستمتاع بجمالها
والانتشاء بطيب شذاها. فلسفة اليوغا، كما
ينبغي أن تُفهَم، ليست فلسفة تنسُّك وهَجْر
للعالم؛ إذ إنها لا ترفض الفرح الذي تحييه في
قلوبنا تجلِّياتُ الحياة، بتنوُّعها
وكثرتها؛ كما أنها أبعد ما تكون عن حضِّ المرء
على إهمال واجباته "الدنيوية" وترك
السعي والعمل.[36] وهكذا،
ساعة يستيقن المرءُ من عظمة مغزى وجوده،
ويعمل على تحقيق الغاية منه، يجد في الوجود
منبعًا للغبطة لا ينضب؛ إذ يكتشف أن الصور
الخارجية وحدها تتحول وتضمحل، وأن الحياة –
وهي جوهر هذه الصور – باقية أبدًا. إذَّاك
يغتبط الإنسان بوجوده، وتدوم غبطته مادامت
الحياة! خاتمة قبل
أن نختتم هذا البحث الموجز في فلسفة اليوغا
سنحاول إجمال كلِّ ما قلنا: فلسفة
اليوغا، قبل كلِّ شيء، فلسفة الطاقة؛ فهي
تسعى بالطاقة التي ينطوي عليها الجسم البشري
من الانغلاق إلى الانفتاح، من السلب والعطالة
إلى الإيجاب والحركة، عبر فعل واعٍ
يهدف إلى تحقيق ذاته، كي
يتسنَّى للإنسان به تحقيق غاية وجوده على
الكرة الأرضية – تلك الغاية المتمثلة في قطبي
المعرفة والمحبة: لما كانت المعرفة والمحبة
تمثلان اللانهائي والمطلق في الإنسان، فإن
الطاقة تنبعث من مركزية الإنسان لتمتد حتى
اللانهاية، حتى المطلق! ولكن كيف لفلسفة
اليوغا أن
تكون فلسفة الطاقة وفلسفة الانعتاق وفلسفة
الاتحاد في آنٍ واحد؟ أ.
فلسفة اليوغا فلسفة الانعتاق،
لأنها ترى في مسيرة الإنسان ضمن خطة التطور
الكوني انطلاقًا في عالم الحرية. فالإنسان لا
يستطيع أن يحقق الطاقة الموجودة فيه ما لم
يتحرر وينعتق. ولا نعني بالتحرر هنا حرية
مرتبطة بالوضع الاجتماعي أو المعيشي أو
الاقتصادي، وبكلِّ الظروف التي تحكم هذا
الوضع، بل حرية تجد منبعها في أقدس ما في
الإنسان، في كينونة الإنسان، في وعي الإنسان،
في حياة الإنسان؛ حرية تعبِّر حقَّ التعبير
عن معنى وجوده في هذا العالم: لا اتحاد بغير
انعتاق، ولا معرفة بغير حرية. بيد أننا نتساءل:
ممَّ يتحرر الإنسان؟ الإنسان
المحقِّق للوعي مرتبطٌ بكلِّ ما يحيط به، حتى
اللانهاية، حتى المطلق. أما الإنسان الأناني
أو المتكبر أو الطامع فيرى في الأنا – أناه –
ذروة ما يجب أن يسعى لترسيخه، وذلك لأنه يجهل
أن خارج قوقعة الأنا كونًا رحبًا فسيحًا
ينطلق في رحابه ويجد فيه سرَّ وجوده. بالمعرفة
– معرفة الحقيقة – يتحرر الإنسان من الجهل؛
بمعرفة الحقيقة يتجاوز شخصيته المحدودة؛
بمعرفة الحقيقة يتغلب على الانجذاب والنفور؛
بمعرفة الحقيقة يقهر رغباته وتعلقاته؛
وبمعرفة الحقيقة، أخيرًا، ينعتق من إسار
الجبرية والحتمية. الحرية، إذن، هي الثورة
الوحيدة التي ترفع عن وجه الإنسان براقع
الأنا التي لا تفتأ تحجب عن بصيرته نور
الحقيقة. ب.
في خبرة الاتحاد
تتسنَّم حريةُ الإنسان ذروتها لأنه، وقد
توطَّد التوازنُ النفسي والتكاملُ الداخلي،
تستغرق الروح في المطلق وتتَّحد به، وبذلك
تنعتق من قيود الاسم والشكل والزمان والمكان،
وتتصف بكلِّية الحضور. الروح، وقد انعتقت،
تعي أنها ليست في ماهيَّتها إلا المطلق ذاته.[37] ت.
فلسفة اليوغا فلسفة الطاقة
وفلسفة الحرية لأنها تصرح أن الطاقة، بما
هي تسعى بذاتها نحو الانفتاح، تقود الإنسان
إلى الحرية. والطاقة، شأنها شأن الذهن
الناضج، تسعى إلى الاتحاد والتآلف. فإذا
علمنا أن الذهن هو المبدأ الذي ينطلق منه
المرء لتحقيق الحرية الكامنة فيه، أدركنا
مبلغ الأهمية التي تعوِّلها الحكمة على سكون
الذهن وأثر ذلك على انفتاح الطاقة وانعتاق
الروح واتحادها بالمطلق. وجليُّ أنه -
للانتصار على الجهل نحتاج
إلى طاقة عظمى من المعرفة؛ -
للانتصار على الأنانية
نحتاج إلى طاقة هائلة من المحبة؛ -
للانتصار على الانجذاب
والنفور نحتاج إلى طاقة عظيمة من التآلف؛ -
للانتصار على التعلق نحتاج
إلى طاقة جبارة من اللاتعلق؛ -
للانتصار على الحتمية نحتاج
إلى طاقة لا مثيل لها من الحرية. وتشير
المعرفة والمحبة والتآلف واللاتعلق والحرية
إلى ذروة التحقيق على مستوى الوجود الأرضي. أما
"علم الأخلاق اليوغي"، إذا جاز المصطلح،
فهو فرع من فروع علم الطاقة، غايته تنظيم هذه
الطاقة وتوجيهها توجيهًا سليمًا ينسجم مع
غائية الكون. وبذلك يصير علم الأخلاق علمًا
نابعًا من صميم الوجود وديناميَّته الخلاقة. وهكذا
نجد أن مفاهيم الطاقة والاتحاد والحرية
تعبِّر عن حقيقة واحدة هي حقيقة المطلق في
الإنسان، بها ينعتق من إسار المادة والانفصال
والحتمية. بقي
شيء واحد نود أن نختتم به بحثنا
هذا، لأن حزنًا عميقًا يتغلغل في صميم كياننا
كلما تفكَّرنا فيه: إن تنوع الإنسانية،
بألوانها وأجناسها وأفكارها وأديانها
ومعتقداتها، يحتِّم على إنسان اليوم، فردًا
وأمة، ألا يجرِّد غيره من الحقيقة أو يتوهَّم
أنه وحده، دون سواه، على حقٍّ وأن الآخرين على
ضلال مبين! الحقيقة
للكل لأنها الكل، ولأنها في الكل! وهذا
المعنى الدقيق، لن يتأتى للإنسان أن يعيه
ويحقِّقه ما لم يستأصل من نفسه كلَّ ما من
شأنه أن يرسِّخ إحساسه بالأنا، ما لم يجعل من
عقله وقلبه حديقة يزرع فيها من زهور العالم
أجملها، حديقة يشعر فيها جوهرُه العميق
بوحدته مع جوهر الأشياء كلِّها، في ألق من
النور، وفيض من المحبة![38] *** *** *** مراجع -
Audoin, Danielle, Cours
sur le yoga, Société théosophique de France, Paris. -
Aurobindo, Sri, The Synthesis of Yogas. -
Éliade, Mircea, Le
yoga : immortalité et liberté, Payot, Paris, 1977. -
Joshi, K.S., Yoga and Personality, Udayana
Publications, Allahabad, 1967. -
Linssen, Robert, La méditation
véritable, Éditions Être libre. -
Monod-Herzen, Gabriel, Le
Yoga et les yoga, Éditions du Rocher, Monaco, 1978. -
Patanjali, The Yoga Aphorisms, An
interpretation by William Q. Judge, The Theosophy Company, Los Angeles, 1973. -
Radhakrishnan, S. & Ch. Moore, A Source
Book in Indian Philosophy, Princeton University Press, Princeton, N.J. (نقله أستاذنا ندره اليازجي
إلى العربية بعنوان الفكر الفلسفي الهندي
وصدر عن دار اليقظة العربية ببيروت.) -
Varenne, Jean, Upanishads
du Yoga, Traduites du sanskrit, présentées et annotées par,
Gallimard/Unesco, Paris, 1990. -
Wood, Ernest, Yoga, A Pelican Original,
Penguin Books, 1982. (نقلناه إلى العربية بعنوان اليوغا:
فلسفة الانعتاق والاتحاد وصدر عن دار
الغربال بدمشق.) -
Yesudian, S. & E. Haich, Yoga and Health,
Unwin Paperbacks, London, 1982. -
اليازجي،
ندره، دراسات في المثالية الإنسانية (دار
الغربال، دمشق). -
اليازجي،
ندره، المادة والروح: تأليف جديد (دار
الغربال، دمشق). [1]
ندره اليازجي، المبدأ الكلِّي: لقاء
الحكمة القديمة والعلم الحديث، طب 2،
منشورات اتحاد الكتاب العرب، ص 15. [2]
جدير بالذكر أن عددًا لا يستهان به من
العلماء النظريين المعاصرين توقفوا عن
تكريس الفصل بين ذواتهم العارفة وموضوع
معرفتها، بين العقل والطبيعة، وأضحت
معرفتُهم انصهارًا مع الموضوع، وبعبارة
أخرى، تحقيقًا لوحدة الكيان الإنساني مع
الكون. لم يعد يهم هؤلاء إيجاد تفسيرات
فكرية وحسب للظاهرات الطبيعية – وظاهرة
الإنسان في جملتها – بقدر ما صار همُّهم
الرئيسي تجاوُزَ تعددية الظاهرات نحو
تلمُّس الوحدة الأصلية المبطِّنة لها. لقد
حدسوا أن الحياة، في جوهرها، أعمق من
الظاهرات وأبقى. بهذا المعنى يُعتبَر
المنحى الذي اختطَّه لنفسه العلمُ اليوم
عودة إلى الحكمة. [3]
وبلغة فلسفية، عاجزًا عن الكشف عن أعماق
المادة ليعاين الروح. [4] لعل سعي الرجل إلى التسلط على المرأة وتسخيره جسمها وفكرها ومشاعرها لتلبية رغباته من الأشكال العديدة التي اتخذها سعيُه للسيطرة على الطبيعة وتسخير قواها لمآربه، من حيث إن المرأة من رموز الطبيعة الأساسية في اللاوعي الجمعي للإنسانية. [5]
ذلك لأن التكامل النفسي والتناغم الداخلي
هما موطئ القدم الأول في طريق الاتحاد،
وهما حجر الأساس الذي يتم عليه بناء الهيكل
الداخلي. [6]
معنى "الوعي"، في هذا السياق، لا ينطبق
على المعنى الذي تتبنَّاه غالبيةُ علماء
النفس، وخصوصًا الماديون منهم. الوعي، كما
تصطلح على فهمه حِكَمُ الشرق، فعل روحي
يتجاوز المعرفة الذهنية التي تحتمل حدَّيْ
الخطأ والصواب، الخير والشر، وكلَّ
الثنائيات، إلى حدس جوهر الحياة الواحدة
السارية في الوجود والكون. [7] كلمة أوبنشاد Upanishad مأخوذة من أوبا التي تعني "قريب"، وني التي تعني "أسفل"، وشاد التي تعني "يجلس". فلقد كانت جماعات التلامذة والمريدين تجلس بالقرب من قدمي الأستاذ لتلتمس منه الحكمة التي تقضي على الجهل. والـأوبنشاد هي الأجزاء الختامية للفيدا Veda، أو أناشيد الحكمة، وهي أساس فلسفة الـفيدنتا Vedanta، أو "نهاية الفيدا". وهي، على حدِّ قول ماكس مولِّر، "منهج بلغ فيه التأملُ الإنساني ذروته". وقد سيطرت الـأوبنشاد على فلسفة الهند وديانتها مدة ثلاثة آلاف سنة تقريبًا. وهي تحدِّثنا عن الطريقة التي يصل بها الفرد إلى الحقيقة المطلقة من خلال تسامٍ جَوَّاني للوعي، كما تحدِّثنا عن أشواط ذلك التسامي. أما مجموعة الـأوبنشاد المخصَّصة لليوغا فعددها حوالى العشرين. لكن الـأوبنشاد التي يتجاوز عددها المئتين تلمِّح جميعًا إلى اليوغا في شكل أو في آخر. [8]
كما أن الطفل لا يعرف أن النار تحرق إلا إذا
لمسها واحترق، كذلك لا يمكن وعيُ الوحدة
الكلِّية إلا بتذوقها – في النفس أولاً،
وفي الكلِّ ثانيًا. [9]
على غرار العبارة التي يتناقلها صوفية
الإسلام: "الطرق إلى الله كنفوس بني آدم." [10]
من
هنا أهمية "اليوغا المتكامل" Integral Yoga
الذي حاول شري أوروبندو من خلاله التأليفَ
بين طُرُق اليوغا في يوغا واحد منسجم
وكلِّي. هو ذا يقول: "هناك، في النور
الذهني الأرفع، يقيم موضعُ الحقيقة
الإلهية التي وحدها تمتلك امتلاكًا
طبيعيًّا، كما لا يمكن
لأيِّ وعي آخر أن يمتلك، القدرةَ على تنظيم
أفعال حقيقة لا تكدِّرها ظلالُ لاوعيٍ وجهل
كونيين. بلوغ تلك الغاية، ثم استحضار
دينامية ذهنية عليا في وسعها تحويل الجهل،
هو الغاية القصوى، لكنْ الحتمية، لليوغا
المتكامل." راجع، في هذا الصدد، المقالة
عن شري أوروبندو في التعريفات الفلسفية،
معابر. [11] راجع بحثنا "اليوغا وفسيولوجيا الجسم البشري"، معابر، باب "طبابة بديلة". [12] يُشبَّه الذهن البشري بلهب الشمعة الذي تجعله أقل لفحة هواء يهتز؛ أما إذا بقي في منأى عن الأهواء والرغبات والانفعالات فإنه يستعيد صفاءه وطمأنينته ويصير أداة صالحة للمعرفة الحق. إن حالة الصفاء الذهني هذه هي التي يرمي غنانا يوغا إلى بلوغها للوصول بالذهن إلى الحكمة والمعرفة. [13] استفاد أساتذة اليوغا كثيرًا من المدارس الفلسفية الأخرى في الهند، ولاسيما مدرسة سمكهيا Samkhya الفلسفية، ليقيموا صرح عقيدتهم النظرية المعبِّرة عن خبرتهم الداخلية. [14] يقول الحكيم راماكرشنا: "إذا طُفْتَ جميع أنحاء المعمورة فلن تجد الدين الحقَّ لأنك تبحث عنه خارج ذاتك. الدين مكانُه القلب، والإنسان الذي لا يجد الدين في قلبه لن يجده خارجه، مهما كثرت جهودُه وتعددتْ محاولاتُه." [15]
وهي الركيزة الأولى في الظهورات التاريخية
للحكمة القديمة. راجع، في هذا الصدد، بحث
"الحكمة القديمة ومبادئها الأساسية
الثلاثة"، معابر، باب "منقولات
روحية". [16]
تقابل
هذه الخواص الثلاث الأنماط النفسانية
الثلاثة المعبِّرة عن التطور الإنساني
التي حَدَسَها كلٌّ من الأستاذين روبير
لنسن وندره اليازجي. ولقد وجدنا في المقطع
التالي من "أوبنشاد طبيعة اليوغا الحق"
(يوغا تَتْـفا أوبنشاد) ما يلخِّص كلَّ
ما قيل بخصوص الـغنانا يوغا، في شاعرية
تعبِّر عن شفافية الروح الهندية أجمل تعبير: 10.
في البدء كان الروح الكلِّي، المتعالي
عن أشكال الوجود جميعًا والذي
لبُّه المعرفة، يتحرَّك
على وجه المياه كالنسمة
اللطيفة، وفيه
تجلَّتْ، أول ما تجلَّت، الأنيَّة، أصلُ
الأشياء كلِّها، الذي
تتوازن فيه الخواصُ الثلاث: النور والطاقة والعطالة. [17]
راجع كتيِّبنا مقالة في التقمص،
دمشق 1998، النقطة 26، ص 39-42. [18]
المرجع نفسه، النقاط 18-20، ص 30-32.
جاء في "أوبنشاد التأمل الكامل" (دهِيانا
بندو أوبنشاد): 61
مثل العصفور الذي يشدُّ على
الخيط الذي يقيِّده، كذا
تشدُّ الروح إلى الأمام، لكنها
ترتدُّ إلى الوراء بالخيط
نفسه: مَن
يعرف هذا يعرف اليوغا! [19]
The Bhagavadgītā
or the Song Divine,
Gīta
Press, Gorakhpur, 1975, iii, 4-9. [20]
"الكيان"، بحسب مصطلح
أستاذنا ندره اليازجي، هو الفكرة الواعية
التي ينبغي عليها أن تعي ذاتها. [21]
يتدرج التفكير صعودًا من الشرود
إلى التداعي فالتأمل (هذا التصنيف كذلك
لأستاذنا ندره اليازجي): "الشرود" فوضى
كلِّية للذهن، وهو عامل تأخير كبير في
تنمية ملَكات الإنسان الذهنية؛ ويليه "التداعي"،
وهو مجموعة ذكريات تتوالى تواليًا غير
منظَّم؛ أما "التأمل" فهو تركيز ذهني
كبير وتوجيه منظَّم لطاقة الذهن، بحيث يصل
المتأمِّل بها إلى حالة فوق ذهنية؛ إنه غوص
المرء في أعماقه لمعرفة حقيقته، وهو،
بالتالي، التطبيق العميق للحكمة السقراطية
السرَّانية المتمثِّلة في عبارة: "أيها
الإنسان، اعرف نفسك!" [22] لقد أحجمنا في هذا المقام عن إيراد المصطلحات السنسكريتية بالتفصيل (مثلما أحجمنا عن ذلك لدى وقوفنا على العلل العميقة الخمس المسؤولة عن شقاء الإنسان) لئلا نثقل على القارئ العربي؛ فمن شاء فليراجعها في كتاب إرنست وود، اليوغا: فلسفة الانعتاق والاتحاد، بترجمة ديمتري أفييرينوس، دمشق 1986، ص 59-86. [23] راجع الفصلين الثامن والتاسع من اليوغا: فلسفة الانعتاق والاتحاد للاطلاع على نظرة إجمالية إلى الطاقة الكامنة في الجسم ورحلتها وغايتها، كما تصفها لنا نصوص "اليوغا المَلَكي" والـتنترا يوغا tantra-yoga؛ وكذلك دراسة نبيل محسن "مراكز الطاقة في الإنسان"، معابر، باب "طبابة بديلة". [24] اليوغا، ص 100-107. [25] لعل في التجربة التالية توضيحًا للأمر: فلنتصور إناءً مملوءًا بالماء، يحوي في داخله مصباحًا متوهجًا، ولنفرض أننا حرَّكنا الماء مستعينين بقضيب من زجاج. عندما نحرك الماء بسرعة كبيرة يختفي المصباح عن أنظارنا، لكن الماء يبدو لنا متوهجًا؛ وهكذا نتوهم أن الماء هو المصدر الحقيقي للضوء وأنه يتوهج من تلقاء ذاته. لكننا عندما نخفف من سرعة تحريك الماء يبدأ المصباح بالظهور. نراه أولاً مشوهًا، ثم لا تلبث معالمُه أن تتضح شيئًا فشيئًا. وعندما نكف عن تحريك الماء وتتوقف حركةُ الماء حتى السكون لا نرى سوى المصباح، منبع الضوء الحقيقي. الماء في التجربة التي قمنا بها لتونا هو الذهن، والمصباح هو العقل الأرفع في الإنسان، شعلة النور الإلهي المتوقدة في داخله. فحين تبلغ فوضى الذهن أوْجَها نتوهم أن الذهن هو مصدر الوعي العقلي الأرفع. أما عندما نحقق سكون الذهن فإننا نكتشف المصدر الحقيقي للنور ونصل بالوعي إلى شوط التحقيق النهائي. [26]
كلمة سنسكريتية تشير إلى "دورة الوجود"
أو "عجلة الولادة والموت". [27]
راجع: مقالة في التقمص، النقطة 18، ص 30-31. [28]
ما ألم مخاض المرأة وصرخة المولود الأولى
إلا إشارة إلى الألم الذي يكتنف العالم
الأرضي. [29] بحسب معطيات الحكمة القديمة، تحوي المادة في تضاعيفها طاقة مركَّزة ومكنونة بصورة عميقة جدًّا، ترقد في حالة من اللاوعي والحتمية؛ لكنها، بانفتاحها بفعل الوعي الإنساني، تكتسب قدرة الوعي الروحي، فتفصح عن سماته وحرِّيته. [30]
للمزيد من الوضوح، راجع: ندره اليازجي، دراسات
في المثالية الإنسانية، فصل "فلسفة
الحرية والعبودية"، والمادة والروح:
تأليف جديد، فصل "التطور". [31]
تتلخَّص هذه المراحل الثلاث، في عمر
الإنسان، بالطفولة والشباب والكهولة. [32]
يجسِّد هذه المراحل الثلاث على التوالي
كلٌّ من الرياضي والشاعر الرومانسي
والعالِم. [33]
مصطلح استفدناه من التصوف في الإسلام. و"الأنا"
أو الأنيَّة، كما وردت في غير مكان، هي المبدأ
المنغلق على ذاته في حالة وعي جزئي؛ إذ
إنها لا تعي من الوجود سوى ذاتها، وبذا تجهل
أو تتجاهل حقيقتها. لذا تكون جميع الوسائل
التي تحاول أن تحقق ذاتها من خلالها
منحطَّة، وتتخذ صورًا متعددة، كالأنانية
والشهوة والطمع والكبرياء. وترسيخ الأنا
يتعارض مع تحقيق الحضور الإلهي أو المطلق
في الإنسان؛ لذا، ليس الوعي تجاوزًا
للمادة، بل تجاوز للأنا. [34] "الشخصية" هي جملة "المبادئ" أو "المَرْكَبات" الدنيا الفانية في الإنسان (المراتب الجسمانية والنجمية والشعورية والذهنية)؛ وتقابلها "الفردية" التي تشمل مبادئه العليا الخالدة (المراتب العقلية والإشراقية والروحية). راجع، في هذا الصدد، مقالة في التقمص، النقطة 24، ص 35-38. والشخصية هي الحقل الذي تجسِّد فيه الأنا المفاهيم التي اختلقتها لتحقيق ما تصبو إليه من رغبات؛ لذا تكون السعادة التي تنشدها الشخصية زائفة، لأنها تستمد وجودها واستمرارها مما هو زائل، وليس من الفردية الخالدة التي تمثل الألوهة المثلَّثة في الإنسان. [35]
يظهر لنا هذا الأمر بوضوح في مدى اتِّكال
شخصين متكارهين، كلٌّ منهما على الآخر، من
أجل تثبيت شخصيته وصون أناه من التعرض
للخطر. [36] يقول شري أوروربندو: "مهما تكن الأشياء التي تتَّسع لها المناهجُ الأخرى التي تهرب من العالم أو تبحث عن السماء، فتلك هي الغاية الصعبة، لكن التي لا يمكن تجنُّبها، لليوغا المتكامل؛ إنه لا يمكن أن يجيز لنفسه أن يدع بلا حلٍّ مسألةَ الأعمال الخارجية في الحياة؛ إنه يجب أن يكتشف فيها ألوهيَّتها الأصلية ويُحالِفها بشدة وإلى الأبد مع ألوهيتَي المحبة والمعرفة." [37]
جاء في أوبنشاد مونداكا: 8.
كما الأنهار التي تجري ثم تصب في المحيط تختفي،
متخلِّية عن اسمها وشكلها، كذا
من يعرف، إذ يتحرَّر من الشكل والاسم، يذهب
إلى الشخص السماوي. 9. مَن يعرف برهمن يصبح برهمن. [38]
عندما أُلقيَتْ صيغةٌ أولية لهذا النص
محاضرةً في الثمانينات، ضمن فعاليات "حلقة
الرسالة"، جاء في الخاتمة: "وبعد،
فأجدني، بعد هذا كلِّه، مرغمًا على رؤية
الوجود المتمثِّل فيَّ من خلال كياني
الإنساني؛ أجدني مرغمًا على النظر إلى نفسي
في كلِّ ما أرى وما أسمع وما أتأمل؛ أجدني
مرغمًا على الإصغاء إلى كلِّ النداءات التي
أتلقاها من الكون، فأعي بذلك وحدة كياني مع
الإنسان، مع الوجود، ومع المطلق!"
|
|
|