|
إضاءات
فتح الرئيس الأميركي، باراك أوباما، صفحة جديدة لعلاقات الولايات المتحدة بالعالم الإسلامي. وطوى الصفحة التي سطّر فيها الرئيس السابق، جورج بوش، أسوأ ما مرّت به هذه العلاقات. أمران يثيران الاهتمام في هذا التحوّل الهام والبنّاء. الأمر الأول من حيث الشكل، وهو اختيار تركيا، بالتحديد، منبرًا لإعلان الموقف الأميركي الجديد. أما الأمر الثاني وهو الأساس، فيتعلق بالمضمون والهدف. كان أمام الرئيس أوباما ثلاثة منابر إسلامية أساسية ليعلن منها هذا التحوّل:
نحن مطالَبون اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أن نستبدلَ نظريةَ صموئيل هنتينغتون الخادعة والخطيرة المتمثِّلة بصدام الحضارات (والتي هي أيضًا نظرية بن لادن) بفلسفة حوار الثقافات والحضارات التي سادت دائمًا في حوض المتوسط، رغم الحروب وإثبات الذات من خلال الهُويّات. بالمقابل، يجب على سكان حوض المتوسط أن يتصرفوا إزاء "صدام الأوهام" الذي أورثهم على مر العصور عددًا من الأفكار المسبقة الشائعة حول ما يفرقنا بدلاً من التأكيد على ما هو مشترَك بيننا والذي هو كبير جدًا. كما يجب عليهم أيضًا مقاومة "صدام الجهالات"، لأن هذه الأخيرة تميل إلى الزيادة.
حسنّ أن يقرّر وزير الداخلية والبلديات زياد بارود منح المواطنين الحقَّ في شطب القيد الطائفي من سجلات النفوس. لكن هذه الخطوة يلزمها خطوة أكبر منها هي إقرار قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية يخضع له اللبنانيون ممن لا يرغبون باتباع قانون الأحوال الشخصية الخاص بكل طائفة من الطوائف المعترف بها. فلا شكَّ أن معظم الذين سوف يختارون شطب قيدهم الطائفي يفضلون إكمال خيارهم هذا بالسعي إلى قانون مدني للزواج، لأنهم إن اضطروا إلى الزواج الديني فقد يلاقون بعض العراقيل والمضايقات من المؤسسات الطائفية المتحكمة بعقود الزواج.
صدرت صحيفة السفور الأسبوعية في القاهرة عام 1915، وتحولت إلى منبر لإعلام النهضة المصرية مدى ثلاث سنوات. جسّد عنوان هذه الصحيفة تحولاً كبيرًا في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، ظهرت معالمه الأولى في ثورة التاسع عشر، وتجلّت في العشرينات. انتصر السفور في الثلاثينات، ومع انتصاره بدأت المرأة تخوض سلسلة من المعارك "لتشترك في توجيه الحياة الحديثة، وبناء العالم من جديد"، على ما كتبت بنت الشاطئ في مجلة الهلال. في نهاية أيلول 1923، قدّمت فرقة علي الكسار مسرحية من تأليف أمين صدقي عنوانها الانتخابات تطرقت إلى قضية تحرير المرأة وضرورة المطالبة بحقوقها والمشاركة بصوتها في الانتخابات. وجدت هذه القضية أبلغ تعبير عنها في أغنية لحّنها سيد درويش تقول كلماتها:
يقدم فكر الفيلسوف الألماني هابرماس (مواليد 1929) بوصفه مشروعًا لتحرير الوعي الاجتماعي وتأسيس التواصل الإنساني، جامعًا بين الرؤية الفلسفية والتحليل السوسيولوجي. وجهد لتطوير النظرية النقدية التي ظهرت في عشرينات القرن العشرين وتميزت بها لاحقًا مدرسة فرانكفورت. وإذا كان هابرماس يعتبر النظرية النقدية طريقًا لإدراك كمال أو تمام المجتمع، وبالتالي فهي تمثل التقييم المعياري لحال المجتمع الراهنة على اعتبارها معبرة عن مدى تحقق ذلك التمام، وإذا كان يعتبر أن الكمال هو نهاية للقسر وتحقيق للاستقلال من خلال العقل، ونهاية للاغتراب من خلال الانسجام الجمعي للمصالح، ونهاية للظلم والفقر من خلال إدارة عقلانية عادلة؛ فإن العبارة المقتضبة الواردة في مؤلفه نظرية الفعل التواصلي تشير إلى محورية اللغة في فكره، إذ يقول:
كان هناك، أولاً، الفعل التاريخي للأحداث التي تلت وفاة الرسول محمد، وما انتهت إليه، قبل أن تبدأ المؤسسة الدينية بمحاولة استيعاب نتائج هذه الأحداث وقوننتها، في وقت لاحق بعيد نسبيًا. انقسم التحليل التالي للنخبة المثقفة وللمؤسسة الدينية، الذي كان لابد أن يأخذ شكل خطابات دينية بالضرورة، بين من برر مجمل الانقلاب الأموي على الشكل الجنيني للسلطة، الذي كان آخذًا بالتبلور في المدينة المنورة، وكرسه على أنه الشكل الصحيح الوحيد للسلطة الشرعية - أهل السنة فيما بعد؛ وبين من عارضه أو نقضه لصالح "سلطة أكثر شرعية" - الشيعة والخوارج. كلا الخطابين أخذ يؤسس لمفهوماته وأطروحاته.
لا تزال العلمانية الدريئة الأساسية التي يطلق عليها جلّ المفكرين الإسلاميين والقوميين والشعبويين سهامهم النظرية، استسهالاً للوصول إلى قلوب "الجماهير" لتحقيق مكاسب غالبها سياسي. ومؤخّرًا صدر لمفكّرين إسلاميين، واحدهما يساري والآخر راديكالي، دراستان نشرتا في مكان واحد، وتناولتا المسألة العلمانية بتقريع مهذب، مرده اعتقاد الرجلين أن العلمانية قد هزمت تاريخيًا، وأنهما يسلكان سلوكًا تربويًا مترفعًا، للإجهاز عليها. فأما الدراسة الأولى فللكاتب الإسلامي اليساريّ حسن حنفي، الذي يعود مرة أخرى إلى السجال التاريخيّ الشهير بين ممثل الفكر العلماني فرح أنطون والإمام محمد عبده. وهذه المرة ينتقي حنفي زاوية جديدة لنقد فكر أنطون بعد مرور مائة سنة على السجال التاريخي. وهو يرى أنّ الرجلين متفقين "من حيث الهدف والدعوة، إنما على خلاف في الجهة المصدر." وبذلك، يحيل حنفي السجال، بدلا من اعتباره سجالاً بين اتجاهين فكريين عربيين يختلفان في الرؤى والمشارب، إلى سجال بين الداخل والخارج. وهو يرى أنّ فرح أنطون يمثّل الثقافة الغربية، "يستمدّ ذلك من الخارج،" بينما يستمدّ محمد عبده موقفه "من الداخل."
كلاهما (التخلف والوهم) في علاقة ترابط متينة، يتعايشان معًا، واحدهما ينتج الثاني. فالتخلف، على كافة مستوياته: الاقتصادية والسياسية والثقافية، ينتج الوهم بمستويات العلاقات الاجتماعية وبمستويات طرح الأسئلة الكبيرة المتعلقة بتطور تلك المجتمعات ومتطلبات حياتها المعاصرة، كذلك بمستوى طرح الحلول والإجابة عليها؛ وبالمثل يقوم الوهم كواحد من العوامل المهمة التي تنتج التخلف وتعيد إنتاجه. لذا تظل المجتمعات، العالقة بين هذه الثنائية - ثنائية التخلف والوهم، في حالة تأزم دائمة لا تستطيع أن تسير مثلما تسير بقية الأمم والشعوب في اتجاهات تاريخية إلى الأمام، وكل ما تستطيع فعله هو الإنكفاء على نفسها، والنحو بسيرها إلى الخلف، لتستقر في تلك الأزمان الغابرة، البدائية، الداكنة، وتعيد اجترار موروثاتها وصفحات تاريخها المندس كل يوم على أنه جديد ومعاصر. فلولا مظاهر التخلف القاسية التي تحيق بالمجتمعات الإسلامية - مظاهر: الفقر، الأمية، البطالة، الاقتصاد الرث والتنمية المشوهة، القمع وانعدام الحريات، إلغاء دور النساء....- لما تصاعدت وتائر إنتاج الإعجاز العلمي في القرآن والسنة بهذه السرعة المقلقة، خاصة في العقود الأربعة الأخيرة. حيث أصبحت ثقافة الإعجاز، في مجتمع الأميين والأميات، ظاهرة مخيفة تسيطر على الذهنية العامة وتتحكم بها، تزرع في نفوسهم ازدراء العلم والتنكيل بأهله، تزرع الاتكالية والكسل واللامبالاة بذريعة الدفاع عن بيضة الإسلام، والجهاد من أجل إعلاء شأنه، والكد ليل نهار في زج الدين في مجالات العلم المتقلبة، مثلما تفعل ثقافة العنف بعقل الناس، خاصة الشبيبة، حين تزرع في نفوس اليائسين والعاطلين والمتذمرين الضغينة والحقد والبغضاء، وتدفعهم إلى قتل عشوائي حافل بالبشاعات، تدفعهم إلى هاويات الانتحار وتفجير أنفسهم في الأوساط المدنية، معتمدةً على نفس تلك الذرائع، وعاكفةً على زج الدين في السياسة. فإذا كانت ثقافة الإعجاز تصنع الوهم، فثقافة العنف تصنع الموت، وكلاهما يشكلان كابحًا قويًا في طريق نماء المجتمعات الإسلامية وتطورها ورقيها، وفي نفس الوقت يزدهران وينتعشان في بيئات التخلف والالتباسات الذهنية.
تحكي الأسطورة اليونانية أن الإله بروميثيوس أحب الإنسان كثيرًا وأشفق عليه، لِما قُضي عليه من خوف وذل وأمل عقيم، فسرق النار الإلهية، نار المعرفة، ومنحها لبني الإنسان، فكان عقابه الأبدي أن شدّه كبير الآلهة، بالأغلال الفولاذية التي لا يمكن تحطيمها، إلى صخرة مرتفعة، ذات نتوءات بارزة، تُطل على ماء المحيط، وأطلق عليه النسور تنهش جلده، وكلما طلع الصباح كساه جلدًا جديدًا لتطعم به النسور! عذاب أبدي، شاركت المارد المُعذب فيه كل عناصر الطبيعة! بيد أن كبير الآلهة لم يكفه من بروميثيوس كل هذا العذاب الجسدي، فأرسل إليه وفدًا من ربات الانتقام يعذبنه! فبروميثيوس، ككل الأبطال، له روح قوية لا تكسرها الآلام الجسدية، ولكن يكسرها أن تُفجع في الفكرة التي تمثلها! تلك هى أسطورة بروميثيوس، أوردتها في صدر المقال، لارتباطها المُلهم بموضوعه، وهو الحضارة الغربية. فالغرب يحلو له دومًا أن يرى نفسه بروميثيًا، نسبة إلى الإله اليوناني بروميثيوس الذي سرق نار المعرفة من الآلهة ليعطيها إلى البشر! والغرب يحلو له أيضًا أن يرى الحضارات الأخرى غير بروميثية!
|
|
|