|
صناعة الوهم في الإعجاز العلمي للقرآن
كلاهما (التخلف والوهم) في علاقة ترابط متينة، يتعايشان معًا، واحدهما ينتج الثاني. فالتخلف، على كافة مستوياته: الاقتصادية والسياسية والثقافية، ينتج الوهم بمستويات العلاقات الاجتماعية وبمستويات طرح الأسئلة الكبيرة المتعلقة بتطور تلك المجتمعات ومتطلبات حياتها المعاصرة، كذلك بمستوى طرح الحلول والإجابة عليها؛ وبالمثل يقوم الوهم كواحد من العوامل المهمة التي تنتج التخلف وتعيد إنتاجه. لذا تظل المجتمعات، العالقة بين هذه الثنائية - ثنائية التخلف والوهم، في حالة تأزم دائمة لا تستطيع أن تسير مثلما تسير بقية الأمم والشعوب في اتجاهات تاريخية إلى الأمام، وكل ما تستطيع فعله هو الإنكفاء على نفسها، والنحو بسيرها إلى الخلف، لتستقر في تلك الأزمان الغابرة، البدائية، الداكنة، وتعيد اجترار موروثاتها وصفحات تاريخها المندس كل يوم على أنه جديد ومعاصر. فلولا مظاهر التخلف القاسية التي تحيق بالمجتمعات الإسلامية - مظاهر: الفقر، الأمية، البطالة، الاقتصاد الرث والتنمية المشوهة، القمع وانعدام الحريات، إلغاء دور النساء....- لما تصاعدت وتائر إنتاج الإعجاز العلمي في القرآن والسنة بهذه السرعة المقلقة، خاصة في العقود الأربعة الأخيرة. حيث أصبحت ثقافة الإعجاز، في مجتمع الأميين والأميات، ظاهرة مخيفة تسيطر على الذهنية العامة وتتحكم بها، تزرع في نفوسهم ازدراء العلم والتنكيل بأهله، تزرع الاتكالية والكسل واللامبالاة بذريعة الدفاع عن بيضة الإسلام، والجهاد من أجل إعلاء شأنه، والكد ليل نهار في زج الدين في مجالات العلم المتقلبة، مثلما تفعل ثقافة العنف بعقل الناس، خاصة الشبيبة، حين تزرع في نفوس اليائسين والعاطلين والمتذمرين الضغينة والحقد والبغضاء، وتدفعهم إلى قتل عشوائي حافل بالبشاعات، تدفعهم إلى هاويات الانتحار وتفجير أنفسهم في الأوساط المدنية، معتمدةً على نفس تلك الذرائع، وعاكفةً على زج الدين في السياسة. فإذا كانت ثقافة الإعجاز تصنع الوهم، فثقافة العنف تصنع الموت، وكلاهما يشكلان كابحًا قويًا في طريق نماء المجتمعات الإسلامية وتطورها ورقيها، وفي نفس الوقت يزدهران وينتعشان في بيئات التخلف والالتباسات الذهنية. يكرس الكاتبون والمهتمون بشأن الإعجاز العلمي في القرآن جُلَّ اهتمامهم وآرائهم وكتاباتهم لدعم وتأكيد مسألة أساسية ومحورية مفادها: إن الكتاب التأسيسي للدين الإسلامي (أي القرآن) يضم بين صفحاته كل ما حققته الإنسانية عبر تاريخها الصعب الطويل (وما ستحققه مستقبلاً) من كشوفات وإنجازات ونظريات علمية، وعلى كل الصعد، وفي كافة المجالات: الإنسان، الكون، الفلك، الفيزياء، الكيمياء، الهندسة، الطب، الذرة....الخ. ويزعم الإعجازيون أن أسلوب القرآن يختلف عن كل الإساليب، فهو، حينما يشير إلى مسألة علمية كما يقول مصطفى محمود: "يقدمها بالإشارة والرمز والمجاز والاستعارة واللمحة الخاطفة والعبارة التي تومض كبرق خاطف"[1]. وعن طريق فك هذه الإشارات والرموز والمجازات نتمكن من العثور على الإعجازات العلمية مثل نظرية دارون وكيفية خلق الإنسان وتطوره من الأمبيا إلى الإسفنج إلى الحيوانات الرخوية...، والمنهج الإستقرائي الذي جاء به "باكون" من الآية التي تقول: "وقل سيروا في الأرض". والأسفه من ذلك، يشوه أصحاب الكفاءات الإعجازية القانون الإلهي الشفاف، الذي يصلح لكل مكان ولكل زمان، وقد وردَّ هذا القانون في اختصار مُتقن وببلاغة فريدة، القانون القائل: "من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره"؛ فيذهبون إلى استنتاج "علم الذرة" من الآية تلك، والطائرات النفاثة من الآية: "والمرسلات عرفًا، فالعاصفات عصفًا، والناشرات نشرًا"[2]، كذلك علم صناعة السفن والكهرباء والطاقة، ويكتشف الإعجازيون كروية الأرض في الآية التي تقول: "خلق السماوات والارض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار" [الزمر: 5]، حيث يستنتج الجهبذ الشيخ زغلول، من خلال مقال طويل، ما مفاده: "لما كان القرآن الكريم يثبت أن الله يكور الليل على النهار، ويكور النهار على الليل، وهما فترتان زمنتيان تعتريان الأرض، فلابد للأرض من أن تكون مكورة، ولابد لها من الدوران حول محورها أمام الشمس"[3]. لا ندري ما علاقة كروية الأرض ودوران الشمس بهذه الظاهرة الكونية التي يتحدث عنها القرآن الكريم ببيان واضح ليدلل على قدرة الباري، جل وعلا، في خلق السماوات والأرض بالحق! ومن الطريف أن نستعرض إعجازًا آخرًا، في نفس الموقع، حول سورة الطارق، حيث دأب رب العزة أن يُقسم بالسماء والأرض والظواهر الطبيعية في كثير من سور القرآن، فنجده هنا يقول: "والسماءِ ذات الرجعِ، والأرض ذات الصَدعِ، إنهُ لقولٌ فصلٌ، وما هُو بالهزل، إنهم يكيدون كيدًا، وأكيد كيدًا، فمهل الكافرين أمهلهم رويدًا". هذه الآية الكريمة ذات معنى واضح لا لبس فيه ولا غموض: يقسم الله بالسماء ذات الرجع (أي السماء ذات المطر لرجوعه إلى الأرض ثانية) وبالأرض ذات الصدع (أي النبات الذي تنشق عنه) بأنه (أي سبحانه وتعالى) سوف يمهل الكافرين ولا يستعجل بالانتقام منهم ثم يأتيهم العذاب قريبًا أو بعد قليل. يجتزئ الشيخ زغلول مقطعًا من هذه السورة الكريمة: "والسماء ذات الرجع"، ويفصله بتعسف عن سياق النص، ويقوم ببناء إطروحته الإعجازية الطويلة، ناتفًا من هنا ومن هناك وصلات علمية تبهر المغفلين، سرقها من الكتب المتخصصة، وقام بحشرها في سياق شرحه لمعنى هذه الآية؛ ويستعرض صورًا مضحكة من صور رجع السماء: الرجع الاهتزازي للهواء، الرجع المائي، الرجع الحراري إلى الأرض وعنها إلى الفضاء بواسطة السحب، رجع الغازات والأبخرة والغبار المرتفع من سطح الأرض، الرجع الخارجي للأشعة فوق البنفسجية بواسطة طبقة الأوزون، رجع الموجات الراديوية بواسطة النطاق المتأين، رجع الأشعة الكونية بواسطة كل من أحزمة الإشعاع والنطاق المغناطيسي للأرض...الخ، ويستنتج بسذاجة مفرطة، هذا الشيخ الجهبذ: "إن وصف السماء بأنها (ذات رجع) في القرآن الكريم، من قبل ألف وأربعمائة من السنين، يجمع كل هذه الصور التي نعرفها اليوم، وربما العديد من الصور التي لم نعرفها بعد، في كلمة واحدة وهي الرجع" ساعدك الله يا أمة الاسلام على هكذا "علماء" يجيدون الشعوذة والتلاعب بالألفاظ، ولهم مهارات فائقة في السرقات الإعجازية وفي حشو الكلام! سبحانه القائل: "قُل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق" [المائدة: 77]. إن استفهامًا واحدًا نطرحه على هؤلاء الإعجازيين المتعلمنين، هذا الاستفهام لا يخطر على بالهم ولا يريدون التعرض له لأن من الصعب الإجابة عليه، يقول الاستفهام: إذا صح ذلك، ووجدت مثل تلك "الاشارات" العلمية في القرآن، فلِم لم يتم اكتشافها واستنباطها من قبلكم، وأنتم قراء القرآن وأهله ومفسروه، وتعرفون كل شاردة وواردة فيه، قبل أن يكتشفها الغير من أتباع الديانات الأخرى واللادينيين، وهم الذين لا يعرفون لغة القرآن ولم يقرأوه، اكتشفوها بعد عناء طويل بواسطة مراصدهم ومختبراتهم وتحليلاتهم وصراعاتهم النظرية؟! ولكنه إعجاز في السرقات العلمية، سرقة جهود الغير وتبخيس الناس أشياءهم؛ من جهة ثانية، ماذا قدم الإعجازيون للبشرية في كل تاريخهم الطويل غير هذه السماجات التي لا تنتهي، فإذا استثنينا النفط والكافيار (بيض السمك) والسجاد الإيراني والأفيون الأفغاني، فإن الدول الأعضاء (56 دولة) في منظمة المؤتمر الإسلامي لا تقدم شيئًا للسوق العالمية، ومن بين منتجات الدرجة الأولى، المميزة، الخمسة آلاف في العالم، لا تُنتج واحدة منها في بلد اسلامي؛ وبصدد التعليم فقد نالت جامعة واحدة فقط في بلدان العالم الإسلامي موقعًا على قائمة تتألف من 3000 جامعة مرموقة على امتداد العالم، وقد جاء ترتيبها في آخر القائمة! فأهل الاعجاز هم أنفسهم عالة على منجزات وصناعات الآخرين، ابتداءًا من أصغر الأشياء كقدح الشاي والملعقة وفرشاة الأسنان والملابس الداخلية والخارجية، إلى الأشياء الكبيرة كالسيارات والطائرات والحاسوبات والجرارت ومكيفات التبريد...! إن القرآن الكريم، قبل كل شيء آخر، هو كتاب دين، كتاب تبشير وارشاد ونصيحة وحكمة: "هذا بيانٌ للناس وهُدى وموعظةٌ للمتقين"، وكل ما جاء فيه من نصوص متعلقة بمفهوم البناء الكوني إنما جاء في معرض التدليل على القدرة الإلهية لرب الدين الجديد، بمعنى أن القرآن لم يُخلق لترسيخ قواعد علم اللغة أو النفس أو الفلسفة أو الفيزياء أو الكيمياء أو الهندسة أو الطب، بل لتذكير المخلوق بالخالق، وجعل الطبيعة (النجوم، القمر، النور، الأرض، الحيوانات، النباتات، الأمطار، الصواعق...) تدليلاً رمزيًا على إبداع الله وقدرته. ما انفك الخطاب الإلهي، على طول صفحات القرآن وعرضها ومن أولها إلى آخرها، يورد الآيات المستلهمة من الطبيعة والحياة والظواهر الكونية تلو الآيات، لتذكير الناس بعظمة الخالق ووحدانيته: "خلق السماوات والأرض بالحق - الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها - وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى - وسخر لكم الليل والنهار - وعلامات وبالنجوم يهتدون - وهو الذي مدَّ الأرض وجعل فيها رواسي وأنهار ومن كل الثمرات - خلق الإنسان من نطفة - والأنعام خلقها - هو الذي أنزل من السماء ماءً ينبت لكم به الزرع والزيتون - وهو الذي سخر البحر...الخ". وبعد كل هذه الآيات والشواهد المكررة، يتساءل: "أفمن يخلقُ كمن لا يخلقُ أفلا تذكرونَ" [النحل: 17]. إلا أن أهل الإعجاز العلمي يحرفون تلك الآيات عن معانيها وسياقاتها النصية والتاريخية، ويسرحون في خيال علمي هشٍّ، وبهذا فإنهم يفترون على كلام الله الكذب. "إن الذين يفترون على الله الكذبَ لا يفلحونَ" [النحل: 116]. ويختلف العلم مع القرآن، من ناحية المنهج، اختلافًا حادًا وجذريًا، من حيث أن الأول (أي العلم) ذا منهج استقرائي وتجريبي واختباري يتعرض بين فترة وأخرى للأخطاء والتصويبات والتراجعات ويخضع للفحوصات والتساؤلات من أجل أن يتقدم ويتطور، بيد أن الثاني (أي القرآن) له منهج إيماني تقريري ثابت لا يقبل المناقشة والتساؤل، ويعتمد على التمامية والقطعية والجزم. فعلى سبيل المثال، فإن المؤمن بالدين الإسلامي لا يمكنه تناول لحم الخنزير حتى لو أكدت كتب الأرض العلمية كلها على صلاحية لحمه وفوائده، لإنه حُرّم بالنص القرآني؛ كذلك على المؤمن أن يصدق بقصص أوردها القرآن حتى لو خرجت عن نطاق الواقعي والتاريخي ولا يمكن اثبات صحتها أو عدم صحتها مثل قصة أهل الكهف وأهل ماجوج وياجوج. إنها مسائل تتعلق بالإيمان وليس بالعلم ووسائله المعرفية، ومفهوم "العلم" الذي ورد في القرآن الكريم، هو واشتقاقاته، نحو 880 مرة، يُراد به العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر عباداته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته، وما يجب له من القيام بأمره، وتنزيهه عن النقائض، ومدار ذلك علم التفسير والحديث والفقه، وحتى "الغيب" الذي نص عليه القرآن هو علم بالمفهوم الديني. ويذكر الدكتور صبحي الصالح في كتابه المهم مباحث في علوم القرآن (ط 6، بيروت، 1969) بأن العلوم القرآنية هي: علم التفسير، علم أسباب النزول، علم المكي والمدني، علم الناسخ والمنسوخ، علم غريب القرآن. وقد نشأت علوم جديدة مثل: بدائع القرآن، حجج القرآن، أقسام القرآن. وقد توجب اختصار تلك العلوم في علم جديد موحد اسمه "علوم القرآن". إن الضجيج الذي ينطلق من أذهان أهل الإعجاز العلمي يعطيهم - وهذا أمر شديد الأهمية- الوهم بأنهم يستطيعون فهم العالم وأنهم يفهموه فعلاً! لذا نؤكد بأن الإعجاز العلمي ليس علمًا خاطئًا، لأنه قبل كل شيء ليس علمًا، إنما هو صناعة خائبة لا تنتج سوى الوهم، ولا تزدهر ولا تنتعش مثل هذه الصناعة الفتاكة إلا بين المجتمعات التي تعزف عن القراءة والكتابة، حيث تنتشر الأمية بين أكثر من نصف السكان البالغين في البلدان الإسلامية، بل قد تصل إلى 70% بين النساء. وتشير الاحصائيات إلى أن معدل قراءة الفرد في العالم الإسلامي على مستوى العالم هو ربع صفحة، بينما معدل قراءة الأمريكي 11 كتاب، والبريطاني 7 كتاب. وتقدر الاحصائيات أن متوسط قراءة الفرد في هذا العالم، مقارنة بالقارئ العالمي، لا تتجاوز النصف ساعة سنويًا، وأكثر الكتب رواجًا بين أوساط الناس هي كتب قراءة الفنجان والأبراج والبحث عن الطالع! لذا ليس من الغريب أن تجد برامج وكتب صناعة الوهم، هي الأخرى، رواجها بين ناس أتعبهم البحث عن اللقمة، وسلبت إراداتهم وعقولهم سلطة الحكم وسلطة الوهم. *** *** *** [1] محاولة لفهم عصري للقرآن، مصطفى محمود، بيروت 1970. [2] المرجع السابق. [3] انظر كتابات الهيئة العالمية للاعجاز العلمي في القرآن والسنة على موقع الشيخ زغلول www.elnaggarzr.com
|
|
|