|
أخلاق كُليَّة مبنية على أسس عقلية
يقدم فكر الفيلسوف الألماني هابرماس (مواليد 1929) بوصفه مشروعًا لتحرير الوعي الاجتماعي وتأسيس التواصل الإنساني، جامعًا بين الرؤية الفلسفية والتحليل السوسيولوجي. وجهد لتطوير النظرية النقدية التي ظهرت في عشرينات القرن العشرين وتميزت بها لاحقًا مدرسة فرانكفورت. وإذا كان هابرماس يعتبر النظرية النقدية طريقًا لإدراك كمال أو تمام المجتمع، وبالتالي فهي تمثل التقييم المعياري لحال المجتمع الراهنة على اعتبارها معبرة عن مدى تحقق ذلك التمام، وإذا كان يعتبر أن الكمال هو نهاية للقسر وتحقيق للاستقلال من خلال العقل، ونهاية للاغتراب من خلال الانسجام الجمعي للمصالح، ونهاية للظلم والفقر من خلال إدارة عقلانية عادلة؛ فإن العبارة المقتضبة الواردة في مؤلفه نظرية الفعل التواصلي تشير إلى محورية اللغة في فكره، إذ يقول: يكمن التفاهم بوصفه حالة التمام في اللغة الإنسانية. وقد عد هابرماس فيلسوف التواصل والعقل التواصلي ضدًا من العقل الأداتي ذي السمة الاختزالية الذي ينظر إلى الطبيعة والواقع من منظور التماثل، فلا يهتم بالخصوصية ويحاول تفتيت الواقع إلى أجزاء غير مترابطة وينظر إلى الإنسان باعتباره مجرد جزء يشبه الأجزاء الطبيعية المادية، فهو عنده شيء ثابت وكمي. والعقل الأداتي (المتمركز على الذات) هو نتاج انشطار واغتصاب، أي نتاج سيرورة اجتماعية. يعرض هابرماس، بحسب الباحث، مفهومًا جديدًا للعقل هو العقل التواصلي، المرتبط بالحداثة والمستفيد من معطيات العقل النقدي، ويؤكد في نظرية الفعل التواصلي: إن هذا العقل يتجاوز العقلانية الغربية التي أعطت أولوية مطلقة للعقل الغائي، والتي تهدف إلى تحقيق مصالح وغايات معينة. فهذا العقل يُبنى على فعل خلاق يقوم على الاتفاق وبعيدًا من الضغط والتعسف، وهدفه بلورة إجماع يعبر عن المساواة داخل فضاء عام ينتزع فيه الفرد جانبًا من ذاتيته ويدمجها في المجهود الجمعي الذي يقوم بالتفاهم والتواصل العقلي. فالعقل التواصلي إذن هو المخرج من فلسفة الذات. وفي الخطاب الفلسفي للحداثة يشدد هابرماس على أن العقلانية التواصلية تقاس بالقدرة التي يحوزها الأشخاص المسؤولون والمشاركون في تفاعل ما على التوجه بالقياس إلى ادعاءات الصلاحية التي تستند إلى اعتراف ذاتي، فهذا العقل يضع مقاييس العقلنة. وتؤدي اللغة في هذا السياق دورًا محوريًا، بوصفها الوسيط الأساسي للتواصل بين الذوات، إذ أنها تعتمد على عمليات اجتماعية ليست لغوية في طبيعتها وإنما هي واسطة للقوة الاجتماعية. وكان هابرماس قد ذكر في مؤلفه نحو منطق للعلوم الاجتماعية أنه: لم يُنظر بعد إلى اللغة بوصفها الشرنقة التي يتعلق الأشخاص بخيوطها وتتشكل عليها ذواتهم كأشخاص. فاللغة حوار وعلاقة بالآخر والغيرية، وينظر هابرماس إلى بُعدها البراغماتي (التداولي) وهي منغمسة في الإنتاج والإبداع. بيد أن الحوار تحكمه شروط منها: ديموقراطية الحوار وتوافر الظروف التي تضمن الإجماع الذي لن يتم التوصل اليه إلا من طريق قوة الأطروحة الأفضل، ولذلك لا بد من قوة الحجة والبراهين التي يقوم عليها التواصل، وعلى هذا الأخير أن يتحرر من أشكال الضغط وهيمنة كل طرف على الآخر. وينظر هابرماس إلى الأخلاق التواصلية كفلسفة عقلانية يمكن التوصل إليها عبر نقاش حر عقلاني تحوز في نهايته الرضى والقبول. ويجمع الفيلسوف الألماني بين الأخلاق النظرية ومبدأ الاتصال، فهذا الأخير أصبح الصوت الوحيد القادر على توحيد عالم فقد كل مرجعياته. والتناقض القائم أننا نحيا مشهد من اللاتواصل، إذ يعاني الإنسان الحديث من الإحباط والعزلة وعدم تماسك النسيج الاجتماعي. وفي رأي هابرماس لا يمكن فك عزلة الحياة اليومية وما ينجم عنها إلا بالأخلاق. وتتميز هذه بسمة الاتفاق، فهو يقوم على القوة الخالية من عنف الخطاب وعلى هذه الأسس يؤثر المتحاورون الواحد في الآخر في الفاعلية الاستراتيجية. وفي الفاعلية التواصلية يؤثر الفاعلون طبقًا للتفاهم المتبادل، وهنا مبدأ الأخلاق. إن كل تواصل هو أمر معياري، أنه يفترض مسبقًا أن الآخر شخص، أنني لا أتعامل معه كشيء، فالتواصل إيضاح مملكة الأخلاق النظرية، يُعلن عن الاعتراف بالأشخاص ضمن أفق التعميم الكلي. يذهب الباحث إلى تبني وجهة هابرماس في أخلاق كلية مبنية على أسس عقلية ومبادئ مقنعة على صعيد عالمي. ومشروعه هذا كما يقدمه يقوم على إصلاح الأخلاق طبقًا لكانط من طريق "تكملة معايير أخلاقية في التواصل"، وصولاً إلى صوغ نوع جديد يحمل مسمى الأخلاق "التواصلية" ومهمتها، في نظر الباحث، أن تخلق، من خلال التداوليات الكلية، إطارًا عقلانيًا للتفاهم بين مختلف مجالات المعرفة، والتفاوض بين المصالح المتعددة، وهي لا تحتاج إلى أي مبدأ مسبق لأنها تستند أساسًا إلى المعايير الأساسية للخطاب العقلاني. والحال، لا تجد الديموقراطية شرطها النهائي إلا في النشاط التواصلي الذي يجري في المجال العام (الديموقراطية التواصلية)، وبهذا المعنى فإن الديموقراطية التمثيلية (كما الحداثة) لا تزال مشروعًا يبحث عن تمامه.
الكتاب: يورجين هابرماس. *** *** *** المستقبل - الجمعة 13 آذار 2009 - العدد 3245 - رأي وفكر - صفحة 19
|
|
|