السلطة، المؤسسة الدينية، والناس

 

مازن كم الماز

 

كان هناك، أولاً، الفعل التاريخي للأحداث التي تلت وفاة الرسول محمد، وما انتهت إليه، قبل أن تبدأ المؤسسة الدينية بمحاولة استيعاب نتائج هذه الأحداث وقوننتها، في وقت لاحق بعيد نسبيًا. انقسم التحليل التالي للنخبة المثقفة وللمؤسسة الدينية، الذي كان لابد أن يأخذ شكل خطابات دينية بالضرورة، بين من برر مجمل الانقلاب الأموي على الشكل الجنيني للسلطة، الذي كان آخذًا بالتبلور في المدينة المنورة، وكرسه على أنه الشكل الصحيح الوحيد للسلطة الشرعية - أهل السنة فيما بعد؛ وبين من عارضه أو نقضه لصالح "سلطة أكثر شرعية" - الشيعة والخوارج. كلا الخطابين أخذ يؤسس لمفهوماته وأطروحاته. كانت أطروحة العصمة مركزية لدى كلا الطرفين، لكن في اتجاهين متعاكسين، بين من اعتبر أن الأحداث قد أدت إلى إبعاد السلطة عمن "يستحقونها" وفقًا لقانون النسب القبلي، فنسب هذه العصمة لآل البيت؛ وبين من تفرغ للدفاع عن السلطة القائمة وتكريس شرعيتها، فنسب هذه العصمة إلى الصحابة ككتلة، أو حتى كأفراد بدرجات متفاوتة، رغم أنه قد أنكر فكرة العصمة الفردية ضد الطرف الأول، ولو أنه مارسها بشكل مختلف. وقد أصر كلا الخطابين على تكريس هذه العصمة، وحمايتها بمحرمات مرتبطة بالتكفير. وشكلت هذه العصمة، فوق الإنسانية، استحواذًا جديًا فرض نفسه على إنتاج المؤسسة الدينية، سواء الموالية للسلطة أو المعارضة لها، التي تشددت فيها بشدة لأنها كانت الأساس الوحيد الذي يمكنها من خلاله إعطاء تفسير أخلاقي فوق دنيوي "مقدس" لصراع دنيوي بامتياز لم يتوقف منذ ذلك اليوم، ولواقع سلطوي قهري قمعي يقوم على شهوة السلطة وعلى استلحاق المجتمع بالسلطة، وحقها غير القابل للنقاش في نهبه دون ضوابط فعلية. كان هذا سيعني أولاً أولوية السلطة على المجتمع، أولوية السلطة على الإنسان، بعد إعطائها شرعية دينية، أو ربما اعتبارها أهم جزء في هذه الشرعية. وهناك بالتالي خلاف على مصدر شرعية السلطة، كمؤسسة، بين النص على علي في حالة شيعة آل البيت، أو الإجماع (إجماع الصحابة) في حالة أهل السنة؛ والذي يعطي هنا نموذجًا نادرًا عن الحالات المحدودة جدًا التي وضع فيها الفقه السني السائد، والمدعوم أو المرتبط بالسلطة السائدة، الإجماع في مركز التشريع ليستخدمه في قوننة وتبرير سير الأحداث في مرحلة الفتنة، بعيدًا عن أن يعني "إجماع الأمة" حقيقةً، الأمر الذي كان سيهدد، بكل تأكيد، أولوية السلطة، ومن تحتها النخبة الاجتماعية والمثقفة المسيطرة التي سمت نفسها أهل الحل والعقد. فيما نجد أبو بكر الأصم المعتزلي، مثلاً، يقف موقفًا مختلفًا جذريًا من قضية الإجماع حين أصر، مثلاً، على أن "الإمامة (هذا في حال ضرورتها) لا تنعقد إلا بإجماع الأمة عن بكرة أبيها"، بينما نجد أن مقاربة السلطة والنخبة التابعة لها أو المرتبطة بها تقسم الناس إلى ثلاث مجموعات:

"أهل الاختيار" المفوضين باختيار الإمام، و"أهل الإمامة" الذين يكون الاختيار بينهم[1]، وطبعًا العامة - الأتباع المأمورون بالسمع والطاعة.

والإمامة، كما يقول الماوردي، تنعقد بطريقين: "أحدهما باختيار أهل الحل والعقد، والثاني بعهد الإمام من قبل"[2]. هكذا يدور الجدل مثلاً في شرعية سلطة عثمان بن عفان وبعده معاوية، تلك اللحظة الانتقالية التاريخية من الخلافة إلى الملك، كما سماها ابن خلدون. يدور هذا الجدل حول تبرير أفعال عثمان ومعاوية، وبعدهما يزيد وعبد الملك، أو نقضها استنادًا إلى أن هؤلاء إنما اعتدوا على حق علي وآل البيت في تولي السلطة، أو أنهم محقون أو مقدمون لسابقتهم في الإسلام. هكذا جرى، في وقت تال، تجميع كل الأسلحة الممكنة، خاصة عن فضل علي أو في نقض فضله وتثبيت فضل عثمان ومعاوية، خاصة من الأحاديث النبوية، التي جمعت في وقت لاحق لتدعم التفسير المناسب لآيات النص القرآني. هكذا يبرر ابن تيمية، مثلاً، أن يقوم عثمان، أو كاتبه مروان بن الحكم، بكتابة كتاب لقتل محمد بن أبي بكر بدلاً من كتاب تعيينه واليًا على مصر، بأنه، أي عثمان، أولى بالطاعة لأن عثمان إمام هدى وخليفة راشد تجب عليه سياسة رعيته وقتل من لا يدفع شره إلا بقتله، أما الذين طلبوا قتل مروان بن الحكم، المتهم بتزوير كتاب عثمان بن عفان، فهم قوم خوارج مفسدون ليس لهم قتل أحد ولا إقامة حد[3]. لماذا؟ لأن مروان بن الحكم أشهر بالعلم والدين من محمد بن أبي بكر. بل لقد أخرج أهل الصحاح عدة أحاديث عن مروان، وله قول مع أهل الفتيا واختلف في صحبته للرسول؛ أما محمد بن أبي بكر فهو ليس بهذه المنزلة. هكذا يجري تكريس منطق السلطة (فحتى الشيعة شكلوا دومًا مشروع سلطة بديلة رغم أن مشروعهم قد شهد تطورات كبيرة تمثلت في نشوء الزيدية والإسماعيلية، وأخيرًا ما سمي بفرق الغلاة استجابة لتطور الواقع الاجتماعي والعقيدي والسلطوي القائم) في مواجهة منطق المعارضة الشعبية: منطق أبي ذر الغفاري مثلاً في مواجهة منطق معاوية: "مال المسلمين أم مال الله؟". هنا يأتي منطق عبد الله بن عمر التلفيقي: "ما أديت زكاته فليس بكنز"، في معارضة تفسير أبي ذر للآية: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ) -التوبة 34، لتبرير منطق معاوية في خروجه واستباحته، وخلفائه من بعده وجلاديهم كالحجاج، ليس فقط للمجتمع بل حتى لكل ما يرتبط بالمقدس، عندما قال في قتل جنوده لعمار بن ياسر، الذي تقول بعض المصادر أن الرسول قال أنه يقتل على يد الفئة الباغية: "إنما قتله من أخرجه"، ولتثبيت منطق السلطة (لوددت أن هذا الملطاط لك) - الملطاط هو ما كان لكسرى على جانب الفرات الذي بعد الكوفة-، وهو ما قاله أحد ندام سعيد بن العاص والي عثمان على الكوفة له في مجلسه، فتعرض للضرب من قبل بعض من حضر ذلك المجلس الذين أنكروا عليه قوله هذا، فيرسلهم عثمان إلى معاوية الذي حاول رشوتهم ففشل فأرسلهم إلى والي حمص عبد الرحمن بن خالد بن الوليد الذي شتمهم وهددهم، وهم الذين شكلوا فيما بعد جزءًا هامًا من الثوار الخارجين على عثمان؛ منطق السلطة في وجه منطق الديمقراطية القبلية. "على ماذا قتلنا الشيخ (أي عثمان) إذن؟! اليمن لعبيد الله (بن العباس ابن عم علي) والحجاز لقثم (بن العباس) و البصرة لعبد الله والكوفة لعلي!" هذا ما قاله الأشتر بعد أن عرف باستعمال علي لابن عمه عبد الله بن العباس على البصرة[4].

في اختصار تحولت القضية في تبرير السلطة إلى تبرير وضعية مالكها دينيًا، بمجرد إثبات أن عثمان أو معاوية أو الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله هو المرشح الوحيد دينيًا للسلطة أو أنه يحكم باسم المقدس حتى يصبح من حق أي من هؤلاء أن يتصرف كإله أرضي حقيقي في البشر والناس والأموال بل ومع تكفير أي معارضة أو خروج عليه على أنه خروج على المقدس[5]، لذلك كان هذا الخروج عادة ما يتخذ شكل مقدس منافس على "حقيقة فهم النص المقدس"، أي سلطة تدعي أنها أكثر شرعية من السلطة القائمة على أساس فهم مختلف للمقدس. كان هذا هو الدور الأساسي الذي فوض لما سمي بأهل الحل و العقد أو الخاصة من البشر أما العامة فعليها الاعتماد على هذه الخاصة سواء في اختيار السلطة أو الرضا بها أو تحديد أو تبرير شرعيتها وبالنتيجة السمع والطاعة للسلطة. هذا النمط النخبوي لاختيار الحاكم، والذي كان في معظم فترات تاريخنا مهمشًا لصالح النمط الآخر من تولي السلطة بواسطة تعيين الحاكم القادم من قبل السابق أو بتغلبه على السلطة بالقوة القهرية، هذا النمط هو ما تعتبره الحركات الإسلامية المعاصرة الشكل الأمثل والشرعي لحكمنا اليوم. ويستند هذا الموقف الذي يقسم الناس إلى خاصة، أهل حل وعقد، وعامة مأمورة بالسمع والطاعة، إلى أننا كمكلفين محكومين بالسهو والنقص ولا سبيل إلى معالجة هذا إلا بوصاية ومراقبة من سلطة أعلى ومؤسسة دينية مرتبطة بها بدرجة مختلفة. هذا في وقت تحاول فيه بعض هذه الحركات الإسلامية أن تستخدم جزئيًا أطروحات المعارضة الشعبية ضد سلفها أو تراثها الماضي والسلطة التي كانت تدعمها أو تعمدها بالزيت المقدس فيما مضى ضد الأنظمة القائمة اليوم، وهي ترفض، في نفس الوقت، بإصرار حتى أي نقد تحت طائلة التكفير للأساس الديني لموقفها من السلطات الدكتاتورية القائمة أو لتبرير شرعية بديلها الفوقي النخبوي. لكن كان هناك صوت مختلف، مختلف جدًا عن كل هذا، وكان طبيعيًا أن نجده عند المعتزلة العقلانيين الذين رفعوا شأن الإنسان لينافس المقدس، وعند الثوار الخوارج الذين لا يعرفون المهادنة مع الاستبداد. فقد أنكر النجدات من الخوارج و أبو بكر الأصم وهشام بن عمرو الشيباني الفوطي المعتزليان أساسًا الحاجة لوجود سلطة قهرية في المجتمع. قال أبو بكر الأصم المعتزلي: "لو تكاف الناس عن التظالم لاستغنوا عن الإمام"، ينقل الشهرستاني عن الأصم والفوطي في كتابه الملل والنحل "إن الإمامة غير واجبة في الشرع … فإن تعادلوا (أي الناس) وتعاونوا وتناصروا على البر والتقوى، واشتغل كل واحد من المكلفين بواجبه وتكليفه استغنوا عن الإمام و متابعته، فإن كل واحد من المجتهدين مثل صاحبه في الدين والإسلام والعلم والاجتهاد، والناس كأسنان المشط، والناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة، فمن أين يلزم وجوب الطاعة لمن هو مثله؟!".

من الواضح هنا أن الأساس الذي ينطلق منه هذا الموقف هو المساواة بين الناس، ورفض تقسيمهم إلى عامة وخاصة وبالتأكيد إلى حكام ومحكومين. لكي أكون صريحًا، لم أجد حتى اليوم مثل هذا التعريف الدقيق للديمقراطية المباشرة التي يمارسها الناس دون وصاية نخبة ما، ناهيك عن وجود سلطة فوق إنسانية تستولي على حياة هؤلاء البشر وتصادر حقهم في توجيه حياتهم وفق ما يرون، ولصالحهم هم تحديدًا.

20 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008

*** *** ***


 

horizontal rule

[1]  الأحكام السلطانية للماوردي، ص 6.

[2]  المرجع السابق، ص 7.

[3]  منهاج السنة، 3 – 189.

[4]  تاريخ الطبري، 5 – 194

[5]  حديث ابن عمر لعثمان: فلا تخلع قميص الله عنك. فتكون سنة، كلما كره قوم خليفتهم خلعوه أو قتلوه. العواصم من القواصم، ابن العربي، ص 136.

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود