|
مـصـر السـافـرة
صدرت صحيفة السفور الأسبوعية في القاهرة عام 1915، وتحولت إلى منبر لإعلام النهضة المصرية مدى ثلاث سنوات. جسّد عنوان هذه الصحيفة تحولاً كبيرًا في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، ظهرت معالمه الأولى في ثورة التاسع عشر، وتجلّت في العشرينات. انتصر السفور في الثلاثينات، ومع انتصاره بدأت المرأة تخوض سلسلة من المعارك "لتشترك في توجيه الحياة الحديثة، وبناء العالم من جديد"، على ما كتبت بنت الشاطئ في مجلة الهلال. في نهاية أيلول 1923، قدّمت فرقة علي الكسار مسرحية من تأليف أمين صدقي عنوانها الانتخابات تطرقت إلى قضية تحرير المرأة وضرورة المطالبة بحقوقها والمشاركة بصوتها في الانتخابات. وجدت هذه القضية أبلغ تعبير عنها في أغنية لحّنها سيد درويش تقول كلماتها:
ده وقتك ده يومك يا بنت اليوم تشهد هذه الكلمات للتحول الكبير الذي عرفته مصر في الربع الأول من القرن العشرين حيث صار سفور المرأة شعارًا يرمز إلى التقدم والنهضة والانفتاح والتجديد. في عام 1915، اختار عبد الحميد حمدي عبارة السفور عنوانًا للجريدة الأسبوعية التي أصدرها، وسرعان ما تحولت هذه الجريدة الأدبية إلى منبر لأدباء المدرسة الحديثة، أبرزهم الشيخ مصطفى عبد الرازق وشقيقه علي عبد الرازق وطه السباعي. صدم عنوان هذه الصحيفة الذوق العام وأثار حفيظة الكثيرين، واستهدف صاحبها بكثير من المطاعن لكنه صمد وفتح صفحات جريدته لدعاة النهضة مدى ثلاث سنوات. في العدد الرابع، كتب الشيخ مصطفى عبد الرازق تحت عنوان نقد السفور: إذا كان صاحب هذه الجريدة وأصدقاؤه يغتبطون بما لقي السفور من حسن الوفادة ومن التشجيع بين أنصار الرقي وشيعة الإصلاح في هذا البلد شبانًا وكهولاً، فإنهم أشد اغتباطًا بما وُجّه إليهم من النقد المبني على الإخلاص والرغبة في تمحيص النصيحة، وإنّا لنشكر أولئك الناظرين نظرة العطف والرضاء لهذه الصحيفة الوليدة وهي في مهدها، وهم أولى الناس بأن يحوطوا برعايتهم الحكيمة نهضة شابة مملوءة بالحماسة والأمل. وأضاف الشيخ الأزهري في افتتاحيته: يقول بعض الفضلاء إن اسم السفور يخيّل للناس أن هذه الصحيفة ليست إلا صيحة مكررة إلى تمزيق البرقع عن وجه المرأة المصرية، ويرون أن البيان الذي صدَّر به صاحب الجريدة أول عدد من أعدادها ليس كافيًا في دفع هذا الوهم. ولا يريد أنصار هذه الصحيفة أن ينكروا أنهم جميعًا من أعوان الدعوة إلى حرية المرأة، ولكنهم يريدون أن يفهم الناس أن للسفور معنى أشمل مما يتبادر إلى الذهن عند سماع هذه الكلمة التي جرت بها أقلام الباحثين في مسألة المرأة المصرية. وإن هذه الصحيفة تريد أن تكون مظهر التقدم الفكري في هذه البلد ومضمارًا لكل دعوة حرة صالحة. علامات السفور
هدى شعراوي وجدت هذه الدعوة الكثير من المناصرين، وتمثّل انتصارها بعدد من المحطات التاريخية التي باتت في الذاكرة الجماعية رمزًا لنهضة المرأة المصرية. في عام 1920، عادت هدى شعراوي من فرنسا صحبة ابنتها وزوجها على متن الباخرة التي ركبها سعد زغلول، وعند وصولها إلى المرفأ، نزلت الأم وابنتها سافرتي الوجه أمام الجموع التي احتشدت لاستقبال الزعيم سعد، ورفعت من يومها الحجاب، وسار على مثالها الكثيرات من سيدات ذلك الزمن. تظهر هدى شعراوي برفقة سيزا نبراوي في صور فوتوغرافية التقطت في المؤتمر النسائي الذي انعقد في جنيف في السنة نفسها، وتظهر السيدتان مرة أخرى في روما حيث انعقد المؤتمر الدولي للمرأة في عام 1923. في تلك السنة، تجاوزت "أم المصريين" صفية زغلول التقاليد وظهرت في مجلة اللطائف المصورة مكشوفة الوجه والرأس في صورة التقطها مصور المجلة زولا، مما دفع صحيفة أبو الهول إلى انتقادها بشدة. ردّ أحد قراء اللطائف على هذه الحملة برسالة جاء فيها: كان الرسم في ما مضى يُشار إليه بالتحريم، إلى أن اقتحم المرحوم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده هذه السدود الوهمية بأن أُخذت صولاته الفوتوغرافية، فأصبح الرسم بعدها مألوفًا من جميع الطبقات. ولو نظرنا إلى المسألة من الوجهة الفنية، لوجدنا أن للرسم أثرًا ضروريًا لحفظ تذكار الشخص بعمله المجيد وللذكرى العائلية. أقول بمناسبة ما ذكرته جريدة أبو الهول وانتقادها حضرة صاحبة العصمة السيدة الجليلة صفية هانم زغلول لسماحها لـاللطائف بأخذ صورتها ونشرها، فهذه السيدة المحترمة على الرغم من تقدمها في السن، فإن مركزها الخاص بين المصريين يبيح التصوير ولا غضاضة فيه، لأن المصريين ينظرون إليها بعين التبجيل والاحترام. خرجت المرأة المصرية من الظل في عهد ثورة التاسع عشر وكشفت عن وجهها. في آذار 1925، شهدت القاهرة ولادة "اللجنة السعدية للسيدات"، وهي جمعية نسائية تهدف إلى انتزاع حقوق المرأة بالسلم، وتضم "طائفة من أنجب سيدات مصر وأكثرهن غيرة على مصلحة الوطن"، كما جاء في خبر صحافي يعود إلى تلك المرحلة. يرافق هذا الخبر صورة لسيدات هذه الجمعية، والغالبية العظمى منهن سافرات الوجوه على مثال هدى وسيزا. في الثلاثينات، بدا انتصار السفور جليًا في مختلف حقول الحياة المصرية. وفي الأربعينات، تجاوزت المرأة هذه القضية "القديمة" لتطالب بحقها في الانتخاب والترشيح. كتبت بنت الشاطئ في مجلة الهلال: نساؤنا بعد نصف قرن من الزمان، ماذا يكون من أمرهن، وإلى ما تنتهي بهن هذه السنون الطويلات؟ المرأة من الجيل الأول هي التي تعاني الأخطاء الكبيرة التي لابست الحركة الحاضرة. وتتعرض لأزمة نفسية قاسية عصيبة. ثم تأتي ابنتها من بعدها، فتعلن النور وتشعل النار. وهي لن تتردد في سبيل ذلك في دفع أي ثمن وخوض أية معركة واقتحام أي ميدان. ستمضي في الطريق الوعر إلى النهاية وسيراها القرن الحادي والعشرون وقد فتحت معقلين موصدين اليوم أمامنا. أما الأول فهو باب الأزهر، تدخله عنوة ولو كره الرجال، لتفقه الحدود الشرعية وتنتفع بها وتفسرها تفسيرًا تراعي فيه مصلحتها كما فعل الرجل من قديم الزمان. وأما الثاني فهو باب البرلمان، تدخله في معركة رهيبة تستشهد فيها الأنثى، لتشترك في توجيه الحياة الحديثة، وبناء العالم من جديد. ويومئذ قد يثور الرجال ويسخطون وينكرون. ولكن الزمن سوف يمضي بها غير مكترث بصياح الصائحين وسخط الساخطين وثورة الثائرين. بنات النيل
لطيفة الزيات تردد صدى دعوة بنت الشاطئ للنهوض بالمرأة. في عام 1944، وُلد الحزب النسائي الوطني المصري على أيدي مجموعة من النساء، وكان هدفه الأول المطالبة بحق المرأة في الانتخابات وفي تمثيلها في البرلمان. رفض البرلمان المصري الاعتراف بهذا الحق، وخرجت هدى شعراوي من الجلسة لتقول: كنت أول من طالب بهذه الحقوق للمرأة المصرية منذ سنوات طويلة، ولن يثنيني ما حدث في البرلمان الآن عن الكفاح والجهاد والسعي الحثيث لتحقيق الهدف الذي أسعى إليه. وإنه ليدهشني حقًا أن الرجعية تمتزج بالديموقراطية، فأرى من يقومون لينكروا على المصرية حقها الشرعي، في الوقت الذي شهدوا فيه تقدمها ولمسوا ما يمكن أن تقوم به من أعمال نافعة، فرفضوا أن يعطوها هذا الحق في الوقت الذي يعطونه للجهلة من الرجال. بعد عامين، أقامت رابطة فتيات الجامعة والمعاهد المصرية مؤتمرًا في قاعة الليسيه وطالبت بحقوق المرأة السياسية بصوت عال. تحدثت لطيفة الزيات في هذا المؤتمر وقالت: لقد قمنا بحركتنا في اكتوبر عام 1945، وانضمت إلينا الفتيات المثقفات. وفي غدنا سنضم النساء المصريات، فلاحات وعاملات. إننا نود أن نردّ على أولئك الذين يزعمون أن المرأة لا تستطيع أن تجمع بين واجب بيتها وواجبها كمواطنة. سنعمل على أن يكون للمرأة حق الانتخاب والنيابة والمساواة مع الرجل في الأجور والأعمال. سنمكّن المرأة من أن تلعب دورها في الإنتاج القومي. تجاوزت المرأة في تلك الحقبة ثورة السفور وباتت تطالب بحقوقها كاملة، ولم تعد هذه المطالبة حكرًا على النخبة. يشير طه حسين إلى هذا التطور في مقال كتبه بالفرنسية، وفيه يقول: لم تعد نساء الطبقة البورجوازية يكتفين بموقف المتفرج في المناقشة الدائرة بشأن حريتهن، وإنما أخذن تلك الحرية أخذًا. فقد طرحن الحجاب، وخرجن من بيوتهن وتظاهرن مع الرجال في الشوارع ضد الإنكليز، بشأن حريتهن، وإنما أخذن تلك الحرية وطالبن بنصيبهن من الخطر في النضال. لا ينحصر السفور في نساء الطبقة البورجوازية التي تبنّت الطرق الغربية في الحياة. تظهر زوجة الشيخ مصفى ياسين قارئ القصر الملكي في صور فوتوغرافية من غير حجاب، وتظهر ابنته الشابة انجي في لباس بنات جيلها. كذلك تظهر زوجة الشيخ أبو العينين شعيشع، "خليفة" الشيخ عبد الباسط عبد الصمد في فن القراءة. أضحى السفور حالة طبيعية، ولم يعد خروجًا على الأعراف والتقاليد.
عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ" خاضت المرأة المصرية معارك أخرى في السنوات الأخيرة من العهد الملكي. ترأست درية شفيق "اتحاد بنت النيل" وقادت في عام 1951 تظاهرة في شوارع القاهرة توقفت أمام البرلمان المصري للمطالبة بحق المرأة في الدخول إليه. بعد عام، انبثقت "كتيبة بنت النيل" من هذا الاتحاد وحاصرت "بنك باركليز" البريطاني لمنع الناس من التعامل معه. انتهى العهد الملكي مع قيام ثورة تموز، واستمرت معركة المرأة المصرية. في عهد جمال عبد الناصر، غنّت نجاة الصغيرة من كلمات حسين السيد وألحان محمد عبد الوهاب:
كانو بيقولو الست حتفضل زي ما هيّ *** *** ***
|
|
|