|
اللاعنف والمقاومةNonviolence and resistance
الشرعية الإسلامية، حسب ما أرى، هي تعالوا إلى كلمة سواء: ما يجوز لي يجوز لك من الحق، ولا أعطي لنفسي حقًا لا أعطيه لك. هذه كلمة السواء وكلمة التقوى. ولكن تتقدم الشرعية الإسلامية، التي هي الشرعية النبوية، إلى درجة أعلى وهي أنك إذا أعطيت لنفسك حق نقض كلمة السواء لا أعطي لنفسي نقض كلمة السواء في الأمور السلبية (ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه)، وكذلك (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون)، والقرآن شرح لنا كلمة السواء بأن لا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله. فإذا قبل المجتمع أن يتخذ من بعض أفراد المجتمع أربابًا فإنَّا لا نشاركهم لا في الربوبية ولا في العبودية للناس، ونبقى على كلمة السواء من طرف واحد: أقبل التعاون على البر وأرفض التعاون على الإثم، هذا ما فعله بلال مع مجتمع قريش وهذا ما فعله أبو ذر لما بدأ المجتمع يخرج من كلمة السواء، فأنكر هذه الظاهرة التي بدأ يتحول إليها المجتمع، والتي وصل إليها فعلاً، فلم يتمكن من حل المشكلة بالعودة إلى كلمة السواء وإنما فتح باب القتل واستخدم العنف للتفكير. أنكر أبو ذر الطرفين، أنكر الانحراف وأنكر مواجهة الانحراف بالانحراف، فالدخول في هذا الأسلوب عودة إلى الوراء وخروج من نهج النبوة وخروج من الرشد إلى الغي، إلى تحكيم القوة.
في وقت متأخر من مساء الأول من أيار صرَّح الرئيس أوباما على شاشة التلفاز: "بوسعي أن أعلن للأمريكيين وللعالم أن الولايات المتحدة قادت عملية قتلت فيها أسامة بن لادن [...] لقد تحققت العدالة Justice has been done". نعم، لكن أية عدالة هي تلك التي تحققت؟ ويوضح الرئيس بأنه "سمح بعملية كانت الغاية منها إلقاء القبض على أسامة بن لادن، وتقديمه للعدالة". لأنه إن كانت هذه هي الغاية، فإن العملية التي قامت بها القوات الخاصة الأمريكية قد فشلت. بل على العكس من ذلك يعني موت بن لادن أنه لن يقدِّم أي بيان بأفعاله أمام العدالة، لأن بن لادن لم يعتقل، إنما قتل. إنه لم يحاكم، إنما فيه حكم الإعدام. ثم قيل لنا على التلفاز إن جثته في حالةٍ "مريعة"، ما يعني أن قتله هو ممارسة للعنف وليس تحقيقًا للعدالة، فعدالة البشر الحضاريين هي فعل إنساني وليست ممارسةً للعنف.
لا يساورك الشك مطلقًا بقدرة مجموعة صغيرة من المواطنين، متَّزني التفكير وملتزمين، على تغيير العالم. وفي الحقيقة، إنه الأمر الوحيد الممكن. (مارغريت ميد) لسنوات عدة، تحضرني هذه العبارة لمارغريت ميد كلما جلست إلى طاولة الكتابة، وتنفحني روحًا، على الغالب، حين يبدو التغيير ميؤوسًا منه. ويبدو أن هذه الفكرة، أو فكرة تشابهها، كانت هي السند لـ "نساء بالسواد" كحركة. لكن كيف حدث التغيير فعليًا، وما الدور الذي لعبته "نساء بالسواد" في صُنع ما حدث؟ صنع السلام خيار ما الذي قَلَب الموقف – من محاولة المتعادين إلحاق الهزيمة ببعضهم إلى الإذعان لمفاوضات سلام؟ كانت هناك مجموعة من العوامل، كما أعتقد: بدأ الفلسطينيون المسحوقون تحت نير الاحتلال في المناطق ثورتهم، الانتفاضة. فأيقظ العنف المُصاحب للانتفاضة الشعب الإسرائيلي على شرور الاحتلال؛ لم تكن رسالة عن معاناة الفلسطينيين فحسب، بل عن المعاناة التي تسلَّلت إلى بيوت الإسرائيليين أيضًا. فنظرًا لكون الخدمة العسكرية إلزامية، مع بعض الاستثناءات، لكل الشباب الإسرائيليين اليهود من الذكور والإناث (وليس مثل الخدمة الاحتياطية)، بدأت كل عائلة تقريبًا تتلمس آثار العنف – الموت، الإصابة، أو الرعب من الموت أو الإصابة. وعلى خط مواز، بدأت حركة السلام الإسرائيلية بالانتعاش، مُحفَّزة بأمرين اثنين: آ. الرغبة المخلصة في وضع حد لقمع الآخرين؛ ب. الرغبة في إيقاف العنف المنقلب ضدنا. لقد خلقت الانتفاضة وضعًا لا يطاق في الداخل الإسرائيلي، وكانت الحكومة الإسرائيلية تبحث عن طريق للخلاص من هذا الوضع؛ حيث أثبت استخدام القوة عدم جدواه. وفي غضون ذلك، كانت حركة السلام تواصل قرع أسماع الحكومة والرأي العام الإسرائيلي بفحوى رسالتها التي تعتبر التشبث باحتلال الأراضي الفلسطينية عبئًا وأن منظمة التحرير الفلسطينية هي شريك مقبول في المفاوضات. كان الوضع القائم وسياسة إسرائيل الكبرى مثار سخط، مما خلق مناخًا شرعيًا من أجل التسوية مع منظمة التحرير.
نشهد في الشرق الأوسط ظاهرة لا تتكرر إلا مرة كل نصف قرن أو كل قرن – حين ينتفض أناس من مختلف الأعمار، والديانات، والهويات السياسية، من أجل الحرِّية والعدالة، وهم من أجلِ ذلك مستعدين للتضحية بأنفسهم، وبمهنهم، وبعملهم، وتقاعدهم، بطريقة غير عنفية في سبيل قضية الحرِّية والعدالة. إنه الحلم يتحول إلى حقيقة، وخاصة بالنسبة لمن كان منا يناضل من أجل اللاعنف منذ سنوات طويلة. لأنه عندما تصدم الشرارة ضمير الناس، فإن هذه الشرارة سرعان ما تتحوَّل إلى قصبة مضيئة، ثم تصبح نارًا ومن ثم تتحوَّل حتمًا إلى نجمة تدل كل واحد إلى الهدف. في تلك اللحظة، يشعر الآلاف والآلاف من الناس أنهم متحدون مع سواهم من دون أيِّ تردد أو تحفظات تتعلق بما يفكرون به أو باستراتيجياتهم. فتصبح أهدافهم وتطلعاتهم واحدة، من خلال رغبتهم بمستقبل أفضل. حيث يريدون إسقاط أكثر الطواغيت تجبُّرًا، أولئك الذين اضطهدوهم لسنوات طويلة جدًّا، ويملكون سلطة الزجِّ بهم في السجون، وحرمانهم من حقوقهم، وتعذيبهم، وحتى قتلهم ومحو أي أثر لهم. لكن هؤلاء الناس، الذين يؤمنون بأن لهم الحق بالحرِّية، كأي أشخاص آخرين في أي بلد من بلدان العالم، لا يعبأون بتلك المخاطر. فهم في مثل تلك اللحظات ينسون حتى أنهم عرب أو مسلمون أو مسيحيون، أو سنَّة أو شيعة، ويتماهون مع تلك الفكرة التي تقول بأن كلَّ واحد بحاجة إلى الحرِّية. لذلك، ليس بوسعنا إلا أن نهنىء كلَّ شخص يتظاهر، ويحتج، ويشارك في تلك الانتفاضة التي تعمُّ العالم العربي. وما هذه إلا البداية. لأنها كي تكون حرَّة في النهاية، فإن جميع البلدان العربية بحاجة لأن تتماهى مع مصر وتونس. لأنه يفترض بأن تكون لأي انتفاضةٍ لاعنفية استراتيجية مشتركة، وهذه في العالم العربي، يمكن أن تكون ذاتها تلك التي أثبتت فعاليتها في الهند، والفيليبين، وكوسوڤو، وبعض مناطق أمريكا الجنوبية.
ملاحظات تمهيدية انتشرت الثورات اللاعنفية ضد الأنظمة الديكتاتوية الحاكمة منذ أمد طويل في شمال أفريقيا وفي الشرق الأوسط في أوائل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين كالنار في الهشيم. وفي هذا الوقت، كان الكثير من الفلسطينيين يتفكَّرون بالكيفية الأفضل لترجمة استراتيجيات مثل هذه الحركات العفوية إلى تطلعاتهم الخاصة. ومن الجلي أن هناك بعض الفروقات بين معظم الحالات التي تنحو إلى تغيير النظام بدعم هائل من شعبك وبين الحالة الخاصة لانتفاضة ضد سيطرة عسكرية ساحقة لحكومة إسرائيلية تحوز على أغلبية كبيرة مُكيَّفة لدعم قمع ثورة معادية. تحليل واقعي لردود الفعل الإسرائيلية تجاه قيادة فلسطينية ثابتة محتملة ونضال لاعنفي واسع النطاق يمكن أن يُصاغ في الغالب بتأثير ثلاثة متغيرات: 1. إقرار بالنجاح المتنامي للسبيل اللاعنفي على الصعيد الدولي؛ 2. التصورات الإسرائيلية الذاتية المستندة إلى ذاكرة جمعية عن الأضحوية والاضطهاد في التاريخ اليهودي؛ 3. مدى الفعالية الملموسة للعملين العنفي واللاعنفي على امتداد الصراع الإسرائيلي/الفلسطيني، خصوصًا من خلال التجارب في الانتفاضتين الأولى والثانية.
أنت جنديٌّ. علَّموك إطلاق النار والطعن والمشية العسكرية والرياضة؛ علَّموك اللغة، وأخذوك إلى الدروس والاستعراضات العسكرية. ربما وجدتَ نفسك في الحرب، تقاتل الأتراك أو الصينيين، منِّفذًا كلَّ ما تؤمَر به، ولكن لم يخطر في بالك قط أن تسأل نفسك: هل ما تقوم به حسنٌ أم سيئٌّ؟ لكن، ها أنت ذا تتلقى أمرًا بالالتحاق بسرِّيتك أو كتيبتك، وتأخذ معك رصاصًا حقيقيًا. فتذهب، راكبًا أو ماشيًا، دون أن تتساءل إلى أين يسوقونك. يُساق الفوج إلى قريةٍ أو مصنعٍ ما، وترى من بعيد حشدًا متجمهرًا في ساحة القرية أو فناء المصنع، رجال ونساء مع أطفال، شيوخ وعجائز. المحافظ أو النائب العام، ترافقه الشرطة يقتربون من الحشد، ويتجادلون حول أمرٍ ما. يصمت الحشد في البداية ثمَّ يبدأ بالصراخ أعلى فأعلى، فتبتعد القيادة عن الناس. وأنت تُخمِّن أنَّ هؤلاء الفلاحين أو العمال يُخلُّون بالنظام، ثمَّ تُعطى الأمر بقمعهم. تبتعد القيادة عن الحشد وتقترب منه عدة مرات، لكن الصراخ يعلو ويعلو، والقيادة تتباحث فيما بينها، ثم يأمرونك بتلقيم سلاحك برصاصٍ حقيقيٍّ. إنك ترى أمامك أناسٌ – هم ذاتهم الذين خرجت من بينهم: رجال في معاطف طويلة، ومعاطف قصيرة، يرتدون نعالاً مصنوعة من ألياف لبيَّة، ونساء مع أطفالهن، يرتدين الأثواب والقفاطين، يشبهن زوجتك أو أمك.
|
|
|