أبو ذر شاهدًا على الديمقراطية

 

جودت سعيد

 

الشرعية الإسلامية، حسب ما أرى، هي تعالوا إلى كلمة سواء: ما يجوز لي يجوز لك من الحق، ولا أعطي لنفسي حقًا لا أعطيه لك. هذه كلمة السواء وكلمة التقوى. ولكن تتقدم الشرعية الإسلامية، التي هي الشرعية النبوية، إلى درجة أعلى وهي أنك إذا أعطيت لنفسك حق نقض كلمة السواء لا أعطي لنفسي نقض كلمة السواء في الأمور السلبية (ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه)، وكذلك (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون)، والقرآن شرح لنا كلمة السواء بأن لا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله.

فإذا قبل المجتمع أن يتخذ من بعض أفراد المجتمع أربابًا فإنَّا لا نشاركهم لا في الربوبية ولا في العبودية للناس، ونبقى على كلمة السواء من طرف واحد: أقبل التعاون على البر وأرفض التعاون على الإثم، هذا ما فعله بلال مع مجتمع قريش وهذا ما فعله أبو ذر لما بدأ المجتمع يخرج من كلمة السواء، فأنكر هذه الظاهرة التي بدأ يتحول إليها المجتمع، والتي وصل إليها فعلاً، فلم يتمكن من حل المشكلة بالعودة إلى كلمة السواء وإنما فتح باب القتل واستخدم العنف للتفكير. أنكر أبو ذر الطرفين، أنكر الانحراف وأنكر مواجهة الانحراف بالانحراف، فالدخول في هذا الأسلوب عودة إلى الوراء وخروج من نهج النبوة وخروج من الرشد إلى الغي، إلى تحكيم القوة. ويمكن أن نقول إنه كان فتحًا لباب جهنم الذي، حتى الآن، نتلظى بناره، ولا قدرة لنا على العودة إلى الرشد. هذا هو نموذج أبو ذر، وشهادة أبو ذر، كان واضحًا أن لديه منهج الشرعية النبوية، فقد فهم البر والتزامه، وفهم الإثم واجتنابه وإنكاره، إنه معارضة مشروعه (واجبة)، معارضة إظهار الحق وعدم الجوء إلى العنف؛ هذه شهادة أبي ذر للشرعية النبوية.

ولكن، ما شأن أبي ذر والديمقراطية؟ إن تطور البشر في إدراك أسلوب حل المشكلة بالعنف توصَّل بالعواقب والنتائج الخاسرة إلى الاعتراف من قبل الأطراف التي تبادلت اللجوء إلى العنف والعنف المضاد، الملة الواحدة ملة ممارسة الاستكبار والاستضعاف، بأن البشرية التي ذاقت العذابات الأليمة: عذابات تبادل السلطة بالعنف إلى أن شبعوا عنفًا، وكان آخر هذا العنف عنف الحرب العالمية الثانية التي دفع البشر، 54 مليون من البشر، القتلى ثمنًا له، عدا الخسائر؛ بالإضافة إلى أن تطور الحرب وتطور العذاب في التسلط المتبادل أقنع الناس في ابتكار أسلوب يمكن أن نفهم منه أنه هو الذي دعى إليه الأنبياء من أولهم إلى آخرهم، وهو أنهم (أي الأنبياء) يلتزمون عدم اللجوء الى العنف في تغييير أفكار المجتمع وإنما يلتزمون الدعوة والخطاب إلى الناس ويعطون للناس الحق أن يستمعوا إلى القول وقبول القول الذي يرونه حسنًا (الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه)، هذا في سورة الزمر التي هي سورة مكية. تقول هذه الآية: (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عبادك الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب).

هذا ما جاء به الأنبياء من دعوة نوح (واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فاجمعوا أمركم وشركاءكم ثم أقضوا إلي ولا تُنظِرون)، وهذا ما أوحي إلى أخر الأنبياء فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين.

إن التطور البشري دُفع رغمًا عنه إلى هذا الموقف الذي يسمونه الديمقراطية، ولبها التحاكم إلى العقل والإقناع وعدم اللجوء إلى الإكراه. لن تدخل الديمقراطية إلى المجتمع ما لم يعترف الجميع بأن يقبلوا نتائج اختيار الناس لما يريدونه الأفضل من الأقوال، فأولئك هم الذين هداهم الله وهؤلاء هم أولوا الألباب، هم الذين تحاكموا إلى ألباب الناس ووجهوا خطابهم إلى الناس، ومن قَبِله الناس بدون إكراه فهو الرشد وهو الشرعية وهو التقوى وهو كلمة السواء وهم أولوا الألباب أي يثقون بأن أفكارهم حسنة وأن الناس يمكن أن يتبعوا هذا الحسن. وإن قبول هذا يتضمن ثقة الإنسان بأفكاره بأنها ستقبل إذا كانت حسنة لأن الحق لا يُفرض بالقوة وإنما يتقبله الناس بالفهم الراشد.

يمكن أن نقول إنه لا يوجد عندنا نحن المسلمون من يقبل تحدي الرشد الذي هو اللاإكراه، ولا من يقبل تحدي الديمقراطية أي قبول ما يقبله الناس بدون إكراه وبدون اللجوء إلى الإكراه أو التزوير. حتى الآن لا يوجد في الساحة الإسلامية لا متدينين ولا علمانيين يقبلون الحكم بالإقناع، فالكل يثقون بالعنف والإكراه ولا يثقون بالرشد وإقناع الناس. وفي إيران ظاهرة جديدة في العالم الإسلامي لم تُتناول بما يكفي من التحليل والتحديق، ما يعني أنه سوف لن يبقى في العالم الإسلامي حين يرفع عنهم الإكراه والإرغام والقسر إلا النزاع بين الذين يرون العالم جامدًا لا يزداد إلى الأفضل وبين الذين يرون التاريخ حركة إلى الأفضل، وأن الله يزيد في الخلق ما يشاء ويخلق ما لا تعلمون، وأن القانون الذي يحكم حركة التاريخ هو أن الزبد يذهب جفاءً وما ينفع الناس يمكث في الأرض، وأن الحق إذا جاء وظهر بوضوح يزهق الباطل، وأن رياح كلمة السواء تهب على العالم في كل أنحاء بحيث أن كلمة السواء تترسخ جذورها عمقًا وتتمدد فروعها علوًا وتتسع ظلالها انتشارًا (نأتي الأرض ننقصها من أطرافها).

هذا هو علم الله في أن الفساد وسفك الدماء يتقلص، وإن كان المستكبرون يريدون استمرار دوام الاستكبار والاستضعاف، إلا أن وعي المستضعفين هو رصيد النمو والحركة لمن شاء أن يتقدم أو يتأخر، هذا الوعي الذي ينبغي ألا يسكت عليه الربانيون بل يصدعون به ويعلنونه ولا يكتمونه، وهذا ما فعله بلال وأبو ذر، وهذا ما ينبغي أن يفعله في كل مكان وزمان المهاجرون إلى ربهم، مع التزام كلمة السواء وكلمة التقوى، على الضد من الذين لا يزالون يتمنون استمرار الظلام الذي يمكنهم من كتم وإعاقة ما يحدث من انبثاق الفجر الصادق وانتشار النور الذي سيمكن المستضعفين من الإبصار والرؤية. إن الشعوب المستضعفة تستطيع أن تحمي نفسها وتتحمل كل تبعات يقظتها، فعلى الآمرين بالقسط وكلمة السواء من الناس أن يوقدوا وينشروا ضياء المعرفة، ويبرزوا تطور التاريخ، وتيسير المعلومات التي صارت متوفرة ووسائل انتقالها في نمو متسارع لم يسبق له مثيل خلال تاريخ البشرية كله. ملكوت الله قادم، وأتى أمر الله فلا تستعجلوه وكان الإنسان عجولاً وقنوطًا حين يجهل سنة الله التي لن تجد لها تبديلاً ولن تجد لها تحويلاً، ولن يتراجع نظام الكون إلى جعل الغثاء المر يمكث، ولن يتحول ما ينفع الناس إلى الغثاء الزائل. هذا ما ينبغي أن نبشر به المستضعفين في الأرض، وهذا ما ينبغي أن ننزل به قومًا لدًا. إن الأوهام تتهاوى شيئًا فشيئًا، وإن السحر الذي يخيل إلى الناس أن الباطل ليس زهوقًا، إن هذا السحر سيبطل من الوجود. إن السحر الذي يمارس في حماية حق الفيتو سيبطل مهما حاول المحاولون من إعطائه صفة الشرعية. وفي العالم الآن أكابر المفسدين وكبيرهم الذي تفرد بالإعاقة للإنسانية في الانفراد بحق إعاقة النمو في العالم.

ولكن هذا الموضوع بدأ يثار في كل تجمع عالمي من أن النظام العالمي لم يعد مناسبًا، ولكن لا أحد يقدر أن يتفوه بزوال فكرة الحق للقوة. إن القرأن لما يقول بكل صراحة (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفا) يعني أن غنى الأموال، وكثرة عتاد الحرب، ليس المقرب إلى الحق. لقد كان عيسى عليه السلام الوديع يغضب ويقول بكل قوة "أيها القادة العميان"، وكان يقصد بالقادة العميان الكتبة والفريسيون، وكان يعني بالكتبة المثقفين الموظفين الذين يوحون أنْ لا مخرج للعقل من اعتقال القوة وأنْ لا قوة للروح في مواجهة من يحصدون الجسد. إن ممثلي العقل والروح الذين هم الكتبة والفريسيون مستقبلون ساكتون ولا يصرخون مثل يحيى عليه السلام الذي أوحي إليه بأخذ الكتاب بقوة، والذي كان يصرخ مبكرًا بأن ملكوت الله قادم.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود