english

الصفحة التالية                  الصفحة السابقة 

نساء بالسواد
الفصل الحادي عشر
تأثير: وجهة نظر متحيِّزة بالكامل

غيلا سڤيرسكي

  

لا يساورك الشك مطلقًا بقدرة مجموعة صغيرة من المواطنين، متَّزني التفكير وملتزمين، على تغيير العالم. وفي الحقيقة، إنه الأمر الوحيد الممكن. (مارغريت ميد)

لسنوات عدة، تحضرني هذه العبارة لمارغريت ميد كلما جلست إلى طاولة الكتابة، وتنفحني روحًا، على الغالب، حين يبدو التغيير ميؤوسًا منه. ويبدو أن هذه الفكرة، أو فكرة تشابهها، كانت هي السند لـ "نساء بالسواد" كحركة. لكن كيف حدث التغيير فعليًا، وما الدور الذي لعبته "نساء بالسواد" في صُنع ما حدث؟

صنع السلام خيار

ما الذي قَلَب الموقف – من محاولة المتعادين إلحاق الهزيمة ببعضهم إلى الإذعان لمفاوضات سلام؟ كانت هناك مجموعة من العوامل، كما أعتقد: بدأ الفلسطينيون المسحوقون تحت نير الاحتلال في المناطق ثورتهم، الانتفاضة. فأيقظ العنف المُصاحب للانتفاضة الشعب الإسرائيلي على شرور الاحتلال؛ لم تكن رسالة عن معاناة الفلسطينيين فحسب، بل عن المعاناة التي تسلَّلت إلى بيوت الإسرائيليين أيضًا. فنظرًا لكون الخدمة العسكرية إلزامية، مع بعض الاستثناءات، لكل الشباب الإسرائيليين اليهود من الذكور والإناث (وليس مثل الخدمة الاحتياطية)، بدأت كل عائلة تقريبًا تتلمس آثار العنف – الموت، الإصابة، أو الرعب من الموت أو الإصابة. وعلى خط مواز، بدأت حركة السلام الإسرائيلية بالانتعاش، مُحفَّزة بأمرين اثنين: آ. الرغبة المخلصة في وضع حد لقمع الآخرين؛ ب. الرغبة في إيقاف العنف المنقلب ضدنا. لقد خلقت الانتفاضة وضعًا لا يطاق في الداخل الإسرائيلي، وكانت الحكومة الإسرائيلية تبحث عن طريق للخلاص من هذا الوضع؛ حيث أثبت استخدام القوة عدم جدواه. وفي غضون ذلك، كانت حركة السلام تواصل قرع أسماع الحكومة والرأي العام الإسرائيلي بفحوى رسالتها التي تعتبر التشبث باحتلال الأراضي الفلسطينية عبئًا وأن منظمة التحرير الفلسطينية هي شريك مقبول في المفاوضات. كان الوضع القائم وسياسة إسرائيل الكبرى مثار سخط، مما خلق مناخًا شرعيًا من أجل التسوية مع منظمة التحرير.

ومن وجهة نظري، ثمة عامل منفصل جعل السلام محتملاً، وهو التغير الحاصل في أوساط الفلسطينيين والذي أفرزته حرب الخليج. فقد وقف عرفات إلى جانب صدام حسين، الذي هُزم في الحرب. ونتيجة لذلك خسر عرفات الدعم المالي الضخم الذي كانت تقدمه له دول الخليج العربي الغنية التي تكاتفت ضد صدام. وكان عرفات على وشك فقدان السلطة أمام منافسيه داخل منظمة التحرير، لكن فوز رابين بالانتخابات في إسرائيل وفَّر له مخرجًا: صنع السلام. وكان رابين وبيريز يعرفان أن عرفات في وضع لا يحسد عليه، وأنه بإمكانهما عقد صفقة رابحة معه في تلك اللحظة. لم يكن لدى عرفات خيار: إما الانخراط في عملية سلام، آملاً حشد دعم له من الفلسطينيين ودول الخليج الغنية، أو فقدان قاعدة سلطته. حينها، كان الفلسطينيون قد نالوا كفايتهم من الانتفاضة؛ فاختار عرفات السلام.

ماذا كان دور حركة السلام؟ لقد تبنت خيارات واضحة كل الوضوح، خيارات لم تكن مستحبة من قبل الإسرائيليين فيما مضى: قالت إن التسوية هي بديل معقول، وأن عرفات ليس بطلاً بل هو الشخص الوحيد المطلوب التفاوض معه، وأن الدولة الفلسطينية هي خيار قابل للتطبيق. باختصار، كفلت حركة السلام دعمًا للحكومة من أجل الدخول في مفاوضات مع عرفات. وهكذا كانت الحركة مُكوِّنًا حاسمًا ضمن كوكبة من العوامل.

التأثير يتخذ العديد من الأوجه

كانت حركة نساء بالسواد إحدى تيارات الموجة العارمة التي شكلتها 74 منظمة سلام قامت بحشد الإسرائيليين من أجل السلام. لقد أنشد المغنون أغانٍ من أجل السلام، وألَّف الكتاب كتبًا، ومارس الناشطون ضغطًا على أعضاء الكنيست، ووثَّقت المنظمات انتهاكات حقوق الإنسان، ورفض بعض الجنود تأدية الخدمة العسكرية في المناطق المحتلة، وخرجت البقية منا للمشاركة في مظاهرات ومسيرات وندوات وأعمال عصيان مدني ووقفات احتجاجية، أسبوعًا بعد أسبوع بعد أسبوع دامٍ. لقد أحدثنا جميعًا فارقًا؛ كل عمل احتجاجي في تلك الفترة ساهم في خلق مناخ عام جعل خيار السلام ممكنًا وجابه رسالة إسرائيل الكبرى التي كانت مهيمنة على جدول الأعمال الإسرائيلي حتى ذلك الحين.

في الأيام السالفة المثبطة للعزيمة، قبل أن تغدو أوسلو مفهومًا وليس مجرد اسم لمدينة، كان من السهل الاستخفاف بالتأثير الكامن لدينا. لكن الآن، ومع الإدراك المتأخر لعملية السلام المتحركة، بوسعنا تقييم تأثيرنا بواقعية أكبر، وأن نسائل أنفسنا بوعي أكبر، عما كانت عليه المساهمة التي قدمتها كل مجموعة لموجة الاحتجاجات. وعلى وجه التحديد، ماذا كانت المساهمة الفريدة لحركة نساء بالسواد في خلق مناخ من أجل السلام؟ أعتقد أن نقطة البدء المناسبة تنطلق مع المرأة نفسها.

تأثير: تحولات شخصية

كان البعض من مؤسِّسات حركة نساء بالسواد فاعلات سياسيات، وكن قد انخرطن في تنظيمات سياسية لسنوات. أما بالنسبة لمعظمنا، حيث كنا نرتدي السواد ونشارك في الوقفات الاحتجاجية، فقد طرأ علينا تحول شخصي عميق. فليس بوسع من يقف في تلك الوقفات الاحتجاجية لستة أسابيع أو سبعة أو ثمانية – لكي لا نقول ست سنوات أو سبعة أو ثمانية – دون أن يطرأ تغير ملحوظ عليه. لكن بأي من الطرق؟

أولاً، جعلت المشاركة في الوقفات الاحتجاجية النساء، اللواتي لم يكن لديهم ماض سياسي، يبدين اهتمامًا متزايدًا بالسياسة. فردود الفعل على وقفاتنا الاحتجاجية (من قبل المتفرجين والأصدقاء والعائلة) حتَّمت علينا استجابة فاعلة تجاههم. كنا نثقف أنفسنا حول القضايا المطروحة، ونقرأ عنها ونتناقش فيها، ونتواجد في المحاضرات السياسية؛ كنا نولي النشاط السياسي أولوية على ما عداه من النشاطات التي كانت فيما مضى تستولي على اهتمامنا وتكريس أنفسنا لها.

ثانيًا، جذَّرت المشاركة في الوقفات الاحتجاجية تفكيرنا؛ جعلتنا أكثر انتقادًا لوجهات نظر المعسكر الليبرالي المُعزِّية، وأكثر تشككًا بالمواقف الرسمية، مما قادنا إلى تغيير وجهة أصواتنا الانتخابية من حزب العمل الوسطي إلى حركة ميريتس الليبرالية، أو من ميريتس الليبرالية إلى حداش Hadash التقدمية. لقد رفعت المناقشات الجارية بيننا – والاتصال مع ناشطات نسويات من البلدان الأخرى – من سوية وعينا نحو تبني حلول أكثر تقدمية، مما جعلنا ندفع باتجاه تجنب الحلول العسكرية للمشاكل السياسية، وتبني أكثر لمنظور حقوق الإنسان، ونبذ فكرة تمجيد الجيش الإسرائيلي؛ إحدى البقرات المقدسة لدى الإسرائيليين.

ثالثًا، كانت المشاركة في الوقفات الاحتجاجية تجربة تمكينية إلى حد هائل. فالمرأة التي كانت تواصل المشاركة بمشاعر تتراوح بين الغضب والخوف، تحت البرد القارص والشمس المحرقة، وبشعور يائس من التغيير على ما يبدو – كان عليها أن تشحذ العزيمة في داخلها. وهذا ما زاد من الإحساس بالتصميم ومن الإيمان بالنفس والقوة.

ومن بين الأمور المتصلة بهذه التغييرات كان التقدير المتزايد للأنساق النسوية وقيمها؛ اتخاذ القرار بالتعاون، التشارك في القيادة، دعم الروابط الأكثر ضعفًا في الشبكات الاجتماعية. ولم تكن كل النساء المشاركات في الوقفات الاحتجاجية موافقات على عنوان "نسوية"، لكنهن جميعًا كن مقتنعات بالمسيرة النسوية الأقرب إلى منظور نسوي.

حالما يكون هناك عدة آلاف من النساء المفعمات بالإحساس بأنهن مسيَّسات ومُجذَّرات ومتمكنات، ليس من المستغرب أن يكون لهن تأثير على الآخرين. وتشير التصنيفات التالية إلى بعض الفئات التي كان لنساء بالسواد تأثير عليهم، أو لم يكن.

تأثير: الدوائر المباشرة

حتمًا، كان للنساء اللواتي هنَّ أكثر تسسييسًا وجذرية تأثير على بيئاتهن المباشرة بعيدًا عن الوقفات الاحتجاجية، وهذا ما كانت عليه حالنا. فالنساء بوصفهن أمهات ومعلمات وطبيبات وممرضات وموظفات خدمة اجتماعية وسكرتيرات... كان جميع من صادفناهم في حيواتنا اليومية متفهمين لأفكارنا. فنحن، جيش المربيات العظيم، نقدم لك السياسة كطبق مقبلات مع عشائك. لقد انضمت ابنتاي الاثنتين إلى حركة نساء بالسواد. وبدأ البعض من الأمهات بالحضور إلى الوقفات الاحتجاجية. وكان أطفالنا يصغون بافتتان إلى رسالتنا بخصوص إنهاء العنف السياسي. وكان بالوسع تلمس التأثير المتموج لحضورنا، والآلاف من الذي رفضوا البقاء متفرجين على الوحشية والعنف في دوائر دائمة الاتساع.

تأثير: الناخبون اليهود في إسرائيل

على الرغم من انتعاش منظمات السلام في إسرائيل بعد اندلاع الانتفاضة، إلا أن هذا الانتعاش انحسر مع الصدمة الأولية للعنف وسببت خسائر فادحة. فعلى امتداد فترة حكومة الليكود، وحتى خلال حكومة حزب العمل، هيمن الجناح اليميني على الشارع؛ ملصقات، قصاصات لاصقة، نشرات، مظاهرات، مسيرات. فبالكاد كان المرء يجد تقاطع شوارع في المدن الرئيسية بدون تواجد بضعة من نشطاء الجناح اليميني رافعين عاليًا شعاراتهم المفضلة. وطوال تلك الفترة، كانت حركة نساء بالسواد هي المجموعة الوحيدة التي ثابرت في مسعاها لمواجهة سيل الموالين للاحتلال وإبقاء رسالة السلام نابضة في الشارع. وقد حشدت حركة السلام الآن تجمعات، لاقى بعضها إقبالاً كبيرًا، لكنها كانت قليلة ومتباعدة. أما حركة نساء بالسواد فقد كانت "الأكثر حضورًا وإصرارًا على تنظيم الحملات"[1].  لم ندع الجمهور العام يركن رسالتنا في غياهب النسيان. "مثابرتهن على الحضور هي رسالة تذكير واضحة، يتعذر تجنبها، لقضايا على المحك"[2]. كنا نتواجد هناك لكي نذكر الإسرائيليين المحبطين بسبب اكتساح الجناح اليميني للمشهد بأن أصوات السلام لم تصمت.

وقد كان لمجموعات السلام أيضًا تأثير دينامي على بعضها البعض. فالمجموعات الراديكالية واصلت الإلحاف على المنظمات المعتدلة، محرضة إياها على اتخاذ مواقف أكثر جرأة وتحمُّل مخاطر أكبر. كما كانت النساء الراديكاليات المتمرسات من تحالف النساء من أجل السلام يشكلن عاملاً حاثًا لحركة نساء بالسواد كي تُقدِم على تبني مواقف أكثر شجاعة، وأضيف إلى ذلك ردود الأفعال ضد الحركة الصادرة عن السلطات والغرباء على حد سواء. لكن سمعة حركة السلام الآن كحركة معتدلة جعلتها في موقع متفوق. وعندما أعلنت منظمة التحرير الفلسطينية (في مؤتمرها المنعقد في الجزائر في كانون الأول عام 1988) تخلِّيها عن الإرهاب، وضمنيًا قبولها بوجود دولة يهودية إلى جانب الدولة الفلسطينية المزمع إنشاؤها، أصبحت حركة السلام الآن مطلقة اليدين في مناصرة المواقف الداعية للتفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية وقيام دولتين لشعبين. وقد كان استحسان حركة السلام الآن لهذه المواقف بمثابة ختم كاشروت kashruth (الطعام المُباح أكله في الشريعة اليهودية – م) لتلك المحرَّمات السابقة، مما أكسبها عددًا من المؤيدين يفوق كثيرًا ما يمكن أن تكون قد كسبته المجموعات الراديكالية.

ولابد من ذكر نتاج شاذ لحركة نساء بالسواد وهو حركة "نساء بالأخضر". ففي مرحلة ما إبان الانتفاضة، عندما كان الجناح اليميني القومي مهيمن على الشارع، أصبحت مجموعة من النساء اليمينيات المتطرفات بؤرة الاهتمام الإعلامي. وقد لقَّبت وسائل الإعلام حركة النساء هذه بـ "نساء بالأخضر" نسبة إلى قبعاتهن الخضراء، كما هو إشارة إلى حركة نساء بالسواد، رغم عدم وجود أوجه شبه بين الحركتين. فقد تبنت حركة "نساء بالأخضر" رؤية دينية أصولية لدولة إسرائيل، ونشطت من أجلها عن طريق تنظيم تظاهرات عاصفة ضد السلام، كان ينتهي بعضها بتوقيفات بتهمة تعكير صفو الأمن أو خرق أوامر الشرطة، ومرة بتهمة احتلال أرض فلسطينية. ولا يدعو للاستغراب أن معظم عضوات "نساء بالأخضر" ينفين أية صلة لهن بالحركة النسوية، مع أنهن لا يتورعن عن استخدام متهكم للشعارات النسوية لتحقيق التأثير المرجو: "هذه الزمرة [حكومة حزب العمل] تغتصب الشعب اليهودي"[3]. وهكذا أنجبت حركة نساء بالسواد "حركة – ابنة" عاقَّة لمواجهة تأثيرنا.

أما السلف الأكثر طبيعية وحميمية لحركة نساء بالسواد فقد كانت منظمة "بنت السلام" (بات شالوم Bat Shalom التي استهلت عملها في آذار العام 1994 في محاولة لابتكار استراتيجيات جديدة من أجل حركة السلام النسائية في إسرائيل. ولا يسعني إلا أن أتمنى لهن كل التوفيق. فـ "بنت السلام" دليل إضافي على أن النساء يدركن الدور الحاسم الذي يمكن أن يلعبنه في الدعوة إلى السلام.

تأثير: دولي

قبل مؤتمر مدريد للسلام بفترة طويلة، وقبل المفاوضات الراهنة بفترة أطول، كانت النساء الفلسطينيات والإسرائيليات يشاركن في المؤتمرات الدولية من أجل السلام – المرة الأولى التي عرفت فيها ذلك كان في "خيمة السلام" في المؤتمر النسائي الذي انعقد في نيروبي في العام 1985، لكن ربما كانت هناك لقاءات في وقت سابق. وكانت تتم مناقشة دقيقة لمعاهدات سلام مفصلة بين النساء الفلسطينيات والإسرائيليات في القدس وبروكسل ونيويورك وإيطاليا ومالطا وجنيف قبل أن يقرر الرجال القيام بذلك في أوسلو بسنوات. وفي الواقع، لم تكن هؤلاء النساء في مناصب مسؤولة تؤهلهن اتخاذ قرارات، لكن السؤال الذي مازال يُثار، لماذا كانت "نساء عدوَّات" يجلسن معًا للتفاوض قبل أن يفعل الرجال ذلك بسنوات؟

أولاً، لابد من القول أنه خلال سنوات الانتفاضة، لم يكن هذا الأمر مطروحًا في الوقفات الاحتجاجية، بل في تحالف النساء من أجل السلام الأوسع. ففي هذه الهيئة، كانت النساء الأكثر راديكالية يشكلن موقفًا متسقًا. وهذا يشمل المنظمات: تاندي Tandi، WILPF، شاني Shani، والمنظمة النسائية من أجل السجينات السياسية، بالإضافة إلى النساء الأكثر راديكالية في أوساط حركة نساء بالسواد في تل أبيب وحيفا والقدس والعديد من الكيبوتزات. وكان التحالف هو من حافظ على الاتصال بالمنظمات النسائية الأوروبية من أجل السلام، ووقع اتفاقيات سلام دولية مع الفلسطينيات، ورفع الشعارات السبَّاقة مثل "كفى للاحتلال"، ونظم تظاهرات أنجبت نساء أكثر اعتدالاً، وتلهفًا للتحرر: "مع قيام المسيرة النسائية الفلسطينية-الإسرائيلية المشتركة الأولى في كانون الأول 1989 – التي تعرضت فيها النساء دون تفريق بينهن للهجوم بالقنابل المسيلة للدموع من قبل الجنود الإسرائيليين وقوات الشرطة – ضمنت الحركة مكانتها في طليعة اليسار"[4]. وفي واقع الأمر، جميع المنتميات إلى تحالف النساء من أجل السلام كنَّ أيضًا في حركة نساء بالسواد، وغالبًا ما كنَّ ينسجمن مع المناسبة بارتدائهن زيًّا أسود، مما يوضح جزئيًا الصورة الأكثر راديكالية التي اكتسبتها الوقفات الاحتجاجية.

لقد خلقت النظرة النسوية الدولية لهؤلاء النساء إمكانية التواصل عبر الحدود، بل وحتى عبر ما يُدعى خطوط العدو. ولم يكن هذا نزوع طبيعي للنساء من أجل صنع السلام، بل التزام إيديولوجي للنساء برؤية للسلام الدولي. لم يكن الدافع غرزيًا، بل ناشئ عن تأهيل اجتماعي وتثقيف متبادل بينهن طوال سنوت. فالتموضع خارج السياسة المؤسساتية كان ذخرًا لاتخاذ منظور أكثر راديكالية من تلك السياسة.

وسواء من خلال تحالف النساء هذا أم بطريق مباشر، كانت روابط حركة نساء بالسواد مع منظمات السلام النسائية العالمية طريقًا ذي اتجاهين؛ دعمًا ومؤازرة مادية. كنا نستلهم من بعضنا البعض. "لقد اكتسبت حركة نساء بالسواد هيبة كما ذاع صيتها؛ لقد غدت نموذجًا للحركة النسائية الدولية من أجل السلام"[5]. كما أصبحت الحركة النسائية الدولية من أجل السلام نموذجًا لنا:

الانتماء إلى دوائر الحركة النسوية في كافة أنحاء العالم التي تناضل ضد العنف وتعمل على تعزيز بديل سياسي–ثقافي سيتضمن تجربة النساء اللواتي منحنني القوة لمواصلة العمل الذي يُعدُّ في أغلب الأحيان عملاً بلا رجاء[6].

كان تأثير نشاطنا في إسرائيل قد تضخم عن طريق عشرات الوقفات الاحتجاجية لنساء بالسواد في جميع أنحاء العالم؛ بعضها تضامنًا مع قضيتنا، والأخرى لاتخاذ موقف بخصوص قضاياهن المحلية. ونقتطف من كتيب مجلس النساء الآسيويات لحقوق الإنسان ومقره في مانيلا المقطع التالي:

نحن نساء بالسواد؛ الحركة التي ألهمت مجموعات من النساء في شتى أنحاء العالم للوقوف في مدنهن وبلداتهن، في زوايا الشوارع، في الساحات التجارية وفي الأماكن العامة الأخرى، لمدة ساعة واحدة كل أسبوع، للاحتجاج بصمت على العديد من أشكال العنف التي تزايدت فعليًا في وقائع حيواتنا اليومية في مختلف مجتمعاتنا المحلية[7].

وها هي شهادة أخرى على مدى تأثيرنا من مصدر دولي:

من الواضح أن هناك قوة خاصة لهذه البادرة البسيطة تمامًا. وما يكفي للإشارة إلى ذلك هو فقط كثافة الاستجابة التي يمكن أن تشكل عامل تحريض – بدون أن نتحدث عن الطريقة التي قد انتشرت فيها في أوساط النساء على المستوى الدولي، أو تأثيرها الممكن على المشاركين. ربما تعتمد فعالية أي عمل احتجاجي رمزي على المدى الذي يمكن يقلقل تصنيفاتنا الذهنية التقليدية. وظاهرة نساء بالسواد تقوم بهذا الدور... فهؤلاء النسوة بالسواد كن يقفن، على مرأى من الجميع بصورة تلفت الأنظار ولا يمكن تجنبها[8].

تأثير: الفلسطينيون

كان الفلسطينيون جمهورًا توليه حركة نساء بالسواد اهتمامًا خاصًا؛ حيث من الضروري أن يعرف الفلسطينيون أن هناك إسرائيليين يؤيدون قيام سلام حقيقي. كان هذا مهمًا بالنسبة لسائق الشاحنة الفلسطيني الذي قدم صندوقًا من الخيار إلى الوقفة الاحتجاجية في نحشون، وبالتالي يمكن لإبنه أن يتعلم "أنه ليس كل الإسرائيليين حرس حدود أو جنود أو شرطة أو جامعي ضرائب" بقدر ما كان مهمًا بالنسبة للقادة السياسيين العرب. وكان كل من الرئيس المصري حسني مبارك وحنان عشراوي، المتحدثة الرسمية باسم منظمة التحرير الفلسطينية، قد أشارا إلى حركة نساء بالسواد في سياق التدليل على الشجاعة ضمن معسكر السلام في إسرائيل. وكان هذا مهمًا بالنسبة لنا لكي نخبر الفلسطينيين، والعرب عمومًا، والعالم أجمع أنه ليس كل الإسرائيليين مؤيدين لسياسة الاحتلال التي تتبعها الحكومة الإسرائيلية، وأن البعض منا أيضًا يتوق إلى سلام عادل.

تأثير: عابري السبيل

وأخيرًا، المارَّة الغاضبون. فعلى هذا الصعيد، طبعًا، لم يكن لنا أدنى تأثير. ليست لدي أوهام بأن هناك شخصًا واحدًا يحمل آراءً تختلف مع رؤانا يمكن أن يميل إلى جانبنا لمجرد مشاهدة وقفتنا الاحتجاجية. لم يكن هذا الصنف من الناس هدفًا لنا. لم نُقِم وقفاتنا الاحتجاجية لكي نقنع ناخبي الليكود بالتصويت لحزب العمل، ولم نعلق الآمال على إحداث تغيير في قناعة رئيس الوزراء شامير بإسرائيل الكبرى. فمن الواضح أن هذه المهام كانت مستحيلة.

كل ما سعينا للعمل من أجله هو إطلاق صوت راسخ من أجل السلام، سُبرانو لا ينفك مطالبًا بالتسوية. لقد شجعنا الكتلة الرئيسية من الإسرائيليين الذين نالوا كفايتهم من الحرب وعانوا منها، وكنا صوتًا لهم. كنا صوت الجمهور الصامت الذي كان يفضل البقاء في المنزل بدلاًَ من النزول إلى الشوارع حاملاً اللافتات. كنا نمثل الإسرائيليين الذين يرغبون بالسلام، لكنهم كانوا أيضًا حسني السلوك (أو متعبين أو مكبلين بأعباء العمل أو العائلة) مما لا يمكنهم من إعلاء أصواتهم. لكن احتجاجنا الصامت كان يعبر عن أصواتهم، مطالبًا بالسلام نيابة عن الجميع.

في أيام الوقفات الاحتجاجية، حضرت حفلة بار ميتزفه Bar-mitzva (احتفال ببلوغ الصبي سن الرشد – م) مع أصدقاء متدينين في القدس. جلست إلى طاولة مع أناس لم يسبق لي أن تعرفت عليهم؛ وكان كل منهم يعتمر يَرْمُلْك Yarmulke (قلنسوة يضعها المتدينون اليهود – م) ويتلو التبريكات على النبيذ والهالا. كنت قد آليت على نفسي ألا أتحدث بالسياسة، لكن أحد الرجال فاجأني بالقول: "أنا أعرفك، أنت تتواجدين في الوقفات الاحتجاجية لنساء بالسواد كل يوم جمعة". شخصت كل العيون صوبي مشدوهة. قلت: "أجل"، راغبة بتغيير الموضوع. لكن الرجل ابتسم وقال: "حسنًا، أعتقد أن هؤلاء النساء هن ضمير القدس". ينبغي إعادة النظر بالكثير من الأفكار المقولبة عن المتدينين، والكثير عن الشعور باليأس.

كانت نساء بالسواد ضمير القدس وتل أبيب وكيبوتز نحشون والأمكنة الـ 36 الأخرى في إسرائيل التي كانت تشهد وقفات احتجاجية. لم نكن كاسندرات نتنبأ بالقدر لجمهور غافل. كان صوتنا مسموعًا، وإن لم يكن وقعه سارًا على مسامع الآخرين أحيانًا. فأسبوع إثر إسبوع، وسنة إثر سنة، لم تترك حركة نساء بالسواد فرصة للجمهور الإسرائيلي لكي ينسى الاحتلال وعواقبه الوحشية. وفي النهاية، كان التأثير ملموسًا عبر كل هذه التموجات، وحيواتنا الشخصية والعامة، النابضة عبر المجتمع الإسرائيلي والعالم عمومًا.

السلام، السلام؟

وأخيرًا، قضية السلام. إذا تجولت في شوارع إسرائيل ما بعد أوسلو، ولاسيما في شوارع القدس؛ تلك المدينة الجميلة لكن الشقيَّة التي تغلي بالتوتر والمعاناة، ستطالعك مجموعة منوعة من الملصقات على السيارات؛ ملصقات وافرة جدًا تعبر فيها الأغلبية الصامتة والأقلية الصامتة عن نفسيهما على نحو أفضل. وقد كانت الملصقات الوحيدة أيام الانتفاضة هي: "إسرائيل الكبرى"، "الخليل إلى الأبد"، "الأمة مع الجولان"، وما شابه. وكانت الملصقات الداعية إلى السلام نادرة، عدا عن أنها كانت بحد ذاتها عامل استفزاز للمارة من الخصوم السياسيين يدفعهم إلى تمزيق إطارات السيارات التي تحملها، أو "ثني" مسَّاحاتها، أو ببساطة رشقها بالطلاء. لكن ليس هناك الآن مثل تلك الأفعال. فاليوم، بوسعك تقدير المناخ المفضل السلام من خلال خط طويل من المربعات الزرقاء، سحابات تعبر سماء زرقاء صافية، تحمل كلمة واحدة فقط: "السلام". إنه مُنتَج رائع لحركة السلام الآن. كما أن هناك ملصقات تقول "نعم للسلام، لا للعنف"، في تلميح محزن إلى العديد من الأحداث الإرهابية المتواصلة التي تقوم بها قوى متطرفة وتوقع ضحايا من كلا الجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي. وقد شاهدت صورة لرابين على أحد الملصقات: "بموته، خلف لنا إرثًا للسلام". أتمنى لو كان إرثًا للسلام – إرثًا أعمق حتى من إرث رابين – على الأبواب: وليس مجرد حالة تقوم على عدم الاعتداء، بل سلام يصهر في طياته مفاهيم الأرض المشتركة، المصير المشترك، والكفاح المشترك من أجل حياة أفضل. لكن يبدو أننا مازلنا بعيدين عن هذا السلام. فانتخاب بنيامين نتنياهو قد يؤخر تجسيد الرؤية لفترة أطول، لكنه لم يكن مؤشرًا على أن الرأي العام قد انقلب على خيار السلام؛ فقد شعر نتنياهو بضرورة تبني برنامج سلام لكي يفوز بالانتخابات، رغم أنه كان قد عقد تحالفًا مع شركاء له معادين للسلام للسير في طريق لا يُنبئ بخير.

تكمن جذور الصراع في الشرق الأوسط في مطالب متعارضة لشعبين يدعي كل منهما أحقيته للمناطق نفسها، بيد أن من يزيد هذا الصراع اشتعالاً هي الأطراف التي من مصلحتها الإبقاء على حالة العداء. وهذه الأطراف، في إسرائيل والدول العربية، هي الأصوليون المتدينون، والسياسيون اليمينيون الذين يغذون المخاوف، والسياسات الرجعية الني يتبعها الليبراليون، والمؤسسات العسكرية، يضاف إليها المؤسسات الصناعية الحربية. إذ إن بعض هذه الأطراف تؤجج العنف على نحو متعمد، لكن بعضها الآخر لا تدرك أن سلوكها من أجل "الأمن" و"سلام العقل" يغذي نوعًا من الخوف الذي يفضي حتمًا إلى العدوان.

أتمنى لو كان بوسعي وضع خاتمة لهذه القصة تقول: "والآن، نحن ننعم بالسلام، ونعيش بسعادة  أكثر من ذي قبل"، لكنني لا أستطيع. لا يهم متى أُنهي هذه القصة، فلن يكون لها نهاية سعيدة على نحو لا لبس فيه. فالمصالحة الحقيقية للقلوب والعقول ما تزال بعيدة المنال في الشرق الأوسط؛ لقد خلقت سنوات العداء حالة من الفزع والمرارة. ولن يطول بي العمر لكي أرى حدودًا مفتوحة و"شرق أوسط جديد". لكن لكوني متفائلة بطبيعتي، فإنني آمل أن يحدث هذا خلال سنوات حياة أطفالي. أما لكوني واقعية، فأعتقد أن معاناة الأطفال ستستمر بسبب قرن من الضغينة بين شعبين، وإن كانا رائعين بطريقة ما. فالآن، تعيش ابنتاي، وهما في العشرينيات من عمريهما، في حالة من الهلع من صواريخ سكود الصدَّامية وتفجيرات حركة حماس للحافلات المدنية وصواريخ كاتيوشا التي يطلقها حزب الله، في هذه اللحظة التي أختتم فيها كتابتي، على الكيبوتز الذي تقيم فيه ابنتي الشابة. لكن أصدقائي الفلسطينيين أيضًا لاقوا الكثير من المعاناة.

الحرب والعنف باهظا الثمن، وفي أغلب الأحيان غير قابل للتعويض. وليس بوسعي سوى الصلاة من أجل أن تكون ابنتاي وكل أطفالنا قد استوعبوا دروس الأمل وإرادة الإصرار والإحساس بصلابة المواطنين الملتزمين. ربما تكون جهود صنع السلام مُكلفة، لكن ثمارها لا تُقدَّر بثمن.

ترجمة: غياث جازي

*** *** ***

      
 

horizontal rule

[1] إيريك سيلفر، ماذا الآن عن حركة السلام الآن؟، جيروزاليم ريبورت، 7 آذار 1991.

[2] كارل شراغ، دعم مطلب السلام: حركات السلام القاعدية في إسرائيل، المشهد الإسرائيلي، نيسان/أيار 1990.

[3] اقتباس عن مارغو ليبشيتز سوغارمان وجانين زاشاريا ودانييل غرينبيرغ في كرونولوجيا الكراهية، جيروزاليم ريبورت30 تشرين الثاني 1995.

[4] شيرا كاتز، جداول أعمال جديدة لحركة النساء من أجل السلام: أن نكون أو كيف نكون؟، التحدي، أيار/حزيران 1995، عدد 31.

[5] مصدر سابق.

[6] إيفون دويتش، وسيتكاثر السلام كالفطر، مقالة غير منشورة.

[7] مجلس النساء الآسيويات لحقوق الإنسان، نساء بالسواد: تجمع الروح.

[8] ماغي هِلويغ، ارتداء الأسود من أجل العدو، أخبار السلام، تشرين الثاني 1993.

 

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود