مذكِّرة الجندي

 

ليف تولستوي

 

فلا تخافوهم. لأنْ ليس مكتومٌ لن يُستعلن، ولا خفيٌّ لن يُعرف. الذي أقوله لكم في الظلمة قولوه في النور، والذي تسمعونه في الأذن نادوا به على السطوح، ولا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكنَّ النفس لا يقدرون أن يقتلوها، بل خافوا بالحري من الذي يقدر أن يُهلك النفس والجسد كليهما في جهنَّم.
(إنجيل متّى: 10/26، 27، 28)

فأجاب بطرس والرسل وقالوا: "ينبغي أن يُطاع الله أكثر من الناس".
(أعمال الرسل: 5، 29)

أنت جنديٌّ. علَّموك إطلاق النار والطعن والمشية العسكرية والرياضة؛ علَّموك اللغة، وأخذوك إلى الدروس والاستعراضات العسكرية. ربما وجدتَ نفسك في الحرب، تقاتل الأتراك أو الصينيين، منِّفذًا كلَّ ما تؤمَر به، ولكن لم يخطر في بالك قط أن تسأل نفسك: هل ما تقوم به حسنٌ أم سيئٌّ؟ لكن، ها أنت ذا تتلقى أمرًا بالالتحاق بسرِّيتك أو كتيبتك، وتأخذ معك رصاصًا حقيقيًا. فتذهب، راكبًا أو ماشيًا، دون أن تتساءل إلى أين يسوقونك. يُساق الفوج إلى قريةٍ أو مصنعٍ ما، وترى من بعيد حشدًا متجمهرًا في ساحة القرية أو فناء المصنع، رجال ونساء مع أطفال، شيوخ وعجائز. المحافظ أو النائب العام، ترافقه الشرطة يقتربون من الحشد، ويتجادلون حول أمرٍ ما. يصمت الحشد في البداية ثمَّ يبدأ بالصراخ أعلى فأعلى، فتبتعد القيادة عن الناس. وأنت تُخمِّن أنَّ هؤلاء الفلاحين أو العمال يُخلُّون بالنظام، ثمَّ تُعطى الأمر بقمعهم. تبتعد القيادة عن الحشد وتقترب منه عدة مرات، لكن الصراخ يعلو ويعلو، والقيادة تتباحث فيما بينها، ثم يأمرونك بتلقيم سلاحك برصاصٍ حقيقيٍّ. إنك ترى أمامك أناسٌ – هم ذاتهم الذين خرجت من بينهم: رجال في معاطف طويلة، ومعاطف قصيرة، يرتدون نعالاً مصنوعة من ألياف لبيَّة، ونساء مع أطفالهن، يرتدين الأثواب والقفاطين، يشبهن زوجتك أو أمك. يأمرونك، في البداية، بإطلاق الرصاص الحقيقي فوق رؤوس الحشد، لكن الحشد لا يتفرَّق، ويواصل الصراخ بصوتٍ عالٍ؛ وها هم يأمرونك بإطلاق الرصاص الحقيقي، ولكن ليس فوق الرؤوس وإنما وسط الحشد مباشرةً. يلقِّنونك بأنك لست مسؤولاً عمَّا قد ينتج عن إطلاقك النار، لكنك تعلم أنَّ ذلك الإنسان الذي سقط مخضَّبًا بالدماء بسبب إطلاقك النار قد قُتل من قبلك وليس من قِبل أيِّ أحدٍ آخر، وتعلم أنك كنت قادرًا على عدم إطلاق النار، وما كان لهذا الإنسان أن يُقتل حينذاك. فماذا عليك أن تفعل؟ فضلاً عن أنك قد تخفض سلاحك الآن، ترفض إطلاق النار على إخوانك. ولكن غدًا قد يحدث الأمر ذاته، وبالتالي – شئت أم أبيت – سيتوجَّب عليك أن تعيد التفكير وتتساءل: ما هو لقب الجندي هذا الذي أوصلك إلى وجوب إطلاق النار على إخوانك العُزَّل؟ يرد في الإنجيل، ليس فقط وجوب عدم قتل إخوانك، بل عدم القيام بما يؤدي إلى القتل: عدم الغضب على أخيك، ومحبة الأعداء لا كرههم. في شريعة موسى يُقال بشكل مباشر: "لا تقتل"، دون أية اشتراطات حول من يجوز، ومن لا يجوز، قتله. أما في القواعد التي علَّموك إياها، فيُقال إنَّ الجندي يجب أن يُنفِّذ كل أوامر القيادة، أيًا كانت، ما عدا الأوامر الموجَّهة ضد القيصر. وفي شرح الوصية السادسة يُقال إنه رغم أنَّ القتل ممنوع بموجب هذه الوصية، لكن من يقتل العدو في الحرب لا يرتكب خطيئة ضد هذه الوصية. أما في مذكرة الجندي، المعلَّقة في كافة الثكنات، والتي قرأتَها وسمعتها كثيرًا، فيرد بأنَّ على الجندي قتل الناس: «انقضّ على ثلاثة: اطعن الأول، وأطلق النار على الثاني، والثالث بالحربة... إذا انكسرت الحربة فاضرب بأخمص البندقية، وإذا خذلك أخمص البندقية فاضرب بقبضتيك، وإذا عطبت القبضتان فانهش بأسنانك». يقولون لك إنَّ عليك أن تقتل لأنك أقسمت، ولن تكون مسؤولاً عن أفعالك، بل القيادة. ولكن قبل أداءك القَسَم، أي قبل أن تصير ملزمًا بتنفيذ مشيئة الآخرين، أنت ملزم، دون قَسَم، وفي كل الأمور، بتنفيذ مشيئة الله الذي منحك الحياة – الله لا يأمر بالقتل. وبالتالي، لا يجوز لك، على الإطلاق، أن تُقسم على القيام بكل ما يأمرك به الناس. لهذا يرد في الإنجيل أيضًا (إنجيل متى: 5، 34) بصريح العبارة: «لا تحلفوا البتَّة [...] بل ليكن كلامكم: نعم نعم، لا لا. وما زاد على ذلك فهو من الشرير». وكذلك يرد في رسالة يعقوب (5، 12): «ولكن قبل كل شيء يا إخوتي، لا تحلفوا، لا بالسماء ولا بالأرض»، الخ. وبالتالي، فالقَسَم بحدِّ ذاته خطيئة. وكذلك ما يقولونه بأنَّ المسؤول عن أفعالك ليس أنت، وإنما القيادة، كذبٌ جليٌّ. ترى هل يمكن لضميرك أن لا يكون فيك، وإنما في وكيل العريف أو العريف أو قائد السرية أو العقيد، أو في أي أحد آخر؟ لا يمكن لأحدٍ أن يقرر بدلاً منك ما يمكنك ويجب عليك القيام به، وما لا يمكنك ولا يجب عليك القيام به. الإنسان مسؤول دائمًا عمَّا يفعل. ترى، أليست خطيئة الزنى أخف بكثير من القتل، فهل يجوز لشخص ما أن يقول لآخر: "ازنِ وسأحمل عنك وزر خطيئتك، لأني رئيسك". لقد ارتكب آدم – كما يقول الكتاب المقدَّس – خطيئة في حقِّ الله، وقال إنَّ زوجته طلبت منه أكل التفاحة، وقالت الزوجة إن الشيطان أغواها. لم يبرر الله، لا لآدم ولا لحواء، وقال لهما إنَّ آدم سيُعاقب لأنه أصغى لصوت زوجته، وستُعاقب زوجته أيضًا لأنها استمعت للحية. ولم يبرر لهما، بل عاقبهما. تُرى، ألن يقول الله لك الشيء ذاته عندما تقتل إنسانًا ثم تقول إنَّ قائد السرية أمرني بذلك؟ الكذب مرئي في القاعدة نفسها، بأنَّ على الجندي تنفيذ كل أوامر القيادة، ثم يُضاف: «ما عدا الأوامر الموجهة ضد القيصر». فإذا كان على الجندي، قبل تنفيذ أوامر القيادة، أن يقرر ما إذا كانت ضد القيصر أم لا، فكيف له، قبل تنفيذ أوامر القيادة، ألا يناقش ما إذا كان ما تطلبه القيادة ضد القيصر الأعلى – الله، أم لا؟ وليس هناك شيء يناقض مشيئة الله أكثر من قتل الناس. ولهذا، لا يجوز الانصياع للبشر إذا ما أمروك بقتل البشر. أما إذا أذعنت فقتلت، فإنك تفعل ذلك لمنفعتك فقط، حتى لا تُعاقب. وبالتالي فإنك، إذ تقتل تبعًا لأوامر القيادة، تكون قاتلاً، تمامًا مثل قاطع الطريق الذي يقتل تاجرًا لكي ينهبه. ذاك أغواه المال، وأنت لكي لا تعاقبك القيادة، ولتنال مكافأة. الإنسان مسؤول بنفسه دائمًا أمام الله عن أفعاله. وما من قوة تستطيع، حسبما تريد القيادة، أن تجعل من إنسانٍ حيٍّ شيئًا ميتًا، يمكن اعتسافه، كما يعتقد كل شخص ذي كتَّافيات عريضة. لقد علَّم المسيح الناس بأنهم جميعًا أبناء الله، ولذا لا يمكن للمسيحي تسليم ضميره لسلطة شخص آخر مهما كان اللقب الذي يتسمَّى به: ملكًا، إمبراطورًا، قيصرًا. كذلك الناس الذين لا سلطة لهم عليك، حين يطلبون منك قتل إخوانك، فهذا يُظهر أنَّ هؤلاء الناس كاذبون، ولهذا ينبغي عدم الإذعان لهم. مشينٌ هو وضع المومس المستعدة دائمًا لتدنيس جسدها مع كل من يشير إليه سيدها، لكن مشينٌ أكثر وضع الجندي المستعد دومًا لارتكاب جريمة كبرى، قتل أي إنسان ما إن يشير إليه رئيسه. ولهذا، إذا كنت تريد حقًا سلوك سبيل الله، عليك القيام بأمرٍ واحد: أن تخلع عن نفسك لقب الجندي المشين، وتكون مستعدًا لتحمُّل كافة الآلام التي سيسببونها لك على ذلك. وبالتالي، فالمذكَّرة الحقيقية للجندي المسيحي هي ليست تلك التي يرد فيها أنَّ الله هو جنرال الجنود، وغير ذلك من التجديفات، وأنَّ على الجندي أن ينصاع لرئيسه في كل شيء، ويكون مستعدًا لقتل الغرباء أو أهله، وحتى إخوانه العزَّل، وإنما تكمن في أن يتذكَّر كلمات الرسالات القائلة إنَّ عليه طاعة الله أكثر من البشر، وألا يخاف من الذين يستطيعون قتل الجسد، لكنهم لا يستطيعون قتل الروح. هذه هي مذكَّرة الجندي الحقيقية، غير الباطلة.

ترجمة: هڤال يوسف

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود