|
اغتيال بن لادن
في وقت متأخر من مساء الأول من أيار صرَّح الرئيس أوباما على شاشة التلفاز: "بوسعي أن أعلن للأمريكيين وللعالم أن الولايات المتحدة قادت عملية قتلت فيها أسامة بن لادن [...] لقد تحققت العدالة Justice has been done". نعم، لكن أية عدالة هي تلك التي تحققت؟ ويوضح الرئيس بأنه "سمح بعملية كانت الغاية منها إلقاء القبض على أسامة بن لادن، وتقديمه للعدالة". لأنه إن كانت هذه هي الغاية، فإن العملية التي قامت بها القوات الخاصة الأمريكية قد فشلت. بل على العكس من ذلك يعني موت بن لادن أنه لن يقدِّم أي بيان بأفعاله أمام العدالة، لأن بن لادن لم يعتقل، إنما قتل. إنه لم يحاكم، إنما فيه حكم الإعدام. ثم قيل لنا على التلفاز إن جثته في حالةٍ "مريعة"، ما يعني أن قتله هو ممارسة للعنف وليس تحقيقًا للعدالة، فعدالة البشر الحضاريين هي فعل إنساني وليست ممارسةً للعنف. وهذا ما يجعلنا نعتقد بأن الغاية مما قام به الأمريكان لم تكن إلقاء القبض على بن لادن، إنما قتله. لأن بن لادن كسجين كان سيتسبب بمشكلات لا تحصى للحكومة الأمريكية، حيث التساؤل هو: هل كان بإمكان الدولة الأمريكية أن تقيم لبن لادن محاكمة كان بوسعه أن يستغلها كمنبر؟ ما يعني في نهاية المطاف أن اختفائه يفي بشكل جيد جدًا بالغرض. ونتذكر أنه في السادس عشر من آذار، صرَّح وزير العدل الأمريكي إيريك هولدر أمام الكونغرس أن بن لادن "لن يحال أبدًا أمام محكمة أمريكية" لأنه سيقتل في لحظة اعتقاله. لأنه في الحقيقة، وكما وضَّح الوزير، "ستقرأ لائحة الحقوق لجثمان أسامة بن لادن". فموت بن لادن يتوافق مع منطق معين، وهذا المنطق هو منطق الانتقام. ما يعني أن ما تحقق لم يكن العدالة، وإنما الانتقام. فأي دافع آخر لهذا القتل سوى البحث عن الانتقام؟ وأية منفعة سيحققها الشعب الأمريكي من هذا الاغتيال سوى إشباع رغبته بالانتقام؟ وأين هي العدالة حين تغتال أكبر قوة عسكرية في العالم إنسانًا أعزل يعيش في الريف؟ وما الذي سيقدِّمه هذا الفعل للعدالة؟ ولقضية الحرِّية؟ ولحقوق الإنسان؟ ولتقدُّم الإنسانية؟ وللسلام؟ وللديموقراطية؟ فقتل إنسانٍ، لا يعني الدفاع عن قضية، إنما يعني فقط قتل إنسان. كذلك كان إلقاء جثته في البحر، وأيًّا كانت الاحتياطات التي اتخذت من أجل ذلك، فإنها ليست فقط منافية لقواعد الإسلام، إنما منافية لكلِّ القوانين الإنسانية. كما لو أن جريمة القتل لم تكن كافية وإنما كان يجب إبادته. طبعًا، ليس بوسع أحد أن ينسى أن فداحة جرائم الحادي عشر من أيلول 2001 قد صدمت الشعب الأمريكي. فبن لادن، وكما أكد الرئيس باراك أوباما "كان مسؤولاً عن قتل الآلاف من الرجال، والنساء، والأطفال الأبرياء". لكن هل سيحقق قتله العدل للضحايا ولعائلاتهم؟ إن هذا القتل لا يحقق سوى قانون العين بالعين والسن بالسن التي لا ميزة لها سوى مضاعفة العنف. إن هذا القتل هو مجرَّد تهوين للموت. بالتأكيد، يشكِّل الإرهاب الإسلامي تهديدًا حقيقيًا للديموقراطيات ولهذه الحق في أن تدافع عن نفسها. لكن هل يستحق قتل بن لادن أن يحيا كانتصار كبير للديموقراطية على الإرهاب؟ وهل سيؤدي إلى تدعيم أمن الديموقراطيات؟ لا شيء أكثر مدعاةً للشك من مثل هكذا ادعاء. فاغتيال بن لادن لن يضعف أيديولوجيا الإرهاب، إذ إن الكثيرين سيحاولون الانتقام لموت من يعتقدون أنه كان الضحية. ولا يحتاج الأمر لأن نكون خبراء كبار كي نستنتج بأن الشبكات الإرهابية ستزداد تطرفًا، وأنه بالتالي، سيزداد خطر الاعتداءات. وهذا كلُّه يتوافق مع منطق العنف. مباشرةً، بعد منتصف الليل، ومن واشنطن إلى نيويورك، نزل آلاف الأمريكيين إلى الشارع للاحتفال بهذه الوفاة كما يُحتفل بانتصار عظيم. فقد صور لنا التلفزيون الأمريكي صور الجماهير وهي تغني وترقص للتعبير عن فرحتها. وقد كان هؤلاء الرجال والنساء يصرخون ملء حناجرهم هاتفين للولايات المتحدة للتعبير عن فخرهم لكونهم أمريكيين. كذلك عبَّر كلُّ من يسعون لأن يتحدثوا بلغة مقبولة سياسيًا في فرنسا أنهم سعداء لموت بن لادن الذي يعني بالنسبة لهم انتصارًا للديموقراطية على الإرهاب. وجميعهم على ما يبدو يتفقون مع بيان رئاسة الجمهورية الفرنسية الذي صدر في الثاني من أيار والذي قال "إن العدالة قد تحققت". فالكلُّ على ما يبدو راضون بهذه العدالة السريعة. طبعًا يكفي القليل من التحليل النفسي لتفهم الرضى والارتياح الذي شعر به أولئك الذين عانوا بألم تحديدًا من الأفعال الإجرامية لبن لادن. هذا "أمر إنساني"، لا بل "إنساني جدًا". لكن هذا الفهم المتعاطف لا يمكن أن يبرر التظاهرات المبالغة التي تلت. فالآداب كانت تفترض كبح هذا الرضى بدلاً من إظهار ذلك الشعور العارم بالفرح. في مثل هذه الظروف، علينا أن نتذكر تلك الكلمات الإنسانية للشاعر حين قال: "وحده الصمت كبير، وكل ما عداه وهن..."، ولو تجرأت لأضفت إن: الرقص، والغناء، والصياح في هذه الحال جبن أيضًا... كيف بوسع الإنسان أن يحتفل بالموت وهو يعبر عن الفرح؟ ألا يعني هذا أن العنف راسخ بعمق في نفسه؟ ألا يعني هذا أن العنف قد دمر جزءًا كبيرًا من إنسانيته؟ كيف بوسع المرء أن يحترم إنسانيته ما لم يحترم إنسانية الآخر، حتى لو كان هذا الآخر ألد أعدائه؟ لأن دم العدو يبقى دائمًا دم الإنسانية. فالقتل هو دائمًا فشل، ومأساة، وتعاسة. ومأساة العنف تحديدًا أنه يحبس كلا الخصمين المتقابلين وسط تعشُّق يجعلهم يفقدون الحسَّ بقدسية الحياة. فيبقى كلاهما أسير منطق العنف الذي هو منطق الموت. في نصٍّ كتبه في بدايات الحرب العالمية الثانية عنوانه أفكار معاصرة حول الحرب وحول الموت، يقول فرويد: حين ستنتهي بقرار المجابهة الوحشية لهذه الحرب، فإن كلَّ واحد من المتقاتلين المنتصرين سيعود فرحًا إلى داره، ليلتقي من جديد بزوجته وبأطفاله، من دون أن يأبه أو ينشغل بالتفكير في الأعداء الذين قتلهم خلال المواجهة المباشرة أو بواسطة سلاح طويل المدى[1]. وهكذا فإن الإنسان المعاصر لا يشعر بأي شعور بالذنب حين يتعلق الأمر بقتل أعدائه. ويلاحظ، أن الإنسان المتوحش ليس على الإطلاق قاتلاً بلا ندم، لأنه حين يعود منتصرًا من دروب الحرب، فإنه لا يحق له دخول قريته ولا ملامسة زوجته قبل أن يكفِّر عن ذنوبه بطرائق غالبًا ما تكون طويلةً ومؤلمة[2]. ويستنتج فرويد من ذلك فيؤكد أن الإنسان المتوحش، بفعله هذا، إنما كان يعبِّر عن "حساسية أخلاقية يبدو وكأن الإنسان المعاصر قد فقدها"[3]. أمَّا الحكيم الصيني لاوتسو فيعبر في الفصل الحادي والثلاثين من الطاو تي كينغ عن الواجب نفسه الذي يفترض الحزن على من يضطر بحكم الإكراه أو الضرورة إلى استعمال العنف تجاه خصمه:
مهما كانت جميلة، لا تعدو الأسلحة كونها مجرد أدوات للتعاسة. إن تأملات لاوتسو وفرويد هذه، والتي تتحدث على ضرورة أن يحزن الإنسان لموت عدوه، لا يجب أن ينظر إليها نظرة استخفاف ساخرة كتلك التي ننظر بها ببساطة إلى عادات أزمنة نفترضها غابرة. لأنه لا يجب علينا أن نأخذها فقط على محمل الجد، إنما أن نطبقها بحرفيتها. لأن الإنسان "المتحضر" حقًا، إن اضطرته الضرورة لقتل خصمه، لا يفترض أن يستمتع بهكذا انتصار، ولا أن يبرره بهكذا حجة، إنما عليه أن يحزن لمن مات بين يديه. وما نستنتجه بالتالي من تأملات فرويد ولاوتسو هي استنتاجات لا يمكن دحضها وتقول: إنه بعد قتل العدو، يفترض السلوك "المتحضر" الحزن، بينما يفترض "التوحش" الاحتفال بالنصر. طبعًا، قد يبدو من غير المنطقي أن ننتظر من الشعب الأمريكي أن يحزن لموت بن لادن. لكن، يجب أن نتوقف أمام ما يقوله لاوتسو أن "هكذا فرح يعني حب القتل". الرابع من أيار 2011 ترجمة: أكرم أنطاكي ٭ فيلسوف ومفكر لاعنفي فرنسي، وناطق بلسان الحركة من أجل بديل لاعنفي MAN. [1] سيغموند فرويد، محاولات في علم النفس. [2] المرجع السابق. [3] المرجع السابق.
|
|
|