|
إضاءات
ممَّا حفظتُه عن الأستاذ جودت سعيد قولُه: "إنَّ الانحباس في اللحظة التاريخية يشوِّش الوعي والإدراك" – وقد يخلق اليأس! لكن تسريح النظر في اتجاه الماضي ورصد الحركة الإنسانية عِبْرَ التاريخ يمكِّننا من وضع اللحظة الحاضرة في سياقها التاريخي، بحيث لا تستولي على وعينا، بل تتحول إلى لبنة تساهم في بلورة وعي موضوعي يتمكن من رصد اللحظة الحاضرة باعتبارها جزءًا من الصورة، بدلاً من أن تكون الصورة كلَّها، فتسدَّ علينا آفاق الفهم والمعرفة.
التجديدُ في الدين جهدٌ فكري يقوم له الإنسانُ المثقفُ لطرح معرفة جديدة ومفهوم جديد عن الدين. إنه بمثابة مدرسة فكرية ينتمي إليها باحثٌ يسعى إلى طرح رؤى دينية متصالحة مع الحداثة، مع التأكيد، في آنٍ معًا، على أهمية العلاقة الروحية الإيمانية بالله. فالباحث هنا لا ينتمي إلى المدرسة الفقهية التقليدية المحافظة، التي هي في الواقع مدرسة تاريخية ماضوية ليست على وفاق مع الحداثة لأنها تسعى إلى تركيب الماضي على الحاضر أو القديم على الجديد. شكَّل النصُّ
الديني الإسلامي سلطةً فكريةً وثقافيةً
حكمتْ، منذ بدايات الإسلام، عمليةَ مجمل
الإنتاج الفكري العربي الإسلامي في العصرين
الأول والوسيط وحدَّدتْ أبعاده واتجاهاته.
ويمكن لنا أن نميِّز بين تيارين ندَّعي أنهما
شكَّلا الاتجاهين الأساسيين في الفكر العربي
الإسلامي وهيمنا على العملية المذكورة في
مجملها: 1.
التيار
الأول أكَّد على العقل وعلى ضرورة إعماله
في النصِّ الديني، مميزًا بين "ظاهر" و"باطن"
لهذا النص: هذا تيار العقل وما تمخض عنه
لاحقًا من فقه التأويل. 2.
أما
التيار الثاني فقد رفض التأويل العقلي،
حاصرًا مهمة العقل في مجرد إعادة القراءة (التفسير):
وهو الذي مثَّل له الفقه الظاهري ذو
العقلية النصِّية والإيمانية التسليمية. اعتدتُ، منذ أن تيسَّر لي الأمرُ، أي منذ فترة قريبة، أن أقومَ كلَّ سنة في الصيف بزيارة إلى قصَّابين، القرية التي ولدتُ فيها. أقول: «منذ فترة قريبة»، لأنَّ هذه الزيارة لم تكن ممكنةً قبلها بسبب من الأوضاع الشخصية والعامة: فقد بقيتُ مُبعَدًا عن سورية عشرين سنة كاملة لم تطأها قدماي (1956-1976)؛ ثم أضيفتْ إلى هذه السنوات سنواتُ الحرب الأهلية في لبنان، حيث اضطررتُ للسفر إلى پاريس والإقامة فيها.
للولايات المتحدة الأمريكية دورٌ مساندٌ حيوي تلعبُه في دراما التحول الديموقراطي في الشرق الأوسط عِبْرَ ما طرحتْه من أفكار ومبادرات للإصلاح في "الشرق الأوسط الكبير". وحتى يتسنَّى لها أن تلعب هذا الدور جيدًا، يجب على صُنَّاع السياسة الأمريكيين أن يتجنَّبوا إغراءات التصرف كمخرجين أو منتجين للأعمال الدرامية. فإذا اختار الأمريكيون دور المساند، لأمكن لهم مساعدةُ الممثلين الإقليميين في الوصول إلى مستويات جديدة من الأداء الفنِّي؛ أما إذا اختار الأمريكيون دور المنتج أو المخرج، فسوف يواجهون مقاومةً من اتحاد الممثلين. وفي أفضل الحالات، فإن جهودهم في التخطيط لعملية التغيير وفي تنسيقها سوف تواجه الاتهام بـ"الأبوية"، بل أسوأ من ذلك، الاتهام بالاستعمار الجديد.
الثقافة عاملٌ جبَّار من عوامل النشاط الإنساني؛ فهي موجودة في كلِّ ما نراه ونشعر به. «الإدراك البريء» لا وجود له؛ فكل ما نراه ونفهمه يصل إلينا مصبوغًا بتوقُّعنا وبقابليتنا لاستقباله، إذ تتموضع الثقافةُ في جذوره. فنحن نرى العالمَ عِبْرَ نظَّارات مصبوغة بثقافتنا. ويستخدم عددٌ هائل من البشر هذه النظارات، حتى دون أن يشكِّكوا في وجودها أصلاً. وهذه النظارات اللامرئية الملقِّنة للقابلية تؤثِّر بقوة أكبر من خلال بقاء «النظارات الثقافية» غير مرئية. فما يفعله الناس يتوقَّف مباشرةً على ما يؤمنون به؛ كما أن عقائدهم، بدورها، تتوقَّف على رؤيتهم المصبوغة ثقافيًّا لأنفسهم وللعالم المحيط.
بدايةً، يجدر بي التنويهُ بنقطة مهمة، ضرورية في نظري: لا أقصد بكلامي على "الموروث الديني" ذلك الموروث الذي عادةً ما تحتفظ به أيةُ أمَّة كجزء من منظومتها الثقافية، وتتناوله كمعرفيات تراثية أو كقيم معرفية أو كفلسفات روحية، مجردة، بالتالي، من سلطة الاستحواذ والهيمنة والتوجيه والوصاية؛ بل أقصد به الموروث الديني المتداوَل في العقل الجمعي وفي البيئة الاجتماعية والثقافية للعالم الإسلامي عمومًا – ذلك الموروث الذي لم يزل يحظى بسلطة التوجيه والوصاية وسلطان الأمر والنهي، ويستمد مشروعيتَه في الوصاية والهيمنة والتوجيه والحاكِمية من كونه لم يزل يتميز، في الصورة الذهنية الشعورية والعقلية الثقافية الإسلاميتين، بالطابع اللاَّزمني، الأبدي، اليقيني والغيبي والمطلق. وعليه، فهو الموروث ذاته الذي لم يزل يحدِّد للفرد المسلم ماهيةَ وجوده الكياني والحياتي، ويتدخل في تشكيل ثقافته وقناعاته وأخلاقه وشعوره وسلوكه، وحتى هيئته الخارجية، ويعيِّن له طبيعةَ علاقته مع "الآخر" ومع عالم الأشياء من حوله.
لا
يحتاج المهتمُ
للشأن السوري إلى كبيرِ جهدٍ كي يلحظ الموقع
الخاص والمتقدِّم الذي يحتلُّه ملفُّ
العَلمانية في الحوارات الدائرة اليوم داخل
الأوساط السياسية والثقافية: ربما كردٍّ
مباشر على تنامي مشاعر القلق والخوف من
التطرف الديني، وقد بات يصول ويجول في أكثر من
مكان ومحلَّة من بلدان الجوار؛ أو ربما
كمحاولة لتحديد الموقع المفترَض في عملية
التغيير الديموقراطي لبعض تيارات الإسلام
السياسي التي بدأت تُسفِرُ عن العقلانية
والاعتدال؛ أو ربما كردٍّ غير مباشر على
الخلافات التي شهدتْها تركيا بين
العَلمانيين والإسلاميين قبل الانتخابات
البرلمانية وبعدها، ثم انتخاب عبد الله گول
رئيسًا للجمهورية إثر فوز "حزب العدالة
والتنمية" بغالبية مقاعد البرلمان – فما
جرى هناك لا يخص هذا البلد وحده، بل يعني
بلداننا العربية جميعًا، وبالأخص سورية،
الأقرب جغرافيًّا، ويثير العديد من الأسئلة
الإشكالية عن أوضاع مشابهة تنتظر أجوبةً
وإيضاحات، وبخاصة حول الموقف من العَلمانية
ومن علاقة الدين بالدولة وبالسياسة عند
مجتمعات يتميَّز طابعُها الثقافي الخاص
بتشرُّب الدين شعبيًّا في بناها.
1 مهما تعدَّدتِ الآراءُ التي تتَّصل بظاهرة فَرْضِ الحجاب على المرأة المسلمة، فمن الممكن أن يقال عنها إنَّها جميعًا مجرَّدُ تأويلات. وهي، بوصفها كذلك، لا تُلْزِمُ أحدًا غيرَ أصحابها. فليس هناك نَصٌّ قاطعٌ يفرض الحجابَ وفقًا لما يُريد الأصوليون الدينيون. هناك تفسيرٌ لبعض المأثورات. لكن، هل يصحُّ، دينيًّا، أن يرتفعَ تَفسيرُ المأثور إلى مرتبة التشريع أو القانون؟! في كلِّ حالٍ، تبقى مسألةُ الحجابِ خِلافيَّةً. فبأيِّ حَقٍّ، أو بأيَّة سلطة، يفرض بعضُهم تأويلَه الخاصَّ على النَّاس كلِّهم، ويُجيز لنفسه أحيانًا أن يستخدمَ العُنفَ من أجل ذلك، لا ضدَّ المرأة وحدَها، وإنما كذلك ضدَّ الأشخاص الذين يخالفونه الرأي، وضدَّ المجتمع كلِّه؟! ولئن كانت مسألةُ الحجاب قديمةً داخل المجتمعات الإسلامية التي هي، إجمالاً، مجتمعات غير مدنيَّة – ويمكن لذلك تفهُّم صعوبتها وتعقُّدها –، فإنَّ موقف الأصوليَّة الإسلاميَّة في المجتمعات الغربيَّة المدنيَّة يثير مشكلاتٍ تُسيء إلى المسلمين الذين يعيشون فيها، بوصفهم أفرادًا، وتُسيء على نحو خاصٍّ إلى الإسلام ذاته، بوصفه رؤيةً للإنسان والعالم، للذات والآخر.
|
|
|