|
العَلمانية
والديموقراطية في المشهد السوري لا
يحتاج المهتمُ
للشأن السوري إلى كبيرِ جهدٍ كي يلحظ الموقع
الخاص والمتقدِّم الذي يحتلُّه ملفُّ
العَلمانية في الحوارات الدائرة اليوم داخل
الأوساط السياسية والثقافية: ربما كردٍّ
مباشر على تنامي مشاعر القلق والخوف من
التطرف الديني، وقد بات يصول ويجول في أكثر من
مكان ومحلَّة من بلدان الجوار؛ أو ربما
كمحاولة لتحديد الموقع المفترَض في عملية
التغيير الديموقراطي لبعض تيارات الإسلام
السياسي التي بدأت تُسفِرُ عن العقلانية
والاعتدال؛ أو ربما كردٍّ غير مباشر على
الخلافات التي شهدتْها تركيا بين
العَلمانيين والإسلاميين قبل الانتخابات
البرلمانية وبعدها، ثم انتخاب عبد الله گول
رئيسًا للجمهورية إثر فوز "حزب العدالة
والتنمية" بغالبية مقاعد البرلمان – فما
جرى هناك لا يخص هذا البلد وحده، بل يعني
بلداننا العربية جميعًا، وبالأخص سورية،
الأقرب جغرافيًّا، ويثير العديد من الأسئلة
الإشكالية عن أوضاع مشابهة تنتظر أجوبةً
وإيضاحات، وبخاصة حول الموقف من العَلمانية
ومن علاقة الدين بالدولة وبالسياسة عند
مجتمعات يتميَّز طابعُها الثقافي الخاص
بتشرُّب الدين شعبيًّا في بناها. بدايةً،
وإذا تجاوزنا بديهياتٍ في العلاقة بين الفكرة
والواقع استقرَّتْ في الخبرة الإنسانية ولم
تعد موضوعًا للجدل والمماحكة، يجب الحذر من
الانجرار إلى فهم مسبَّق للعَلمانية غالبًا
ما تُمليه اعتباراتٌ إيديولوجيةٌ تهمل
ضرورةَ التعمق في دراسة أوضاع كلِّ مجتمع على
حدة وقراءةَ هذا المفهوم كحالة ملموسة بعيدًا
عن التقليد الأعمى لما حصل في الغرب.
فالعَلمانية، كفكرة حية، تشتق مبادئها مما
يتصل بالنشاط الإنساني الملموس، وليس من
قيم مجردة وحسب، الأمر الذي يتطلب –
موضوعيًّا – نزع القداسة عنها وإعادة
تعريفها بما ينسجم مع طابع مجتمعاتنا، بما
يعني تشجيع ما يُطرح من أفكار ونماذج تحديثية
ذات خصوصية ترفض التسليم بحرفية ما قدَّمتْه
التجربةُ الأوروبيةُ عن الفكر العَلماني
واعتبارها وحدها مالكةَ الحلول العقلانية
والصحيحة في رسم العلاقة بين الدين والدولة.
ففي الغرب نفسه ثمة عَلمانية وعَلمانية. وعلى
سبيل المثال، يختلف النموذج الفرنسي عن
النموذج الأمريكي في فهم تَمَظْهُر
العَلمانية كقيمة ومحددات وفي مدى حضورها في
رسم هامش الحريات الشخصية المتاح
وقَوْنَنَته وتحديد الضوابط الدستورية التي
تحول دون هيمنة الدين والقوى الدينية على
الحياة والدولة والخطاب السياسي. ربما
آن الأوان لأن نعترف بانحسار الإيديولوجيا
والتصورات المسبَّقة كخيار معرفي ونضالي،
ولأن نقرَّ بلاجدوى خوض السجالات في مستوى
النصوص والأفكار لإثبات صحة هذا المفهوم أو
ذاك؛ ما يعني إعادة صياغة دور المعرفة في
الحياة وتقدُّم مبدأ توظيف المنهج العلمي
وتطبيقاته العملية من أجل تفسير الواقع الحي
وتحليله كظواهر ومشكلات محددة، وتاليًا
لبناء التصورات والمفاهيم (ومنها العَلمانية)
في ارتباطها بالتاريخ الحي في سياق تحولات
الأحداث وتطوُّرها كما تجري على أرض الواقع،
لا كما ترسمها العقولُ والرغبات. وإذ
نتفق على تعريف العَلمانية بأنها، من حيث
الجوهر، فصل الدين عن الدولة أو استقلال
السلطة في التشريع وإدارة الحكم عن المؤسسة
الدينية، فهذا لا يعني بأيِّ حال إلغاء الدين
أو إبعاده من المجال الاجتماعي، بل العمل فقط
على إخراج الدولة والتنظيم الاجتماعي من
سيطرة الممارسة الدينية، وتاليًا إخراج
الممارسة الدينية من سيطرة السياسي ورعايتها
في إطارها الحيوي كحقٍّ وخيار شخصيين؛
مثلما لا يعني أن نغضَّ النظر عن ظواهر
موضوعية يمكن للمجتمع أن يفرزها في المستوى
الراهن من تطوُّره ولا تزال تجد خلاصها في هذا
المستوى أو ذاك من الربط بين الدين والسياسة. لكن
المؤسف هو أن تغدو العَلمانية في نظر بعضهم
أشبه بنمط حياة وشيئًا كليَّ القداسة نافيًا
للآخر! فثمة مَن يريد أن يستبدل بالمرجعية
الدينية فكرةً موازيةً ومرجعيةً أخرى
ويسوِّغ الوسائل كلَّها لحمايتها والدفاع
عنها، وكأنه يدعو إلى إنشاء "تدين" جديد،
عَلماني، مشبَع بالنرجسية والأصولية، وحتى
بالعنف! وما يزيد الطين بلَّة أن تتطور
العَلمانية على يد هؤلاء لا إلى نظرية في فصل
الدين عن الدولة، ولا حتى إلى اجتهادات في
خصخصة القرار في الشأن الديني وتمييزه عن
الحيز العام، بل إلى موقف إقصائي، عصبوي
متشدِّد، من الإسلام الحركي ومن نجاح
التيارات السياسية الدينية في التغلغل
الشعبي والحشد، فيسارع إلى الإطاحة بأهم
المسلَّمات عن علاقة الفكر بالواقع واحترام
الآخر، ويدفع اشتراط نجاح العَلمانية
بالديموقراطية وبعقلنة السياسة إلى مهبِّ
الريح. هو
توجُّه خاطئ وخَطِر في آنٍ، أوجد مسافةً غير
صحية بين العَلمانية وبين ما تفرضه من
التزامات ومن تفسير خاص للحياة والثقافة
والسياسة وبين الديموقراطية، وبخاصة لجهة
منحها الأولوية على ما عداها؛ الأمر الذي
يطرح سؤالاً كبيرًا عن صدقية بعض القوى
العَلمانية وعن مدى جدية دعوتها إلى الحرية
والتعددية: إلى أيِّ حدٍّ تسوغ هذه لنفسها أن
تمارس ما تعيبه على الآخرين حين تستسهل
التضحية بالديموقراطية كقاعدة للتفاهم
والحياة هي الأشمل والأغنى لحساب رؤية فكرية
أحادية تمثلها العَلمانية؟! صحيح
أن الحوارات والسجالات عن العَلمانية
استحضرت مزيدًا من الشكوك حول صدقية التيارات
السياسية التي تستمد من الدين أصولَها
ومرجعيتَها، ومزيدًا من الارتياب أيضًا عن
حقيقة إيمانها بالديموقراطية وقدرتها على
احترام التنوع والاختلاف؛ وصحيح أنها ليست
قليلةً أو محدودةً الأمثلةُ التي صار يستند
إليها بعضُهم للطعن في قوى الإسلام السياسي
عمومًا والسخرية من إمكانية أن "تخرج من
جلدها" وتغدو ديموقراطية ومعتدلة، هذا في
حال لم يسارع إلى اتهامها بالعمى والتحجر
وبأنها تشكِّل القاعدة الفكرية والاجتماعية
لنمو الأصولية والتطرف وترعرُعهما؛ لكن
الصحيح أيضًا أنه مثلما يتهم العَلمانيون
تيارات الإسلام السياسي بأنها خطر على
المجتمع وبأنها تهدِّد بأخذه رهينة
لمطامعها، يعتبر الناشطون الإسلاميون فرضَ
أية فكرة تتناقض ومفاهيمَهم على المجتمع
ضارًّا بهم وبما يعتبرونه حقًّا لهم وخصوصية.
(ولا نعرف كيف ينصِّب طرفٌ ما من نفسه دون
الآخرين مرجعًا أحاديًّا ووصيًّا على
المجتمع، ولأيِّ سبب ينبغي أن نصدِّق
ادعاءاتِه بأنه حامي حمى العَلمانية وبأنه لا
يعمل، تحت ذريعة حماية الشعب من اضطهاد
القادة الدينيين، على توجيه الأمور نحو
اضطهاد آخر، بما يخدم مآربه ومصالحه الخاصة؟!) لقد
درجت العادة في ثقافتنا القديمة على استخدام
الديموقراطية سلاحًا تكتيكيًّا أو وسيلةً
للوصول إلى الحكم، ثم الانقلاب عليها وتبرير
الاستئثار بالسلطة تحت حجج وذرائع شتى. في
إطار هذه الثقافة، يصح التشكيك المسبَّق في
تيارات وجماعات استسهلت، تحت العباءة
الدينية، مصادرة كلِّ شيء وحاولت قَسْرَ
الإسلام في حركة سياسية تخوض الصراع ضد الآخر
انطلاقًا من الفروق الدينية، وليس من منطق
ماهية هذا الآخر ووظيفته الموضوعية في
المجتمع. لكن لا يجوز تعميم هذا الموقف على
مروحة وتشكيلة واسعة من ظاهرة الإسلام
السياسي، بل على العكس، ينبغي البحث عن
التخالف والاستثناء، وتظهيره وإشهاره، كما
هو حال التجربة التركية مثلاً، بصفته الأساس
الذي يفترض أن تُبنى عليه مرحلةٌ لا مناص من
خوضها، تفترض التعايش مع تيارات من الإسلام
السياسي لا تزال تملك وزنًا ودورًا كبيرين في
المجتمع؛ مثلما لا يجوز دفعُ الأمور إلى
تطرُّف مقابل وتأجيجُ التعارض والالتباس بين
الاحتكام إلى مبادئ الديموقراطية، من جهة،
وبين رفض ما تأتي به إذا كان يعارض أفكارنا
ومواقفنا، من جهة أخرى، بدلاً من تقديم أولوية
الديموقراطية، مهما تكن نتائجها، وتربية
النفس والآخر على الثقة بقواعدها وبقدرتها
على تصحيح أيِّ مسار خاطئ أو أية اندفاعة
قسرية تسوق الأمور، خارج هذه القواعد، نحو
الاستئثار والتطرف والرؤى الذاتية الضيقة! في
عبارة أخرى، تتنافى أبسط مبادئ الديموقراطية
مع إقحامها في أيِّ غرض أو أية غاية سياسية:
فلا اشتراطات لضمان صحة الحياة الديموقراطية
وعافيتها سوى الإيمان بها والالتزام
بقواعدها وقوانينها؛ ومن الخطأ والخطر
تقديم أية فكرة أو رؤية سياسية عليها، مهما
تكن، من وجهة نظر صاحبها، صحيحةً وصائبة! تأسيسًا
على ما سبق، يمكن أن تُتفهَّم الآراءُ التي
أبدت مخاوف مشروعة من أن يكون الهدف المضمَر
من وراء تسليط الأضواء على الفكر العَلماني،
على أهميته وحيويته، هو حَرْف الأنظار عن
المسألة الديموقراطية وأولويتها، ربما
لتشويه الاصطفافات من مشاريع الإصلاح
السياسي ودفع الأمور في مسارات جانبية لا تمت
إلى عملية التغيير الديموقراطي بصلة وتخدم
أصحاب السلطة والمنافع والمدافعين عن الوضع
القائم. ففي بلاد كبلادنا، ما نحتاج إليه،
أولاً، هو الديموقراطية، ليس فقط لمعالجة ما
نعانيه من أزمات ركود وتخلُّف، بل – وهذا هو
الأهم – لضمان نجاح الإصلاح الديني الذي
صار حاجةً ماسةً في مجتمعاتنا؛ إذ من دونه
يصعب التأسيس لمفهوم حيٍّ عن العَلمانية،
وأيضًا لأن الدولة العَلمانية لا تقوم بغير
التراضي والاحتكام إلى الديموقراطية كقواعد
وآليات، ولأن العَلمانية لا يمكن أن تتفتح
إلا بصفتها قاعدةً للتوافق على عقد اجتماعي
يرضي الجميع، بينما تصبح مشوهةً وهدامةً
عندما تُفرَضُ من فوق أو بالقوة والعنف من
جانب طرف دون احترام الخيار الديموقراطي؛ ما
يحث الجميع على نصرة علاقة صحية بين
العَلمانية والديموقراطية، تبدأ برفع راية
الديموقراطية كنمط حياة يجب تعزيزُه
وتطويره، مرورًا بنقد الإرث العَلماني
المستند إلى الممارسات القَهْرية تجاه
الحركات السياسية المرتبطة بالثقافة
التاريخية للمجتمعات المسلمة، وتخليص
المجتمع من التطرف والإرهاب الأصولي ومن
الاستبداد العَلماني على حدٍّ سواء. في
الماضي، تم تغييب الديموقراطية، وأُهمِلَ
دورُها في معالجة ما نعانيه من ركود وقهر
وفساد، واتجه النتاج الثقافي والنشاط
السياسي اتجاهًا رئيسًا نحو مسألتين: تعلقت
الأولى بالوطن والقومية، وبالأخص القضية
الفلسطينية وبناء الوحدة العربية، وارتهنت
الثانية للبُعد الاجتماعي وللتطلع نحو مجتمع
العدالة والمساواة والقضاء على الاستغلال.
وكانت النتائج حالَنا الراهنة التي تثير
الشفقة! ولا نعرف اليوم إذا كنَّا قد بدأنا
نشهد – بكلِّ أسف – ولادة خيار جديد يرغب في
إرجاء الاستحقاق الديموقراطي مرة أخرى، ويجد
في العَلمانية الحلَّ السحري لجميع مشكلات
المجتمع، فيجاهد لفرض هذا الخيار على الجميع. إن
تعليق الآمال على العَلمانية دون طرح الإصلاح
السياسي الديموقراطي كأولوية، أو التقليل
من اعتباره أساسًا لنهضة مجتمعاتنا، هو أشبه
بمن يضع العربة أمام الحصان: فلا أفق لانتصار
العَلمانية واجتهادات الإصلاح الديني في
أجواء يرعاها الاستبداد، وتغيب عنها الحريات
الفكرية والتعددية، وتحكمها شروطٌ وصلت إلى
حدِّ أن بعض التيارات السياسية ليس فقط غير
مهيأ للتعايش مع الآخر أو للاستماع إلى
اجتهاداته، بل يرى في نفي هذا الآخر
واستئصاله واجبًا لا يؤجَّل! وعند
الاعتراف بدور الإصلاح الديني في نصرة
العَلمانية وأهمية وصله وتغذية استمراره بعد
انقطاع دام عقود، ثمة ضرورة للتذكير بدليل
تاريخي يقول إن أزهى فترات الإصلاح الديني
تمت في مناخات ديموقراطية نسبيًّا، وإن أجواء
الحرية الفكرية والسياسية هي التي ضمنت
تفتُّح النقد والإبداع وسمحت للمجتهدين بطرح
أجرأ الاجتهادات والتفسيرات الدينية، وصلت
عند بعض المصلحين إلى عرض رؤية شبه متكاملة،
أو لنقل، إلى طرح بديل (يقارب أن يكون شاملاً)
من تلك المسلَّمات الخاطئة، الدينية
والفقهية، التي عششت في عقول المسلمين أمدًا
طويلاً ولا يزال بعضها راسخًا حتى يوم الناس
هذا! فالمناخ
الذي يصادر حرية الفكر ويستعبد الآخر ويتنكر
لحقوقه، رافضًا الخضوع للعقل النقدي، هو
المناخ الذي يمنح التطرف قدرةً أكبر على
التوغل في السياسة والمجتمع، لتظهر الأمور
أشبه بمعادلة بسيطة تقول إن مقارعة الأصولية
الفكرية والإطلاق المعرفي لا تتحقق إلا برفض
الاستبداد السياسي والاستناد إلى نظام
ديموقراطي يحضن موضوعيًّا طرائق المعرفة
النسبية ويبعث، روحيًّا وسياسيًّا، مفهوم دولة
المُواطَنة المدنية – وأسُّها احترام
التعددية وحقوق الإنسان وحرياته في الرأي
والتعبير والاجتهاد. دمشق *** *** ***
|
|
|