|
التطوُّر الطبيعيُّ للديموقراطيَّة
ممَّا حفظتُه عن الأستاذ جودت سعيد قولُه: "إنَّ الانحباس في اللحظة التاريخية يشوِّش الوعي والإدراك" – وقد يخلق اليأس! لكن تسريح النظر في اتجاه الماضي ورصد الحركة الإنسانية عِبْرَ التاريخ يمكِّننا من وضع اللحظة الحاضرة في سياقها التاريخي، بحيث لا تستولي على وعينا، بل تتحول إلى لبنة تساهم في بلورة وعي موضوعي يتمكن من رصد اللحظة الحاضرة باعتبارها جزءًا من الصورة، بدلاً من أن تكون الصورة كلَّها، فتسدَّ علينا آفاق الفهم والمعرفة. الجنس الإنساني محصَّن ضد الفناء بالطريقة التي يتوقَّعها المتشائمون. إذ إن هذا الجنس قد سجَّلَ عِبْرَ تاريخه سلسلةً طويلةً من الإنجازات، بحيث يمكن لنا اعتبار التاريخ الإنساني ميدان "نجاحات" متصل، على الرغم مما فيه من آلام وتضحيات. إن مثل هذه المعرفة بالتاريخ الإنساني تُذهِبُ القلقَ وتخلق التفاؤلَ والإيمانَ المطمئنَّ إلى قدرة الإنسان – ذاك الذي قطع هذه المفاوز عبر تاريخه – على تجاوُز التحديات المعاصرة. إن مسيرة النجاح الإنساني عبر التاريخ تفرض لهذا الوجود الإنساني معنى وتقترح غاية يكدح الإنسانُ في اتجاهها. ولو كانت هذه "الغاية" هي الانسحاق أمام إحدى التحديات التي واجه الإنسانُ الكثيرَ مثلها عبر تاريخه – أقول، لو كانت مثل هذه النهاية ممكنة أو متوقَّعة، فلن يكون هناك عبث يفوق قصة خلق الإنسان، ولن يكون لـ"استخلافه" من معنى، ولن تكون قصة نجاحاته ومعاناته عبر هذا التاريخ كلِّه أكثر من بناء شيده أطفال صغار يلهون برمل الشاطئ، فلا تكون قصة الإنسان أكثر من تراجيديا عدمية غاية في البرودة وانعدام الذوق الفنِّي والحس الأدبي! فكيف يمكن للإنسان أن يبدأ من الأطلال التي انتهى إليها تطورُ بقايا الانفجار الأعظم Big Bang، ليشيد، بدأب عجيب وعناد يصعب وصفُه، حياةً استهلَّها بالنزول عن الأشجار، ثم بالخروج من الساڤانا الأفريقية، ليغادر بعدها المناطق الاستوائية بعدما أنتج ما يقيه الحرَّ والقرَّ وأمسك النار، ثم يجوس خلال العالم القديم، ويستأنس الحيوان، ويستنبت الأشجار، ويدخل عالم الزراعة، ويؤسِّس المدن، ثم يدخل عالم الصناعة الذي تسنَّم اليوم ذروته بولوج عالم المواصلات والاتصالات وصناعة المعلومات، الذي توحي تباشيرُه وأشراطُه بأنه تمهيد لعصر جديد يليق بالإنسان المكرَّم، ويصلح تتويجًا لمسار جادٍّ مكلَّل بالنجاح والإنجاز، وإنْ يكن مغمَّسًا بالجهد والألم والعرق والدم. أجل، إن التاريخ الإنساني يمثل سلسلةً من الأدلَّة التي يصدِّق بعضُها بعضًا؛ وهذا الدرس التاريخي يقول لنا: 1. إن النوع الإنساني قادر على مواجهة الصعاب كلِّها وعلى تخطِّي العقبات كلِّها؛ وهو يسير قُدُمًا في اتجاه العصر الذي يحقق فيه معنى الإنسان، العصر الذي سمَّاه الحق عصر وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (البقرة 30)، بحيث يدخل عالمًا يكون فيه الفصلُ والحَكَمُ هو قوانين "المادة الرمادية" التي رافق تشكُّلُها افتراقَ الإنسان عن الحيوان ومغادرته مملكة الحيوان، حيث القانون الحاكم هو قانون العضل، إلى مملكة الإنسان، حيث القانون الحاكم هو قانون العقل. وكون الإنسان لم يتمكَّن من الدخول إلى عصر الأنسَنَة humanization، أو أنه لم يستطع أن ينسحب بالكلِّية من مملكة الحيوان، يجب ألا يصيبنا باليأس والإحباط، لأن التاريخ يعلِّمنا أن التغيير في تاريخ البشر كان يقاس بمليارات السنين في لحظات الخلق الأولى، ثم أصبح يقاس بملايين السنين عند بدأت الحياة، ثم أصبح في عصر الإنسان العاقل يقاس بالآلاف من السنوات، ثم أصبح في عصر الحضارات يقاس بالمئات من السنين، ثم أصبح اليوم، في عصر الاتصالات، يقاس بعشرات السنين! ونحن نرى الإنسان يغذُّ السير باتجاه العصر الإنساني مع كلِّ مطلع صبح، على الرغم من أن الفساد وسفك الدماء لم ينقطع من الأرض. 2. إن التاريخ يسير إلى الأمام، وإن الخلق مفطور على الزيادة، وإن هذه الزيادة محكومة بـ"قانون النسخ"، الذي يُحِلُّ مكانَ ما يتم تجاوُزه ما هو أنفع وأجدى وأحسن: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (البقرة 106) وإن الانكسارات الحادة والتغيرات المفاجئة التي لا يمكن التنبؤ بها غير ممكنة على الإطلاق. فالحياة ليست عبثًا ولا لهوًا ولا سدًى، و"الله لا يلعب النرد"، كما قال أينشتاين، ومستقبل الخلق يمكن تصوُّره بمعرفة التاريخ حقَّ معرفته. وهنا يمكن لنا أن نفهم معنى الإلحاح على معرفة كيف بدأ الخلق في الكتاب الكريم: قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (العنكبوت 20) 3. إن الديموقراطية ليست بدعةً في تاريخ المنجزات الإنسانية. فالتاريخ يعلِّمنا أن المجتمعات البشرية لم تتقبل القيم الجديدة بالسهولة التي نتصورها: فلا تحرير المرأة قد تمَّ تقبُّله في سهولة، وهو إلى الآن لم يَعْدُ مرحلةَ القبول كفكرة لم تتحول إلى حقيقة موضوعية في معظم المجتمعات؛ بل إن المجتمعات التي يُعتقَد أن المرأة فيها قد تحررت هي، في التحليل النهائي، مجتمعات استعباد لروح الإنسان، ذكرًا وأنثى، – دون أن أدَّعي أن المرأة لم تحقق فيها نقلةً للأمام، ودون أن يخطر لنا ببال أن وضع الإنسان في مجتمعاتنا أحسن! وكذلك موضوع تحرير العبيد لم يصبح واقعًا قانونيًّا بالسهولة التي نتصور. وحتى المنجزات التكنولوجية لم تدخل حياة البشر بمثل اليُسر والسهولة التي نرجو ونتوقع: فقد واجهت القاطرة والسيارة والطائرة الكثير من الانتكاسات والكثير من الاعتراضات والكثير من الأعداء. لكن قانون الله، في المآل، هو الغالب: أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ (الرعد 17) *** *** ***
|
|
|