|
سُـلـطـةُ المـوروث الدِّيـنـي
بدايةً، يجدر بي التنويهُ بنقطة مهمة، ضرورية في نظري: لا أقصد بكلامي على "الموروث الديني" ذلك الموروث الذي عادةً ما تحتفظ به أيةُ أمَّة كجزء من منظومتها الثقافية، وتتناوله كمعرفيات تراثية أو كقيم معرفية أو كفلسفات روحية، مجردة، بالتالي، من سلطة الاستحواذ والهيمنة والتوجيه والوصاية؛ بل أقصد به الموروث الديني المتداوَل في العقل الجمعي وفي البيئة الاجتماعية والثقافية للعالم الإسلامي عمومًا – ذلك الموروث الذي لم يزل يحظى بسلطة التوجيه والوصاية وسلطان الأمر والنهي، ويستمد مشروعيتَه في الوصاية والهيمنة والتوجيه والحاكِمية من كونه لم يزل يتميز، في الصورة الذهنية الشعورية والعقلية الثقافية الإسلاميتين، بالطابع اللاَّزمني، الأبدي، اليقيني والغيبي والمطلق. وعليه، فهو الموروث ذاته الذي لم يزل يحدِّد للفرد المسلم ماهيةَ وجوده الكياني والحياتي، ويتدخل في تشكيل ثقافته وقناعاته وأخلاقه وشعوره وسلوكه، وحتى هيئته الخارجية، ويعيِّن له طبيعةَ علاقته مع "الآخر" ومع عالم الأشياء من حوله. وكما هو معلوم، فإن الموروث الديني في أبجدية الفكر الديني الإسلامي هو موروث تراكُمي، ثقافي وعقائدي وعِرفي، يتراسل تاريخيًّا ويتناسل وراثيًّا، ولا يُنظَر إليه على أنه موروث "متحفي" فقط، يحتفظ بمخزوناته النصِّية ومنقولاته التراثية القديمة الغابرة، سواء كانت جيدة أم رديئة. لذلك فإن التراكُمات المعرفية الدينية التي تستجد على الموروث ذاته، أو تتداخل معه، أو تتقاطع معه في مفاصل مرحلية، أو تتماهى معه ثقافيًّا ونصيًّا وعِرفيًّا، وحتى شكليًّا، تُعتبَر هي الأخرى، في العرف الديني، "موروثًا دينيًّا" يتخذ، بدوره، صفةَ القداسة والحاكِمية والوصاية، لأنه يتأسَّس على الموروث الديني السابق، ويتشكَّل منه، وينطلق من أصولياته اليقينية والغيبية المطلقة. وبذلك يصبح الموروث الديني التراكُمي معنيًّا دائمًا بالبحث عن شرعيته ومشروعيته في الحاكِمية المعاصرة من خلال علاقته الترابطية النصية التامة بالمدلولات التاريخية المقدسة للموروث الذي تتشكَّل منه النصوصُ الدينية التاريخية والتراثية. وعليه، فقد تجذَّرت في الذهنية والعقلية الإسلامية قناعةٌ تامة، لا تقبل الشك أو النقد أو التغيير، وهي أن النصَّ الديني، أيًّا كان هذا النص، ليس وليد لحظته الظرفية، الزمنية والمكانية والتاريخية، وأنه ليس متأثرًا، بالتالي، بمجموعة من العوامل التاريخية المولِّدة له. ولذلك دائمًا ما يعتقد المسلم أن النصَّ الديني، الذي يعكس "موروثه الديني" في النهاية، يجب أن يبقى خارج سياق التاريخ، ليست له علاقة بتبدلات الظروف وتغيرات الأزمنة ومناخات التطور الاجتماعي والعلمي. انطلاقًا من ذلك، فإن تراكُم المعرفيات والأعراف الدينية المتعاقبة التي تتخذ، كما ذكرت، صفة الموروث الديني ذاته ومفهومه وقدسيته، يجب أن تبقى مرتبطة، بنيويًّا وعضويًّا ومفهوميًّا وتاريخيًّا، بموروثاتها النصية والنقلية السابقة وتكون امتدادًا لها، ويجب، بالتالي، أن تتخذ صفة اليقينية واللاَّزمنية والحاكِمية المطلقة. وبسبب ذلك الاعتقاد الكامل والجازم والمطلق بحاكِمية الموروث الديني ويقينيته ولازمنيته في العقلية والذهنية الإسلامية في شكل عام، فإنه من الطبيعي أن يتحول الموروثُ الديني المتراكم، القديم والحالي، إلى جهاز عقائدي ضخم يملك سلطاتٍ مطلقةً في الوصاية والتوجيه والهيمنة والحاكِمية، بينما في الأساس، واقعيًّا ومنطقيًّا وعقليًّا، من المفترض جدًّا أن يتناول المسلمون الموروث الديني على أنه مجرد نظريات بشرية اجتهادية، قابلة للخطأ والصواب، قابلة للتغير أو التبديل، قابلة للنقد والتحليل، وخاضعة للغربلة والتقليم؛ والأهم أن تخضع للدراسة المعرفية كمادة معرفية دينية فقط، من دون أن تتحول إلى وسيلة لأيِّ نوع من الثقافة المعرفية المشبعة بعقلية التوجيه والأمر – ففي هذه الحالة الأخيرة وحدها، لن يتحول الموروث الديني إلى جهاز عقائدي يحمل صفة القداسة واليقينية واللاَّزمنية. لكن الدلائل والوقائع والأحداث، الحالية والسابقة، تؤكد جميعًا أن الموروث الديني، بمنقولاته النصية وحمولاته التراثية وأدبياته التاريخية وتفسيراته الاستنباطية ومفاهيمه العقائدية المقصدية ومعارفه الشرعية، وبتراكماته المعرفية المتعاقبة الحالية واللاحقة كلها، أصبح جهازًا ثقافيًّا عقائديًّا ضخمًا مسيطرًا ومهيمنًا، مسكونًا بهواجس النرجسية والأفضلية، مشبعًا بيقينية التنزيه والتعالي والتقديس، متخمًا بالتخيلات الخرافية والفنتازية، وحاكمًا بالإيديولوجيات الجامدة والضيقة والاستحواذية الاحتكارية. ولذلك كانت الخطورة دائمًا في أن يتحول الموروث الديني إلى جهاز عقائدي شديد التأثير، متمتعًا بمطلق الصلاحيات ومتصفًا بالحاكِمية والوصاية والتوجيه، لأنه في هذه الحالة يسعى، بإمكاناته اللغوية ومخزوناته الفقهية وأحكامه الشرعية ونصوصه الموروثة كلِّها، إلى الانشغال كليًّا بخلق مساحات شعبوية معبَّأة تمامًا بفكر التطرف والتشدد والتعصب والكراهية، ليصير هدفُه الأساسي تعبئةَ النفوس والأذهان والضمائر ضد الآخر "المختلف"، أيًّا كان هذا "الآخر". ومنهج التعبئة الدينية الشعبوية، المستند إلى فكر التطرف والتشدد والتعصب، الذي تنتهجه وتعمل عليه المجامعُ الدينية عبر أجهزتها المنبرية والدعوية والإعلامية والكتابية والشعاراتية المختلفة، يتمثل في "هوية دينية" تتأسَّس على الخطاب الديني الوراثي والتوارثي. ولذلك فإن الهوية الدينية هي هوية توارُثية وترابُطية، غير مهتمة تحديدًا بعوامل التغيرات والتطورات الاجتماعية والثقافية والبيئية؛ وبالتالي، فهي ليست منفصلة عن موروثاتها الدينية الأصلية، وتتحدد مباشرةً في خطابات ماضوية وفي قوالب ثقافية وفي منهجيات مسلكية نابذة للآخر وملغية للمختلف ورافضة للمغاير وقامعة له. وهناك عامل شديد الصلة بالموروث الديني، داعمٌ له ومستندٌ إليه، منطلقٌ منه ومستمرٌّ به، وهو أن الموروث الديني، في الذهنية والعقلية الاعتقادية للمسلمين في شكل عام، يتميز بالصفاء المطلق، لا تشوبه أية شائبة، خالٍ من الهنات والمثالب والثغرات، منزَّه عن خلل المقصد ومعصوم من عثرات الخطأ. وقد استفحل هذا الاعتقاد مع تعاقُب الأزمنة وتراكُمات الموروث الديني، مندفعًا بهوس الاستعراض الديني المسرحي، حتى صار الموروث الديني، بتفسيراته المختلفة وتأويلاته الكثيرة وتطبيقاته المتعددة، يقتات على "وهم الصفاء"، كما يقول المفكر علي حرب. وقد نتجت عن ذلك في شكل مطَّرد، متوازٍ مع هذا الاعتقاد، مفاهيمُ "الأفضلية" على الموروثات الدينية الأخرى، وبرزت معها نزعةُ التقديس المطلق للذات المسلمة والتقليل من شأن الآخرين، بل واحتقار معتقدات الآخرين وإنجازاتهم الثقافية، والاعتقاد بصفاء الموروث الديني الإسلامي وخلوِّه من القصور المعرفي، بما أفرز التعصب الشديد للهوية الدينية الإسلامية. ليس مستغربًا، والحالة هذه، أن يدأب "المثقف الديني" على الدفاع عن هويته الدينية دفاعًا ينمُّ عن نشأة تربوية دينية تلقينية وشفهية ومعلَّبة، مردِّدًا، في كثير من السطحية والبلاهة، مقولاتِ وُعَّاظه الدينيين وخطبائه المنبريين وتوجيهاتِهم، مكرِّرًا أدبياتِ موروثه الديني على أنها يقينيات مطلقة، متمسكًا في الوقت ذاته بآرائه فيها، من حيث إنها الحلول النهائية والأكيدة لمشكلات البشر كلها! بذا يظهر نوعٌ آخر من "المثقف الديني": ذاك الذي لا ينفك يستعين بأقوال الفلاسفة والمفكرين والمخترعين الغربيين وآرائهم، ويحاول بقدر ما يستطيع أن يُسقِطَ أفكارَهم على موروثه الديني أو يجعلها، بطريقة أو بأخرى، تتماهى ثقافيًّا مع هذا الموروث، محاولاً تجييرها قسرًا لتتلاءم وتوجُّهاته الدينية، لكي يثبت إثباتًا هزيلاً وساذجًا أن موروثه الديني قد سبق آراء هؤلاء الفلاسفة والمفكرين والمكتشفين حول الطبيعة والحياة والإنسان بمئات السنين. (وهناك أيضًا نوع ثالث من "المثقف الديني": ذاك الذي يصف الحضارة الغربية، بمناسبة ومن غير مناسبة، بالفساد والانحلال الأخلاقي، وفوق ذلك يتنبأ بانهيارها واندثارها، بل ويتمنى ذلك – ولا نعرف كيف يتمنَّى لهذه الحضارة أن تهلك وتنتهي، وهي التي توفِّر له جميع سُبُل الراحة والاتصال والعلاج والتعليم الراقي!) ومع ترسُّخ ظاهرة الاعتقاد الوهمي بـ"صفاء" الموروث الديني، انعدمت تقريبًا، في مراحل التاريخ الإسلامي كلِّها، مدارسُ التفكير النقدي، وغابت العقلية النقدية التحليلية التي تهتم لتفكيك الموروث، وليس القبول المطلق به، وتهتم للتغيير بدلاً من محاولات الترقيع والمهادنة وغضِّ الطرف. وحتى حينما كانت تندلع شرارةُ العقلية النقدية والفلسفية للموروث الديني في بعض فترات التاريخ الإسلامي، سرعان ما كانت تُقمَع – ومازالت إلى اليوم – وتُطارَد وتتم محاصرتُها والنيلُ منها: فقد وقف الموروث الديني دائمًا عقبةً في طريق الفلسفة والمنطق والأدب والفن والنقد والتحليل، وحارب تلك الاتجاهات الفكرية والفلسفية والنقدية كلَّها، نظرًا لخطورتها على الموروث الديني الذي تهدِّد بزلزلته. انطلاقًا مما سبق كلِّه، يصبح التساؤل منطقيًّا أو حقًّا طبيعيًّا، لي ولغيري، عما يجبر الفرد المسلم عمومًا على التسليم مطلقًا، من دون إعمال تفكير أو بحث أو تحليل أو نقد أو تفكيك، للموروث الديني، سواء ما اعتاد على تلقِّيه شفهيًّا، أو ما آمن به تلقائيًّا، أو ما توارَثه ثقافيًّا وتقليديًّا عن أسلافه، أو ما تعلَّمه تلقينيًّا في المناهج التعليمية والمؤسَّسات الدينية، أو ما يتأثر به مجتمعيًّا وبيئيًّا، أو ما يُؤمَر به فقهيًّا وشرعيًّا من مشايخه ومرجعياته، أو ما يمارسه طقوسيًّا بأشكاله الجماعية، أو حتى ما يترسَّخ منه عميقًا في عقله الباطن. أعتقد أن الإجابة تتلخص في نقطة رئيسة تتركز في كثافة في ثقافة الخوف التي تجذَّرت عميقًا وطويلاً في البنية الذهنية للشخصية الإسلامية – خوف الذات المسلمة من الانعتاق من هيمنة موروثها الديني ووصايته. وأستطيع أن أحدد ثلاثة مخاوف شكَّلت، ولم تزل تشكل، عائقًا كبيرًا أمام أغلبية المسلمين لتخطِّي هيمنة السلطة التوجيهية والاستحواذية للموروث الديني والانعتاق من مسلَّماته ويقينيَّاته المطلقة: 1. فالنوع الأول من الخوف أجده يتمثل في خوف الفرد الدائم من النبذ: نبذه من البيئة العقائدية المجتمعية المسلمة وثقافتها الجماعية الدينية. ويتخذ النبذ الديني للفرد الذي يرفض التسليم والخضوع لأدبيات الموروث الديني طُرُقًا عدة ووسائل مختلفة: من تجريحه الشخصي، إلى الطعن في شرفه وأخلاقه، إلى عَزْلِه اجتماعيًّا، علاوةً على حملات التشنيع الإعلامية عليه، تلك التي يتفنَّن في افتعالها والترويج لها أمراءُ التيار الديني في حقِّ كلِّ مَن لا يجد ما يجبره على الرضوخ لسلطة موروثهم. وقد يصل النبذ الديني، في بعض الأحيان، إلى مستوى التصفية الجسدية والتهديد بحياته! ولذلك يتردد الكثيرون في خوض غمرة الصراع مع الموروث الديني خوفًا على أنفسهم وشخصهم ومكانتهم الاجتماعية من النبذ الاجتماعي الديني المتوحش لهم؛ ويحصل، والحالة هذه، أن يتخلَّى بعضُهم عن ممارسة واجبه الإنساني في النقد، وعن حقِّه في تجاوُز ما لا يراه مناسبًا له أيضًا، لقاءَ القبول بثقافة الموروث السائدة ومسايرتها مسلكيًّا وثقافيًّا وشكليًّا وشعوريًّا وعرفيًّا، لأنه يجد سلامته الشخصية في ذلك كلِّه حرصًا، بالتالي، على مكانته الاجتماعية. فالإنسان عمومًا يخشى النبذ الاجتماعي، ويتخوف من مخالفة السائد والمسلَّم به، حتى لا يجد نفسه يومًا خارج دائرة الاعتراف به مجتمعيًّا ودينيًّا. 2. أما ثاني تلك المخاوف، فهو خوف الفرد المسلم على هويته الدينية من الضياع والطمس إذا ما سولت له نفسُه الخروجَ من هيمنة موروثه الديني، لأنه يعتقد مؤمنًا بأن موروثه الديني يعكس كينونته الذاتية والوجودية وهويته الشخصية، وبأنه من غير هذه "الهوية" يشعر بالفقد والضياع، لأنه لا يملك سوى إرث واحد يدافع عنه ويتمترس خلفه ويتخندق فيه، إرث يمثل رصيده كلَّه، في ماضيه وحاضره ومستقبله. فهويته الدينية هذه هي خط الدفاع الأول والأخير في تراسُل تاريخه المديد؛ وإذا ما تم التعرض لهذه "الهوية" بالنقد والتحليل والتفكيك فمن الطبيعي أن يشعر بالخطر عليها. فبماذا يفتخر المسلم ويتفاخر ويُفاخِر سوى بهويته الدينية التي يراها الأقدس والأفضل والأنقى من كلِّ ما سواها من هويات دينية أخرى؟! – وهي، في النهاية، مرجعيته في مناحي حياته كلِّها، وهي الإطار الذي يحدِّد من خلاله علاقتَه بالآخرين وبالعالم. وبذلك فإن الفرد الذي لا يملكُ سوى موروثه الديني هويةً تامة، راهنًا في الوقت نفسه حاضرَه ومستقبلَه كلَّه لهذا الموروث، من الطبيعي ألا يقبل بأيِّ مساس به، متخوفًا، بالتالي، من فقدان هويته الدينية وضياعها، لأن ذلك يعني، تلقائيًّا، ضياعه وتشتُّته وتلاشيه. 3. وثالث تلك المخاوف خوف الفرد المسلم من عقاب الآخرة إذا ما حاول تجاوُز موروثه الديني: فثمة اعتقاد ديني جازم لديه، لا يتسرب إليه الشك، في أن معارضته موروثَه الديني ونقدَه يعنيان مخالفة أمر "الله"، وأن ذلك سيعرِّضه للعقاب والعذاب الأخروي، في حين أن خالقه يحضه على استخدام العقل في التفكير والتفكر والتبصر والتأمل. وعادةً ما نرى أن بعضهم من المسلمين، وخاصةً في أواخر حياتهم، يطلقون لحاهم، وينتظمون في ارتياد المساجد، ويُكثِرون من العبادات، ويردِّدون في سذاجة متناهية وبلاهة اعتقادية: "يا الله، حُسْن العاقبة!"، وذلك اتقاء عذاب "يوم الدين" كما يعتقدون! ختامًا، ربما كان طريق الانعتاق من استبداد الموروث الديني ووصايته يكمن في قدرة الفرد المسلم على تبديد تلك المخاوف والتحرر منها وتجاوُزها. وإلا فإن نتيجة تقديسه وتبعيته الكاملة وخضوعه المطلق لموروثه الديني ستكون وخيمةً عليه، لأنه سيمنح كامل الصلاحية والهيمنة لموروثاته الدينية، حتى تستبدَّ بعقله، بقراره واختياره، وبحياته كلِّها! *** *** *** [*] كاتب كويتي؛ بريده الإلكتروني: tloo1@hotmail.com.
|
|
|