العيـش في ظـلِّ التنـوُّع الثقـافي[1]

إرڤِـن لاشـلو

 

الپروفسور إرڤن لاشلو حائز على درجة الدكتوراه في الفلسفة، وقد شغل كرسي الأستاذية في عدد من الجامعات. كما أنه مدير «برنامج الأمم المتحدة للتعليم والأبحاث» (سنة صدور هذا البحث)؛ وهو كذلك عميد «أكاديمية علوم المستقبليات» futurology في ڤيينا، ومؤسِّس «الأكاديمية الدولية لأبحاث المنظومات».

ولد لاشلو في العام 1933 في بوداپشت، المجر. وهو يتقن العزف على البيانو في احتراف، وقد أصدر سلسلة أقراص مدمجة من أدائه لأهم المؤلَّفات الكلاسيكية الموسيقية العالمية.

اهتماماته العلمية الرئيسة هي: الفلسفة، علم الجمال، التحليل المنظوماتي، الإيكولوجيا. وقد ألَّف في هذه المناحي المعرفية 66 كتابًا، صدرت في 18 لغة، وله حوالى 400 مقال وبحث ودراسة. من أواخر مؤلَّفاته: الفضاء الخلاَّق (1993)، الكون المتعالق (1995)، البِركة الهامسة (1996)، التطور: النظرية العامة (1997)، المنظور المنظوماتي إلى العالم (1997).

كانت آخر منجزات الپروفسور تأسيس «نادي بوداپشت»، وهو عبارة عن جمعية غير رسمية وغير حكومية تضم الكثير من العلماء والفنانين والكتَّاب وشخصيات اجتماعية ودينية، ممَّن يهتمون بحماية الوسط المحيط وبمصير العالم والأجيال القادمة. وقد تأسَّس هذا النادي تحت الشعار الإيكولوجي «من أجل تعامُل حكيم وحريص ومسئول حيال الطبيعة».

المقال الذي بين أيدينا عبارة عن مقطع من تقرير بعنوان الدروب المؤدية إلى الألفيات القادمة؛ وقد ألقاه المؤلِّف ضمن مراسم افتتاح «نادي بوداپشت» في كانون الأول 1996.

* * *

 

الثقافة عاملٌ جبَّار من عوامل النشاط الإنساني؛ فهي موجودة في كلِّ ما نراه ونشعر به. «الإدراك البريء» لا وجود له؛ فكل ما نراه ونفهمه يصل إلينا مصبوغًا بتوقُّعنا وبقابليتنا لاستقباله، إذ تتموضع الثقافةُ في جذوره. فنحن نرى العالمَ عِبْرَ نظَّارات مصبوغة بثقافتنا. ويستخدم عددٌ هائل من البشر هذه النظارات، حتى دون أن يشكِّكوا في وجودها أصلاً. وهذه النظارات اللامرئية الملقِّنة للقابلية تؤثِّر بقوة أكبر من خلال بقاء «النظارات الثقافية» غير مرئية. فما يفعله الناس يتوقَّف مباشرةً على ما يؤمنون به؛ كما أن عقائدهم، بدورها، تتوقَّف على رؤيتهم المصبوغة ثقافيًّا لأنفسهم وللعالم المحيط.

وبغضِّ النظر عن كون الثقافات الحية في الوقت الراهن تتعرَّض لضغط هائل يميل إلى تسويتها وتوحيدها، فإنها تختلف فيما بينها من حيث قِيَمُها وعقائدُها وتصوراتُها فيما يخص الإنسان والكون. وإن تنوع الثقافات هذا لجديرٌ بالتعرُّف إليه عن قرب، حيث إنه يصوغ مقاصدَ البشر الذين ينتمون إلى ثقافة معينة وسلوكياتِهم. ناهيكم عن أن كلَّ ثقافة، على حدة، من خلال تأثيرها في الثقافات الأخرى، تصوغ كذلك العلاقات في العالم المتعدد ثقافيًّا.

في مجرى التطور التاريخي، أنشأت الثقافاتُ العظيمة للبشرية وكوَّنت رؤيتَها للعالم. وفي مطلع فجر التاريخ، كان العالم يُرى باعتباره عالمًا سلفيًّا[2]، إذ لم يكن البشر وحدهم يملكون أرواحًا، بل كذلك الحيوانات والنباتات؛ فكل ما في الطبيعة كان حيًّا: ينبوع الماء في البراري المدارية [الساڤانا] كان يُلهم هلعًا جليلاً أمام أرواح الطبيعة وقواها، وكذلك أمام أرواح الموتى؛ والأيِّل الذي وجد نفسه في قرية ما فجأةً كان يُماهى بروح أحد الأسلاف وقد جاء لزيارة أقاربه؛ والرَّعد كان يُعتبَر إشارةً مرسَلةً من قِبَل الجدة–الأم أو الأب الكلِّي القدرة. وقد تمَّ إتخام الثقافات التقليدية بحكايات عن الإدراك الحسي لكائنات غير مرئية، متموضعة في تراتبية رمزية، على امتداد التاريخ المكتوب برمَّته.

لكن الثقافات الكلاسيكية في اليونان القديمة استبدلت بالنظرة إلى العالم القائمة على الأسطورة myth نظرياتٍ وتصوراتٍ قائمةً على المحاكمات، على الرغم من أن هذه الأخيرة نادرًا ما أُخضِعَت للمراجعة عن طريق التجارب والرصد.

ومنذ أزمنة الكتاب المقدَّس في الغرب، وعلى امتداد عدة ألفيات في الشرق، هيمنت على آراء البشر التعاليمُ والأنماطُ الدينية. وقد ضعُف هذا التأثير ضعفًا ملحوظًا في القرنين السادس عشر والسابع عشر عندما ظهرت العلومُ التجريبية في أوروبا. وخلال القرون الثلاثة الأخيرة، هيمنت الثقافة العلمية–التكنولوجية على العقائد الميثولوجية والدينية، على الرغم من أنها لم تتمكن من إزاحتها كليًّا.

وقد انتشرت الثقافة العلمية–التكنولوجية الغربية في عموم الكرة الأرضية في القرن العشرين، فوجدت الثقافات غير الغربية نفسها أمام معضلة ثنائية الحدِّ مُفادها: هل يجب عليها الانفتاح على الثقافة الغربية، أم أن عليها الانغلاقَ على نفسها ومواصلةَ اتِّباع طرائقها النقلية، محافظةً بذلك على أنماط حياتها المألوفة وحِرَفِها وعباداتها؟

الثقافة الغربية ثقافة فردانية individualistic، وللفرد فيها موقع مركزي؛ فهي تعتبر القيم الشخصية والحرية والطموح إلى السعادة أمورًا مقدَّسة، وترى أن الطبيعة، والكائنات الأخرى جميعًا، مسخَّرةٌ لخير الإنسان بصورة رئيسية. والثقافة الغربية، بالإضافة إلى ذلك، ثقافة پراغماتية [ذرائعية]: فهي تنبذ قسمًا كبيرًا مما لا يمكن رؤيته أو الإمساك به، أي مما لا يمكن له أن «يتجلَّى» لليد أو العين. والاستثناء الوحيد هو النظام العقائدي اليهودي–المسيحي بإلهه المتعالي، ربِّ القديسين والكائنات الغيبية الأخرى، وكذلك الإيمان بخلود الروح. أما ما يتعلق بالأرواح، وكذلك الكائنات اللاجسدانية وغير المرئية الأخرى، التي تختلج أمامها الثقافاتُ النقلية في إجلال، فإن نصير الثقافة الغربية، بما يحمله من المخزون العلمي للعقل، يعمد، في بساطة، إلى نبذها باعتبارها «خرافات»، على الرغم من أن جمهورًا واسعًا من القوم يؤيد وجهات نظر مناقضة لهذه[3]. لكن حتى الثقافة الغربية تُسكِنُ الكونَ بكائنات واقعية غير مرئية، غيبية إلى حدٍّ ما: أقطاب وتبادلات الجاذبية والكهرومغناطيسية، وتفاعلات القوى النووية، وغيرها من الوحدات البنيوية للعلوم الطبيعية المعاصرة. وإن معظم الغربيين والمُتغَربنين متأكدون من وجود هذه الأقطاب والتفاعلات مثلما هم متأكدون من وجود البشر والحجارة والطاولات!

وفي السنوات الأخيرة، وبغضِّ النظر عن «استعمار الكوكاكولا» و«الماكدونالدية»، بدأت قِيَمُ الثقافة الغربية ومفاهيمُها تواجه مقاومة. ففي أمريكا الجنوبية، ظهرت ثقافةٌ قوميةٌ جديدة مختلفة المظهر، حيث تزعج الأمريكيين اللاتين تبعيتُهم لأمريكا الشمالية، وهم يعبِّرون عن عدم رضاهم عن دورهم كمجرَّد متلقِّين، لا كمؤسِّسي تيارات ثقافية تقوم بصياغة العالم المعاصر. بل إن هيمنة الثقافة الأجنبية باتت تعاني سكرات الموت كذلك لدى المتعلِّمين والمثقَّفين العرب الذين يرون في التقاليد الغربية عنصر سيطرة على بلادهم؛ إذ يعتبر العربُ أنفسَهم طرفًا سلبيًّا في الحوار البينثقافي الذي يربطهم بأوروبا وأمريكا الشمالية بصورة تكاد تكون استثنائية.

وباتت الهند وبلدان جنوب آسيا، عل الرغم من استمرارها في التواصل مع الثقافة البريطانية، هاضمةً الكثيرَ من خواصها المتميزة، تدافع عن تراثها الثقافي الخاص في حماس. وفي روسيا، تراكمت خبرةٌ تاريخيةٌ واسعةٌ بالتعامل المنافق مع الثقافة الغربية؛ وهذا التعامل مازال قائمًا حتى الآن، وسِمَتُه الرئيسة هي الإعجاب بمنجزات الغرب في مجال التكنولوجيا، وكذلك في حقل الثقافة العليا. لكن هذا الإعجاب يترافق، في الآن نفسه، بالخشية من أن هذه المنجزات قد تسحق التراث الثقافي الروسي، وتُفقِدُ بذلك الشعبَ الروسيَّ أصالتَه.

وإن تناوب الإعجاب والخشية يميِّز كذلك الأمم الشابة في الصحراء الأفريقية الكبرى، هذه الأمم الشحيحة الطلب على الثقافة الصناعية، مرافقةً ذلك بجهودٍ كبيرة للدفاع عن تراثها الثقافي. فالمثقفون intellectuals الأفارقة مشغولون بالبحث عن جذور أصولهم العرقية، في حين يتطلَّع قادتُهم إلى تعزيز وعي شعوبهم القومي.

إن نقائض المقاربات الغربية لرؤية العالم والذات واقعية تمامًا، على الرغم من أنها ليست مدرَكة دائمًا. فعلى سبيل المثال، يتمتع الأمريكيون اللاتين بتطور روحيٍّ أرقى بكثير من سكان الولايات المتحدة الأمريكية وكندا. وإن لهذا الأمر جذورَه التاريخية؛ إذ إن العناصر المتعالية transcendental في الثقافة اللاتينية تعود إلى القرن الخامس عشر. وبالنسبة لأمريكا الجنوبية، فإن علم الكلام المدرسي scholastic الكاثوليكي لأوروبا القروسطية ليس أكثر من «فلسفة أديرة»؛ فقد لعبت هذه «السكولاستية» دور منظومة اشتقاقية تحمل طابع الحكومة والمجتمع في داخلها وتتحكَّم في مناحي الحياة كافة.

وقد تمَّ تعليمُ الأمريكيين اللاتين أن السعادة تتنزَّل من المساء كرحمة من الله، وأن هذه الرحمة صلاحية استثنائية من صلاحيات الكنيسة الكاثوليكية؛ لذا لم يكن من المستغرَب أن يصبح الخضوع للكنيسة، تمامًا مثل الإخلاص للملك وطاعة الله، من بديهيات الأخلاق اليومية. بل حتى عندما وصل العهد الكولونيالي إلى نهايته، لم يحدث تكيُّف بين التراث السكولاستي [المدرسي الديني] وبين الفكر العلمي الحديث. لذا فإن الپراغماتية الأنغلوسكسونية، القائمة على استخدام مفاهيم العلوم الطبيعية ومناهجها في التعامل مع المجالات المادية للحياة، أخفقت في ترسيخ أقدامها في أمريكا اللاتينية.

كما يُعدُّ المذهبُ المتعالي[4] سمةً مميِّزةً للثقافتين الهندوسية والبوذية في شبه القارة الهندية، وإنْ في صيغ متنوعة؛ وقد تمَّ مزجُ ذلك بالتوحيد monotheism والصوفية في الثقافة الإسلامية. أما الثقافات الأصلية لأفريقيا السوداء فقد تطبَّعت دائمًا بالأرواحية[5] والأحيائية[6]؛ ولم يتم مَحْقُ هذه العناصر لا من خلال تعصُّب المبشِّرين المسيحيين، ولا من خلال الدعاية الاستهلاكية للشركات العبرقومية[7].

ويحتفظ التفكيرُ الشرقي بكثير من سمات عقائده النقلية traditional؛ فقد تشكَّلت الدائرة الواسعة للثقافات التي خرجت من الصين على امتداد الألفية الأخيرة بتأثير طبيعانية[8] لاوتسو، والانضباط الاجتماعي لدى كونفوشيوس، واهتمام بوذا الصارم بالاستنارة الذاتية. وفي القرن العشرين، تفرعت هذه المصادر الثقافية إلى تيارات متعددة، مولِّدة ثقافة «يانانيا» الماوية الأرثوذوكسية، وثقافة «كونغ–داو» الهونكونغية الپراغماتية، وكذلك مزيجًا من الطبيعانية والكونفوشية والبوذية ميَّز ثقافةَ اليابان المعاصرة. وقد احتفظ فرعا هونغ كونغ واليابان، المنبثقان عن الثقافة الصينية، بشغفهما بكلِّ ما هو دقيق وعملي؛ لذا ليس غريبًا أن المجتمعات التي انتشرت فيها هذه التقاليدُ انتشارًا واسعًا لا تجد صعوبةً في تبنِّي التكنولوجيا الغربية، بل حتى في تطويرها. فمع أن هذه الثقافات «تحدثنت» إلا أنها لم «تتغربن»؛ فالحداثة المميِّزة لها تحتفظ بخاصية ثقافية نوعية. ولهذا السبب بالذات لا يمكن نقل مهارات الشغل والميول الجماعية الشرقية إلى أوروبا وأمريكا.

أما كيف يمكن لهذه الثقافات المتمايزة فيما بينها أن تتعايش على كوكبنا الصغير، حيث كل شيء متعالق، فهذه أحجية هائلة. إذ إن من الواضح أن كلَّ ثقافة تحتاج إلى أن تتطور تطورًا مستقلاًّ، محترمةً أصولَها وتقاليدَها؛ ولكن عليها، في الآن نفسه، أن ترتقي بنفسها إلى القيم والمنظورات التي تسمح لمشايعيها بالعيش في تناغُم مع الثقافات الأخرى من جهة، ومع الطبيعة من جهة أخرى. هذا هو المطلب الأساسي، حيث إن صِدام الثقافات يشكِّل تهديدًا جديًّا، وخيم العواقب، للسلام في الأسرة العالمية، أكثر من أيِّ نزاع مسلَّح ما بين أمَّتين أو دولتين.

وعلى الرغم من أن علينا، الآن فقط، صنع الشروط الدقيقة للقوانين الفعالة وذات الجاذبية لمعظم البشر، فقد نجحنا، في الوقت الراهن، في الوصول إلى إجماع consensus ملحوظ فيما يتعلق بالطبيعة العامة لهذه الشروط. وعمومًا فإن شروطًا كهذه، أيًّا كانت، يجب أن تستجيب لمتغيرات التنمية المستدامة والوطيدة.

*** *** ***

الترجمة عن الروسية: هڤال يوسف


 

horizontal rule

[1] نُشِرَ هذا المقال في مجلة البيئة والحياة، العدد 4، 1999.

[2] يشير مصطلح atavistic إلى اعتقاد مُفاده ظهور صفات الأسلاف في الأخلاف بعد اختفائها لأجيال، بمعنى أن العالم يكرِّر نفسه. (المترجم)

[3] على سبيل المثال، بحسب المعطيات التي نشرتها مجلة Life، كانون الأول 1995، يؤمن 69% من الأمريكيين بوجود الملائكة!

[4] الترانسندنتالية transcendentalism: مذهب يقول بإمكان معرفة الحقائق عن طريق النظر العقلي المجرد، دون حاجة إلى إحساسات أو خبرة. (م)

[5] بالإنكليزية spiritualism: المذهب القائل بإمكان اتصال الأحياء بأرواح الموتى. (المحرِّر)

[6] بالإنكليزية animism: وهي العقيدة التي تقول بأن لكلِّ ما في الكون (من أشياء) أرواحًا. (م)

[7] أعتقد أن هذه هي الترجمة الأصح، حيث تترجَم أحيانًا: «الشركات المتعدية للجنسيات» أو «الشركات المتعددة الجنسيات». (م)

[8] بالإنكليزية naturalism: مذهب فكري يعلِّل الأشياء ويفسِّرها استنادًا إلى قوانين الطبيعة ومسبِّباتها الطبيعية. (م)

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود