|
الجلاء المنشود عندما
تدارسنا، كمجموعة من
الأصدقاء، مسألةَ إحياء ذكرى الجلاء لهذا
العام (2007)، كانت لدى كلٍّ منا فكرته
الخاصة التي كان يعمل عليها. كنتُ شخصيًّا
أحاول تسليط الضوء على الترابط والاتساق
والاستمرارية بين فكر ما عُرِفَ لاحقًا بـ"عصر
التنوير" – ذاك الذي بدأ في منطقتنا مع
بداية القرن التاسع عشر –، بمعطياته
ومفاهيمه، وبين ثقافة التعدد والتنوع
والتمازج التي طبعتْ تاريخَ المنطقة بطابعها
منذ آلاف السنين وميَّزتْه، والتي كنتُ قد
أشرتُ إليها في مقال سابق[1]. لم أجد صعوبةً
تُذكَر في اكتشاف ذلك الترابط الفكري
والثقافي/الإنساني، ذلك لأن عصر التنوير لم
يكن، كما يزعم بعضُهم، ظاهرةً خارج الزمان
والمكان، لا علاقة لها بذلك الفكر المتجذِّر
في عمق تاريخ هذه المنطقة وثقافتها، بل كان في
حقيقته انبعاثًا متجددًا، كانبعاث طائر
الفينيق، لتلك الروح الكامنة فيها. في السياق ذاته، وعلى القدر
نفسه من الاتساق والاستمرارية، لم يكن مشروعُ
بناء الدولة العصرية/الديموقراطية/التعددية
– متمثلاً في دستور العام 1928،
الذي وضعه قادةُ النضال السياسي ضد الانتداب
الفرنسي، كهاشم الأتاسي وفوزي الغزي وفايز
الخوري – مشروعًا خارج الزمان والمكان
أيضًا، أسَّس له أشخاصٌ من وحي ثقافتهم "الغربية"،
لكنه كان استمرارًا موضوعيًّا ومنهجيًّا
لفكر كان قد خبا وهجُه، لكن عصر التنوير أعاد
إحياءه، ثم تابع رجالاتُ النضال السياسي في
فترة الانتداب الفرنسي ومطلع الاستقلال حملَ
رايته. بعبارة أدق: لقد
شكَّل عصرُ التنوير همزةَ الوصل التاريخية
والزمنية بين تراث هذه المنطقة وثقافتها وبين
المشروع الذي تبنَّاه "صانعو الجلاء"
وآمنوا به وعملوا لأجله. لذلك كانت
الكتابة عن فترتَي الانتداب ومطلع الاستقلال
بمثابة توسيع أفقي على الفكرة الأساسية
ذاتها، من حيث تغطيتُها، زمنيًّا، لهاتين
الفترتين، بحكم أنهما عكستا ملامح ذلك
المشروع النهضوي وسماته نفسها. وبغية استجلاء ملامح هذا المشروع المتجدد، الذي جمع بين الأصالة المتمثلة في تاريخ منطقة شرق المتوسط وثقافته، مرورًا بفكر رموز عصر التنوير، وصولاً إلى رموز فترة النضال من أجل الاستقلال، ممثَّلين برجالات "الكتلة الوطنية"، ولتسليط الضوء على ماهية هذا المشروع الذي حلموا به وحملوه، وللتأكيد على استمرارية هذا الفكر واتساقه عبر الزمن (لكنْ في صيغ ومفردات حديثة وعصرية)، فإنه يتعين علينا أن نرصد مواقفهم وأفكارهم وتطلعاتهم ورؤاهم عبر مسيرة نضالهم السياسي الطويلة، التي مازلنا نعيش بعضًا من آثارها حتى اليوم، ومازلنا نردد كثيرًا من مقولاتهم، لكنْ دون وعي حقيقيٍّ بمضامينها. ورد في مقدمة القرار الذي
اتخذه "المؤتمر السوري"، الذي انتخبه
السوريون في العام 1919،
والذي انتخب بدوره لرئاسته، بالإجماع،
المرحوم الرئيس هاشم الأتاسي، الذي قام
بتسليم هذا القرار إلى لجنة الاستفتاء
الأمريكية، لجنة كرين، في 03/07/1919،
ما يلي: إننا
نحن الموقعين أدناه إمضاءاتنا وأسماءنا،
أعضاء المؤتمر السوري العام المنعقد في دمشق
الشام والمؤلَّف من مندوبي جميع المناطق
الثلاث، الجنوبية والشرقية والغربية،
الحائزين على اعتماد سكان مقاطعاتنا
وتفويضهم، من مسلمين ومسيحيين وموسويين، قد
قررنا في جلستنا المنعقدة في نهار الأربعاء
المصادف 2 تموز 1919 وضع هذه اللائحة المبيِّنة
لرغبات سكان البلاد الذين انتدبونا، ورفعها
إلى الوفد الأميركي المحترم من اللجنة
الدولية... ونصَّ البندُ
الثالث من القرار نفسه على التالي: حيث
إن الشعب العربي الساكن في البلاد السورية هو
شعب لا يقل رقيًّا من حيث الفطرة عن سائر
الشعوب الراقية، وليس هو في حالة أحط من حالات
شعوب البلغار والصرب واليونان ورومانيا في
مبدأ استقلالها، فإننا نحتج على المادة
الثانية والعشرين الواردة في عهد جمعية الأمم
والقاضية بإدخال بلادنا في عداد الأمم
المتوسطة التي تحتاج إلى "دولة منتدبة".[2] كما ورد في مقدمة وثيقة
إعلان الاستقلال التي صاغها "المؤتمر
السوري الأول" والتي قام بتسليمها المرحوم
هاشم الأتاسي، بالنيابة عن المؤتمر، إلى
الأمير فيصل بن الحسين يوم 08/03/1920
ما يلي: إن
الأمة العربية ذات المجد القديم والمدنية
الزاهرة لم تقم جمعياتُها وأحزابُها
السياسية في زمن الترك بمواصلة الجهاد
السياسي، ولم تُرِقْ دمَ شهدائها الأحرار
وتَثُرْ على حكومة الأتراك، إلا طلبًا
للاستقلال التام والحياة الحرة، بصفتها أمة
ذات وجود مستقل وقومية خاصة، لها الحق في أن
تحكم نفسها بنفسها أسوةً بالشعوب الأخرى التي
لا تزيد عنها مدنيةً ورقيًّا...[3] في المقتطفات
التي أوردناها أعلاه من كلٍّ من القرار
والوثيقة، نستطيع أن نلحظ في وضوح تام ذلك الاحترام
الكبير الذي كانت تكنُّه القيادة الوطنية/السياسية
للشعب. فلقد كانت هذه القيادة على إدراك
وإيمان كاملين بأهلية الشعب وبأحقيته
وبقدرته على أن يحكم نفسه بنفسه وأن يكون
ندًّا للشعوب الأخرى المتحضرة؛ وبالتالي،
فقد كانت علاقة الاحترام المتبادل بين
القيادة الوطنية/السياسية وبين الشعب هي
المفتاح الأساس لفهم طبيعة المرحلة التي
أوصلت البلاد إلى الاستقلال. فهي لم تكن، بأية
حال، علاقةً مؤسسةً على المفاهيم البطريركية/الوصائية،
جريًا على عادة الشعوب المتخلِّفة. أضف إلى ذلك أنه
لم يكن للقيادة الوطنية/السياسية أي وجود في
السلطة؛ بل إنها غالبًا ما كانت إما مطارَدة
أو منفية أو داخل السجون. لكنها استطاعت، من
خلال احترامها (الحقيقي طبعًا) للشعب الذي
أولاها زمام أموره الوطنية وإيمانها به (الحقيقي
أيضًا)، أن تجترح وإياه ما كان يُعتبَر آنذاك
ضربًا من المحال، ذلك لأن الشعب قد بادلها
حبًّا بحبٍّ واحترامًا باحترام وثقةً بثقة. لقد تميَّز الخطابُ السياسي
في ذلك الزمن بدرجة عالية من الرقي والتقدير
الوافر للأمة. ففي بيان الرئيس هاشم الأتاسي،
بالنيابة عن الكتلة الوطنية في ختام اجتماعها
في حلب بتاريخ 16/02/1933،
خاطب الشعبَ قائلاً: ...
قررت الكتلة الوطنية الإعلان إلى الشعب
النبيل في الداخل والساحل...[4] وفي الثاني من آذار من العام
1936،
أصدرت الكتلة الوطنية بيانًا حول الاتفاق
الأولي على إجراء المفاوضات مع الفرنسيين،
التي أدت لاحقًا إلى معاهدة 1936،
قالت فيه: ... بفضل جهود الشعب النبيل ومثابرته في سبيل حقوقه الطبيعية التي كانت منكَرة عليه، فقد وافق الجانب الفرنسي... وفي موضع آخر من البيان
نفسه، خاطبت الكتلة الوطنية جماهير
السوريين، طالبةً إليهم إنهاء إضراب العام 1936
الشهير، قائلة: ...
ولكي يتمكن الوفد من القيام بالمهمة الشاقة
التي ستودع إليه، نرجو من الأمة النبيلة أن
تيسِّر له جوًّا هادئًا، فتعود إلى أعمالها
بعد هذا العيد المبارك... ونحن نعتمد لتلبية
هذا الرجاء على نبل الشعب، وثقته برجاله
المخلصين، ثقةً تمنحهم قوةً جديدة، وتمهِّد
لهم سبيل التوفيق في تحقيق رغائب الأمة
والوصول بها إلى حقِّها المفقود...[5] وقد انعكست صورةُ هذه
العلاقة المتفردة، القائمة على الاحترام
المتبادل والعميق بين الشعب وقيادته
الوطنية، أنصع ما تكون في صياغة دستور العام 1928.
يقول د. فيليپ خوري في كتابه سورية
والانتداب الفرنسي – سياسة القومية العربية: 1920-1945،
ص 385: انهمكت
الجمعية التأسيسية أقل من شهرين خلال صيف 1928
في وضع مسودة دستور من 115 مادة. وبوحي من أنظمة
ديموقراطية أوروبية، تبنَّت جمهوريةً
برلمانية "ذات مجلس واحد يُنتخَب، لمدة
أربعة أعوام، باقتراع شامل يتم على مرحلتين".
وجاء الدستور وثيقةً حديثةً ومصقولةً لا تعكس
فقط ما لدى واضعَيها الرئيسيَين، فوزي الغزي
وفايز الخوري، من ذهنين قانونيين منسجمين
بدقة، بل أيضًا النخبوية الديموقراطية
للكتلة الوطنية... مع إعادة توكيد المساواة
بين جميع أفراد الطوائف الدينية كافة، مع
حرية ممارسة الشعائر الدينية، والمساواة بين
مدارس الطوائف. لم يستطع
الكثيرون فهم طبيعة هذه العلاقة الفريدة، حتى
أولئك الذين جاؤوا لـ"تمدين" السوريين
وجعلهم شعبًا متحضرًا عِبْرَ ما نُعِتَ بـ"الانتداب"!
ففي وصفه لأخطاء تعامُل الفرنسيين مع
السوريين وعدم استيعابهم لتطورهم ورقيِّهم
وتحضُّرهم، يقول د. خوري في الكتاب نفسه، ص 104: كما
لاحظ أحدُ الفرنسيين المعاصرين، عام 1929، أن
الجزء الأكبر من قوتنا الإدارية في سوريا –سواء
المدنية أو العسكرية – إنما تتلقَّى ثقافتها
في المستعمرات الفرنسية. وهكذا حدث أنهم
يميلون للتعامل مع بلد متطور ومتحضِّر
كسورية، التي تمتلك نخبةً ذات مستوى سياسي
واجتماعي–ثقافي رفيع، كما لو كانوا يتعاملون
مع قبائل جبال الأطلس أو زنوج السودان.[6] ويصف في الصفحة 182 طبيعة العلاقات بين
السوريين وقياداتهم الوطنية خلال فترة
الانتداب ومدى التنسيق وتكامُل الأدوار الذي
مارستْه جميعُ الأطراف الفاعلة على الساحة
الوطنية بدافع من الوطنية الخالصة والغيرة
على المصلحة العليا، فيقول: تراجَع
القادةُ الدينيون، في الساحة المهمة التي هي
ساحة العلاقات الدبلوماسية، أمام سياسيين
مثقفين عصريين، مؤهَّلين أكثر منهم بكثير
للدفاع عن القضية السورية بمصطلحات يفهمها
الفرنسيون. ومع أن الشخصيات الدينية استخدمت،
برضاها، مواقعها في المساجد والمدارس
الدينية لحشد جماهير المدن ضد الفرنسيين،
فإنها كانت تمارس العمل السياسي المباشر
عادةً بإيعاز من القيادة الوطنية. وغدت
المؤسسة الدينية الإسلامية واحدةً فقط من بين
عدة وسائط اتصال بين القيادة الوطنية
والجمهور السوري.[7] ويستنتج في الصفحة 263
من الكتاب نفسه ما يمكن اعتباره وسام شرف لأية
أمَّة أو شعب في أسلوب كفاحه من أجل التحرر،
وفي وضوح الرؤية والقدرة على استشراف
المستقبل، وهي صفات لم تتمتع بها أممٌ كثيرة
ممَّن يُطلَق عليها لقب "متطورة" و"متحضرة": إن
الثورة الكبرى، في التحليل الأخير، قد أدخلت
مُثُلاً عَلمانية عليا وخاطبت طبقاتٍ جديدة.
كما أنها أثارت معايير ومبادئ متجذِّرة،
واعتمدت على قوى التقليد. لكنها، فوق هذا
كلِّه، أنبأت بعصر جديد من السياسة، وإن كان
عصرًا يحتاج إلى أعوام طويلة كي ينضج.[8] ألم يقارب
الكاتبُ هنا في استنتاجاته حول الثورة
السورية الكبرى تلك الخصائص التي ميَّزتْ
كبريات الثورات، كالثورة الفرنسية نفسها
مثلاً، لكنها لم تصل إلى نتائجها نفسها بحُكم
أن الظروف القسرية اللاحقة لم تُتِحْ لها تلك
الأعوام الطويلة كي تنضج؟ وفي تحليل آخر له في الصفحة 203
من الكتاب ذاته (وهو هنا، ربما، يعطي الجواب
على سؤالنا) يرى أنه: ينبغي
رؤية حركات الاحتجاج والمقاومة في فترة ما
بين الحربين على أنها تتحرك بين التقليد
والحداثة، لكن بخطوٍ متفاوت وبإيقاع متفاوت،
على نحو لا يختلف عن طريقة تطور الاقتصاد
والمجتمع في ذلك الحين. ولأن مثل هذه الحركات
يتكشف عن خليط معقد من المظاهر التقليدية
والحديثة، فليس بالإمكان تصنيفها بسهولة إلى
"تقليدية" و"حديثة". وتلك العناصر
أو الأوجُه من حركات ما بين الحربين التي
اعتُبِرَتْ عمومًا تقليدية، وحتى رجعية،
كانت شيئًا أكثر تطورًا، في حين أن التي
اعتُبِرَتْ عمومًا حديثة، أو حتى ثورية، مالت
لأن تكون شيئًا أقل من ذلك.[9] هنا يبدو د.
خوري كأنه يؤشر، من بعيد، إلى تلك الظروف التي
كان لها ذلك الأثر الحاسم في خبوِّ، ثم أفول،
نجم المشروع النهضوي، الذي لم يكن الاستقلال
غايته الوحيدة، بل كان اللبنة الأولى فيه. لكن
مجمل تلك الظروف لم يكن آنذاك ليسمح بأن
يُحكَم بلدٌ نامٍ بالأسلوب الذي كان ذلك
المشروع يؤسِّس له، وبأن يصبح شعبٌ كالشعب
السوري سيد نفسه. وفي الإطار ذاته، يسجل
الشاعر والمفكر الكبير أدونيس، لاحقًا،
رأيًا يكاد يكون مطابقًا، فيقول: يجب
أن نعرف أن صفة "يسارية" ليست مُنزَّهة
عن كلِّ خطأ، وأن نعرف بالمقابل أن صفة "يمين"
ليست حتمًا ظلامية. بل إن اليمين الوطني في
سورية، مثلاً، الذي حكم بعد الاستقلال كان
أكثر احترامًا للإنسان وحقوقه،
وللديموقراطية، من اليسار الذي جاء بعده...[10] في الصفحة 517
من كتاب د. خوري، تعليقًا على إضراب الـ43
يومًا الشهير الذي جرى في العام 1936،
نراه يؤكد على الانضباطية – الطوعية طبعًا! –
لفئات الشعب كلِّها التي لا يمارسها إلا شعبٌ
واعٍ ملتزم، ذو خلفية حضارية متميزة وعلى
علاقة مع قيادته، المنتخَبة ديموقراطيًّا
والمفوَّضة من قبله لإدارة المعركة ضد
المحتل، تتسم بالندية وبالثقة المطلقة: لاحظتْ
القنصلية البريطانية بدمشق أن "الميزة
البارزة في الإضراب العام... كانت الدرجة
العالية من الطاعة التي دين بها للقادة،
وملكات التنظيم والقيادة التي أبداها هؤلاء
القادة في السيطرة على حشود الناس". ولم يعد
يخامر المندوب السامي وأركانه أي شكٍّ في أن
الكتلة، كما حزب الوفد في مصر، كانت صاحبة
أقوى نفوذ سياسيٍّ في البلد. وفي الواقع، لقد
كان من قبيل التكتيكات الفاشلة، من المنظور
الفرنسي، الإصرار على الاستهانة بالكتلة
علانية.[11] في واقع الأمر،
لم يكن ذلك ممكنًا لولا أن توفرتْ لدى القيادة
الوطنية/السياسية تلك الصفات الشخصية
والموضوعية والإيمان العميق بالمشروع الذي
كان يعبِّر تعبيرًا حقيقيًّا ومطلقًا عن
الأمة ذاتها، عن رؤيتها وتطلعاتها، حيث
أهَّلها ذلك كله لتبوأ تلك المكانة الرفيعة
في قلوب الناس وعقولهم وضمائرهم، دون أن
تتبوأ أيَّ مركز رسمي. لكن المفارقة البارزة
أن هذا الأمر نفسه كان هو السبب في إقصائها،
لاحقًا، عن أيِّ دور سياسي. في كتابه مهمتان في الشرق
الأوسط: 1919-1922، يسجل الجنرال كاترو Catroux،
الذي كان مساعدًا للجنرال غورو Gouraud
(وكان آنذاك برتبة كولونيل)، ملاحظاتِه على
شخصية رئيس الكتلة الوطنية ورمز النضال
السياسي في تلك الحقبة كلِّها، الرئيس
المرحوم هاشم الأتاسي، فيقول: سجَّلنا
كسبًا مهمًّا بدعوة كبار البورجوازيين من
وادي العاصي، الذين يصنعون رأي جماهير المدن
والريف في هذه المنطقة، لمشاركتنا بسياسة
فرنسا الانتدابية. فلم تعد حمص وحماه قلعتَي
الفكرة الوطنية... الوحيد الذي بقي وفيًّا،
بشكل نهائي لا رجوع عنه، للفكر الوطني في هذه
المنطقة هو دولة هاشم بك الأتاسي، رئيس وزراء
سابق في عهد الملك فيصل في دمشق. وقد انسحب بعد
دخولنا سوريا إلى مجلسه الخاص في حمص...[12] وفي وعي عميق، قارَبَ
النبوءة، لما يمكن أن تواجهه البلادُ بعد
الاستقلال، قال هاشم الأتاسي في خطابه الذي
ألقاه بدمشق يوم 29/09/1936،
في إثر عودة وفد الكتلة الوطنية من فرنسا بعد
توقيع معاهدة 1936
(التي كان يؤمل أن توصل سوريا إلى الاستقلال)،
أمام الجماهير المحتشدة لتحيته وللاحتفال
بالمناسبة: ...
واذكروا دائمًا أن المعاهدة ليست غاية، بل هي
واسطة لرفاه الشعب وسعادة البلاد. أيها
السوريون، إن العالم أجمع ينظر إليكم في
يومكم هذا، ونحن لا نرتاب، ولا يخامرنا شك أو
شبهة، في أن هذه الأمة ستثبت للشرق والغرب
أنها جديرة بالاستقلال، وقادرة على حمايته
وصيانته، وذلك بالخطة التي ستسلكها في العهد
القريب. ولا نخدع أنفسنا ولا نريد أن ينخدع
أحد السوريين بحراجة هذا العهد وخطورته. فهو
مملوء بالمصاعب ومحفوف بالمكاره، يتطلب أقصى
الجهد لكبح جماح الشهوات، وكبت الغرائز
والنزعات...[13] لكن تلكُّؤ الحكومات
الفرنسية المتعاقبة في عرض المعاهدة على
المجلس النيابي الفرنسي للتصديق عليها، كما
اقتضت نصوصُها، أظهرتْ عدم جدية الفرنسيين في
تطبيقها. وكان ذلك هو السبب في تقديم هاشم
الأتاسي لاستقالته من رئاسة الجمهورية إلى
المجلس النيابي السوري في 07/07/1939،
حيث ذكر فيها: ...
غير أن الجهود التي بُذِلَتْ لم تؤدِّ إلى
نتيجة، برغم الوعود الصادرة من رجالات
الوزارات التي تتابعت في فرنسا منذ سنة 1936 إلى
الآن، فذهبت ضياعًا تلك الآمالُ التي
توجَّهنا بها إلى سياسة التحالف والتعاقد،
وشهدنا عودةً إلى أساليب قديمة، وتجارب
جديدة، تُناقِضُ ما تعاقدنا عليه ودخلنا
الحكم على أساسه... لذلك لا أرى بدًّا من
الاستقالة من المنصب الذي وكلتْ إليَّ الأمةُ
القيام به، ووثقت بي في تحمل أعبائه...[14] وقد وصف المرحوم د. عبد
الرحمن الكيالي، عضو مكتب الكتلة الوطنية
والوزير في حكومة جميل مردم بك التي دامت
لأكثر من عامين خلال الفترة الممتدة ما بين 1936
و1939
من عهد رئاسة هاشم الأتاسي، في كتابه المراحل،
هذا العهد على الشكل التالي: ...
أرى من الواجب عليَّ أن أعترف بأن الرئيس
الأول السيد هاشم الأتاسي صرف همَّته طوال
مدة رئاسته لتطبيق الدستور، وعدم الخروج عن
أحكامه، وأحكام القانون. وكان يرتِّب أموره
العامة والخاصة بدقة، ويدبِّر نفقاته بحرص
واقتصاد، ويتناول مخصَّصات القصر ولا ينفقها
إلا بمقدار، وكما تقتضي الضرورات الرسمية.
والسيد الأتاسي، إذ يمسك ما في يده، يتعفَّف
عن أموال الدولة، ولا يأخذ إلا ما فرضه له
القانون. وكان نزيه القلب، رضيَّ الخُلُق،
متواضعًا للناس، ودودًا للرفقاء، كتومًا
للأسرار، يقرأ الجرائد، ويطَّلع على
الأخبار، ويدرس التقارير، ويدقِّق في
المراسيم والمشاريع التي ترد إليه، ويمارس
مهامَّ الرئاسة، كما نصَّ عليها الدستور، ولا
يتدخل في شؤون الوزارات والوزراء، ولا يعرقل
سير المراسيم، ولا تنفيذ القرارات... ويتداول
بينه وبين الوزراء في المسائل العامة، ويسأل
رأينا فيها. وإذا كان له رأي خاص أبداه بكلِّ
تحفظ، وقلما يتمسك برأي له، أو يفرض إرادته في
مسألة ما، وكانت رئاسته مثلى للدستورية...[15] كما ورد في كتاب
الجنرال كاترو معركة المتوسط وصفٌ لشخصية
هاشم الأتاسي في عدة مواضع منه: إن
الشعب السوري يعتبره رمزَ الوفاء للأهداف
الوطنية... كما أن الشعب السوري يحيطه
بالاحترام والحبِّ بسبب نزاهته ونظافة يده،
ولأسلوب حياته الرصين والكريم، ولثباته
السياسي والوطني... ولقد قام بواجباته كرئيس
للجمهورية بتميُّز ونبل، ولكن أيضًا بحرص
شديد على احترام الشرعية القانونية [احترام
المؤسسات]، مما حدَّ من إمكانية تأثيره على
الحكومات ليجعلها أكثر اعتدالاً في
إجراءاتها وتصرفاتها... خرج الرئيس الأتاسي من
هذه المحنة دون أن يُمس رصيدُه الوطني
والشخصي والاحترامُ اللذان كانت البلاد
تحتفظ له بهما... كنت أجد في شخصيته شرف
الوطنية والفضائل...[16] ثم يتابع: ...
كان هو الشخصية التي اقترحتُها للرئاسة لأنه،
نفسيًّا، عند الشعب، كان لاسمه فعل البرنامج،
وكان يمكن له أن يكون موحدًا للشعب أكثر من
أية شخصية أخرى. وكان الجنرال دوغول، لهذه
الاعتبارات، وكذلك بسبب المودة الخاصة التي
يكنُّها للرئيس الأتاسي، أوصاني بهذا الحل...[17] على الرغم من
الاحترام والتقدير كلهما الباديين في تقييم
كلٍّ من الجنرالين دوغول وكاترو لشخصية هاشم
الأتاسي ودوره، ومن رغبتهما الواضحة في أن
يتولَّى إدارة شؤون البلاد، لكنهما، من منطلق
المصلحة الفرنسية العليا، قاما بتعيين الشيخ
تاج الدين الحسني رئيسًا للجمهورية لأنهما
كانا واثقين من أن الأتاسي لن يفاوض أو يساوم
على المصالح الوطنية والقومية الكبرى التي
كان مؤتمَنًا عليها من قبل الشعب. وقد كان هذا
مؤشرًا سياسيًّا بالغ الأهمية على الأحداث
اللاحقة، خاصة بعد الاستقلال. أما بعد نيل الاستقلال، فلم
يدخل المرحوم الأتاسي معترك العمل السياسي
إلا كارهًا ومضطرًا، حيث لم تكن هناك من شخصية
أخرى غيره قادرة على لملمة جراح الوطن، بحكم
تمتُّعها بقبول واحترام التيارات السياسية
في البلاد كلها، لأنها كانت فوقها جميعًا،
تلك الجراح التي كانت تتسبَّب فيها أنانيات
ومماحكات السياسيين وتدخلهم في شؤون الجيش
وتدخل العسكر في أمور السياسة، ذلك كله مما
كان قد حذَّر منه في خطابه بتاريخ 29/09/1936
الوارد ذكره آنفاً. بعد انتهاء
فترة حُكم العقيد أديب الشيشكلي، وما
تخلَّلها من فردية ودكتاتورية ومن وضعه
لدستور جديد للبلاد تم تفصيله "على قياسه"،
عاد هاشم الأتاسي من منفاه الاختياري في حمص
إلى دمشق، ليستكمل فترةَ ولايته الدستورية
التي قطعها انقلابُ الشيشكلي، حيث وجَّه
رسالةً إلى الشعب السوري جاء فيها: إذا
كان لا بدَّ من الخروج بدرس وعِبْرة من تجارب
العامين الماضيين، فالعِبْرة أن الشعب
السوري يأبى أن يُساس بحُكم الفرد، وأن
يُسلِسَ القيادة إلى الديكتاتورية، وأن
جيشنا العزيز مؤتمن بعد الاختبار أن تمام
كرامته ومهابته وحرمته إنما تكون بتحقيق مبدأ
تبعية السلطات وفقًا لنصوص الدستور وروحه.[18] أما نهاية حياته السياسية واعتزاله العمل العام، فقد ترافقت بظاهرة تبدو الآن كقصة ألَّفها كاتبٌ ذو خيالٍ جامح: لدى
قرب انتهاء فترة ولايته الدستورية كرئيس
للجمهورية في 6/9/1955، وبرغم مطالبة الكثيرين له
بإعادة ترشيح نفسه لولاية دستورية جديدة، عبر
تعديل للدستور كان موافَقًا عليه من قبل كلِّ
الأحزاب والفئات المتواجدة آنذاك على الساحة
السياسية السورية، فقد رفض ذلك بشكل قاطع،
وقرر العودة إلى حمص ليعيش متقاعدًا براحة
وهدوء بعد أكثر من واحد وستين
عامًا
قضاها بالعمل العام، لأنه كان دائمًا لا
يحبِّذ فكرة ترشيح الرئيس لنفسه لفترة رئاسية
ثانية مباشرة بعد انتهاء فترة رئاسته الأولى،
كما أن الفرصة باتت مناسبة لإجراء انتخاب
رئيس جديد بشكل ديموقراطي وحضاري، تُسلَّم
السلطة بنتيجته إلى هذا الرئيس المنتخَب
دستوريًّا، الأمر الذي سيشكِّل سابقةً في
سوريا والعالم العربي...[19] وهذا ما تم بالفعل. إذ تم
انتخاب المرحوم الرئيس شكري القوتلي لفترة
رئاسية جديدة، وجرت مراسم الاستلام والتسليم
بين الرجلين، فشكَّلتْ ظاهرةً حضاريةً لا
زالت ذكراها في عقول وضمائر مَن بقي حيًّا من
السوريين أو ممَّن تيسَّر لهم الاطلاع على
تفاصيل تلك الفترة الذهبية من تاريخنا. وقد
وردت تفاصيلُ مراسم الاستلام والتسليم هذه في
كتاب السيد محمد رضوان الأتاسي هاشم
الأتاسي: حياته وعصره (ص 385-387)،
وكانت المرة الأولى والوحيدة –بحسب المؤلِّف
– التي تجري فيها مراسم كهذه في سوريا
والعالم العربي حتى الآن، حيث يسلِّم رئيسٌ
للجمهورية انتهت مدةُ ولايته مقاليد الحكم
إلى رئيس جديد منتخَب انتخابًا ديموقراطيًّا
وحرًّا، ويعود بعد ذلك إلى مسقط رأسه ليعيش
متقاعدًا كأيِّ مواطن آخر. وقد أوجز
المرحوم المحامي الأستاذ نجاة قصاب حسن – وهو
ممَّن عاصروا تلك الفترات المضيئة من
تاريخنا، في كتاب (نشرتْه كريمتُه د. حنان
بُعَيد وفاته) بعنوان صانعو الجلاء في سوريا
رأيه في شخصية المرحوم هاشم الأتاسي، في ختام
الفصل الذي أفرده له في كتابه، بقوله: وبالاختصار،
فقد كان الرئيس هاشم الأتاسي في كلِّ حياته في
مقدمة الصف الوطني صلابةً ومركزًا واحترامًا
ومقدرةً على معالجة الأمور باستقامة. فإذا لم
يرتحْ ضميرُه إلى موقف، غادر الحكم بشجاعة
وبلا تردد. ولم تستطع قوةٌ أن ترهبه أو تحمله
على التراجع في حياته كلِّها.[20] لهذه الأسباب
كلِّها، ولغيرها أيضًا، لا غرابة في أنْ
مَنَحَ السوريون هاشم الأتاسي لقب "الرئيس
الجليل"، وهو لقب لم يمنحوه لأحد غيره. وفي المحصلة،
فهل يجب النظر إلى تلك الظاهرة (ظاهرة عصر
التنوير) وإلى هذا المشروع (مشروع بناء الدولة
العصرية/الديموقراطية/التعددية) على أنهما
أشبه بحلم ليلة صيف مضى وانتهت مفاعيله بعد أن
غيَّب الموتُ والنسيانُ رموزهما وشخوصهما،
ولم يتبقَّ لنا سوى التسليم بأن قدرنا قد قضى
ببقائنا محكومين بحتمية ابن خلدون
التاريخية؟! أم أن الانبعاث
الأسطوري المتكرِّر لطائر الفينيق هو الذي
سيبقى يشكِّل قدرنا الحقيقي، من حيث إن شعبًا
متحدِّرًا من حضارة آشور وأكاد وآرام وأمية (في
شقَّيها الشرقي والأندلسي)، ومبدعًا لفلسفةٍ
مثل فلسفة ابن رشد، وواضعًا لواحد من أرقى
الدساتير في القرن العشرين، لن يقنع بأن يبقى
خاضعًا لتلك الحتمية التاريخية التي رصدها
وأسَّس لها ابن خلدون؟ يبدو أن أسئلةً
كهذه ستستمر في طرح نفسها كهواجسَ ضاغطةٍ على
العقل والضمير معًا، حتى تصلَ هذه الأمةُ إلى
مشارف تلك اللحظة التاريخية التي ستصوغ فيها
أجوبتَها النهائية والحاسمة، بالشكل الذي
يليق بمكانتها وتراثها وحضارتها وبماضيها
البعيد والقريب، كما آمن بها أولئك الروَّاد
الكبار وعملوا لأجلها. ***
*** *** [1]
راجع: نشوان الأتاسي، "آرام
وأزمة شرق المتوسط"، معابر، إصدار
كانون الأول 2006، باب "اللاعنف والمقاومة". [2]
للاطلاع على النص الكامل
للقرار، راجع: محمد رضوان الأتاسي، هاشم
الأتاسي: حياته وعصره. [3]
محمد رضوان الأتاسي، هاشم
الأتاسي: حياته وعصره. [4]
محمد رضوان الأتاسي، المصدر
نفسه. [5]
المصدر نفسه. [6]
فيليپ خوري، سورية والانتداب
الفرنسي. [7]
فيليپ خوري، المصدر نفسه. [8]
فيليپ خوري، المصدر نفسه. [9]
المصدر نفسه. [10]
أدونيس، الحياة، العدد 16071،
بتاريخ 05/04/2007. [11]
فيليپ خوري، المصدر نفسه. [12]
محمد رضوان الأتاسي، هاشم
الأتاسي: حياته وعصره. [13]
محمد رضوان الأتاسي، المصدر
نفسه. [14]
المصدر نفسه. [15]
المصدر نفسه. [16]
المصدر نفسه. [17]
المصدر نفسه. [18]
المصدر نفسه. [19]
المصدر نفسه. [20]
نجاة قصاب حسن، صانعوا الجلاء
في سوريا.
|
|
|