كان من المعتقد، في جميع العصور، ولدى جميع الشعوب، أن الحق عادل.
وخلال ذلك، كان يُنظر إلى الحق على أنه تجسيد للعدالة، أو كان يُطرح
هدف مطابقته مع العدالة. يمكننا الاستنتاج مما ورد أعلاه، أن العدالة
قيمة من قيم الحق، بل ويجب أن تكون القيمة الأكثر استمرارًا وأهمية.
فكثير من قيم الحق انتقالي عابر، ومنها المساواة، والمصلحة الوطنية،
والمصلحة الطبقية، والتقدم، والتمسك بالعادات القائمة، وحقوق الشخصية.
فكلها تظهر في مرحلة تاريخية معينة. وكانت هناك فترات لم يكن معترفًا
بها، ولم يكن بالإمكان الاعتراف بها لغياب الأمة والوعي الطبقي والنزعة
الفردية، وما شابهها. فالعدالة تنتمي إلى عداد القيم الخالدة للحق أو
لمبادئه الرئيسة. وإلى جانب الحق، يمكننا ذكر الخير العام واحترام
القوانين (بالمعنى الواسع للكلمة). وعلاوة على ذلك، فالعدالة ليست قيمة
الحق الخالدة فحسب، بل وقيمته الأسمى أيضًا. وجميع القيم الأخرى تُقاس
بها، وهي فاعلة، بشرط أن لا تعارض العدالة.
المذاهب الوضعية – خصوصًا الوضعية المنطقية
Logical
positivism
- هي خطوة مهمة في تطوُّر فلسفة العلوم عمومًا. تنفي هذه الفلسفات وجود بُعد
عقائدي-ميتافيزيقي للكينونة الاجتماعية، وتعتبر الحديث عنه بدون معنى وقيمة،
ولا تعطي أية إجابة حول سؤال هوية الكائن والكون، وتعتبر ذلك مجرد سفسطة ومضيعة
للوقت. بينما يقدِّم المنطق الحيوي إجابة مُحدَّدة تقول بأنَّ الكون/الكائن هو
شكل حركي احتمالي احتوائي نسبي، لا ينفي المنطق الحيوي وجود بعد
عقائدي–ميتافيزيقي للكينونة الاجتماعية، ولا يهمل تأثير هذا البعد في تشكُّل
الكينونة الاجتماعية نفسها وتفاعلها مع المحيط الحيوي. وفي سياق المقارنة ما
بين المذاهب الوضعية ونظرية المنطق الحيوي لا بأس من استحضار مفهوم البرهان
الحيوي. البرهان الحيوي هو برهان ثلاثي الجذور: برهان الحدوث (التجريبي) -
برهان الفطرة (أولويات الحياة والعدالة والحرية) - برهان وحدة المعايير.
الفلسفات الوضعية وخصوصًا البرغماتية
Pragmatism
تهتم فقط بنتائج الأفكار وتغفل دور مصدر وسياق هذه الأفكار، بينما المنطق
الحيوي يرى أنَّ كل نتيجة هي سبب وكل سبب هو نتيجة، ولا يفصل الكائن عن المصالح
والصلاحيات التي يتحوَّاها ويعرضها هذا الكائن، الأفكار أيضًا في المنطق الحيوي
هي مصالح وصلاحيات يمكن مقايستها استنادًا إلى تقنية وحدة مربع المصالح
بالاستناد إلى مرجعية البداهة الحيوية الكونية للمصالح المشتركة، بينما لم
تطوِّر المدارس الوضعية بما فيها البرغماتية أي تقنية قياسية في هذا الشأن.
الانتباه
هو فقط أن تكون واعيًا الآن لما يجري داخلك وخارجك الآن، يبدو هذا
سهلاً، لكنَّ الزنَّ يقول لنا "الأمرُ ليس سهلاً، الأمرُ ليس صعبًا"
على "طريقته" في تحدِّي المفاهيم العقلية البشريَّة.
جرِّب الآن أن تتوقف عن قراءة هذا النَّص، وفهمه، وتحويله إلى أفكار،
وأن تنتبه لما يجري حولك وفي داخلك (داخل جسدك): راقب بحياد ودون بذل
أي جهد: أنفاسَك، موجودات الغرفة، اشعُر بدرجة حرارتها وبالهواء الآتي
من النافذة المفتوحة أو من المروحة أو المدفأة، بالروائح، وجميع ما
تتيحه لك الحواس؛ خلال هذه المدة، الثواني أو الدقائق، ستلاحظ أن سلاسل
الأفكار - نتاج الذهن البشري - توقفت تمامًا مؤقتًا، لكنها عادت بعد
بعض الوقت، وهو ما نسميه هنا "الشُّرود" أي أنك لم تعد حاضرًا ومنتبهًا
في هذه اللحظة بل زال انتباهُك مؤقتًا وشردتَ في أفكارك. يمكنك العودة
من حالة الشرود بالانتباه مجددًا إلى الحاضر الموجود، الآن، الرصد
الحيادي بلا إدانة أو بذل جهد أو مشقَّة، وهذا يمكن تنميته والتمرن
عليه مثلما تتمرن العضلات بالرياضة كي تنمو، لأن الأمر يشبه شق طريق
جديد بينما توجد طرق معبدة، السير في الطريق المعبد أسهل وهكذا نجد
أنفسنا مُنقادين للعواطف والانفعالات والأفكار؛ أما الانتباه، وعيُ هذه
العواطف والأفكار بلا إدانة أو قسر أو محاولة إخفاء أو قمع، فهو شقُّ
طريق جديد في التراب وترك الطرق المعبَّدة القديمة. والاستمرار في
الانتباه يشبه تعبيد هذا الطريق الجديد فيصبح أسلوب حياتنا شيئًا
فشيئًا منتبهًا.
سنخصِّص
هذا
الفصل
لمساءلة
بعض
تلك
القبليَّات،
وهي
قبليَّات
عامَّة
وخاصَّة:
ترسم
الأولى
الملمح
التأويلي
العام
للبلاغة،
إذ
هي
المنطلق
والغاية؛
فيما
ينحصر
دور
القبليَّات
الخاصَّة
في
تهيئة
أرض
الخطاب
ومفاهيم
البلاغة
لبناء
الطَّريق
التي
تؤدي،
بشكل
حتمي،
إلى
تبرير
القبليَّات
العامَّة
بترجمتها
إلى
"واقع
بلاغي":
أوَّلاً:
لقد
نشأت
البلاغة -
وهذا
يتعلَّق
بقبليَّاتها
وملمحها
التَّأويلي
العامِّ
-
بين
قوم
يعتبرون
أنفسهم
"فرسان
الكلام
وجهابذته"
وفي
مجال
ثقافي
تمحورت
فيه
الجهود
حول
القرآن
الذي
ذهب
أغلبُ
البلاغيِّين
إلى
أنَّ
إعجازه
قائم
في
بلاغته
وخصوصيَّاته
الأدبية
بالغة
الثَّراء.
من
هنا
اختصار
البلاغة
لمطالبها
في
مطلبين
أساسيين:
يتمثَّل
الأوَّل
في
السَّعي
لفهم
أسرار
النَّصِّ
المعجز،
ويتمثَّل
الثَّاني
في
النزوع
العامِّ
لجعل
وجوه
تأليف
الكلام
المثلى
التي
ينبغي
أن
تحتذى
هي
وجوه
العرب
الذين
نزل
القرآن
بلسانهم
وبين
ظهرانيهم.
فكان
أنْ
نُظِر
إلى
البلاغة
باعتبارها
علمًا
عربيًّا
قرآنيًّا
حتى
وإن
كان
ينشغل
أيضًا
بتحقُّقات
نصية
بشرية
اعتبرت
نماذج
مثلى
لكلِّ
متكلم
يود
درك
بعض
ذوق
العرب
وتحصيل
ملكة
لسانهم
لم
أَكُنْ أَعرِفُ أنَّ حضورَ أَكْرَمَ أنطاكيٍّ مُتغلغِلٌ في حياتِـيْ
إلى هذا الحدِّ. رُبَّما لأنَّهُ كان شاهِدًا على قِصَّة حُبِّيْ
لِــقَمَرَ الَّتي أعادت خَـلْـقيَ مِن جديدٍ. ورُبَّما لأنَّ في
نَفْسِ أكرمَ العُليا سِحْرًا خاصًّا يَصْنَعُ تَـفَـرُّدَه. ورُبَّما
لأنَّ إنِّـيَّتَـيْـنا الفَـرديَّـتَـينِ أو نَـفْـسَـيْــنا
الـعُــلْـيَـيَـــيْـنِ (أو جِـسْـمَـيْنا العِـلِّـيَّـيْـنِ)
تَـتَـشابَـهانِ فَـتَـتَـجاذَبانِ. فناهِـيْـكُم عن الوجهِ الطفوليِّ
الذَّي مازال أكرمُ يُـطِلُّ به علَيَّ مِن نوافذِ أحلاميَ
الَّليليَّةِ، كُـنْتُ كُلَّما أَرَدْتُ أنْ أستريحَ مِن عناءِ اليومِ
في ظِلِّ حُلُمٍ نهاريٍّ لا أجِدُ سِوى ذكرياتي مع أكرمَ أستلقي في
حِضْنِها أُدَفِّئُ بحرارتِها عِظامي شِتاءً وأَتبرَّدُ بِنَسيمِها
صيفًا. وكُلَّما احتَجْتُ إلى قِسْطٍ مِن الراحة فَتَـحَ ليَ أكرمُ
بيتَه في مَرمريتَّا ومَكْتَبَه في دِمَشْقَ وفَرَشَ ليَ صُورًا ناعمةً
مِن أحداثٍ وأشخاصٍ مازالت بصَماتُهم في تلافيفِ دِماغي. كان أكرمُ
مُسانِدًا لي ومُـعْجَـبًا بفكرةِ أطروحتي للدكتوراه. مازال أكرمُ معي
يُساندُني. ومازال صوتُه يشجِّعُني ويُدافِعُ عن أفكاري وهذياناتي
ويُعجَبُ بِـما أَكتُبُ...
كنا نواظب على حضور المحاضرات وندرس بجد ومثابرة، فنتفوَّق أحيانًا،
أما هي فكانت تتفوَّق دائمًا من دون أن تسجِّل حضورًا في لائحة تفقُّد
الأسماء. لذا لم نستغرب عندما علمنا، فيما بعد، أنها إثر تخرجها ونيلها
شهادة "الليسانس" في الأدب الفرنسي، انتقلت إلى دراسة أخرى، وتفوقت
فيها أيضًا، إذ درست الانتروبولوجيا أو علم الأقوام في فرنسا، ثم
انتقلت إلى المكسيك دونما سبب واضح، وتعمَّقت في الفلسفة بموازاة
تعلمها اللغة الإسبانية حدَّ الاتقان، بحيث أصبحت تُصدر المؤلفات
الفكرية والأدبية بهذه اللغة الجديدة عليها، ونالت فيها أرفع الجوائز
الأدبية، قدمت بها البرامج الإذاعية والتلفزيونية في الوسائل الإعلامية
المكسيكية، كما حاضرت بها في جامعات المكسيك الأبرز، حتى أن الرئيس
المكسيكي اعتمدها مستشارة له لفترة طويلة.
سؤال: كيف تنظرون إلى الإنترنت؟ وكيف تقومون الدور الذي تلعبه المواقع
الثقافية فيه؟
مصطفى الحداد:
الإنترنت، كما تعلم، لا يعدو أن يكون سندًا أو حاملاً. لذلك لا يمكن أن
ننتظر من السند أو الحامل أن ينوب عنا في إنتاج الثقافة أو الفكر أو أي
شيء آخر. الإنسان هو الذي ينتج الأفكار ويبدع الرؤى ويُفصِّل الثقافات
تفصيلا. والإنترنت نفسه قبل أن يصير واقعًا هو فكرة أبدعها الإنسان.
هذا إذا شئتَ هو البعد المبدئي في هذه القضية. لكننا، إلى جانب هذا
البعد المتصل بالمبدأ، يجب علينا أن ننتبه إلى أن للسند دورًا في إعادة
تشكيل ما يسْنِدُ، أو في توجيه ما يَحْمِل. الأسانيد بعبارة أخرى فاعلة
ومؤثرة، وليست محايدة كما قد يُظَن. وهذا واضح من مراجعة تاريخ الحوامل
أو الأسانيد. فكلما كان يظهر حامل جديد إلى الوجود، كانت رؤى الناس إلى
ما ينتجون تتغير وتتبدل. بل إننا غالبًا ما نصف لحظات الانتقال هذه
بأنها ثورات.