الانتباه
1 من 2
سامر زكريا
الانتباه
هو فقط أن تكون واعيًا الآن لما يجري داخلك وخارجك الآن، يبدو هذا
سهلاً، لكنَّ الزنَّ يقول لنا "الأمرُ ليس سهلاً، الأمرُ ليس صعبًا"
على "طريقته" في تحدِّي المفاهيم العقلية البشريَّة.
جرِّب الآن أن تتوقف عن قراءة هذا النَّص، وفهمه، وتحويله إلى أفكار،
وأن تنتبه لما يجري حولك وفي داخلك (داخل جسدك): راقب بحياد ودون بذل
أي جهد: أنفاسَك، موجودات الغرفة، اشعُر بدرجة حرارتها وبالهواء الآتي
من النافذة المفتوحة أو من المروحة أو المدفأة، بالروائح، وجميع ما
تتيحه لك الحواس؛ خلال هذه المدة، الثواني أو الدقائق، ستلاحظ أن سلاسل
الأفكار - نتاج الذهن البشري - توقفت تمامًا مؤقتًا، لكنها عادت بعد
بعض الوقت، وهو ما نسميه هنا "الشُّرود" أي أنك لم تعد حاضرًا ومنتبهًا
في هذه اللحظة بل زال انتباهُك مؤقتًا وشردتَ في أفكارك. يمكنك العودة
من حالة الشرود بالانتباه مجددًا إلى الحاضر الموجود، الآن، الرصد
الحيادي بلا إدانة أو بذل جهد أو مشقَّة، وهذا يمكن تنميته والتمرن
عليه مثلما تتمرن العضلات بالرياضة كي تنمو، لأن الأمر يشبه شق طريق
جديد بينما توجد طرق معبدة، السير في الطريق المعبد أسهل وهكذا نجد
أنفسنا مُنقادين للعواطف والانفعالات والأفكار؛ أما الانتباه، وعيُ هذه
العواطف والأفكار بلا إدانة أو قسر أو محاولة إخفاء أو قمع، فهو شقُّ
طريق جديد في التراب وترك الطرق المعبَّدة القديمة. والاستمرار في
الانتباه يشبه تعبيد هذا الطريق الجديد فيصبح أسلوب حياتنا شيئًا
فشيئًا منتبهًا.
قمع الغضب وإنكاره مثلاً يزيد الحالة سوءًا، فالذين يكتمون غضبهم يفعل
في أجسامهم مؤديًا لآثار مؤذية وكذلك الأمر مع الحزن والخوف وجميع
المشاعر السلبية، وتحصل آثار مشابهة عند الاستسلام لهذه المشاعر وحين
نقع أسرى لدائرة مستمرة (حلقة مفرغة) منها؛ الحلُّ هو الانتباه لهذه
الحالات ووعيها بلا إدانة؛ وأنت غاضب، وحين تشعر بالغضب أو الخوف أو أي
عاطفة سلبية تجتاحك، فقط أن تنتبه لهذا وتقول: أنا الآن غاضب، أنا الآن
خائف، أنا الآن أشعر بالغيرة، أنا آكل أكثر مما يجب، أنا أدخِّن
(فأضرُّ جسدي)، أنا تصرفتُ للتوِّ بأنانية..
ليس المطلوب هنا هو لوم الذات أو إنكار الفعل أو
الشعور، المطلوب فقط هو الانتباه له، كما ننتبه إلى درجة حرارة الغرفة،
لكنَّ هذا له أثر يشبه السحر، فلن نستمر دائمًا في سلوك يؤذينا إذا
استمرَّ انتباهُنا له! لنأخذ أمثلة على هذا، التدخين: جميع المدخنين
يعرفون - منطقيًا، عقليًا - أن التدخين يضرُّ بأجسادهم ويتحول بالتدريج
من متعة إلى شيءٍ "لا يمكن الاستغناء عنه" وكذلك مدمنو الكحول: فشاربو
الكحول بكميات قليلة في المناسبات يستمتعون به، لكن مدمنيه يشربونه
لأنهم إن لم يفعلوا يختبرون حالات صعبة جدًا، وينطبق الأمر على البدناء
الذين يتناولون كميات كبرى من الطعام مع معرفتهم أن هذا يزيد من
أمراضهم وله آثار سلبية على أجسامهم وحالاتهم النفسية وعلاقاتهم
بالآخرين، لكن "ليس باليد حيلة" فالعادة مستحكمة والتخلص منها صعب
جدًا، حيث ينجحون مؤقتًا في "إجبار أنفسهم" على التوقف عن تناول الكحول
أو السكَّر أو التبغ، لكن سرعان ما تعود العادة أقوى تاركةً صاحبها في
حال أسوأ..
الحل هو: حين ندخن مثلاً، أن نفعل هذا بوعي
وانتباه، أن نقول لأنفسنا بحياد وبلا إدانة أو قمع (كأننا نراقب شخصًا
آخر): أنا الآن أدخن، ويدخل النيكوتين والقطران إلى جسدي ورئتيَّ ويتلف
الخلايا ويقتلها، ويسدُّ طرق التنفس كما يفعل هباب الفحم بالأنابيب
النظيفة، نعم، إنني أفعل هذا الآن.. يكفي هذا
الانتباه للتخلص كليًا بأمان من العادة، لكن هذا لن يحدث فورًا بل
يحتاج إلى الوقت، إلى الصبر والمثابرة، إنه "ضوءُ الوعي" نسلِّطه
مرارًا على كلِّ ما يحدث حولنا، الضوء الذي يشفي كل الأمراض.
لقد اختبرتُ شخصيًا هذه الطريقة في التخلص من الوزن الزائد، إذ لاحظتُ
أن وزني هو 78 كيلوغرامًا وأن هذا يزيد بمقدار ثمانية كيلو غرامات عن
الوزن النموذجي، وكنت أعلم جيدًا أنني أتناول كميات زائدة من الطعام،
وأحاول مقاومة هذا دون طائل، بدأت أتناول الطعام بانتباه تام، منتبهًا
إلى يدي وهي تتناول قطعة الخبز وتغمسها في الزيت أو تلف بها قطعة
الجبن، ثم إلى القطع والمضغ والبلع، هذه العمليات التي يقوم بها
الإنسان يوميًا مئات المرات بينما يتحدث أو يفكر أو يشاهد التلفاز..
حين انتبهتُ إلى الطعام لاحظتُ أنني كنت أتناول
الكميات الزائدة بلا انتباه، وحين بدأت أتناولها قائلاً لنفسي: أنا
الآن أتناول كمياتٍ زائدة وهي تتحوَّل إلى دهون ضارة تتراكم في وسط
جسدي؛ بدأتُ تلقائيًا بالتخفيف من تناولها، لأنني أصبحتُ واعيًا أنها
تؤذيني، أصبحتُ أمارس هذا الأذى واعيًا، والوعي يختلف عن الحكم العقلي
"أعلم أنها ضارة لكنني لا أستطيع التوقف عن هذه العادة..". كان ضوء
الوعي يعمل بعد تناول الوجبة أحيانًا إذا شرد الانتباه أثناءها، وهذا
أيضًا ممتاز: كنت ألاحظ أنني للتوِّ تناولت كمياتٍ زائدة وأراجع -
بانتباه هذه المرة - تلك اللحظات، فأدرك تمامًا اللحظات التي شرد
خلالها انتباهي، مما يجعلني أنتبه في المرات القادمة.. وهكذا خسرتُ ستة
كيلوغرامات في شهرين وحولتُ عاداتي الغذائية - وهذا من أصعب الأمور -
إلى عادات أُخرى مختلفة؛ فتوقفتُ عن تناول السكاكر الاصطناعية كعادة
يومية لا بد منها، لكنني أبقيت تناول كميات قليلة بين وقت وآخر للمتعة
وليس كحاجة، تمامًا كما يشرب المرء كأسًا من الكحول للمتعة أو يدخن
لفافة.
بالانتباه المستمر وتسليط ضوء الوعي على الطعام يبدأ المرء بالتمييز
بين حاجة الجسد الحقيقية للطعام وحاجته النفسية أو الذهنية، ويدرك أن
الجسد يتمتع بذكاء خاص يختلف كليًا عن الذكاء الذي يفرضه عليه الذهن،
ويغدو شيئًا فشيئًا جسدًا يحيا حياته الغنية متفلتًا من سيطرة الأفكار
والعادات والمخاوف...
يتبع...
دمشق - آذار 2018
*** *** ***